فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، و
يخشن مسّها، و يكثر العثار فيها، و الاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصّعبة
إن أشنق لها خرم، و إن أساس لها تقحّم، فمني النّاس لعمر اللّه بخبط و
شماس، و تلوّن و اعتراض، فصبرت على طول المدّة، و شدّة المحنة.
اللغة
(الحوزة) الطبيعة و النّاحية و (الغلظ) ضدّ الرّقة و (الكلم) بفتح الكاف
و سكون اللّام يقال: كلمته كلما من باب قتل جرحته و من باب ضرب لغة، ثمّ
اطلق المصدر على الجرح و يجمع على كلوم و كلام مثل بحر و بحور و بحار و
(العثار) بالكسر مصدر من عثر الرّجل و الفرس أيضا يعثر من باب قتل و ضرب و
علم كبا و (الصّعبة) من النّوق غير المنقادة لم تذلل بالمحمل و لا بالرّكوب
و (أشنق) بعيره أى جذب رأسه بالزّمام ليمسكه عن الحركة العنيفة كما يفعل
الفارس بفرسه و هو راكب، و أشنق هو بالألف أيضا كشنق رفع رأسه فيستعمل
الرّباعي لازما و متعديا كالثلاثي.
قال الرضيّ بعد ايراد تمام الخطبة: قوله عليه السّلام إن أشنق لها خرم و
إن أسلس لها تقحم، يريد أنّه إذا شدّد عليها في جذب الزّمام و هي تنازعه
رأسها خرم أنفها و إن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها، يقال:
أشنق النّاقة إذا جذب رأسها بالزّمام فرفعه و شنقها أيضا ذكر ذلك ابن
السّكيت في اصلاح المنطق و إنّما قال: أشنق لها و لم يقل: أشنقها، لأنّه
جعله في مقابلة قوله أسلس لها فكانه عليه السّلام قال: إن رفع لها رأسها
بالزّمام بمعنى أمسكه عليها انتهى.
و (الخرم) الشّق يقال خرم فلانا كضرب أى شق و ترة أنفه«» و هي ما بين
منخريه فخرم هو كفرح و (أسلس لها) أرخى زمامها و (تقحم) فلان رمى نفسه في
المهلكة و تقحم الانسان في الأمر ألقى نفسه فيه من غير روية و تقحم الفرس
راكبه رماه على وجهه و (مني) على المجهول اى ابتلى و (الخبط) بالفتح السّير
على غير معرفة و في غير جادة و (الشّماس) بكسر الشّين النّفار يقال: شمس
الفرس شموسا و شماسا أى منع ظهره فهو فرس شموس بالفتح و (التّلوّن) في
الانسان أن لا يثبت في خلق واحد و (الاعتراض) السّير على غير استقامة كأنّه
يسير عرضا و (المحنة) البليّة التي يمتحن بها الانسان.
الاعراب
الضمير في قوله: فيها و منها، راجع إلى الحوزة، و يحتمل رجوع الثّاني
إلى العثرات المستفادة من كثرة العثار، و من في قوله: منها صلة للاعتذار أو
للصّفة المقدرة صفة للاعتذار أو حالا عن يكثر أى النّاشي أو ناشيا منها.
و قال الشّارح المعتزلي: و يمكن أن يكون من هنا للتعليل و السّببية أى و
يكثر اعتذار النّاس عن أفعالهم و حركاتهم لأجلها، و العمر بالضمّ و الفتح
مصدر عمر الرّجل بالكسر إذا عاش زمانا طويلا و لا يستعمل في القسم إلّا
العمر بالفتح فاذا أدخلت عليه اللام رفعته بالابتداء، و اللّام لتوكيد
الابتداء و الخبر محذوف و التقدير لعمر اللّه قسمي، و إن لم تأت باللّام
نصبت نصب المصادر.
المعنی
(فصيرها في حوزة) أي في طبيعة أو ناحية (خشناء) متصفا بالخشونة لا ينال ما عندها، و لا يرام و لا يفوز بالنّجاح من قصدها.
قال بعض الأفاضل: الظاهر أنّ المفاد على تقدير إرادة الناحية تشبيه
المتولي للخلافة بالأرض الخشناء في ناحية الطريق المستوى، و تشبيه الخلافة
بالرّاكب السّاير فيها أو بالنّاقة اى أخرجها عن مسيرها المستوى و هو من
يستحقها إلى تلك النّاحية الحزنة هذا: و الأظهر إرادة معنى الطبيعة.
ثمّ وصف عليه السّلام الحوزة ثانيا بأنّها (يغلظ كلمها) أى جرحها و في
الاسناد توسّع، قال الشّارح البحرانيّ غلظ الكلم كناية عن غلظ المواجهة
بالكلام و الجرح به، فانّ الضّرب باللّسان أعظم من وخز السّنان«»، أقول: و
من هنا قيل:
- جراحات السّنان لها التيامو لا يلتام ما جرح اللّسان
(و) وصفها ثالثا بأنّها (يخشن مسّها) أى تؤذي و تضرّ من يمسها قال
البحراني: و هي كناية عن خشونة طباعه المانعة من ميل الطباع إليه المستلزمة
للأذى كما يستلزم من الأجسام الخشنة.
أقول: و المقصود من هذه الأوصاف الاشارة إلى فظاظة عمر و غلظته و جفاوته
و قبح لقائه و كراهة منظره، و رغبة الناس عن مواجهته و مكالمته، و يدلّ
على ذلك ما روي أنّ ابن عباس لمّا أظهر بطلان مسألة العول بعد موت عمر قيل
له: من أول من أعال الفرائض فقال: عمر بن الخطاب، قيل له: هلّا أشرت عليه
قال هيبته، و ما رواه الشّارح المعتزلي في شرح هذا الفصل أنّ عمر هو الذي
غلّظ«» على جبلة بن الأيهم حتّى اضطرّه إلى مفارقة دار الهجرة بل مفارقة
بلاد الاسلام كلّها حتّى عاد مرتدا داخلا في دين النّصرانيّة لأجل لطمة
لطمها، و قال جبلة بعد ارتداده متندّ ما على ما فعل:
- تنصّرت الاشراف من أجل لطمةو ما كان فيها لو صبرت لها ضرر
- فيا ليت امّي لم تلدني و ليتنيرجعت الى القول الذي قاله عمر
أقول: هذه الرّواية كافية في فضل هذا الرّجل و منقبته، فإنّ النّبيّ
صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يبعثه اللّه إلّا لهداية الأنام و الارشاد
إلى دعائم الاسلام، فعاشر معهم بمحاسن الأخلاق و مكارم الآداب حتّى نزل
فيه: «إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» و
كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كثيرا ما يتحمل الأذى و يصبر على شدائد
البلوى، لهداية نفس واحدة و إنجائها من الضّلالة، و هذا الرّجل الجلف الذي
يزعم أنّه خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف يصرف النّاس
عن الاسلام إلى النّصرانية بمقتضى خبث طينته و سوء سريرته و غلظ كلمته و
فوق كلّ ذلك فظاظة جسارته على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكلمات
يكره اللّسان بيانها و يأبى القلم عن كتبها و إظهارها، مثل قوله له صلّى
اللّه عليه و آله و سلّم في صلح الحديبيّة لم تقل لنا ستدخلونها في ألفاظ
نكره حكايتها، و مثل الكلمة التي قالها في مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و
آله و سلّم، قال الشّارح المعتزلي: و معاذ اللّه أن يقصد بها ظاهرها و
لكنّه أرسلها على مقتضى خشونة غريزيّة و لم يتحفّظ منها، و كان الأحسن أن
يقول: مغمور أو مغلوب بالمرض و حاشاه أن يعني بها غير ذلك.
أقول: و شهد اللّه أنّ قصده ما كان إلّا ظاهرها و حاشاه أن يقصد بها إلّا ذلك.
و قال الشّارح أيضا في شرح الخطبة الخامسة و العشرين عند الكلام على
حديث الفلتة: و اعلم أنّ هذه اللّفظة من عمر مناسبة للفظات كثيرة كان
يقولها بمقتضى ما جبله اللّه تعالى من غلظ الطينة و جفاء الطبيعة و لا حيلة
له فيها، لأنّه مجبول عليها لا يستطيع تغييرها، و لا ريب عندنا أنّه كان
يريد أن يتلطف و أن يخرج ألفاظه مخارج حسنة لطيفة، فينزع به الطبع الجاسي و
الغريزة الغليظة إلى أمثال هذه اللفظات، و لا يقصد بها سوء و لا يريد بها
ذمّا و لا تخطئة كما قدّمنا قبل ذلك في اللّفظة التي قالها في مرض رسول
اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كاللفظات التي قالها عام الحديبية و
غير ذلك، و اللّه لا يجازي المكلف إلّا بما نواه، و لقد كانت نيّته من
أطهر النّيات و أخلصها للّه سبحانه انتهى.
و فيه أنّ اقتضاء الطبيعة و استدعاء الغريزة التي جعله معذرة له إن أراد
به انه بلغ إلى حيث لم يبق لعمر معه قدرة على إمساك لسانه عن التكلّم
بخلاف ما في ضميره، بل كان يصدر عنه الذّم في مقام يريد به المدح، و الشّتم
في موضع يريد الاكرام و يخرج بذلك عن حدّ التكليف فلا مناقشة في ذلك، لكن
مثل هذا الرّجل يعده العقلاء في زمرة المجانين، و لا خلاف في أنّ العقل من
شروط الامامة، و إن أراد أنّه يبقى مع ذلك ما هو مناط التّكليف فذلك ممّا
لا يسمن و لا يغني من جوع، فانّ ابليس استكبر آدم بمقتضى الجبلة النّارية، و
مع ذلك استحقّ النّار و شملته اللعنة إلى يوم الدّين، و الزّاني إنّما
يزني بمقتضى شهوته التي جبله اللّه تعالى عليها و مع ذلك يرجم و لا يرحم
هذا، (و) وصف عليه السّلام الحوزة
رابعا بأنّها (يكثر العثار فيها و الاعتذار منها) و معناه على جعل
الحوزة بمعنى الطبيعة واضح أى يكثر العثار في تلك الطبيعة و الاعتذار من
هذه الطبيعة أو اعتذار صاحبها منها أو الاعتذار من عثراتها و قد مضى في
بيان الاعراب احتمال كون من نشويّة و تعليليّة، و أمّا على تقدير جعلها
بمعنى النّاحية فالمعنى ما ذكره بعض الأفاضل عقيب كلامه الذي حكيناه في شرح
قوله عليه السّلام: فصيرها في حوزة خشناء، بما لفظه: فيكثر عثارها أو عثار
مطيتها فاحتاجت إلى الاعتذار من عثراتها النّاشئة من خشونة النّاحية و هو
في الحقيقة اعتذار من النّاحية، فالعاثر و المعتذر حينئذ هي الخلافة توسعا.
و كيف كان فالغرض من هذه الجملة الاشارة إلى كثرة خطاء عمر في القضايا و
الأحكام، و جهالته بالفتاوى و شرايع الاسلام، و لا باس بالاشارة إلى بعض
عثراته و نبذ من جهالاته و يسير من هفواته و زلّاته.
فمنها ما ذكره الشّارح المعتزلي حيث قال: و كان عمر يفتي كثيرا بالحكم
ثمّ ينقضه و يفتي بضدّه و خلافه، قضى في الجدّ مع الاخوة قضايا كثيرة
مختلفة ثمّ خاف من الحكم في هذه المسألة فقال: من أراد أن يتقحم جراثيم
جهنم فليقل في الجدّ برأيه.
و منها ما ذكره أيضا و هو أنّه لمّا مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و
آله و سلّم و شاع بين النّاس موته طاف عمر على النّاس قائلا إنّه لم يمت و
لكنّه غاب عنّا كما غاب موسى عن قومه، فليرجعن و ليقطعن أيدي رجال و أرجلهم
يزعمون أنّه مات فجعل لا يمرّ بأحد يقول: إنّه مات إلّا و يخبطه و يتوعده
حتى جاء ابو بكر فقال: أيّها النّاس من كان يعبد محمّدا فان محمّدا قد مات،
و من كان يعبد ربّ محمّد فانّه حيّ لم يمت ثمّ تلا قوله تعالى: «أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» قالوا:
فو اللّه لكانّ النّاس ما سمعوا هذه الآية حتّى تلاها أبو بكر، و قال عمر
لمّا سمعته يتلوها هويت إلى الأرض و علمت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و
آله و سلّم قد مات.
أقول: من بلغ من قلة المعرفة إلى مقام ينكر موت النّبيّ صلّى اللّه عليه
و آله و سلّم و يحكم مع ذلك من تلقاء نفسه بأنّه يرجع و يقطع أيدي رجال و
أرجلهم كيف يكون إماما واجب الطاعة على جميع الخلق و منها ما رواه أيضا
كغيره من أنّه قال مرّة لا يبلغني أنّ امرأة تجاوز صداقها صداق نساء
النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا ارتجعت ذلك منها، فقالت امرأة
ما جعل اللّه لك ذلك إنّه قال تعالى: «وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً» فقال:
كلّ النّاس أفقه من عمر حتّى ربّات الحجال، ألا تعجبون من إمام أخطأ و
امرأة أصابت فأضلت إمامكم ففضّلته، و اعتذار قاضي القضاة بأنّه طلب
الاستحباب في ترك التجاوز«» و التواضع في قوله: كلّ النّاس أفقه من عمر،
خطاء، فانّه لا يجوز ارتكاب المحرم و هو ارتجاع المهر، لأجل فعل المستحبّ، و
أمّا التواضع فانّه لو كان الأمر كما قال عمر لاقتضى إظهار القبيح و تصويب
الخطاء، و لو كان العذر صحيحا لكان هو المصيب و المرأة مخطئة مع أنّه
مخالف لصريح قوله: ألا تعجبون من إمام أخطأ اه.
و منها ما رواه هو و غيره من أنّه كان يعسّ بالليل فسمع صوت رجل و امرأة
في بيت فارتاب فتسوّر الحائط فوجد امرأة و رجلا و عندهما زقّ خمر، فقال:
يا عدوّ اللّه كنت ترى أنّ اللّه يسترك و أنت على معصيته قال: إن كنت أخطأت
في واحدة فقد أخطأت في ثلاث، قال اللّه تعالى: و لا تجسّسوا، و قد تجسّست،
و قال: و أتوا البيوت من أبوابها، و قد تسوّرت، و قال: إذا دخلتم بيوتا
فسلّموا، و ما سلّمت.
و منها ما رواه أيضا و جماعة من الخاصّة و العامة من أنّه قال: متعتان
كانتا على عهد رسول اللّه و أنا محرّمهما و معاقب عليهما: متعة النّساء و
متعة الحجّ، قال الشّارح المعتزلي و هذا الكلام و إن كان ظاهره منكرا فله
عندنا مخرج و تأويل أقول: بل هو باق على منكريّته و التّأويل الذي ارتكبوه
ممّا لا يسمن و لا يغني من جوع، و لعلّنا نسوق الكلام فيه مفصلا في مقام
أليق إنشاء اللّه.
و منها ما رواه أيضا من أنّه مرّ يوما بشابّ من فتيان الأنصار و هو ظمآن
فاستسقاه فجدح له ماء بعسل فلم يشربه، و قال: إنّ اللّه تعالى يقول: «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا» فقال له الفتى: إنّها ليست لك و لا لأحد من أهل هذه القبلة، اقرء ما قبلها: «وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا».
فقال عمر: كلّ النّاس أفقه من عمر.
و منها أنّه أمر برجم امرأة حاملة فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام:
إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل، فقال: لو لا عليّ لهلك
عمر.
و منها أنّه أمر برجم مجنونة فنبّهه أمير المؤمنين عليه السّلام و قال:
القلم مرفوع عن المجنون حتّى يفيق، فقال: لو لا عليّ لهلك عمر.
و منها ما رواه في الفقيه عن إبراهيم بن محمّد الثقفي قال: استودع رجلان
امرأة وديعة و قالا لها لا تدفعي إلى واحد منّا حتى نجتمع عندك ثم انطلقا
فغابا، فجاء أحدهما إليها و قال: اعطيني وديعتي فإنّ صاحبي قد مات فأبت حتى
كثر اختلافه إليها ثمّ أعطته، ثمّ جاء الآخر فقال هاتي وديعتي، فقال
«فقالت ظ»: أخذها صاحبك و ذكر أنّك قدمّت فارتفعا إلى عمر، فقال لها عمر:
ما أراك إلّا و قد ضمنت، فقالت المرأة اجعل عليها عليه السّلام بينى و
بينه، فقال له: اقض بينهما، فقال عليّ عليه السّلام: هذه الوديعة عندها و
قد أمرتماها أن لا تدفعها إلى واحد منكما حتى تجتمعا عندها فأتني بصاحبك، و
لم يضمنها، و قال عليّ عليه السّلام إنّما أرادا أن يذهبا بمال المرأة.
و منها ما في الفقيه أيضا عن عمرو بن ثابت عن أبيه عن سعد بن طريف عن
الأصبغ ابن نباتة، قال: اتي عمر بامرأة زوجها شيخ، فلما أن واقعها مات على
بطنها، فادّعى بنوه أنها فجرت و شاهدوا «تشاهدوا خ» عليها فأمر بها عمر أن
ترجم، فمروا بها على عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فقالت: يابن عمّ رسول
اللّه إني مظلومة و هذه حجتى فقال عليه السّلام: هاتني حجتك، فدفعت إليه
كتابا فقرأه فقال: هذه المرأة تعلمكم بيوم تزوّجها و يوم واقعها و كيف كان
جماعه لها ردّوا المرأة، فلما كان من الغد دعا عليّ عليه السّلام بصبيان
يلعبون أتراب«» و فيهم ابنها فقال لهم: العبوا، فلعبوا حتّى إذا لها هم
اللعب ثم فصاح عليه السّلام بهم فقاموا و قام الغلام الذي هو ابن المرأة
متكيا على راحتيه، فدعا به عليّ عليه السّلام فورّثه من أبيه و جلد اخوته
المفترين حدّا، فقال عمر كيف صنعت قال: قد عرفت ضعف الشيخ في تكائة الغلام
على راحتيه.
و منها ما رواه الصّدوق أيضا عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال:
اتى عمر بن الخطاب بجارية فشهد عليها شهود أنّها بغت، و كان من قصّتها
أنّها كانت يتيمة عند رجل و كان للرّجل امرأة و كان الرّجل كثيرا ما يغيب
عن أهله، فشبّت اليتيمة و كانت جميلة فتخوّفت المرأة أن يتزوّجها زوجها إذا
رجع إلى منزله، فدعت بنسوة من جيرانها فأمسكتها، ثمّ افتضّتها باصبعها،
فلما قدم زوجها سأل امرأته عن اليتيمة فرمتها بالفاحشة و أقامت البيّنة من
جيرانها على ذلك، قال: فرفع ذلك إلى عمر فلم يدر كيف يقضي في ذلك، فقال:
للرّجل اذهب بها إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فأتوا عليّا و قصّوا
عليه قصّتها «القصة خ» فقال لامرأة الرّجل ألك بيّنة قالت: نعم، هؤلاء
جيراني يشهدون عليها بما أقول، فأخرج عليّ عليه السّلام السّيف من غمده و
طرحه بين يديه، ثمّ أمر عليه السّلام بكلّ واحدة من الشّهود فأدخلت بيتا،
ثمّ دعا بامرأة الرّجل فأدارها لكلّ وجه فأبت أن تزول عن قولها، فردّها إلى
البيت الذي كانت فيه.
ثمّ دعا باحدى الشّهود و جثا على ركبتيه، فقال لها: أ تعرفيني أنا عليّ
ابن أبي طالب و هذا سيفي و قد قالت امرأة الرّجل ما قالت، و رجعت«» إلى
الحقّ و أعطيتها الأمان فاصدقيني و الّا ملأت سيفي منك، فالتفتت المرأة إلى
عليّ فقالت: يا أمير المؤمنين الأمان على الصّدق، قال لها عليّ فاصدقي
فقالت: لا و اللّه ما زنت اليتيمة و لكن امرأة الرّجل لما رأت حسنها و
جمالها و هيئتها خافت فساد زوجها بها فسقتها المسكرود عتنا فأمسكناها
فافتضّتها باصبعها، فقال عليّ عليه السّلام: اللّه اكبر اللّه اكبر أنا
أوّل من فرّق بين الشّهود إلّا دانيال ثمّ حدّ المرأة حدّ القاذف و ألزمها و
من ساعدها على افتضاض اليتيمة المهر لها أربعمائة درهم، و فرّق بين المرأة
و زوجها و زوّجته اليتيمة، و ساق عنه المهر إليها من ماله.
فقال عمر بن الخطاب: فحدّثنا يا أبا الحسن بحديث دانيال النّبيّ عليه
السّلام فقال: إنّ دانيال كان غلاما يتيما لا أب له و لا أمّ، و إنّ امرأة
من بني إسرائيل عجوزا ضمّته إليها و ربّته و إن ملكا من ملوك من بني
إسرائيل كان له قاضيان و كان له صديق و كان رجلا صالحا و كان له امرأة
جميلة و كان يأتي الملك فيحدّثه فاحتاج الملك إلى رجل يبعثه في بعض اموره،
فقال للقاضيين: اختارا لى رجلا ابعثه في بعض اموري، فقالا: فلان، فوجّهه
ملك و كان القاضيان يأتيان باب الصّديق فعشقا امرأته فراوداها عن نفسها،
فأبت عليهما فقالا لها، إن لم تفعلي شهدنا عليك عند الملك بالزّنا ليرجمك،
فقالت: افعلا ما شئتما، فأتيا الملك فشهدا عليها أنّها بغت و كان لها ذكر
حسن جميل فدخل الملك من ذلك أمر عظيم و اشتدّ غمّه و كان بها معجبا، فقال
لهما: إنّ قولكما مقبول فاجلدوها ثلاثة أيّام ثمّ ارجموها و نادى في
مدينته: احضروا قتل فلانة العابدة فانّها قد بغت، و قد شهد عليها القاضيان
بذلك، فأكثر النّاس القول في ذلك فقال الملك لوزيره: ما عندك في هذا حيلة
فقال: لا و اللّه ما عندي في هذا شي ء.
فلما كان اليوم الثالث ركب الوزير و هو آخر أيّامها و إذا هو بغلمان
عراة يلعبون و فيهم دانيال، فقال دانيال: يا معشر الصّبيان تعالوا حتى أكون
أنا الملك و تكون أنت يا فلان العابدة و يكون فلان و فلان القاضيين
الشّاهدين عليها، ثم جمع ترابا«» و جعل سيفا من قصب ثمّ قال: للغلمان خذوا
بيد هذا فنحّوه إلى موضع كذا و الوزير واقف و خذوا هذا فنحّوه إلى كذا ثمّ
دعا بأحدهما فقال: قل حقّا فانك إن لم تقل حقّا قتلتك، قال: نعم و الوزير
يسمع فقال بم تشهد على هذه المرأة قال اشهد أنّها زنت قال في أيّ يوم قال:
في يوم كذا و كذا، قال في أيّ وقت قال: في وقت كذا و كذا، قال: في أيّ موضع
قال: في موضع كذا و كذا قال: مع من قال: مع فلان بن فلان، قال: فردّوه إلى
مكانه و هاتوا الآخر، فردّوه و جاءوا بالآخر فسأله عن ذلك فخالف صاحبه في
القول، فقال دانيال: اللّه اكبر اللّه اكبر شهدا عليها بزور ثمّ نادى في
الغلمان إنّ القاضيين شهدا على فلانة العابدة بزور فاحضروا قتلها، فذهب
الوزير إلى الملك مبادرا فأخبره الخبر فبعث الملك إلى القاضيين فأحضرهما ثم
فرّق بينهما و فعل كما فعل دانيال بالغلامين، فاختلفا كما اختلفا فنادى في
النّاس و أمر بقتلهما.
و منها ما رواه الشّارح البحراني و هو أنّ عمر أمر أن يؤتى بامرأة لحال
اقتضت ذلك و كانت حاملا فانزعجت من هيبته فاجهزت «فاجهضت به خ» جنينا فجمع
جمعا من الصّحابة و سألهم ما ذا يجب عليه، فقالوا: أنت مجتهد «مؤدب خ» و لا
نرى أنّه يجب عليك شي ء، فراجع عليا عليه السّلام في ذلك و أعلمه بما قال
بعض الصّحابة، فأنكر ذلك و قال: إن كان ذلك عن اجتهاد منهم فقد أخطئوا، و
إن لم يكن عن اجتهاد فقد غشّوك، أرى عليك الغرّة«»، فعندها قال: لا عشت
لمعضلة لا تكون لها يا أبا الحسن.
و رواه الشّارح المعتزلي بتغيير في متنه، إلى غير ذلك من موارد خطائه و
خبطه و جهالته التي لو أردنا استقصائها لطالت، و كثيرا ما كان أمير
المؤمنين عليه السّلام ينبّه على خطائه فيها و يبين له معضلات المسائل التي
كان يعجز عنها، و قد روي أنّه قال في سبعين موضعا: لو لا عليّ لهلك عمر، و
العجب أنّه مع اعترافه بذلك يدّعي التّقدّم عليه و مع جهله بكل ذلك يرى
نفسه قابلة للخلافة و مستحقّة لها مع أنّ قابلية الخلافة و استحقاق الولاية
لا يكون إلّا بالعلم بجميع الأحكام و الاحاطة بشرايع الاسلام، و لا يكون
ذلك إلا بالهام إلهي و تعليم ربّاني و إرشاد نبويّ، و ذلك مختصّ بالأئمة و
مخصوص بسراج الامة، إذ هم الذين اتّبعوا آثار النّبوة، و اقتبسوا أنوار
الرّسالة، و عندهم معاقل العلم و أبواب الحكمة و ضياء الأمر و فصل ما بين
النّاس، و هم المحدثون المفهمون المسدّدون المؤيّدون بروح القدس.
كما يدلّ عليه ما رواه في البحار من كتاب بصائر الدّرجات باسناده عن
جعيد الهمداني قال: سألت عليّ بن الحسين عليهما السّلام بأيّ حكم تحكمون
قال: نحكم بحكم آل داود«» فان عيينا شيئا تلقّانا به روح القدس.
و عن السّاباطي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: بما تحكمون إذا حكمتم فقال:
بحكم اللّه و حكم داود، فإذا ورد علينا شي ء ليس عندنا تلقّانا به روح
القدس. و عن عبد العزيز عن أبيه قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام جعلت
فداك إنّ النّاس يزعمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وجّه
عليّا عليه السّلام إلى اليمن ليقضى بينهم، فقال عليّ عليه السّلام فما
اورد اللّه علىّ قضية إلّا حكمت بحكم اللّه و حكم رسوله، فقال عليه
السّلام: صدقوا، قلت: و كيف ذلك و لم يكن انزل القرآن كلّه و قد كان رسول
اللّه غايبا عنه فقال: تلقّاه به روح القدس هذا.
و قد ظهر ممّا ذكرنا كله أنّ الحكم الصّواب و فصل الخطاب مختصّ
بالمعصومين من آل الرّسول سلام اللّه عليه و عليهم و أنّ أحكام عمر إنّما
كانت عن هوى نفس و بدعة و ضلالة و جهالة، و لذلك كان يفتي كثيرا ثمّ يرجع
عن فتياه و يعتذر، و ربّما كان يحكم بشي ء ثمّ ينقضه و يحكم بخلافه لقلّة
المعرفة و كثرة الجهالة و اختلاف دواعي نفسه الأمارة التي تارة تحكم بذلك و
اخرى بخلافه، هذا كلّه مضافا إلى قوّة إفراط القوة الغضبيّة فيه و خشونة
الحوزة و غلظة الطبيعة (فصاحبها) أى صاحب تلك الحوزة و الطبيعة (كراكب)
النّاقة (الصّعبة) الغير المنقادة (إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها تقحّم)
قال الرّضيّ (ره) بعد تمام الخطبة: يريد عليه السّلام أنّه إذا شدّد عليها
في جذب الزّمام و هي تنازعه رأسها خرم أنفها، و إن أرخى لها شيئا مع
صعوبتها تقحّمت به فلم يملكها.
أقول: و قد أرخى زمامها و لم يمسكها فرمت به في أودية الضّلالة و تقحّمت
به في ورطات الهلاكة فلم يمكنه التخلّص منها و الخروج عنها، و على هذا
المعنى فالمراد بصاحب الحوزة هو عمر و هذا أظهر و قد ذكروا في المقام وجوها
اخر.
منها أنّ الضّمير فى صاحبها يعود إلى الحوزة المكنّى بها عن الخليفة أو
اخلاقه، و المراد بصاحبها من يصاحبها كالمستشار و غيره، و المعنى أنّ
المصاحب للرّجل المنعوت حاله في صعوبة الحال كراكب النّاقة الصّعبة فلو
تسرع إلى إنكار القبايح من أعماله أدّى إلى الشقاق بينهما و فساد الحال، و
لو سكت و خلاه و ما يصنع أدّى إلى خسران المآل.
و منها أنّ الضّمير راجع إلى الخلافة أو إلى الحوزة، و المراد بصاحبها
نفسه عليه السّلام، و المعنى أنّ قيامي في طلب الأمر يوجب مقاتلة ذلك
الرّجل و فساد أمر الخلافة رأسا و تفرق نظام المسلمين، و سكوتي عنه يورث
التّقحم في موارد الذّلّ و الصّغار.
و منها أن الضّمير راجع إلى الخلافة و صاحبها من تولى أمرها مراعيا
للحقّ و ما يجب عليه، و المعنى أن المتولي لأمر الخلافة إن أفرط في إحقاق
الحقّ و زجر النّاس عمّا يريدونه بأهوائهم أوجب ذلك نفار طباعهم و تفرّقهم
عنه، لشدة الميل إلى الباطل، و إن فرّط في المحافظة على شرايطها ألقاه
التّفريط في موارد الهلكة و ضعف هذا الوجه و بعده واضح هذا.
و لما ذكر عليه السّلام أوصاف الرّجل الذميمة و أخلاقه الخبيثة الخسيسة
أشار إلى شدّة ابتلاء النّاس في أيّام خلافته بقوله: (فمني النّاس) أي
ابتلوا (لعمر اللّه بخبط) أى بالسير على غير معرفة و في غير جادّة (و شماس)
و نفار (و تلوّن) مزاج (و اعتراض) أى بالسّير على غير خط مستقيم كأنّه
يسير عرضا، قال الشّارح المعتزلي: و إنّما يفعل ذلك البعير الجامح الخابط و
بعير عرضي يعترض في سيره لأنّه لم يتمّ رياضته و في فلان عرضية أى عجز فيه
و صعوبة، و قال البحراني في شرح تلك الجملة: إنّها إشارة إلى ما ابتلوا به
من اضطراب الرّجل و حركاته التي كان ينقمها عليه، فكنّى بالخبط عنها و
بالشّماس عن جفاوة طباعه و خشونتها، و بالتّلوّن و الاعتراض عن انتقاله من
حالة إلى اخرى في أخلاقه، و هي استعارات وجه المشابهة فيها أنّ خبط البعير،
و شماس الفرس و اعتراضها في الطريق حركات غير منظومة، فأشبهها ما لم يكن
منظوما من حركات الرّجل التي ابتلي النّاس بها.
أقول: و على ذلك فالأربعة أوصاف للرّجل و المقصود كما ذكره الاشارة إلى
ابتلاء النّاس في خلافته بالقضايا الباطلة لجهله و استبداده برأيه مع تسرعه
إلى الحكم مع ايذائهم بحدته و بالخشونة في الأقوال و الأفعال الموجبة
لنفارهم عنه، و بالنّفار عن النّاس كالفرس الشّموس و التلوّن في الآراء و
الأحكام لعدم ابتنائها على أساس قويّ، و بالخروج عن الشرع السّواء و الجادة
المستقيمة أو بالحمل على الأمور الصعبة و التكاليف الشاقّة هذا.
و يحتمل كونها صفات للنّاس، فانّ خروج الوالي عن الجادّة يستلزم خروج
النّاس احيانا و كذا تلوّنه و اعتراضه يوجب تلوّن الرّعية و اعتراضهم على
بعض الوجوه و خشونته يستلزم نفارهم و هو ظاهر.
ثم إنّه عليه السّلام أردف ذلك كلّه بتكرير ذكر صبره على ما صبر عليه مع
الثاني كما صبر مع الأوّل و قال: (فصبرت على طول المدّة) أى طول مدّة
تخلّف الأمر عنه عليه السّلام (و شدّة المحنة) أى شدّة الابتلاء بسبب فوات
حقّه و ما يستتبع ذلك من اختلال قواعد الدّين و انهدام أركان اليقين.
|