ما لي و لقريش و اللّه لقد قاتلتهم كافرين، و لاقاتلنّهم مفتونين، و إنّي لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم.
الاعراب
مالي و لقريش استفهام على سبيل إنكار معاندتهم له و جحودهم لفضله، و كافرين و مفتونين منصوبتان على الحال
المعنی
(مالي و لقريش) يجحدون فضيلتي و يستحلّون محاربتي و ينقضون بيعتي (و اللّه لقد قاتلتهم كافرين) بالكفر و الجحود (و لاقاتلنّهم مفتونين) بالافتنان و البغى ليرجعوا من الباطل إلى الحقّ و يفيئوا إليه.
روى في الوسائل عن الحسن بن محمّد الطوسي في مجالسه عن أبيه عن المفيد معنعنا عن محمّد بن عمر بن على عن أبيه عن جدّه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال له: يا عليّ إنّ اللّه قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي كما كتب عليهم الجهاد مع المشركين معي، فقلت: يا رسول اللّه و ما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد قال: فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلّا اللّه، و أنّى رسول اللّه، و هم مخالفون لسنّتي و طاعنون في ديني، فقلت فعلى م نقاتلهم يا رسول اللّه و هم يشهدون أن لا اله إلّا اللّه و أنّك رسول اللّه فقال على إحداثهم في دينهم و فراقهم لأمرى و استحلالهم دماء عترتي هذا.
قال الشّارح المعتزلي في شرح قوله و لاقاتلهم مفتونين: أنّ الباغي على الامام مفتون فاسق، و هذا الكلام يؤكد قول أصحابنا أنّ أصحاب صفّين و الجمل ليسوا بكفّار خلافا للاماميّة.
و ردّ بأن المفتون من أصابه الفتنة و هي تطلق على الامتحان و الضّلال و الكفر و الاثم و الفضيحة و العذاب و غير ذلك، و المراد بالمفتون ما يقابل الكافر الأصلي الذي لم يدخل في الاسلام أصلا و لم يظهره إذ لا شك في أنّ من حاربه عليه السّلام كافر لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم حربك حربى و غير ذلك من الأخبار و الادلّة.
أقول: المستفاد من كلام الشّارح أنّ الامامية يقولون بكون البغاة كفاراكساير الكفّار من المشركين و منكري الرّسالة و ساير ما ثبت ضرورة من دين الاسلام و ليس كذلك و إلّا لحكموا بجواز سبى ذراريهم و تملّك نسائهم و أموالهم الغير المنقولة كساير الكفار من أهل الحرب مع أنّهم قد اجمعوا على عدم جواز شي ء من ذلك.
كيف و لو كان بناؤهم على ذلك لم يفصلوا في البغاة بين ذوى الفتنة كأصحاب الجمل و معاوية، و بين غيرهم كالخوارج حيث قالوا: في الأوّلين باجهاز جريحهم و اتباع مدبرهم و قتل أسيرهم، و في الآخرين بوجوب الاكتفاء بتفريقهم من غير أن يتّبع لهم مدبر أو يقتل لهم أسير أو يجهز على جريح، و لم يختلفوا أيضا في قسمة أموالهم التي حواها العسكر، بل حكموا في كل ذلك بحكم الكافر الحربي.
و ممّا ذكرنا ظهر ما في كلام المورد أيضا مضافا إلى ما فيه من أنّه لو كان المراد بالمفتون في كلامه عليه السّلام هو المرتدّ عن دين الاسلام على ما فهمه المورد لزم الحكم بعدم قبول توبة أكثر البغاة لو تابوا و بقسمة أموالهم و باعتداد زوجتهم عدّة الوفاة، لأنّ اكثر أهل البغى قد ولدوا على الفطرة مع أنّه لم يحكم أحد بذلك.
و تحقيق الكلام في المقام على ما يستفاد من كلام بعض علمائنا الأبرار و أخبار أئمتنا الاطهار سلام اللّه عليهم ما تعاقب اللّيل و النّهار هو: أنّ البغاة محكوم بكفرهم باطنا إلّا أنّه يعامل معهم في هذا الزّمان المسمّى بزمان الهدنة معاملة المسلم الحقيقي فيحكم بطهارتهم و جواز ملاقاتهم بالرّطوبة و بحلّ أكل ذبايحهم و حرمة أموالهم و صحة مناكحاتهم إلى غير ذلك من أحكام الاسلام حتّى يظهر الدّولة الحقّة عجّل اللّه تعالى ظهورها فيجري عليهم حينئذ حكم الكفّار الحربيين.
و يشهد بذلك ما رواه في الوسايل باسناده عن عبد اللّه بن سليمان قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ النّاس يروون أنّ عليّا عليه السّلام قتل أهل البصرة و ترك أموالهم فقال: إنّ دار الشرّك يحلّ ما فيها و انّ دار الاسلام لا يحلّ ما فيها فقال إنّ عليّا إنّما منّ عليهم كما منّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أهل مكّة و إنّما ترك عليّ عليه السّلام لأنّه كان يعلم انّه سيكون له شيعة و انّ دولة الباطل ستظهر عليهم، فأراد أن يقتدى به في شيعته و قد رأيتم آثار ذلك هو ذا يسار في النّاس بسيرة علي و لو قتل عليّ عليه السّلام أهل البصرة جميعا و اتّخذ أموالهم لكان ذلك له حلالا لكنّه منّ عليهم ليمنّ على شيعته من بعده.
و عن اسحاق بن عمّار قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: مال النّاصب و كلّ شي ء يملكه حلال إلّا امرأته، فانّ نكاح أهل الشرّك جايز، و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: لا تسبّوا أهل الشّرك فانّ لكل قوم نكاحا و لو لا أنا نخاف عليكم أن يقتل رجل منكم برجل منهم و رجل منكم خير من ألف رجل منهم لأمرناكم بالقتل لهم و لكن ذلك إلى الامام.
و عن أبي بكر الحضرمي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لسيرة عليّ في أهل البصرة كانت خيرا لشيعته ممّا طلعت عليه الشّمس إنّه علم أنّ للقوم دولة فلو سباهم لسبيت شيعته، قلت: فأخبرني عن القائم يسير بسيرته قال: لا إنّ عليّا سار فيهم بالمنّ لما علم من دولتهم و إنّ القائم يسير فيهم بخلاف تلك السّيرة لأنّه لا دولة لهم.
و عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن القائم إذا قام بأىّ سيرة يسير في النّاس فقال: بسيرة ما سار به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى يظهر الاسلام، قلت و ما كانت سيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: أبطل ما كان في الجاهليّة و استقبل النّاس بالعدل، و كذلك القائم إذا قام يبطل ما كان في الهدنة ممّا كان في أيدي النّاس و يستقبل بهم العدل.
و روى عن الدّعائم عن عليّ عليه السّلام أنّه سئل عن الذين قاتلهم من أهل القبلة أ كافرون هم قال عليه السّلام: كفروا بالأحكام و كفروا بالنّعم ليس كفر المشركين الذين دفعوا النبوّة و لم يقرّوا بالاسلام، و لو كانوا كذلك ما حلّت لنا مناكحهم و لا ذبايحهم و لا مواريثهم.
إلى غير ذلك من النّصوص الدالّة على جريان حكم المسلمين على البغاةمن حيث البغي في زمن الهدنة فضلا عمّا هو المعلوم من تتبّع كتب السّير و التّواريخ من مخالطة الأئمة عليهم السّلام معهم و عدم التجنّب من أسآرهم و غير ذلك من أحكام المسلمين و إن وجب قتالهم إذا ندب عليه الامام عموما او خصوصا أو ندب عليه المنصوب من قبله عليه السّلام لكن ذلك أعمّ من الكفر و يأتي تمام الكلام إنشاء اللّه تعالى في شرح الكلام المأة و الخامسة و الخمسين.
نعم الخوارج منهم قد اتّخذوا بعد ذلك دينا و اعتقدوا اعتقادات صاروا بها كفّارا لا من حيث كونهم بغاة فافهم جيّدا و قوله عليه السّلام: (إنّى لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم) إشارة إلى عدم تغيّر حالته عن التي بها قاتلهم كافرين، و فيه تهديد لهم و تذكير لشدّة بأسه و سطوته و شجاعته هذا.
و في نسخة الشّارح المعتزلي بعد قوله صاحبهم اليوم: و اللّه ما تنقم منّا قريش إلّا أنّ اللّه اختارنا عليهم فأدخلناهم في خيرنا فكانوا كما قال الأوّل:
- ادمت لعمري شربك المحض صابحاو اكلك بالزّبد المقشّرة البجرا
- و نحن وهبناك العلاء و لم تكنعليا و حطنا حولك الجرد و السمرا
أقول: (المحض) اللبن الخالص، و (الصّابح) و الصّبوح ما صلب من اللّبن بالغداة و ما أصبح عندهم من شراب و (المقشّرة) التّمرة التي اخرج منها نواتها و (البجر) بالضّم الأمر العظيم و العجب و لعلّه هنا كناية عن الكثرة أو الحسن أو اللطافة، و يحتمل أن يكون مكان المفعول المطلق يقال بجر كفرح فهو بجر امتلأ بطنه من اللبن و لم يروّ، و تبجر النّبيذ ألحّ في شربه و (الجرد) بالضّم جمع الأجرد و هو الفرس الذى دقت شعرته و قصرت و هو مدح و (السّمر) جمع الاسمر و هو الرّمح
تكملة
يأتي إنشاء اللّه رواية هذه الخطبة في الكتاب بطريق آخر و هي الخطبة المأة و الثّالثة، و نوردها بطريق ثالث في الشّرح ثمّة فانتظر.
تبصرة
روى الشّارح المعتزلي عن أبي مخنف عن الكلبي عن أبي صالح عن زيد بن عليّ عن ابن عباس قال: لما نزلنا مع عليّ عليه السّلام ذاقار قلت: يا أمير المؤمنين ما أقلّ من يأتيك من أهل الكوفة فيما أظنّ فقال: و اللّه ليأتيني منهم ستّة ألف و خمسمائة و ستّون رجلا لا يزيدون و لا ينقصون قال ابن عبّاس فدخلنى و اللّه من ذلك شكّ شديد في قوله و قلت في نفسي و اللّه إن قدموا لأعدّنهم.
قال أبو مخنف فحدّث ابن اسحاق عن عمّه عبد الرّحمن بن يسار قال: نفر إلى عليّ إلى ذى قار من الكوفة في البرّ و البحر ستّة ألف و خمسمائة و ستّون رجلا و أقام عليّ عليه السّلام بذى قار خمسة عشر يوما حتّى سمع صهيل الخيل و شجيج البغال حوله قال: فلما سار منقلة قال ابن عباس، و اللّه لأعدّنهم فان كانوا كما قال و إلّا أتممتهم من غيرهم فانّ النّاس قد كانوا سمعوا قوله، قال: فعرضهم فو اللّه ما وجدتهم يزيدون رجلا و لا ينقصون رجلا فقلت: اللّه أكبر صدق اللّه و رسوله ثمّ سرنا.
|