أيّها النّاس إنّ لي عليكم حقّا، و لكم عليّ حقّ، فأمّا حقّكم عليّ فالنّصيحة لكم، و توفير فيئكم عليكم، و تعليمكم، كيلا تجهلوا، و تأديبكم كيما تعلموا، و أمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة و النّصيحةفي المشهد و المغيب، و الاجابة حين أدعوكم، و الطّاعة حين آمركم.
الاعراب
قوله: كيلا نجهلوا كي إمّا تعليليّة و ان مضمرة بعدها، أو مصدريّة و اللّام مقدّرة قبلها، و مثله في الاحتمالين قوله سبحانه: «ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى » و قوله: كيما تعلموا كي تعليليّة و ما إمّا مصدريّة أو كافة و مثله في الاحتمالين قوله:
- اذا أنت لم تنفع فضرّ فانّمايرجّى الفتى كيما يضرّ و ينفع
المعنی
(أيّها النّاس إنّ لي عليكم حقا) يجب عليكم القيام به (و لكم علىّ حقّ) مثله (فأمّا حقّكم) الذى (علىّ ف) أمور أربعة.
الأوّل (النّصيحة لكم) في السّر و العلانية و حثكم على محاسن الاخلاق و مكارم الآداب و ترغيبكم على ما فيه حسن الثواب في المعاش و المآب (و) الثاني (توفير فيئكم عليكم) و تفريقه فيكم بالقسط و العدل من دون حيف فيه و ميل (و)الثّالث (تعليمكم) ما فيه صلاح حالكم في المعاش و المعاد (كيلا تجهلوا و) الرابع (تأديبكم) بالآداب الشّرعية (كيما تعلموا) و تعملوا.
(و أما حقى) الذى (عليكم ف) أربعة أيضا الأوّل (الوفاء بالبيعة) الذى هو أهمّ الامور و به حصول النّظام الكلّي (و) الثاني (النصيحة) لى (في المشهد و المغيب) و الذبّ عنى في الغيبة و الحضور (و) الثّالث (الاجابة) لدعائي (حين أدعوكم) من غير تثاقل فيه و توان و فتور (و) الرّابع (الطاعة) لامرى (حين امركم) و الانتهاء عن نهيى حين انهيكم.
و غير خفىّ أنّ منفعة هذه الامور ايضا عايدة اليهم في الحقيقة إمّا في الدّنيا و إمّا في الآخرة إذ قيامهم بها يوجب انتظام الحال و حسن المآل، و مخالفتهم فيها يوجب خذلان الدّنيا و حرمان الآخرة و اختلال الحال مع شدّة النّكال.
تنبيه
قيل آكد الاسباب في تقاعد النّاس عن أمير المؤمنين أمر المال فانّه عليه السّلام لم يكن يفضل شريفا على مشروف، و لا عربيّا على عجميّ و لا يصانع الرّؤساء و امراء القبايل كما يصنع الملوك و لا يستميل أحدا إلى نفسه، و كان معاوية بخلاف ذلك فترك النّاس عليّا و التحقوا بمعاوية، فشكى عليّ عليه السّلام إلى الاشتر تخاذل اصحابه و فرار بعضهم إلى معاوية.
فقال الاشتر: يا أمير المؤمنين إنا قاتلنا أهل البصرة و أهل الكوفة و رأى النّاس واحدة، و قد اختلفوا بعد و تعادوا و ضعفت النيّة و قلّ العدد و أنت تأخذهم بالعدل و تعمل فيهم بالحقّ و تنصف الوضيع من الشّريف، فليس للشّريف عندك فضل منزلة على الوضيع، فضجّت طائفة ممّن معك إذ عموا به و اغتمّوا من العدل إذ صاروا فيه.
و رأوا صنايع معاوية عند أهل الغناء و الشّرف فتاقت أنفس النّاس إلى الدّنيا و قلّ من ليس للدّنيا بصاحب و أكثرهم يحتوي الحقّ و يشترى الباطل و يؤثر الدّنيا، فان تبذل المال يا امير المؤمنين يميل إليك أعناق الرّجال و تصفو نصيحتهم لك،و يستخلص ودّهم صنع اللّه لك يا امير المؤمنين و كبت أعدائك و فرق جمعهم و اوهن كيدهم و شتت امورهم وَ إِنَّ كُلًّا لَمَّا فقال عليّ عليه السّلام أمّا ما ذكرت من عملنا و سيرتنا بالعدل فانّ اللّه يقول: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» و أنا من أن أكون مقصّرا فيما ذكرت أخوف.
و أمّا ما ذكرت من أنّ الحقّ ثقل عليهم ففارقونا لذلك فقد علم اللّه انّهم لم يفارقونا من جور و لا لجئوا إذا فارقونا إلى عدل و لم يلتمسوا إلّا دنيا زايلة عنهم كان قد فارقوها و ليسألن يوم القيامة: الدّنيا أرادوا، أم للّه عملوا.
و أمّا ما ذكرت من بذل الأموال و اصطناع الرّجال فانّه لا يسعنا أن نؤتي امرأ من الفى ء اكثر من حقّه و قد قال اللّه سبحانه و قوله الحقّ: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» و قد بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكثّره بعد القلّة، و أعزّ فئته بعد الذّلة و إن يرد اللّه أن يولينا هذا الأمر يذلل لنا صعبه و يسهل لنا حزنه و أنا قايل من رأيك ما كان للّه عزّ و جلّ رضا و أنت من امن النّاس عندى و انصحهم لي و أوثقهم في نفسي إن شاء اللّه.
أقول: و يؤيد ذلك ما رواه الكليني في كتاب الرّوضة من الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال انّ مولى لأمير المؤمنين سأله مالا فقال يخرج عطائى فاقاسمك هو «عطائى خ ل» فقال: لا اكتفى و خرج إلى معاوية فوصله، فكتب إلى امير المؤمنين عليه السّلام يخبره بما أصاب من المال، فكتب إليه أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: أمّا بعد فانّ ما في يدك من المال قد كان له أهل قبلك و هو صائر إلى أهل بعدك و إنّما لك منه ما مهّدت لنفسك فاثر نفسك على صلاح ولدك، فانّما أنت جامع لاحد رجلين إمّا رجل عمل فيه بطاعة اللّه فسعد بما شقيت، و إمّا رجل عمل
فيه بمعصية اللّه فشقى بما جمعت له، و ليس من هذين أحد بأهل أن تؤثره على نفسك و لا تبرد له على ظهرك، فارج لمن مضى برحمة اللّه، وثق لمن بقى برزق اللّه.
و في الرّوضة أيضا عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن يعقوب بن يزيد عن محمّد بن جعفر العقبىّ رفعه قال: خطب أمير المؤمنين عليه السّلام فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: ايّها النّاس إنّ آدم لم يلد عبدا و لا أمة، و إنّ النّاس كلّهم أحرار و لكن اللّه خوّل بعضكم فمن كان له بلاء فصبر في الخير فلا يمنّ به على اللّه جلّ و عزّ الا و حضر شي ء و نحن مسوّون فيه بين الأسود و الأحمر.
فقال مروان لطلحة و الزّبير: أراد بهذا غير كما، قال فأعطى كلّ واحد ثلاثة دنانير و أعطى رجلا من الأنصار ثلاثة دنانير، و جاء بعد غلام اسود فأعطاه ثلاثة دنانير، فقال الأنصارى يا أمير المؤمنين هذا غلام اعتقته بالامس تجعلنى و إياه سواء فقال إنّى نظرت في كتاب اللّه فلم أجد لولد إسماعيل على ولد اسحاق فضلا.
و في شرح المعتزلي عن هارون بن سعد قال قال عبد اللّه بن جعفر بن ابي طالب لعليّ عليه السّلام يا أمير المؤمنين لو أمرت لي بمعونة أو نفقة فو اللّه مالي نفقة إلّا أن أبيع دابّتي، فقال عليه السّلام: لا و اللّه ما أجد لك شيئا إلّا أن تأمر عمّك يسرق فيعطيك.
و عن عليّ بن يوسف المدايني إنّ طايفة من أصحاب علىّ مشوا إليه فقالوا: يا أمير المؤمنين اعط هذه الأموال و فضّل هؤلاء الأشراف من العرب و قريش على الموالى و العجم، و استمل من تخاف خلافه من النّاس و فراره، و إنّما قالوا له ذلك لما كان معاوية يصنع في المال.
فقال لهم أ تامرونني أن أطلب النّصر بالجور، لا و اللّه لا افعل ما طلعت شمس
و ما لاح في السّماء نجم، و اللّه لو كان المال لي لواسيت بينهم فكيف و إنّما هي اموالهم، ثمّ سكت طويلا و اجما، ثمّ قال: الأمر أسرع من ذلك قالها ثلاثا.
و يأتي رواية هذا الكلام في الكتاب إنشاء اللّه من السّيد بنحو آخر و هو المأة و السادس و العشرون من المختار في باب الخطب.
تكملة
اعلم انّ هذه الخطبة رواها المحدّث المجلسي في المجلد السّابع عشر من البحار من كتاب مطالب السؤول لمحمّد بن طلحة إلى قوله و يفعل اللّه بعد ذلك ما يشاء، و روى فقراتها الأخيرة السّيد المحدّث البحراني في كتاب غاية المرام من كتاب سليم بن قيس الهلالي في ضمن حديث طويل، و رواها المحدّث المجلسي ايضا في المجلد الثامن من البحار من كتاب سليم بن قيس الهلالي ايضا، و سيأتى نقل تلك الرّواية في التذييل الثّاني من تذييلي الكلام السّابع و الثلاثين، و رواها فيه ايضا من كتاب الغارات بزيادة و نقصان احببت روايتها هنا على ما هو دأبنا في هذا الشّرح.
فأقول في البحار من كتاب الغارات باسناده عن جندب، و من مجالس المفيد عن الكاتب عن الزّعفراني عن الثقفي عن محمّد بن إسماعيل عن زيد بن المعدّل عن يحيى بن صالح عن الحرث بن حصيرة عن أبي صادق عن جندب بن عبد اللّه الازدي قال سمعت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يقول لأصحابه و قد استنفرهم أياما إلى الجهاد فلم ينفروا: أيّها النّاس انّى قد استنفرتكم فلم تنفروا، و نصحت لكم فلم تقبلوا، فأنتم شهود كأغياب، و صمّ ذووا أسماع، أتلو عليكم الحكمة، و أعظكم بالموعظة الحسنة، و أحثكم على جهاد عدّوكم الباغين، فما اتى على آخر منطقى حتّى أراكم متفرّقين أيادي سبا، فاذا أنا كففت عنكم عدتم إلى مجالسكم حلقا عزين تضربون الامثال و تتاشدون الاشعار، و تسألون الاخبار، قد نسيتم الاستعداد للحرب، و شغلتم قلوبكم بالاباطيل تربّت أيديكم، اغزوا القوم من قبل أن يغزوكم فو اللّه ما غزى قوم قط في عقر ديارهم إلّا ذلوا.
و ايم اللّه ما اريكم تفعلون حتّى يفعلون، و لوددت أنّى لقيتهم على نيّتي و بصيرتي فاسترحت من مقاساتكم فما أنتم إلّا كابل جمة ضلّ راعيها، فكلّما ضمّت من جانب انتشرت من جانب آخر، و اللّه لكأني بكم لو حمس الوغا و احم الباس قد انفرجتم عن عليّ بن ابي طالب انفراج الرّاس و انفراج المرأة عن قبلها.
فقام إليه أشعث بن قيس الكندى فقال له: يا أمير المؤمنين فهلّا فعلت كما فعل ابن عفان فقال عليه السّلام له: يا عرف النّار و يلك إنّ فعل ابن عفّان لمخزاة على من لا دين له و لا حجّة معه فكيف و أنا على بيّنة من ربى، الحقّ في يدي و اللّه انّ امرأ يمكّن عدوّه من نفسه يخذع لحمه و يهشم عظمه و يفري جلده و يسفك دمه لضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره أنت فكن كذلك إن أحببت فأما أنا فدون أن أعطى ذلك ضرب بالمشر في يطير منه فراش الهام و تطيح منه الأكفّ و المعاصم و يفعل اللّه بعد ما يشاء.
فقام أبو أيوّب الأنصارى خالد بن زيد صاحب منزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال:
أيّها الناس إنّ أمير المؤمنين قد أسمع من كانت له اذن واعية و قلب حفيظ، إنّ اللّه قد اكرمكم بكرامة لم تقبلوها حقّ قبولها، إنّه نزل بين أظهركم ابن عمّ نبيّكم و سيّد المسلمين من بعده يفقهكم في الدّين و يدعوكم إلى جهاد المحلسين. فكانّكم صمّ لا يسمعون أو على قلوبكم غلف مطبوع عليها فانتم لا تعقلون، أفلا نستحيون عباد اللّه أ ليس انما عهدكم بالجور و العدوان أمس قد شمل البلاء و شاع في البلاد قد دحق محروم و ملطوم وجهه و موطاء بطنه و يلقى بالعراء تسفى عليه الأعاصير لا يكنه من الحرّ و القرّ و صهر الشّمس و الضّح إلا الأثواب الهامدة و بيوت الشّعر البالية.
حتّى جائكم اللّه بأمير المؤمنين عليه السّلام فصدع بالحق و نشر العدل و عمل بما في الكتاب، يا قوم فاشكروا نعمة اللّه عليكم و لا تولّوا مدبرين، و لا تكونوا كالذين قالوا سمعنا و هم لا يسمعون، اشحذوا السّيوف، و استعدّوا لجهاد عدوّكم، فاذا دعيتم فأجيبوا، و إذا امرتم فاسمعوا و أطيعوا، و ما قلتم فليكن ما اضمرتم عليه تكونوا بذلك من الصّادقين.
|