و من كلام له عليه السّلام في ذكر الكوفة
و هو السابع و الاربعون من المختار فى باب الخطب كأنّي بك يا كوفة تمدّين مدّا لأديم العكاظي، و تعركين بالنّوازل، و تركبين بالزّلازل، و إنّي لأعلم أنّه ما أراد بك جبّار سوء إلّا ابتلاه اللّه بشاغل، و رماه بقاتل.
اللغة
(الاديم) الجلد أو مدبوغه و جمعه ادم و (عكاظ) بالضّم اسم سوق للعرب بناحية مكةكانت العرب يجتمع بها في كل سنة و يقيمون شهرا و يتبايعون و يتعاكظون أى يتفاخرون و يتناشدون الأشعار قال أبو ذويب:
- اذا بنى القباب على عكاظو قام البيع و اجتمع الالوف
فلما جاء الاسلام هدمه و أكثر ما كان يباع بها الأديم فنسب إليها و (العرك) الدلك و الحكّ و عركه أى حمل عليه الشّر و عركت القوم في الحرب إذا ما رستهم حتّى اتعبتهم و (النّوازل) المصائب و الشّدايد و (الزّلازل) البلايا.
الاعراب
المستفاد من المطرزى في شرح المقامات أنّ الفعل في كأني بك محذوف، و الأصل كانّى ابصرك فزيدت الباء بعد حذف الفعل، و قال الرّضيّ: و الأولى أن تبقى كان على معنى التّشبيه و لا تحكم بزيادة شي ء و تقول التّقدير كأنّي أبصر بك أى اشاهدك من قوله تعالى فبصرت به عن جنب، و الجملة بعد المجرور بالباء حال أى كانّي أبصر بك يا كوفة حال كونك ممدودة مدّ الأديم، و قوله تركبين على البناء للمجهول كالفعلين السّابقين أى تجعلين مركوبة لها أو بها على أن تكون الباء للسّبيّة كالسّابقة.
المعنى
اعلم أنّ هذا الكلام له عليه السّلام من جملة ما أخبر به عن المغيبات بيّن فيه حال الكوفة و حال أهلها و تجاذب أيدى الظالمين، و تسلّطهم عليهم بالظلم و العدوان و في قوله (كأنّي بك يا كوفة) إشارة إلى أنّ المخبر به لا محالة واقع و وقوعه شاهد بعين اليقين (تمدّين مدّ الأديم العكاظى) وجه الشّبه شدّة ما يقع بأهله من الظلم و البلاء كما أنّ الاديم العكاظى مستحكم الدّباغ شديد المدّ (تعركين بالنّوازل و تركبين بالزّلازل) أراد بهما الشّدايد و المصايب التي نزلت بأهل الكوفة و الظلم و البلايا التي حلّت بها و أوجبت اضطراب أهلها، و هي كثيرة معروفة مذكورة في كتب السّير و التواريخ.
و في قوله: (و إنّي لأعلم) مؤكدا بانّ و اللّام و القسم إشارة إلى تحقّق وقوع المخبر به يعني أنّه معلوم بعلم اليقين (أنّه ما أراد بك جبّار سوءا إلّا ابتلاه اللّه بشاغل و رماه بقاتل).
قال أبو الحسن الكيدري في شرحه: فمن الجبابرة الذين ابتلاهم اللّه بشاغل فيها زياد و قد جمع النّاس في المسجد ليلعن عليا صلوات اللّه عليه فخرج الحاجب و قال انصرفوا فانّ الأمير مشغول عنكم و قد أصابه الفالج في هذه الساعة و ابنه عبيد اللّه بن زياد و قد أصابه الجذام و الحجاج بن يوسف و قد تولّدت الحيّات في بطنه حتّى مات و عمر بن هبيرة و ابنه يوسف و قد أصابهما البرص و خالد القسرى و قد حبس فطولت حتّى مات جوعا.
و أمّا الذين رماهم اللّه بقاتل فعبيد اللّه بن زياد و مصعب بن الزبير و ابو السرايا و غيرهم قتلوا جميعا و يزيد بن مهلب قتل على أسوء حال هذا.
و العجب من الشّارح البحراني حيث قال: و أمّا الجبابرة التي أرادوا بها سوء و طعنوا فيها فأكثروا فيها الفساد فصبّ عليهم ربك سوط عذاب و أخذهم بذنوبهم و ما كان لهم من اللّه من واق، فجماعة و ذكر التي تقدّم ذكرها من الكيدرى و أضاف إليها المختار بن أبى عبيدة الثّقفي.
و أنت خبير بأنّ عد المختار في ذلك العداد ظلم في حقّه و سوء أدب بالنّسبة إليه إذ الأخبار في ذمّه و إن كانت كثيرة إلّا أنّها مع ضعف سندها معارضة بأخبار المدح، و قد ذكرهما الكشي في رجاله فغاية الأمر مع عدم التّرجيح لأخبار المدح هو التوقف، و على فرض الترجيج لأخبار الذّم فهي لم تبلغ حدّا يوجب الجرأة على عدّه في عداد أمثال زياد و حجاج و مصعب و نحوهم، و على جعله من الجبابرة الموصوفة لعنهم اللّه.
كيف و ابن طاوس بعد القدح في روايات الذّم قال: إذا عرفت هذا فانّ الرجحان في جانب الشكر و المدح، و لو لم يكن تهمة فكيف و مثله موضع أن يتّهم فيه الرواة و يستغشّ فيما يقول عنه المحدّثون لعيوب تحتاج إلى نظر و يكفى في فضله ما رواه الكشّي عن عبد اللّه بن شريك قال: دخلنا على أبي جعفر عليه السّلام يوم النّحر و هو متّك و قد أرسل إلى الحلّاق فقعدت بين يديه إذ دخل عليه شيخ من أهل الكوفة فتناول يده ليقبّلها فمنعه، ثمّ قال: من أنت قال: أناأبو محمّد الحكم بن المختار بن أبي عبيدة الثقفي، و كان متباعدا من أبي جعفر فمدّيده إليه حتّى كاد أن يقعده في حجره بعد منعه يده، ثمّ قال: أصلحك اللّه إنّ النّاس قد أكثروا في أبي و قالوا: و القول و اللّه قولك، قال: أىّ شي ء يقولون قال: يقولون كذّاب و لا تأمرني بشي ء إلّا قبلته، فقال: سبحان اللّه أخبرني أبي و اللّه أنّ مهر امّي كان ممّا بعث به المختار أو لم يبن دورنا، و قتل قاتلنا، و طلب بدمائنا رحم اللّه، و أخبرني و اللّه أنّه كان ليقيم عند فاطمة بنت عليّ يمهدها الفراش و يثنى لها الوسائد و منها أصاب الحديث رحم اللّه أباك رحم اللّه أباك ما ترك لنا حقّا عند أحد إلّا طلبه قتل قتلتنا و طلب بدمائنا هذا و اعلم أنّ في قوله: ما أراد بك جبّار سوء إلّا ابتلاه اللّه إشعارا بمدح الكوفة و فضلها و قد جاء عن أهل البيت عليهم السّلام في ذلك شي ء كثير مثل قول أمير المؤمنين عليه السّلام نعمت المدرة، و قوله عليه السّلام إنّه يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفا وجوههم في صورة القمر، و قوله عليه السّلام مدينتنا و محلّتنا و مقرّ شيعتنا، و قول الصّادق عليه السّلام اللّهمّ ارم من رماها و عاد من عاداها، و قوله عليه السّلام تربة تحبّنا و نحبّها و في البحار من معانى الأخبار و الخصال للصّدوق باسناده عن موسى بن بكير عن أبي الحسن الأوّل قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّ اللّه اختار من البلدان أربعة فقال عزّ و جلّ: وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ وَ طُورِ سِينِينَ وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ فالتّين المدينة، و الزّيتون البيت المقدّس، و طور سينين الكوفة، و هذا البلد الأمين مكّة، الخبر.
قال المجلسي: لعلّه إنّما كنى عن المدينة بالتّين لو فوره و جودته فيها، أو لكونها من أشارف البلد كما أنّ التّين من أفاضل الثّمار، و كنّى عن الكوفة بطور سينين لأنّ ظهرها و هو النّجف كان محلّ مناجاة سيّد الأوصياء كما أنّ الطور محلّ مناجاة الكليم، أو لأنّ الجبل الذي سأل موسى عليه الرّؤية تقطّع فوقع جزء منهاهناك كما ورد في بعض الأخبار، أو أنّ ابن نوح لمّا اعتصم بهذا الجبل تقطّع فصار بعضها في طور سينا، أو أنّه طور سينا حقيقة.
و غلط فيه المفسّرون و اللغويّون كما روى الشّيخ في التّهذيب باسناده عن الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كان في وصيّة أمير المؤمنين أن أخرجوني إلى الظهر فاذا تصوّبت أقدامكم و استقبلتكم ريح فادفنوني و هو أوّل طور سينا ففعلوا ذلك و من مجالس الشّيخ باسناده عن عبد اللّه بن الوليد قال: دخلنا على أبي عبد اللّه عليه السّلام فسلّمنا عليه و جلسنا بين يديه فسألنا من أنتم قلنا: من أهل الكوفة فقال: أما إنّه ليس من بلد من البلدان أكثر محبّا لنا من أهل الكوفة، ثمّ هذه العصابة خاصّة إنّ اللّه هداكم لأمر جهله النّاس، احببتمونا و أبغضنا النّاس، و صدّقتمونا و كذبنا النّاس، و اتّبعتمونا و خالفنا النّاس، فجعل اللّه محياكم محيانا و مماتكم مماتنا
|