و من كلام له عليه السلام فى معنى الانصار
و هو السادس و الستون من المختار فى باب الخطب قالوا: لمّا انتهت إلى أمير المؤمنين أنباء السّقيفة بعد وفات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال عليه السّلام ما قالت الانصار قالوا قالت: منّا أمير و منكم أمير قال عليه السّلام: فهلّا احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وصّى بأن يحسن إلى محسنهم، و يتجاوز عن مسيئهم قالوا: و ما في هذا من الحجّة عليهم قال عليه السّلام: لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصيّة بهم، ثمّ قال: فما ذا قالت قريش قالوا: احتجّت بأنّها شجرة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله فقال عليه السّلام: احتجّوا بالشّجرة و أضاعوا الثّمرة.
اللغة
(النّبأ) كالخبر لفظا و معنا و (السّقيفة) الصّفة و سقيفة بني ساعدة فعيلة بمعنى مفعولة و هي ظلّة كانت مجمع الأنصار و دار ندوتهم لفصل القضايا و (وصيت) الشّي بالشي ء أصيه من باب و عدو وصيته و وصيت إلى فلان توصية و أوصيته ايصاء و الاسم الوصاية بالكسر و الفتح لغة، و هو وصيّ فعيل بمعنى مفعول و الجمع الأوصياء و أوصيت له بمال جعلته له، و أوصيته بولده استعطفته عليه، و أوصيته بالصّلاة أمرته بها قال تعالى: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
الاعراب
هلّا من حروف التّحصيص، قال نجم الائمة الرّضي: و معناها إذا دخلت على الماضى التّوبيخ و اللوم على ترك الفعل، و في المضارع الحضّ على الفعل و الطلب له، فهي في المضارع بمعنى الأمر و لا يكون التّحضيض في الماضي الذي قد فات إلّا أنّها تستعمل كثيرا في لوم المخاطب على انّه ترك في الماضى شيئا يمكن تداركه في المستقبل، فكأنّها من حيث المعنى للتّحضيض على فعل مثل ما فات، قوله: فما ذا قالت، يحتمل أن يكون ذا موصولة و أن تكون زايدة كما في قولهم: ما ذا صنعت و من ذا رأيت.
المعنى
اعلم انّه (لما انتهت إلى أمير المؤمنين أنباء أهل السقيفة بعد وفات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله) و مشاجرات المهاجرين و الأنصار و دعوى كل منهما استحقاق الخلافة لنفسه و احتجاج كلّ من الطرفين على الآخر بذكر المناقب و السّوابق (قال عليه السّلام ما قالت الانصار) المهاجرين (قالوا) انّهم (قالت منّا امير و منكم امير قال عليه السّلام فهلا احتججتم عليهم بانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم وصى بان يحسن إلى محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم) و قد مرّ تلك الوصيّة في المقدّمة الثالثة من مقدّمات الخطبة الشّقشقية في رواية الاحتجاج عن الشيباني و رواها الشّارح المعتزلي من صحيحى البخارى و مسلم في مسنديهما عن أنس بن مالك قال: مرّ ابو بكر و العباس بمجلس من الأنصار في مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هم يبكون، فقالا: ما يبكيكم قال: ذكرنا محاسن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله فدخلا على النبي و أخبراه بذلك فخرج و قد عصب على رأسه حاشية برده، فصعد المنبر و لم يصعده بعد ذلك اليوم فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: اوصيكم بالانصار فانّهم كرشي«» و عيبتي و قد قضوا الذي عليهم و بقى الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم و تجاوزوا عن مسيئهم هذا. و لمّا لم يفهم المخاطبون كيفيّة حجيّة كلامه على الأنصار و دلالته على بطلان دعواهم استفهموا عنه عليه السّلام و (قالوا و ما في هذا) الكلام (من الحجة عليهم فقال عليه السّلام لو كانت الامارة فيهم لم تكن الوصية بهم) لكنّها بهم فليست الامارة لهم، بيان الملازمة أنّ العرف قاض بأنّ الوصية انما تكون إلى الرئيس في حقّ المرءوس لا بالعكس.
(ثمّ قال: فما ذا قالت قريش) في مقام الاحتجاج على الأنصار (قالوا احتجت بأنّها شجرة الرّسول) كونهم شجرة الرّسول باعتبار أنّه صلوات اللّه عليه و آله منهم، فهو و إياهم جميعا من أغصان أصل واحد و أولاد نضربن كنانة (فقال احتجّوا بالشّجرة و أضاعوا الثّمرة) الظاهر أنّه أراد بالثّمرة نفسه و أهل بيته و أراد باضاعتها إهمالهم له و لأولاده من هذا الأمر و المقصود بهذا الكلام الاحتجاج على قريش بمثل ما احتجوا به على الانصار.
بيان ذلك أنهم استدلّوا على أولويّتهم بأنّهم شجرة الرّسول فيكونون أقرب إليه من غيرهم و نحن نحتج عليهم بأنا ثمرة الرسول فنكون أقرب اليه منهم إذ للثّمرة اختصاص بالمثمر ليس للغير ذلك الاختصاص، بل المراد بالشجر ليس إلّا الثّمر فان كانت الشّجرة معتبرة فبالأولى اعتبار الثمرة و إن لم يلتفت إلى الثمرة فلا التفات إلى الشّجرة، و قد وقع مثل ذلك التشبيه في قوله سبحانه: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
روى في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم باسناده عن سلام بن مستنير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: الشّجرة رسول اللّه و نسبه ثابت في بني هاشم و فرع الشّجرة عليّ بن أبي طالب، و غصن الشجرة فاطمة و ثمرتها الأئمة، من ولد عليّ و فاطمة، و شيعتهم ورقها و ان المؤمن من شيعتنا ليموت فيسقط من الشجرة ورقة، و أنّ المؤمن ليولد فتورق الشجرة ورقة، قلت: أ رأيت قوله: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها.
قال يعنى بذلك ما يفتون الأئمة شيعتهم في كلّ حجّ و عمرة من الحلال و الحرام.
تنبيهان
الاول
قد قدّمنا أخبار السقيفة في المقدّمة الثالثة من مقدّمات شرح الخطبة الشقشقية، و نزيد هنا على ما سبق ما رواه المحدّث المجلسى في البحار من الشيخ في تلخيص الشافي عن هشام بن محمّد عن أبى مخنف عن عبد اللّه بن عبد الرّحمن بن أبى عمر الأنصارى.
أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و اله و سلّم لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بنى ساعدة فقالوا: نولّي هذا الأمر من بعد محمّد سعد بن عبادة و أخرجوا سعدا إليهم و هو مريض، قال: فلما اجتمعوا قال لابنه أو لبعض بنى عمّه إنّى لا أقدر لشكواى اسمع القوم كلهم كلامى و لكن تلق منّى قولى فأسمعهم: فكان يتكلّم و يحفظ الرّجل قوله فيرفع به صوته و يسمع به أصحابه فقال بعد أن حمد اللّه و أثنى عليه: يا معاشر الانصار أنّ لكم سابقة في الدّين و فضيلة في الاسلام ليست لقبيلة من العرب، إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و اله و سلّم لبث عشر سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرّحمن و خلع الأوثان، ما آمن به من قومه إلّا رجال قليل، و اللّه ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسوله و يعززوا دينه و لا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيما«» عموا حتّى اذا أراد بكم ربّكم الفضيلة و ساق إليكم الكرامة و خصّكم بالنعمة و رزقكم الايمان به و برسوله و المنع له و لأصحابه و الاعزاز له و لدينه و الجهاد لأعدائه.
و كنتم أشدّ النّاس على عدوّه منهم و أثقله على عدوّه من غيركم حتى استقامت العرب لأمر اللّه طوعا و كرها، و أعطى البعيد المقادة صاغرا و آخرا، و حتّى اثخن اللّه لرسوله بكم في الأرض و دانت بأسيافكم له العرب و توفاه اللّه تعالى إليه و هو عنكم راض و بكم قرير عين، استبدّوا بهذا الأمر دون النّاس فانّه لكم دون الناس. فأجابوه بأجمعهم بأن قد وفقت في الرّاى و أصبت في القول و لن نعدو ما رأيت نولّيك هذا الأمر دون الناس فانك فينا مقنع و لصالح المؤمنين رضى.
ثمّ انّهم ترادّوا الكلام فقالوا فان أبت مهاجرة قريش فقالوا نحن المهاجرون و صحابة رسول اللّه الأوّلون فعلام تنازعونا الأمر من بعده قالت طائفة منهم: فانا نقول إذن منّا أمير و منكم أمير و لن نرضى بدون هذا أبدا، فقال سعد بن عبادة حين سمعها هذا أوّل الوهن، و أتى عمر الخبر فأقبل إلى منزل النبيّ فأرسل إلى أبى بكر و أبو بكر في الدّار و عليّ بن أبي طالب دائب في جهاز النبيّ.
فأرسل إلى أبي بكر أن اخرج إلىّ فأرسل إليه أنّي مشتغل فأرسل إليه أن قد حدث أمر لا بدّ لك من حضوره، فخرج إليه فقال: أما علمت أنّ الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بنى ساعدة يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بن عبادة، و أحسنهم مقالة من يقول منّا أمير و من قريش أمير، فمضيا مسرعين نحوهم فلقيا أبا عبيدة فتماشوا إليهم فلقاهم عاصم بن عديّ و عويمر بن ساعدة فقالوا لهم: ارجعوا فانه لا يكون إلّا ما تحبّون، فقالوا: لا نفعل، فجاءوا و هم مجتمعون.
فقال عمر بن الخطاب: أتيناهم و قد كنت زوّرت«» كلاما أردت أن اقوم به فيهم فلما اندفعت إليهم ذهبت لابتدء المنطق فقال لي أبو بكر: رويدا حتّى أتكلّم، ثمّ انطق بعد بما احببت، فنطق، فقال عمر: فما شي ء كنت اريد أن أقول به إلّا و قد أتى عليه.
قال عبد اللّه بن عبد الرّحمن: فبدء أبو بكر فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: إنّ اللّه بعث محمّدا رسولا إلى خلقه و شهيدا على امّته ليعبدوا اللّه و يوحّدوه و هم يعبدون من دونه آلهة شتّى يزعمون أنّها لمن عبدها شافعة و لهم نافعة و إنما هى من حجر منحوت خشب و منجور ثمّ قرء: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ وَ قالُوا ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى .
فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم فخصّ اللّه المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه و الايمان به و المواساة له و الصّبر معه على شدّة أذى قومهم لهم و تكذيبهم ايّاه، و كلّ الناس لهم مخالف و عليهم زار، فلم يستوحشوا لقلّة عددهم و تشذّب الناس عنهم و اجماع قومهم عليهم، فهم أوّل من عبد اللّه في الأرض و آمن باللّه و رسوله، و هم أولياؤه و عشيرته و أحقّ الناس بهذا الأمر من بعده، و لا ينازعهم في ذلك إلّا ظالم.
و أنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدّين و لا سابقتهم العظيمة في الاسلام رضيكم اللّه أنصارا لدينه و رسوله و جعل إليكم هجرته و فيكم جلّة ازواجه و أصحابه، و ليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء و أنتم الوزراء لانفتات«» عليكم بمشورة، و لا نقضى دونكم الامور، فقام المنذر بن الحباب ابن الجموح.
هكذا روى الطبرى و الذي رواه غيره أنّ الحباب بن المنذر قال: يا معشر الأنصارا ملكوا على أيديكم، و ساق الحديث نحوا ممّا رواه ابن أبي الحديد عن الطبري إلى قوله فقاموا إليه فبايعوه.
أقول ما رواه ابن أبي الحديد عنه هكذا: فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الانصارا ملكوا عليكم أمركم فانّ النّاس في ظلكم و لن يجترى مجترئ على خلافكم، و لا يصدر أحد إلّا عن رأيكم، أنتم أهل العزّة و المنعة و اولو العدد و الكثرة و ذووا لبأس و النّجدة، و إنّما ينظر النّاس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم اموركم، فان أبى هولاء إلّا ما سمعتم فمنّا أمير و منهم أمير.
فقال عمر: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد و اللّه لا ترضى العرب ان تؤمركم و بينها من غيركم، و لا تمنع العرب أن تؤتى أمرها من كانت النبوة معهم، من ينازعنا سلطان محمّد و نحن أولياؤه و عشيرته. فقال الحباب بن المنذر: يا معشر الأنصار املكوا أيديكم و لا تسمعوا مقالة هذا و أصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فان أبوا عليكم فاجلوا هذه من بلادكم فأنتم أحقّ بهذا الأمر منهم فانّه بأسيافكم و ان النّاس بهذا الدّين أنا جذيلها المحكّك و عذيقها المرجّب، أنا أبو شبل في عريسة الأسد، و اللّه إن شئتم لنعيدها جذعة.
فقال عمر: إذن يقتلك اللّه، فقال بل إيّاك يقتل، فقال أبو عبيدة: يا معشر الانصار انكم أوّل من نصر فلا تكونوا أوّل من بدّل و غيّر.
فقام بشير بن سعد والد النّعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار ألا إنّ محمّدا من قريش و قومه أولى به و أيم اللّه لا يراني اللّه انازعهم هذا الأمر، فقال أبو بكر: هذا عمرو أبو عبيدة بايعوا أيّهما شئتم، فقالا: و اللّه لا نتولّى هذا الأمر عليك و أنت أفضل المهاجرين و خليفة رسول اللّه في الصّلاة و هى أفضل الدين ابسط يدك فلما بسط يده ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه.
فناداه الحباب بن المنذر يا بشير (عفتك خ) عفاة أنفست على ابن عمك الامارة، فقال أسيد بن حصين رئيس الأوس لأصحابه: و اللّه لئن لم تبايعوا ليكونن للخزرج عليكم الفضيلة ابدا، فقاموا فبايعوا أبا بكر فانكسر على سعد بن عبادة و الخزرج ما اجتمعوا عليه، و أقبل النّاس يبايعون أبا بكر من كلّ جانب.
قال في البحار: قال الشّيخ قال هشام: قال أبو مخنف: و حدّثنى أبو بكر بن محمّد الخزاعي إنّ أسلم أقبلت بجماعتها حتّى تضايقت بهم السكك ليبايعوا ابا بكر، فقال عمر: ما هو إلّا أن رايت اسلم فأيقنت.
قال هشام: عن أبى مخنف قال: قال أبو عبد اللّه بن عبد الرّحمن و أقبل الناس من كلّ جانب يبايعون أبا بكر و كادوا يطئون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحاب سعد: اتقوا سعدا لا تطئوه، فقال عمر: اقتلوا سعدا قتله اللّه، ثمّ قام على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك حتى يندر عضوك، فأخذ قيس بن سعد بلحيته ثمّ قال: و اللّه لئن حصصت «حصفت خ ل» منه شعرة ما رجعت و في فيك واضحة، فقال أبو بكر مهلا يا عمر الرفق ههنا أبلغ فأعرض عنه.
و قال سعد: و اللّه لو أرى من قومى ما أقوى على النّهوض لسمعتم منّي بأقطارها و سككها زئيرا يحجزك و أصحابك، أما و اللّه إذن لألحقك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع احملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه داره و ترك أيّا ما ثمّ بعث اليه أن اقبل فبايع فقد بايع النّاس و بايع قومك، فقال أما و اللّه حتّى أرميكم ما في كنانتي من نبل و اخضب منكم سنان رمحى و أضربكم بسيفي ما ملكته يدي، و اقاتلكم بأهل بيتي و من أطاعني من قومى، و لا أفعل و أيم اللّه لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الانس ما بايعتكم حتّى اعرض على ربّي و أعلم ما حسابي فلمّا اتى أبو بكر بذلك قال له عمر: لا تدعه حتّى يبايع، فقال بشير بن سعد إنّه قد لجّ و أبى فليس يبايعكم حتّى يقتل و ليس بمقتول حتّى يقتل معه ولده و أهل بيته و طائفة من عشيرته، فليس تركه بضاركم إنّما هو رجل واحد فتركوه، و قبلوا مشورة بشير بن سعد و استنصحوه لما بدا لهم منه.
و كان سعد لا يصلّى بصلاتهم و لا يجمع معهم و يحجّ و لا يحجّ معهم، و يفيض فلا يفيض معهم بافاضتهم فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر.
أقول: روى الشّارح المعتزلي خبر السّقيفة من كتاب السّقيفة لأبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري نحوا ممّا روينا و زاد في آخره بعد قوله فلم يزل كذلك حتّى مات أبو بكر، ثمّ لقى عمر في خلافته و هو على فرس و عمر على بعير فقال له عمر: هيهات يا سعد فقال سعد: هيهات يا عمر، فقال: أنت صاحب من أنت صاحبه قال: نعم أنا ذاك، ثمّ قال لعمر و اللّه ما جاورني أحد هو أبغض إلىّ جورا منك و من أصحابك، فلم يلبث سعد بعد ذلك قليلا حتّى خرج إلى الشّام فخرج فيها، و لم يبايع لا لأبي بكر و لا لعمر و لا لغيرهما.
ثمّ قال: قال الرّاوي: و كثر النّاس على أبي بكر فبايعه معظم المسلمين في ذلك اليوم، و اجتمعت بنو هاشم إلى عليّ بن أبي طالب و معهم الزّبير و كان يعدّ نفسه رجلا من بني هاشم كان عليّ عليه السّلام يقول، ما زال الزّبير منّا أهل البيت حتّى نشا بنوه فصرفوه عنّا.
و اجتمعت بنو اميّة إلى عثمان بن عفّان و اجتمعت بنو زهرة إلى سعد و عبد الرحمن فأقبل عمر و أبو عبيدة فقال: ما لى أراكم متخلّفين، قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايع النّاس و بايعه الأنصار، فقام عثمان و من معه و قام سعد و عبد الرّحمن و من معهما فبايعوا أبا بكر، و ذهب عمر و معه عصابة إلى بيت فاطمة منهم أسيد بن حصين و سلم ابن أسلم فقال لهم: انطلقوا فبايعوا فأبوا عليه.
و خرج الزّبير بسيفه فقال عمر، عليكم الكلب فوثب عليه سلم بن أسلم فأخذ السّيف من يده فضرب بيده الجدار ثمّ انطلقوا به و بعليّ و معهما بنو هاشم و عليّ عليه السّلام يقول: أنا عبد اللّه و أخو رسول اللّه حتّى انتهوا به إلى أبي بكر فقيل له: بايع، فقال: أنا أحقّ بهذا الأمر منكم لا أبايعكم و أنتم أولى بالبيعة لي أخذتم هذا الأمر من الأنصار و احتججتم عليهم بالقرابة من رسول اللّه فاعطوكم و سلّموا إليكم الامارة، و أنا احتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، فأنصفونا إن كنتم تخافون اللّه من أنفسكم و اعرفوا للنّاس الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم و إلّا فبوّؤا بالظلم و أنتم تعلمون فقال عمر إنّك لست متروكا حتّى تبايع فقال له عليّ عليه السّلام: احلب يا عمر حلبا لك شطره اشدد له اليوم أمره ليردّه عليك غدا، لا و اللّه لا أقبل قولك و لا ابايعه فقال له أبو بكر: فان لم تبايعني لا اكرهك فقال له أبو عبيدة: يا أبا الحسن إنّك حديث السّن و هؤلاء مشيخة قريش قومك ليس لك تجربتهم و معرفتهم بالامور و لا أرى أبا بكر إلّا أقوى على هذا الأمر منك و أشدّ احتمالا له و اضطلاعا به، فسلم له هذا الأمر و ارض به فانّك إن تعيش و يطل عمرك فأنت بهذا الأمر خليق و به حقيق في فضلك و قرابتك و سابقتك و جهادك.
قال عليّ عليه السّلام: يا معشر المهاجرين اللّه اللّه لا تخرجوا سلطان محمّد عن داره و بيته إلى بيوتكم و دوركم، و لا تدفعوا أهله عن مقامه في النّاس و حقّه، فو اللّه يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم، أما كان منّا القاري لكتاب اللّه الفقيه في دين اللّه العالم بالسّنة المضطلع بأمر الرّعيّة، و اللّه إنّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتزدادوا من الحقّ بعدا فقال بشير بن سعد: لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا عليّ قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان، و لكنّهم قد بايعوا، و انصرف عليّ إلى منزله و لم يبايع و لزم بيته حتّى ماتت فاطمة فبايع.
قال الشّارح: قلت: هذا الحديث يدلّ- على بطلان ما يدّعى من النّصّ على أمير المؤمنين و غيره، لأنّه لو كان هناك نصّ صريح لاحتجّ به و لم يجر للنّص ذكر و إنّما كان الاحتجاج منه و من أبي بكر و من الأنصار بالسّوابق و الفضايل و القرب، فلو كان هناك نصّ صريح على أمير المؤمنين و على أبي بكر لاحتجّ به أبو بكر على الأنصار و لاحتجّ به أمير المؤمنين على أبي بكر.
فانّ هذا الخبر و غيره من الأخبار المستفيضة يدلّ على أنّه قد كان كاشفهم و هتك القناع بينه و بينهم ألا تراه كيف نسبهم إلى التّعدّي عليه و ظلمه و تمنّع من طاعتهم و أسمعهم من الكلام أشدّه و أغلظه، فلو كان هناك نصّ لذكره أو ذكره من شيعته و حزبه لأنّه لا عطر بعد عروس.«» و هذا أيضا يدلّ على أنّ الخبر الذي في أبي بكر في صحيحي البخاري و مسلم غير صحيح، و هو ما روى من قوله صلّى اللّه عليه و اله و سلّم لعايشة في مرضه: ادعى إلىّ أباك و أخاك حتّى اكتب لأبي بكر كتابا، فانّي أخاف أن يقول قائل أو يتمنّي متمنّي، و يأبي اللّه و المؤمنون إلّا أبا بكر و هذا هو نصّ مذهب المعتزلة.
أقول من نظر إلى هذا الحديث بعين البصيرة و الاعتبار و لاحظ الانصاف و جانب حدّ الاعتساف، عرف منه ما فيه للناظرين معتبر و استفاد منه أشياء كلّ منها شاهد صدق على بطلان خلافة الثلاثة، و برهان واضح على فساد دعوى تابعيهم استحقاقهم لها و أهليّتهم للقيام بها.
منها خلوّه من احتجاج قريش على الأنصار جعل النبيّ الامامة فيهم، لانّه تتضمّن من احتجاجهم عليهم ما يخالف ذلك و أنّهم إنّما ادّعوا كونهم أحقّ بالأمر من حيث كون النبوّة فيهم و من حيث كونهم أقرب إلى النبيّ نسبا و أولاهم له أتباعا.
و منها أنّ الأمر إنما بني السّقيفة على المغالبة و المخالسة، و انّ كلّا منهم إنما كان يجذبه لنفسه بما اتّفق له و عنّ«» من حقّ و باطل و قويّ و ضعيف.
و منها أنّ سبب ضعف الأنصار و قوّة المهاجرين عليهم انحياز«» بشير بن سعد حسدا لسعد بن عبادة، و انحياز الأوس بانحيازه عن الأنصار.
و منها أنّ خلاف سعد و أهله كان باقيا لم يرجعوا عنه، و إنما أقعده عن الخلاف بالسّيف قلة الناصر.
و منها أنّه لو أراد أبو بكر الاجماع و اتّفاق الكلّ على بيعته حتّى من سعد و أصحابه انجرّ الأمر إلى قتل النّفوس و اهراق الدماء و فسدله الأمر.
و منها أن قول عمر في حقّ الزّبير: عليكم الكلب، دليل على بطلان خبر العشرة المبشرة إذ الكلب لا يكون في الجنّة.
و منها أنّ بيعة عمر لأبي بكر لم يكن لتأسيس أساس الاسلام و رعاية مصلحة الدين و حفظ شرع سيد المرسلين، و إنّما كان نظره في ذلك ليتولى أبو بكر الأمر و يوليه عليه بعده كما هو نصّ قوله عليه السّلام اشدد له اليوم أمره ليردّ عليك غدا. و منها أنّ حداثة السّنّ لو كان مانعا عن الخلافة كما قاله أبو عبيدة و أخذه منه أهل السّنة و الجماعة، لكان مانعا عن النبوة بطريق أولى و قد قال سبحانه: وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا.
فقد أتا النبوّة ليحيى و عيسى عليهما السّلام في حالة الصّباء.
و منها أن تجربة أبى بكر كما زعمه أبو عبيدة لو كان أزيد من أمير المؤمنين عليه السّلام لم يعز له النبيّ من البعث بسورة برائة و لم يخلّف عليّا مقامه و لو كان قوته أشدّ لسبق في يوم أحد و خيبر و لم يستأثر الفرّ على الكرّ.
و منها أنّ قول بشير بن سعد له لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار قبل البيعة لما اختلف عليك اثنان، دليل على أنّ بيعتهم لأبي بكر لم يكن عن بصيرة و إنّما اقتحموا فيها من غير روية، و إنما كان اللّازم عليهم التّروّي و التثبيت و ملاحظة الأطراف و الجوانب، و التّفكر في العواقب و الدّقة في جهات الاستحقاق فكيف يكون بيعة هؤلاء الجهلة الغفلة الفسقة التّابعة لهوى أنفسهم الأمارة حجة شرعيّة لأهل الملّة.
و أمّا ما ذكره الشّارح من أنه لو كان هناك نصّ لاحتجّ به أمير المؤمنين و لما لم يحتج إلّا بالسّوابق و القرب علم أنّه لم يكن هناك نصّ عليه، ففساده أظهر من الشمس في رابعة النّهار، إذ قد عرفت أنّ أوّل من حضر في السقيفة هو الأنصار، و اوّل من ابتدء بالكلام فيها سعد بن عبادة، فذكر مناقب الأنصار و مآثرهم و كونهم انصارا لدين اللّه و ذابيّن عن رسول اللّه، فاحتجّ عليهم قريش بالقرب و النسب و السبق في التصديق و التّقدم في الايمان فحجّوهم بذلك، فاقتضى المقام بمقتضى آداب المناظرة أن يحتجّ أمير المؤمنين عليه السّلام بمثل ما احتجّت به قريش على الأنصار، إذ في ذلك من الالزام لهم ما ليس في غيره كما قال عليه السّلام فيما يذكره السّيد فى أواخر الكتاب.
- فان كنت بالشورى ملكت أمورهمفكيف بهذا و المشيرون غيّب
- و ان كنت بالقربى حججت خصيمهمفغيرك أولى بالنبيّ و أقرب
و كيف يدّعى عدم النص بعد حديث المنزلة و خبر الغدير و قوله صلّى اللّه عليه و اله و سلّم عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يدور معه كيف دار إلى غير ذلك من الأخبار و الآيات التي قدّمناها في المقدّمة الثانية من مقدّمات الخطبة الشقشقية و غيرها، وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً يستضي ء به فَما لَهُ مِنْ نُورٍ، كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ.
الثاني
اعلم أنّ الشّارح المعتزلي قد روى في شرح هذا الكلام أخبارا من كتاب الجوهرى قدم رواية أكثرها في شرح الخطبة السادسة و العشرين، و نحن أيضا روينا بعضها هناك في شرح الفصل الثاني من فصول الخطبة المذكورة و نروى هنا بعض ما لم يتقدّم ذكره حذرا من التكرار كما وقع في شرح المعتزلي، و ليس غرضنا من إيرادها مجرّد الاقتصاص و إنّما المقصود بذلك إقامة الحجّة علي الطائفة الضالّة من الكلاب الممطورة، و الابانة عن ضلالة الشّارح و غفلته، و انّه مع روايته لتلك الأخبار و اعترافه بوثاقة راويها كيف لم يتنبّه من نومة الجهالة، و تاه في أودية الضّلالة.
فأقول: في الشّرح من كتاب السّقيفة لأحمد بن عبد العزيز الجوهري: قال: حدّثنا أبو سعيد عبد الرّحمن بن محمّد، قال: حدّثنا أحمد بن الحكم، قال حدّثنا عبد اللّه بن وهب، عن الليث بن سعد، قال تخلّف عليّ عليه السّلام عن بيعة أبي بكر فاخرج ملبّبا يمضى به رقصا، و هو يقول: معاشر المسلمين على م يضرب عنق رجل من المسلمين، لم يتخلّف لخلاف و إنما تخلّف لحاجة فما من مجلس من المجالس إلّا يقال له: اذهب فبايع.
أقول: هذا الحديث نصّ في أنه لو لم يبايع يضرب عنقه فيدلّ على انّه عليه السّلام لم يكن في البيعة مختارا، و هذا المعنى قد تضمّنته أخبار كثيرة عاميّة و خاصيّة بالغة حدّ الاستفاضة بل التواتر قد اورد طائفة منها السّيد (ره) في الشافي، و روى جملة كثيرة منها السّيد المحدّث البحرانى في كتاب غاية المرام، و قد روينا في شرح الخطبة السادسة و العشرين قول الصّادق عليه السّلام: و اللّه ما بايع عليّ حتّى رأى الدّخان قد دخل عليه بيته، و نقلنا قول السّيد هناك من أنّه أىّ اختيار لمن يحرق عليه بابه حتّى يبايع.
قال الجوهري: و حدّثنا أبو زيد عمرو بن شيبة باسناد رفعه إلى ابن عبّاس قال: إنّي لا ماشي عمر في سكّة من سكك المدينة يده في يدي، فقال يا بن عبّاس ما أظنّ صاحبك إلّا مظلوما فقلت في نفسي و اللّه ما يسبقني بها، فقلت يا أمير المؤمنين فاردد إليه ظلامته، فانتزع يده من يدي ثمّ مرّ يهمهم ساعة ثمّ وقف فلحقته فقال: يا ابن عبّاس ما أظنّ القوم منعهم من صاحبك إلّا أنّهم استصغروه، فقلت في نفسي هذه شرّ من الأولى، فقلت و اللّه ما استصغره اللّه حين أمره أن يأخذ سورة برائة من أبي بكر.
قال الجوهريّ: و حدّثني أبو زيد، قال حدّثني محمّد بن عبادة، قال حدّثني أخي سعيد بن عبادة، عن الليث بن سعد عن رجاله عن أبي بكر أنّه قال: ليتني لم اكشف بيت فاطمة و لو اغلق علىّ الحرب.
قال الشّارح: الصحيح عندى أنّها ماتت و هي واجدة على أبي بكر و عمرو أنّها أوصت أن لا يصليا عليها، و ذلك عند أصحابنا من الامور المغفورة لهما، و كان الاولى بهما اكرامها و احترام منزلها لكنّهما خافا الآفة و أشفقا من الفتنة ففعلا ما هو الأصلح بحسب ظنّهما، و كانا من الدّين و قوّة اليقين بمكان مكين لا شكّ في ذلك، الامور الماضية يتعذّر الوقوف على عللها و أسبابها و لا يعلم حقايقها إلّا من شاهدها و لا بسها بل لعلّ الحاضرين المشاهدين لها لا يعلمون باطن الأمر، فلا يجوز العدول عن حسن الاعتقاد فيهما بما جرى، و اللّه ولىّ المغفرة و العفو، فان هذا لو ثبت خطاء لم يكن كبيرة بل كان من باب الصّغاير التي لا يقتضى التّبرى و لا يوجب التّولى.
أقول: ما صحّحه من أنّها عليها السلام ماتت و هى واجدة غضبانة على الرّجلين فهو الصّحيح الذي لا ريب فيه و يشهد بذلك ملاحظة أخبار غصب فدك و غيرها ممّا مرّ في تضاعيف الشّرح و يأتي أيضا و أمّا ما اعتذر به من أنّ ذلك من الصّغاير المعفوّة ففاسد جدّا إذ كيف يكون ذلك من الصغائر مع ما روته العامة و الخاصة من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و اله و سلّم لها: يا فاطمة إنّ اللّه يغضب بغضبك و يرضى لرضاك، و قوله فيها: يؤذيني ما أذاها.
و ما أخرجه أحمد بن حنبل و الحاكم على الميسور بن مخرمة مرفوعا: فاطمة بضعة منّي يغضبني ما يغضبها و يبسطنى ما يبسطها، و أنّ الانساب تنقطع يوم القيامة غير نسبى و سببي و صهري، فاذا انضمّ إلى ذلك قوله تعالى وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى و قوله: وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعلم من ذلك أنّ ما فعلاه في حقها من أكبر الكباير الموجب لكونهما في أسفل الدرك من الجحيم خالدين فيها و ذلك جزاء الظالمين.
و أما ما ذكره من انهما كانا من الدين و قوّة اليقين بمكان مكين ففيه انّك قد عرفت في شرح الخطبة الشقشقية و غيرها و ستعرف أيضا بعد ذلك انهما لم يكونا من الدّين في شي ء، و كيف يجسر المتديّن أن يدخل من غير إذن بيتا لم يكن يدخل فيها الملائكة إلّا باذن أو يحرق بابه أو يهتك ستره حتّى يطمع فيه من لم يكن يطمع.
و أما قوله: إنّ الامور الماضية يتعذّر الوقوف على عللها و لا يعلم حقايقها إلّا من قد شاهدها، ففيه انّ الوقوف عليها و الاطلاع على حقايقها يحصل بالنقل و السمع و لا حاجة في ذلك إلى الشّهود و الحضور، و قد حصل لنا في حقهما بطريق السمع و البيان ما هو مغن عن الحضور و العيان، و عرفنا أنّ الداعى لأفعالهما في جميع حركاتهما و سكناتهما لم يكن إلّا اتباع هوى النفس الامارة و إبطال الشريعة و الملّة و ترويج البدعة و تضييع السنة.
أما قوله: إنّ ذلك لا يقتضى التبرّى و لا يوجب التولى، فيه انهما إذا كانا ممن غضب اللّه عليه بمقتضى ما ذكرنا يجب التّبرّي عنهما و لا يجوز التّولي لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ.
و أشدّ ممّا ذكرنا كلّه فظاعة و أظهر شناعة ما رواه الشّارح أيضا عن الجوهرى، قال حدّثنا الحسن بن الرّبيع، عن عبد الرّزاق، عن معمّر، عن الزّهرى، عن عليّ بن عبد اللّه بن العبّاس، عن أبيه قال: لما حضرت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم الوفات و في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله: إيتونى بدواة و صحيفة اكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعدى، فقال عمر كلمة معناها: أنّ الوجع قد غلب على رسول اللّه، ثمّ قال: عندنا القرآن حسبنا كتاب اللّه، فمن قائل يقول: القول ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من قائل يقول: القول ما قال عمر، فلما أكثروا اللّفظ «اللغط ظ» و اللغو و الاختلاف غضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: قوموا إنّه لا ينبغي لنبيّ أن يختلف عنده هكذا فقاموا فمات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم في ذلك اليوم فكان ابن عباس يقول: إنّ الرّزية كلّ الرّزية ما حال بيننا و بين رسول اللّه يعنى الاختلاف و اللفظ «اللغط ظ».
قال الشّارح قلت: هذا الحديث قد خرّجه الشّيخان محمّد بن إسماعيل و مسلم بن الحجاج القشيرى في صحيحيهما و اتّفق المحدّثون كافّة على روايته.
أقول: هذه الرّواية كما ذكره الشّارح ممّا رواها الكلّ و الرّواية في الجميع عن ابن عباس، و قوله فقال العمر كلمة معناها أنّ الوجع قد غلب اه، الظاهر أنّ تلك الكلمة في أكثر تلك الرّوايات من قوله: إنّ الرّجل ليهجر، و في بعضها ما شأنه يهجر استفهموه، و في بعض الآخر ما شأنه هجر، و في غيرها ما يقرب من هذا اللفظ، و قد عدل الرّاوي عن رواية هذه اللفظة لكراهته نقلها إذ الهجر كما صرّح به غير واحد من اللغويين هو الهذيان و بذلك فسّر قوله تعالى: وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ. فبدّل الرّاوي هذه الكلمة بغيرها استحياء و استصلاحا لكلام عمر و لن يصلح العطار ما أفسد الدّهر.
فمن تأمّل في هذه الرّواية حقّ التّأمل عرف جفاوة الرّجل و فظاظته و خبث طينته و سوء سريرته و عناده و نفاقه من جهات عديدة: الاولى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما كان ينطق عن الهوى و إن كان كلامه لم يكن إلّا وحيا يوحى، فنسبه مع ذلك عمر إلى الهذيان.
الثانية أنّ قوله عندنا القرآن حسبنا كتاب اللّه ردّ على اللّه فضلا عن رسول اللّه و قد قال اللّه: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً و قال: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
الثالثة أنّ كتاب اللّه لو كان كافيا عمّا أراد صلوات اللّه عليه و آله كتابته لم يطلب ما يكتب أ تراه يطلب عبثا أم يريد لغوا و نقول لم لم يكف الكتاب و اختلّت أمر الامّة و انفصمت حبل الملّة و تهدّمت أركان الهدى و انطمست أعلام التّقى.
قال السّيد بن طاوس في محكيّ كلامه من كتاب الطرايف: من أعظم طرايف المسلمين أنّهم شهدوا جميعا أن نبيهم أراد عند وفاته أن يكتب لهم كتابا لا يضلّون بعده أبدا، و أنّ عمر بن الخطاب كان سبب منعه من ذلك الكتاب و سبب ضلال من ضلّ من امّته و سبب اختلافهم و سفك الدّماء بينهم و تلف الأموال و اختلاف الشّريعة و هلاك اثنين و سبعين فرقة من أصل فرق الاسلام و سبب خلود من يخلد في النّار منهم. و مع هذا كلّه فانّ أكثرهم أطاع عمر بن الخطاب الذي قد شهدوا عليه بهذه الأحوال في الخلافة و عظموه و كفّروا بعد ذلك من يطعن فيه، و هم من جملة الطاعنين، و ضللوا من يذمّه و هم من جملة الذّامين، و تبرّؤوا ممن يقبح ذكره و هم من جملة المقبحين.
الرّابعة انّ غيظ رسول اللّه و غضبه عليه و أمره له بالخروج من البيت و المتنازعين مع خلقه العظيم و عفوه الكريم و ملاحظته في الفظاظة و الغلظة انقضاض الخلق كما قال سبحانه: وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.
لم يكن إلّا لشدّة اسائته الأدب و الوقاحة و بلوغه في أذى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الغاية بحيث لم يتحمّلها صلوات اللّه عليه و آله و قد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً.
قال الجوهرى: و حدّثنا أحمد بن سيّار عن سعيد بن كثير الأنصاري عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن الرّحمن أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مرض موته أمّر اسامة بن زيد ابن حارثة على جيش فيه جلّة المهاجرين و الأنصار منهم أبو بكر و عمرو أبو عبيدة بن الجراح و عبد الرّحمن بن عوف و طلحة و الزبير و أمره أن يغير على موتة«» حيث قتل أبوه زيد و أن يغزى و ادى فلسطين، فتثاقل اسامة و تثاقل الجيش بتثاقله و جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم يثقل و يخفّ و يؤكّد القول في تنفيذ ذلك البعث.
حتّى قال له اسامة: بأبى أنت و أمّى أ تأذن لى أن أمكث أيّاما حتّى يشفيك اللّه فقال: اخرج و سر على بركة اللّه، فقال: يا رسول اللّه إنّى إن خرجت و أنت على هذه الحال خرجت و في قلبي قرحة منك، فقال صلّى اللّه عليه و اله و سلّم سر على النّصر و العافية، فقال: يا رسول اللّه إنّى أكره أن أسأل عنك الركبان، فقال صلّى اللّه عليه و آله انفذ لما أمرتك به.
ثمّ اغمى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و قام اسامة فجهّز للخروج، فلما أفاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم سأل عن اسامة و البعث، فاخبر أنّهم يتجهّزون، فجعل يقول انفذوا بعث اسامة لعن اللّه من تخلّف عنه و يكرّر ذلك.
فخرج اسامة و اللواء على رأسه و الصّحابة بين يديه، حتّى إذا كان بالجرف«» نزل و معه أبو بكر و عمر و أكثر المهاجرين، و من الأنصار أسيد بن حصين و بشير ابن سعد و غيرهم من الوجوه، فجائه رسول ام أيمن يقول له ادخل فانّ رسول اللّه يموت، فقام من فوره و دخل المدينة و اللواء معه فجاء به حتّى ركزه باب رسول اللّه و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد مات في تلك السّاعة، قال: فلما «فماظ» كان أبو بكر و عمر يخاطبان اسامة إلى أن ماتا إلّا بالأمير.
أقول و نقل الشّارح بعث جيش اسامة قبل في شرح الخطبة الشّقشقية أيضا بتغيير يسير لما أورده هنا من الجوهري، و قال هناك بعد نقله ما هذه عبارته.
و تزعم الشّيعة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يعلم موته و أنّه سير أبا بكر و عمر في بعث اسامة لتخلو دار الهجرة منهما فيصفوا لأمر لعليّ عليه السّلام و يبايعه من تخلّف من المسلمين في مدينة على سكون و طمأنينة، فاذا جاءهما الخبر بموت رسول اللّه و بيعة النّاس لعليّ بعده كانا عن المنازعة و الخلاف أبعد لأنّ العرب كانت تلتزم باتمام تلك البيعة و تحتاج في نقضها إلى حروب شديدة، فلم يتمّ له ما قدّر و تثاقل بالجيش أيّا ما مع شدّة حثّ رسول اللّه على نفوذه و خروجه بالجيش حتّى مات و هما بالمدينة فسبقا عليا إلى البيعة و جرى ما جرى.
ثمّ قال: و هذا عندى غير منقدح لانّه إن كان يعلم موته فهو أيضا يعلم أنّ أبا بكر سيلي الخلافة و ما يعلمه لا يحترس منه، و إنّما يتمّ هذا و يصحّ إذا فرضنا أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان يظنّ موته و لا يعلمه حقيقة و يظنّ أنّ أبا بكر و عمر يتمالان على ابن عمه و يخاف وقوع ذلك منهما و لا يعلمه حقيقة فيجوز إن كانت الحال هكذا أن ينقدح هذا التّوهم و يتطرق هذا الظن.
كالواحد منّا له ولد ان يخاف من أحدهما أن يتغلب بعد موته على جميع ماله و لا يوصل أخاه إلى شي ء من حقّه فانّه قد يخطر له عند مرضه الذي يتخوف أن يموت فيه أن يأمر الولد المخوف جانبه بالسّفر إلى بلد بعيد في تجارة يسلمها إليه يجعل ذلك طريقا إلى دفع تغلبه على الولد الآخر.
أقول: ما نسبه إلينا معاشر الشّيعة حقّ لا ريب فيه، و ما أورده علينا فظاهر الفساد إذ علم النبيّ بموته و بتولّى أبي بكر الخلافة لا ينافي الأمر ببعثه مع اسامة و إلّا لتوجّه هذا الاشكال في أوامر اللّه سبحانه، فانّه قد أمر العصاة بالاطاعة و الكفار بالاسلام مع علمه بانّهم لا يطيعون و أنّهم على كفرهم باقون، نعم هذا يناسب على اصول الأشاعرة القائلين بالجبر و الشّارح عدليّ المذهب لا مساس لما أورده على مذهبه.
و تحقيق الكلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يعلم موته و يعلم أنّ أبا بكر يغصب الخلافة و مع علمه بذلك بعثه في الجيش ليفهم الخلق و يعرّفهم انّه ليس راضيا بخلافته و ينبههم على خلافه و عظم جرمه و جريرته و مخالفته للحكم الالزاميّ المؤكد الذي كرّره صلوات اللّه عليه و آله مرّة بعد اخرى.
و ليعلمهم أيضا أنّه برجوعه إلى المدينة مستحقّ للّعن الدائم و العذاب الأليم مضافا إلى ما في ذلك البعث من نكتة اخرى، و هو «هى ظ» التّنبيه على مقام أبي بكر و عمر و الايماء إلى أنّ من كان محكوما عليه بحكم مثل اسامة و مامورا بأمره لا يكون له قابليّة و استعداد لأن يكون أميرا لجميع الامّة و اماما لهم.
و الحاصل أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و اله و سلّم كان عالما بموته و بأنّ ما قدّره و أراده في حقّ أمير المؤمنين عليه السّلام لا يتمّ له، و مع ذلك سيّر الرّجلين إعلاما للخلق بأنّه لا يرضى بهما خلافة و أنّهما غير قابلين لذلك، و إفهاما لهم بأنّ أمير المؤمنين عليه السّلام هو القابل له، و أنّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم أراد قيامه عليه السّلام مقامه صلّى اللّه عليه و آله، فحالوا بينه و بينه.
|