و من كلام له عليه السلام
و هو السابع و الستون من المختار فى باب الخطب لما قلّد محمّد بن أبي بكر مصر فملك عليه و قتل رحمة اللّه عليه و قد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة، و لو ولّيته إيّاها لما خلّى لهم العرصة، و لا أنهزهم الفرصة، بلا ذمّ لمحمّد، فلقد كان إليّ حبيبا و لي ربيبا.
اللغة
(العرصة) كلّ بقعة من الدّور واسعة ليس فيها بناء و المراد هنا عرصة مصر و (نهزت الفرصة) و انتهزتها اغتنمتها، و انهزت الفرصة بهمزة التّعدية اى انهزتها غيري و (الربيب) ابن امرأة الرّجل من غيره.
الاعراب
قوله بلا ذمّ، كلمة لا نافية معترضة بين الخافض و المخفوض، و قال الكوفيّون إنّها اسم بمعنى غير و الجار داخل عليها نفسها و ما بعدها مجرور باضافتها إليه، و غيرهم يراها حرفا و يسمّيها زائدة و ان كانت مفيدة معنى كما يسمّون كان في نحو زيد كان فاضلا زايدا فهى زايدة لفظا من حيث فصول عمل ما قبلها الى ما بعدها غيرة زايدة معنى لافادتها النّفي.
المعنى
اعلم انّه (لما قلّد محمّد بن أبي بكر مصر) قبل وقعة صفّين أى جعله و اليها كانّ ولايتها قلادة في عنقه لكونه مسؤولا عن خيرها و شرّها و انصرف النّاس من صفّين لم يزدد معاوية إلّا قوّة فبعث جيشا كثيفا إلى مصر فقاتلوا محمّدا (فملك) مصر (عليه) اى اخذه معاوية منه قهرا و استولى عليه (و قتل) محمّد قتله معاوية بن حديج الكندي حسبما تعرفه فلمّا جاءه صلّى اللّه عليه و آله نعى محمّد قال (و قد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة) ابن أبي وقاص (و لو وليّته ايّاها لما خلالهم العرصة و لا انهزهم الفرصة) كما انهزها محمّد إيّاهم و خلاها لهم و فرّ منها ظانّا أنّه بالفرار ينجو بنفسه فلم ينج و اخذ و قتل (بلا ذمّ لمحمّد) اى لست في كلامى ذلك ذامّا له لكون ذلك التخلية منه للعدوّ من العجز لا من التقصير و التّواني (ف) انّه (لقد كان إلىّ حبيبا و) كان (لى ربيبا)
تنبيهان
الاول
في ترجمة محمّد بن أبي بكر و هاشم بن عتبة أمّا محمّد فهو جليل القدر عظيم المنزلة من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام
قال ابن طاوس: ولد في حجة الوداع قتل بمصر سنة ثمان و ثلاثين من الهجرة.
و عن رجال الكشّي عن الصّادق عليه السّلام محمّد بن أبى بكر أتته النجابة من قبل امّه أسماء بنت عميس، و عنه أيضا مسندا عن أبي جعفر عليه السّلام أنّ محمّد بن أبي بكر بايع عليّا على البراءة من أبيه، و في شرح المعتزلي امّ محمّد أسماء بنت عميس بن النّعمان ابن كعب بن مالك بن قحافة بن خثعم كانت تحت جعفر بن أبي طالب و هاجرت معه إلى الحبشة فولدت له هناك عبد اللّه بن جعفر الجواد، ثمّ قتل عنها يوم موتة فخلف عليها أبو بكر فأولدها محمّدا، ثمّ مات عنها فخلف عليها عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و كان محمّد ربيبته و خريجه و جاريا عنده مجرى اولاده و رضع الولا و التشيّع من زمن الصّبا فنشأ عليه فلم يكن يعرف أبا غير عليّ عليه السّلام و لا يعتقد لأحد فضيلة غيره حتّى قال عليّ: محمّد ابني من صلب أبي بكر، و كان يكنّي أبا القاسم في قول ابن قتيبة، و قال غيره بل يكنّى أبا عبد الرّحمن.
و كان محمّد من نسّاك قريش و كان ممّن أعان يوم الدّار، و اختلف هل باشر قتل عثمان أولا، و من ولد محمّد القاسم بن محمّد فقيه الحجاز و فاضلها، و من ولد القاسم عبد الرحمن بن القاسم كان من فضلاء قريش يكنّى ابا محمّد، و من ولد القاسم أيضا ام فروة تزوّجها الباقر أبو جعفر محمّد بن عليّ عليه السّلام انتهى.
أقول: و قد تقدّم في شرح الخطبة الشّقشقيّة أنّ الصادق عليه السّلام تولد من أمّ فروة.
و في مجالس المؤمنين انّ أهل السّنّة يسمّون معاوية بسبب اخته امّ حبيبة خال المؤمنين و لا يسمّون محمّدا بذلك مع أنّ عايشة اخته و هي أمّ المؤمنين عندهم و ذلك لنصب معاوية و عداوته لأمير المؤمنين عليه السّلام و كون محمّد رضي اللّه عنه من خواصّ أصحابه و خلّص تلامذته، و من شعره رضي اللّه عنه:
- يا أبانا قد وجدنا ما صلحخاب من أنت أبوه و افتضح
- إنّما أخرجنا منك الذي أخرج الدّرّ من الماء الملح
- أنسيت العهد في خمّ و ماقاله المبعوث فيه و شرح
- فيك وصّى أحمد في يومهاأم لمن أبواب خير قد فتح
- أم بارث قد تقمّصت بهابعد ما يحتجّ عجلك و كشح
- و سألك المصطفى عمّا جرىمن قضاياكم و من تلك القبح
- ثمّ عن فاطمة و ارثهامن روى فيه و من فيه فضح
- ما ترى عذرك في الحشر غدايا لك الويل إذ الحقّ اتّضح
- فعليك الخزى من ربّ السماءكلّما ناح حمام و صدح
- يا بني الزّهراء أنتم عدّتىو بكم في الحشر ميزاني رجح
- و إذا صحّ ولائي بكم لا ابالي أىّ كلب قد نبح
و أما هاشم فهو ابن عتبة بن أبي وقّاص و سمى المرقال لأنه كان يرقل في الحرب، و عن الاستيعاب أنه كان من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نزل الكوفة و كان من الفضلاء الخيار، و كان من الأبطال، و فقئت عينه يوم البرموك و كان خيرا فاضلا شهد مع عليّ عليه السّلام الجمل، و شهد صفين و أبلا بلاء حسنا و بيده كانت راية علىّ على الرّجالة يوم صفين، و يومئذ قتل و كانت صفين سنة سبع و ثلاثين.
أقول: و قد تقدّم كيفية قتاله و شجاعته و شهادته رضى اللّه عنه في شرح الخطبة الخامسة و الستين.
الثاني
في الاشارة إلى بعض الفتن الحادثة بمصر، و شهادة محمّد بن أبي بكر رضي اللّه عنه فأقول: في شرح المعتزلي و البحار جميعا من كتاب الغارات لابراهيم بن محمّد الثقفي قال إبراهيم: باسناده عن الكلبي أنّ محمّد بن حذيفة هو الذي حرّض المصرّيين على قتل عثمان و ندبهم إليه، و كان حينئذ بمصر، فلمّا ساروا إلى عثمان و حصروه و ثب هو بمصر على عامل عثمان عليها، و هو عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح فطرده عنها و صلّى بالناس، فخرج ابن أبي سرح من مصر و نزل على تخوم أرض مصر مما يلي فلسطين، و انتظر ما يكون من أمر عثمان، فلما بلغ إليه خبر قتله و بيعة الناس لأمير المؤمنين عليه السّلام لحق بمعاوية.
قال: فلمّا ولى عليّ عليه السّلام الخلافة و كان قيس بن سعد بن عبادة من شيعته و مناصحيه قال له: سر إلى مصر فقد وليتكها و اخرج إلى ظاهر المدينة و اجمع ثقاتك و من أحببت أن يصحبك حتّى تاتي مصر و معك جند، فانّ ذلك ارعب لعدوّك و أعزّ لوليّك، فاذا قدمتها إنشاء اللّه فأحسن إلى المحسن و اشدد على المريب، و ارفق بالعامّة و الخاصّة فالرّفق يمن.
فقال قيس: يا أمير المؤمنين قد فهمت ما ذكرت، فأمّا الجند فانّى ادعه لك فاذا احتجت إليهم كانوا قريبا منك، و إن أردت بعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا لك عدّة و لكني أسير إلى مصر بنفسي و أهل بيتي، و أمّا ما أوصيتني به من الرّفق و الاحسان فاللّه هو المستعان على ذلك.
قال: فخرج قيس في سبعة نفر من أهله حتّى دخل مصر و صعد المنبر و أمر بكتاب معه يقرأ على النّاس فيه: من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي من المسلمين، سلام عليكم فانّى أحمد اللّه إليكم الذي لا إله إلّا هو، أمّا بعد فانّ اللّه بحسن صنعه و قدره و تدبيره اختار الاسلام دينا لنفسه و ملائكته و رسله، و بعث أنبيائه إلى عباده، فكان ممّا أكرم اللّه عزّ و جلّ به هذه الامة و خصّهم به من الفضل أن بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله إليهم فعلّمهم الكتاب و الحكمة و السّنّة و الفرائض، و أدّبهم لكيما يهتدوا و أجمعهم لكيلا يتفرّقوا، و زكّاهم لكيما يتطهّروا فلمّا قضى من ذلك ما عليه قبضه اللّه إليه، فعليه صلوات اللّه و سلامه و رحمته و رضوانه.
ثمّ إنّ المسلمين من بعده استخلفوا أميرين منهم صالحين«» أحييا السّيرة و لم يعدوا لسنّة، ثمّ توفيا فولى بعدهما من أحدث أحداثا فوجدت الامّة عليه مقالا فقالوا ثمّ نقموا عليه فغيّروا ثمّ جاءوني فبايعوني و أنا أستهدى اللّه للهدى و أستعينه على التقوى، ألا و انّ لكم علينا العمل بكتاب اللّه و سنّة رسوله و القيام بحقّه و النصح لكم بالغيب و اللّه المستعان و حسبنا اللّه و نعم الوكيل.
و قد بعثت لكم قيس بن سعد الأنصاري أميرا فواز روه و أعينوه على الحقّ، و قد أمرته بالاحسان إلى محسنكم و الشّدة على مريبكم و الرّفق بعوامكم و خواصكم و هو ممّن ارضى هديه و أرجو صلاحه و نصحه، نسأل اللّه لنا و لكم عملا زاكيا و ثوابا جزيلا و رحمة اللّه و بركاته، و كتب عبيد اللّه بن أبى رافع في صفر سنة ست و ثلاثين.
قال: فلمّا فرغ من قراءة الكتاب قام قيس خطيبا فحمد اللّه و أثنى عليه و قال: الحمد للّه الذى جاء بالحقّ و أمات الباطل و كبت الظالمين أيّها النّاس إنا بايعنا خير من نعلم بعد نبيّنا فقوموا فبايعوا على كتاب اللّه و سنّة نبيّه فان نحن لم نعمل فيكم بكتاب اللّه و سنّة رسول اللّه فلا بيعة لنا عليكم.
فقام النّاس فبايعوه و استقامت مصر و أعمالها لقيس و بعث عليها عماله إلّا أنّ قرية فيها قد أعظم أهلها قتل عثمان و بها رجل من بنى كنانة يقال له يزيد بن الحرث فبعث إلى قيس إنّا لا نأتيك فابعث عمّا لك فالأرض أرضك و لكن اقرّنا على حالنا حتّى ننظر إلى ما يصير أمر النّاس و وثب مسلمة بن مخلد الأنصارى و دعا إلى الطلب بدم عثمان، فأرسل إليه قيس و يحك أعلى تثبّ و اللّه ما أحبّ انّ لى ملك الشّام و مصر و انّى قتلتك فاحقن دمك، فأرسل إليه مسلمة إنّى كاف عنك ما دمت والى مصر.
و كان قيس ذا رأى و حزم فبعث إلى الذين اعتزلوا أنّى لا اكرهكم على البيعة و لكنّى أدعكم و اكفّ عنكم، فهادنهم و هادن مسلمة بن مخلد و جي ء الخراج و ليس احد ينازعه.
قال إبراهيم: و خرج عليّ إلى الجمل و قيس على مصر و رجع إلى الكوفة من البصرة و هو بمكانه و كان أثقل خلق اللّه على معاوية لقرب مصر و أعمالها من الشّام فكتب معاوية إلى قيس و عليّ عليه السّلام يومئذ بالكوفة قبل أن يسير إلى صفين.
من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد سلام عليك فانّى أحمد إليك اللّه الذى لا إله إلّا هو أمّا بعد إن كنتم نقمتم على عثمان في اثرة «عثرة» رأيتموها أو ضربة سوط ضربها أو في شتمة أو تمييزه أحدا أو في استعماله الفتيان من أهله فانّكم قد علمتم إن كنتم تعلمون أنّ دمه لا يحلّ لكم بذلك، فقد ركبتم عظيما من الأمر و جئتم شيئا إدا، فتب يا قيس إلى ربك ان كنت من المجلبين على عثمان إن كانت التوبة قبل الموت تغنى شيئا.
و أمّا صاحبك فقد استيقنّا أنّه أغرى النّاس به و حملهم على قتله حتّى قتلوه و أنّه لم يسلم من دمه عظم قومك، فان استطعت يا قيس أن تكون ممّن يطلب بدم عثمان فافعل و بايعنا على عليّ في أمرنا هذا و لك سلطان العراقين إن أنا ظفرت ما بقيت و لمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان، و سلني عن غير هذا مما تحبّ فانك لا تسألنى شيئا إلّا اتيته و اكتب الىّ رأيك فيما كتبت اليك.
فلمّا جاء إليه كتاب معاوية أحبّ أن يدفعه و لا يبدى له أمره و لا يعجل له حربه فكتب إليه: أمّا بعد فقد وصل إلىّ كتابك و فهمت الّذى ذكرت من أمر عثمان و ذلك أمر لم اقاربه و ذكرت أنّ صاحبى هو الذي أغرى النّاس بعثمان و دسّهم إليه حتّى قتلوه، و هذا أمر لم اطلع عليه، و ذكرت لى أنّ عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان فلعمرى إنّ أولى النّاس كان في أمره عشيرتى.
و أما ما سألتني من مبايعتك على الطلب بدمه و ما عرضته علىّ فقد فهمته و هذا أمر لي فيه نظر و فكر و ليس رأس هذا ممّا يعجل إلى مثله و أنا كاف عنك و ليس يأتيك من قبلي شي ء تكرهه حتّى ترى و نرى إنشاء اللّه و السّلام عليك و رحمة اللّه و بركاته.
قال إبراهيم: فلما قرء معاوية الكتاب لم يره إلّا مقاربا مباعدا و لم يأمن أن يكون مخادعا مكائدا فكتب إليه: أما بعد فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدك سلما، و لم أرك تتباعد فأعدك حربا أراك كالجمل الجرور«» «كخيل الحرون خ» و ليس مثلى يصانع بالخداع و لا يخدع بالمكايد و معه عدد الرّجل و أعنّه الخيل، فان قبلت الذى عرضت عليك فلك ما أعطيتك و ان أنت لم تفعل ملئت مصر عليك خيلا و رجلا و السّلام.
فلما قرء قيس كتابه و علم انّه لا يقبل منه المدافعة و المطاولة أظهر له ما في نفسه، فكتب إليه من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبى سفيان.
أما بعد فالعجب من استسقاطك رأيى و الطمع فيما تسومني«» لا أبا لغيرك من الخروج من طاعة أولى النّاس بالأمر و أقولهم بالحقّ و أهداهم سبيلا و أقربهم من رسول اللّه وسيلة أ تأمرني بالدخول في طاعتك طاعة أبعد النّاس من هذا الأمر و أقولهم بالزور و أضلّهم سبيلا و اناهم من رسول اللّه وسيلة و لديك قوم ضالّون مضلّون طواغيت إبليس، و أمّا قولك إنّك تملاء علىّ مصر خيلا، و رجلا فلئن لم أشغلك من ذلك حتّى يكون منك انك ذو جدّ و السّلام.
فلما أتى معاوية كتاب قيس آيس و ثقل مكانه عليه و كان يحبّ أن يكون مكانه غيره أعجب لما يعلم من قوّته و بأسه و نجدته، فاشتدّ أمره على معاوية فأظهر للنّاس أنّ قيسا قد بايعكم فادعوا اللّه له و قرء عليهم كتابه الذى لان فيه و قاربه و اختلق كتابا نسبه إلى قيس فقرأه على النّاس للأمير معاوية بن أبي سفيان من قيس ابن سعد: أما بعد إنّ قتل عثمان حدث في الاسلام عظيما و قد نظرت لنفسي و ديني فلم أر يسعنى و دينى مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلما، فنستغفر اللّه سبحانه لذنوبنا و نسأله العصمة لديننا ألا و إنّى قد القيت إليك بالسّلم و أجبتك إلى قتال قتلة امام الهدى المظلوم فاطلب منّي ما احببت من الامور و الرّجال اعجله إليك إنشاء اللّه، و السّلام على الامير و رحمة و بركاته.
قال فشاع في الشام كلّها أنّ قيسا صالح معاوية و أتت عيون عليّ بن أبي طالب إليه بذلك، فأعظمه و أكبره و تعجّب له و دعا ابنيه حسنا و حسينا و ابنه محمّدا و عبد اللّه بن جعفر فأعلمهم بذلك و قال: ما رأيكم فقال عبد اللّه بن جعفر: يا أمير المؤمنين دع ما يريبك إلى ما لا يريبك اعزل قيسا عن مصر، قال عليّ عليه السّلام و اللّه إنّي غير مصدّق بهذا على قيس، فقال عبد اللّه: اعزله يا أمير المؤمنين فان كان ما قد قيل حقّا لا يعتزل لك إن عزلته.
قال: و إنّهم لكذلك إذ جاءهم كتاب من قيس بن سعد فيه.
أما بعد فانّى أخبرك يا أمير المؤمنين أكرمك اللّه و أعزّك، إنّ قبلى رجالا معتزلين سألونى أن أكفّ عنهم و أدعهم على حالهم حتّى يستقيم أمر النّاس و نرى و يرون، و قدر أيت أن أكفّ عنهم و لا اعجل بحربهم و ان اتالفهم بين ذلك لعل اللّه أن يقبل بقلوبهم و يفرّقهم عن ضلالتهم إنشاء اللّه و السّلام.
فقال عبد اللّه بن جعفر: يا أمير المؤمنين إنّك إن أطعته في تركهم و اعتزالهم استسرى الأمر و تفاقمت الفتنة و قعد عن بيعتك كثير ممّن تريده على الدّخول فيها و لكن مره بقتالهم، فكتب إليه: أمّا بعد فسر إلى القوم الذين ذكرت فان دخل فيما دخل فيه المسلمون و إلّا فناجزهم و السّلام.
فلما اتى هذا الكتاب قيسا فقرأه لم يتمالك ان كتب إلى عليّ عليه السّلام.
أمّا بعد يا أمير المؤمنين تأمرنى بقتل قوم كافين عنك لم يمدّ و ايدا للفتنة و لا أرصدوا لها فأطعني يا أمير المؤمنين و كفّ عنهم فانّ الرّأى تركهم و السّلام.
فلما أتاه الكتاب قال عبد اللّه بن جعفر: يا أمير المؤمنين ابعث محمّد بن أبي بكر إلى مصر يكفيك و اعزل قيسا فو اللّه ليبلغني أنّ قيسا يقول انّ سلطانا لا يتمّ إلّا بقتل مسلمة بن مخلد لسلطان سوء و اللّه ما احبّ أنّ لي سلطان الشّام مع سلطان مصر و انّنى قتلت ابن مخلد.
و كان عبد اللّه بن جعفر أخا محمّد بن أبي بكر لامّه و كان يحبّ أن يكون له امرة و سلطان فاستعمل عليّ محمّد بن أبي بكر مصر لمحبّته له و لهوى عبد اللّه بن جعفر أخيه فيه و كتب معه كتابا إلى أهل مصر فسار حتّى قدمها فقال له قيس: ما بال أمير المؤمنين ما غيره أدخل أحد بينى و بينه قال: لا و هذا السلطان سلطانك و كان بينهما نسب و كان تحت قيس قريبة بنت أبي قحافة اخت أبي بكر فكان قيس زوج عمّته، فقال قيس: لا و اللّه لا اقيم معك ساعة واحدة فغضب و خرج من مصر مقبلا إلى المدينة و لم يمض إلى عليّ بالكوفة.
فلما قدم المدينة جاء حسان بن ثابت شامتا به و كان عثمانيا فقال له: نزعك عليّ بن أبي طالب و قد قتلت عثمان فبقي عليك الاثم و لم يحسن عليك الشكر، فزجره قيس و قال: يا أعمى البصر و اللّه لو لا أن القى بيني و بين رهطك حربا لضربت عنقك ثمّ أخرجه من عنده.
ثمّ إنّ قيسا و سهل بن حنيف خرجا حتّى قدما على عليّ عليه السّلام الكوفة فخبره قيس الخبر و ما كان بمصر، فصدقه و شهد مع عليّ بصفين هو و سهل بن حنيف و كان قيس طوالا أطول النّاس و أمدّهم قامة و كان سبطا أصلع شجاعا مجربا مناصحا لعليّ عليه السّلام و لولده و لم يزل على ذلك إلى أن مات.
و عن هشام بن عروة قال: كان قيس على مقدّمة عليّ بصفين معه خمسه آلاف قد حلقوا رؤوسهم.
و في البحار وجدت في بعض الكتب أنّ عزل قيس من مصر ممّا غلب أمير المؤمنين أصحابه و اضطرّوه إلى ذلك و لم يكن هذا رأيه كالتّحكيم و لعلّه أظهر و أصوب.
قال إبراهيم و كان عهد عليّ عليه السّلام إلى محمد بن أبي بكر: هذا ما عهد عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى محمّد بن أبي بكر حين ولاه مصر، أمره بتقوى اللّه في السرّ و العلانية و خوف اللّه في المغيب و المشهد، و أمره باللين على المسلم و الغلظة على الفاجر، و بالعدل على أهل الذمة و بالانصاف للمظلوم و ما يشده على الظالم، و بالعفو على النّاس و بالاحسان ما استطاع و اللّه يجزى المحسنين و يعذّب المجرمين، و امره ان يدعو من قبله إلى الطاعة و الجماعة فانّ لهم في ذلك من العافية و عظم المثوبة ما لا يقدر قدره و لا يعرف كنهه.
و أمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل لا ينتقص و لا يبتدع ثمّ يقسمه بين أهله كما كانوا يقسمونه عليه من قبل، و ان تكن لهم حاجة يواسي بينهم في مجلسه، و وجهه ليكون القريب و البعيد عنده على سواء، و أمره أن يحكم بين النّاس بالحقّ و أن يقوم بالقسطاس و لا يتبع الهوى و لا يخاف في اللّه لومة لائم فانّ اللّه مع من اتّقاه و آثر طاعته على من سواه، و كتب عبيد اللّه بن أبي رافع مولى رسول اللّه بغرّة شهر رمضان سنة ستّ و ثلاثين.
قال إبراهيم: ثمّ قام محمّد بن أبي بكر خطيبا فحمد اللّه و أثنى عليه و قال: أمّا بعد فالحمد للّه الذي هدانا و إيّاكم لما اختلف فيه من الحقّ، و بصّرنا و إيّاكم كثيرا ممّا عمى عنه الجاهلون ألا و إنّ أمير المؤمنين، و لانّي اموركم و عهد إليّ بما سمعتم و أوصاني بكثير منه مشافهة و لن الوكم جهدا ما استطعت، و ما توفيقي إلّا باللّه عليه توكّلت، و إليه انيب، فان يكن ما ترون من آثارى و أعمالي طاعة للّه و تقوى فاحمدوا اللّه على ما كان من ذلك فانّه هو الهادى إليه، و إن رأيتم من ذلك عملا بغير الحقّ فارفعوه إلىّ فانّي بذلك أسعد و أنتم بذلك جديرون، وفقنا اللّه و إيّاكم لصالح العمل.
أقول: و لأمير المؤمنين عليه السّلام كتاب آخر مبسوط إلى محمّد و أهل مصر و رواه إبراهيم نرويه إنشاء اللّه في باب الكتب إن ساعدنا التّوفيق و المجال.
ثمّ قال إبراهيم: فلم يلبث محمّد بن أبي بكر شهرا كاملا حتّى بعث إلى أولئك المعتزلون الذين كان قيس بن سعد مواد عالهم، فقال: يا هؤلاء إمّا أن تدخلوا في طاعتنا و إمّا ان تخرجوا من بلادنا، فبعثوا إليه إنّا لا نفعل فدعنا حتّى ننظر إلى ما يصير أمر النّاس فلا تعجل علينا فأبى عليهم فامتنعوا منه و أخذوا حذرهم، ثمّ كانت وقعة صفين و هم لمحمّد هايبون فلمّا أتاهم خبر معاوية و أهل الشّام ثمّ صار الأمر إلى الحكومة و أنّ عليّا و أهل العراق قد غفلوا عن معاوية و الشّام إلى عراقهم، اجتروا على محمّد و أظهروا المنابذة له، فلما رأى محمّد ذلك بعث إليهم ابن جمهان البلوى و معه يزيد بن الحرث الكناني فقاتلاهم فقتلوهما.
ثمّ بعث إليهم رجلا من كلب فقتلوه أيضا، و خرج معاوية بن حديج«» من السّكاسك يدعو إلى الطلب بدم عثمان، فأجابه القوم و ناس كثير آخرون و فسدت مصر على محمّد بن أبي بكر، فبلغ عليا توثّبهم عليه، فقال: مالي أرى لمصر إلّا و أحد الرّجلين صاحبنا الذى عزلناه بالأمس يعني قيس بن سعد أو مالك بن الحرث الأشتر و كان عليّ حين رجع عن صفين ردّ الاشتر إلى عمله بالجزيرة و قال لقيس بن سعد: أقم أنت معي على شرطتى حتّى نفرغ من أمر هذه الحكومة ثمّ اخرج إلى اذربيجان فكان قيس مقيما على شرطته.
فلمّا انقضى أمر الحكومة كتب إلى الأشتر و هو يومئذ بنصيبين و طلبه إليه و بعثه إلى مصر و مات قبل الوصول إليه بتفصيل تطلع عليه في باب الكتب أيضا إنشاء اللّه قال ابراهيم: فحدث محمّد بن عبد اللّه عن أبي سيف المدايني عن أبي جهضم الأزدي أنّ أهل الشّام لمّا انصرفوا عن صفّين و أتى بمعاوية خبر الحكمين و بايعه أهل الشّام بالخلافة لم يزدوا إلّا قوّة و لم يكن لهم همّ إلّا مصر فدعا عمرو بن العاص و حبيب بن مسلمة و بسر بن أرطاة و الضّحاك بن قيس و عبد الرّحمن بن خالد و شرجيل بن السّمط و أبا الأعور السّلمي و حمزة بن مالك فاستشارهم في ذلك.
قال عمرو بن العاص: نعم الرّأى رأيت في افتتاحها عزّك و عزّ أصحابك و ذلّ عدوّك، و قال آخرون نرى ما رأى عمرو، فكتب معاوية إلى مسلمة بن مخلد الانصارى و إلى معاوية بن حديج الكندي و كانا قد خالفا عليّا فدعا هما إلى الطلب بدم عثمان، فأجابا و كتبا إليه: عجّل الينا بخيلك و رجلك فانّا ننصرك و يفتح اللّه عليك.
فبعث معاوية عمر بن العاص في ستّة آلاف فسار عمرو في الجيش حتّى دنى من مصر فاجتمعت إليه العثمانيّة فأقام، و كتب إلى محمّد بن أبي بكر.
أمّا بعد فتنحّ عنّي يابن أبي بكر فانّي لا احبّ أن يصيبك منّي ظفر و أنّ النّاس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك و رفض أمرك و ندموا على اتباعك و هم مسلموك لو قد التقت حلقتا البطنان، فاخرج منها فانّي لك من النّاصحين و السّلام قال: و بعث عمرو إلى محمّد مع هذا الكتاب كتاب معاوية إليه و هو أمّا بعد فانّ غب الظلم و البغى عظيم الوبال و انّ سفك الدّم الحرام لا يسلم صاحبه من النّقمة في الدّنيا و التّبعة الموبقة في الآخرة، و ما نعلم أحدا كان أعظم على عثمان بغيا و لا أسوء له عينا و لا أشدّ عليه خلافا منك، سعيت عليه في السّاعين و ساعدت عليه في المساعدين و سفكت دمه مع السّافكين، ثمّ تظنّ انّي نائم عنك فتأتى بلدة فتأمن فيها و جلّ أهلها أنصارى يرون رأيي و يرفعون قولك و يرقبون عليك و قد بعثت اليك قوما حناقا عليك يسفكون دمك و يتقرّبون إلى اللّه عزّ و جلّ بجهادك و قد اعطوا اللّه عهدا ليقتلنّك و لو لم يكن منهم إليك ما قالوا لقتلك اللّه بأيديهم أو بأيدي غيرهم من أوليائه، و أنا احذّرك و انظرك فانّ اللّه مقيد منك و مقتص لوليّه و خليفته بظلمك به و بغيك عليه و وقيعتك فيه و عداوتك يوم الدّار عليه، تطعن بمشاقصك فيما بين أحشائه و أو داجه، و مع هذا فانّى أكره قتلك و لا احبّ أن أتولّى ذلك منك و لن يسلمك اللّه من النّقمة اين كنت أبدا فتنحّ و انج بنفسك و السّلام.
قال: فطوى محمّد بن أبي بكر كتابيهما و بعث بهما إلى عليّ عليه السّلام و كتب إليه: أمّا بعد يا أمير المؤمنين فانّ العاصى ابن العاص قد نزل أدنى مصر و اجتمع إليه من أهل البلد كلّ من كان يرى رأيهم و هو في جيش جرّار و قد رأيت ممّن قبلي بعض الفشل فان كان لك في أرض مصر حاجة فامددني بالأموال و الرّجال، و السّلام عليك و رحمة اللّه و بركاته.
فكتب عليه السّلام اليه: فقد أتاني رسولك بكتاب تذكر أنّ ابن العاص قد نزل أدنى مصر في جيش جرّار و أنّ من كان على مثل رأيه قد خرج إليه و خروج من كان على رأيه خير من اقامته عندك، و ذكرت أنّك قد رأيت ممّن قبلك فشلا فلا تفشل و ان فشلوا، حصّن قريتك و اضمم إليك شيعتك، و أوّل الحرس في عسكرك و اندب الى القوم كنانة بن بشر المعروف بالنّصيحة و التّجربة و البأس، فانا نادب اليك الناس على الصعب و الذّلول فاصبر لعدوّك و امض بصيرتك و قاتلهم على نيتّك و جاهدهم محتسبا منه سبحانه، و إن كان فئتك أقلّ الفئتين فان اللّه تعالى يعين القليل و يخذل الكثير.
و قد قرئت كتاب الفاجرين المتحابّين (المتحامين خ ل) على المعصية و المتلائمين على الضلالة و المرتشين في الحكومة و المنكرين على أهل الدّين الذين استمتعوا بخلافهم كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم، فلا يضرّنك ارعادهما و ابراقهما، واجبهما إن كنت لم تجبهما بما هما أهله، فانّك تجد مقالا ما شئت و السّلام.
قال: فكتب محمّد بن أبي بكر إلى معاوية جواب كتابه أمّا بعد فقد أتاني كتابك تذكر من أمر عثمان أمرا لا أعتذر إليك منه و تأمرني بالتنحى عنك كأنك لي ناصح و تخوّفني بالحرب كأنّك علىّ شفيق، و أنا أرجو أن تكون الدائرة عليكم و أن يخذلكم اللّه في الواقعة و أن ينزل بكم الذلّ و أن تولّوا الدّبر، فان يكن لكم الأمر في الدّنيا فكم و كم لعمري من ظالم قد نصرتم و كم من مؤمن قد قتلتم و مثلتم به و إلى اللّه المصير، و إليه تردّ الامور، و هو أرحم الرّاحمين، و اللّه المستعان على ما تصفون.
و كتب إلى عمرو بن العاص: أمّا بعد فقد فهمت كتابك و علمت ما ذكرت و زعمت أنّك لا تحبّ أن يصيبني منك الظفر، فاشهد باللّه أنّك لمن المبطلين، و زعمت أنّك لي ناصح و اقسم أنّك عندى ظنين، و زعمت أنّ أهل البلد قد رفضوني و ندموا على اتباعي فأولئك حزبك و حزب الشّيطان الرّجيم، و حسبنا اللّه ربّ العالمين، و توكلت على اللّه العزيز الرّحيم، ربّ العرش العظيم.
قال إبراهيم: فحدّثنا محمّد بن عبد اللّه عن المدايني قال: فأقبل عمرو بن العاص يقصد قصد مصر فقام محمّد بن أبي بكر في النّاس فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: أمّا بعد يا معاشر المسلمين فانّ القوم الذين كان ينتهكون الحرمة و يغشون أرض الضّلالة و يستطيلون بالجبرية قد نصبوا لكم العداوة و ساروا إليكم بالجنود، فمن أراد الجنّة و المغفرة فليخرج إلى هؤلاء القوم فليجاهدهم في اللّه، انتدبوا رحمكم اللّه مع كنانة بن بشر.
ثمّ ندب معه ألفى رجل، و تخلّف محمّد في ألفين و استقبل عمرو بن العاص كنانة و هو على مقدمة محمّد فلمّا دنى عمرو من كنانة سرح إليه الكتائب كتيبة بعد كتيبة، فلم تأته كتيبة من كتائب أهل الشّام إلّا شدّ عليها بمن معه فيضربها حتّى يلحقها بعمرو، ففعل ذلك مرارا، فلمّا رأى عمرو ذلك بعث معاوية بن حديج الكندي فأتاه في مثل الدّهم، فلمّا رأى كنانة ذلك الجيش نزل عن فرسه و نزل معه أصحابه و ضاربهم بسيفه حتّى استشهد.
قال: فلمّا قتل كنانة أقبل ابن العاص نحو محمّد و قد تفرّق عنه أصحابه، فخرج محمّد فمضى في طريق حتّى انتهى إلى خربة فآوى اليها، و جاء عمر و بن العاص حتّى دخل الفسطاط و خرج ابن حديج في طلب محمّد حتّى انتهى إلى علوج«» على قارعة الطريق فسألهم هل مرّ بكم أحد تنكرونه قالوا: لا قال أحدهم: إنّي دخلت تلك الخربة فاذا أنا برجل جالس، قال ابن حديج: هو هو و ربّ الكعبة.
فانطلقوا يركضون حتّى دخلوا على محمّد فاستخرجوه و قد كاد يموت عطشا، فاقبلوا به نحو الفسطاط فوثب أخوه عبد الرّحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص و كان في جنده فقال: لا و اللّه لا يقتل أخى صبرا ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه، فأرسل عمرو بن العاص أن ائتنى بمحمّد، فقال معاوية: أ قتلتم كنانة بن بشر ابن عمّي و اخلّى عن محمّد، هيهات هيهات أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ.
فقال محمّد: اسقوني قطرة من ماء، فقال له ابن حديج لا سقاني اللّه إن سقيتك قطرة أبدا، إنّكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتّى قتلتموه صائما محرما فسقاه اللّه من الرّحيق المختوم«» و اللّه لأقتلنّك يابن أبي بكر و أنت ظمآن و يسقيك اللّه من الحميم و الغسلين.
فقال محمّد: يا بن اليهودية النسّاجة ليس ذلك اليوم إليك و لا إلى عثمان و إنّما ذلك إلى اللّه يسقى أولياءه و يظمأ أعداءه و هم أنت و قرناءك و من تولّاك و تولّيته، و اللّه لو كان سيفى بيدي ما بلغتم مني ما بلغتم، فقال له معاوية بن حديج: أ تدرى ما أصنع بك أدخلك جوف هذا الحمار الميت ثمّ احرقه عليك بالنّار.
قال: ان فعلتم ذلك بي فطال ما فعلتم ذاك بأولياء اللّه و أيم اللّه إنّي لأرجو أن يجعل اللّه هذه النّار التي تخوّفني بها بردا و سلاما كما جعلها اللّه على إبراهيم خليله و أن يجعلها عليك و على أوليائك كما جعلها على نمرود و على أوليائه و إنّي لأرجو أن يحرقك اللّه و إمامك معاوية و هذا، و أشار إلى عمرو بن العاص بنار تلظى عليكم كلما خبت زادها اللّه عليكم سعيرا.
فقال معاوية بن حديج إنّي لأقتلك ظمآنا إنما أقتلك بعثمان بن عفّان، قال محمّد: و ما أنت و عثمان رجل عمل بالجور و بدّل حكم اللّه و القرآن و قد قال اللّه عزّ و جلّ: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ، وَ الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ.
فنقمنا عليه أشياء عملها فأردناه أن يختلع من عملنا فلم يفعل فقتله من قتله من النّاس، فغضب معاوية بن حديج فضرب عنقه ثمّ القاه في جوف حمار و أحرقه بالنّار.
فلمّا بلغ ذلك عايشة جزعت عليه جزعا شديدا و قنتت في دبر كلّ صلاة تدعو على معاوية بن أبي سفيان و عمرو بن العاص و معاوية بن حديج، و قبضت عيال محمّد أخيها و ولده إليها فكان القاسم بن محمّد في عيالها، و حلفت عايشة أن لا تأكل شوى أبدا بعد قتل محمّد، فلم تأكل شوى حتى لحقت باللّه، و ما عثرت قطّ إلّا قالت تعس«» معاوية بن ابى سفيان و عمرو بن العاص و معاوية بن حديج.
قال إبراهيم: و حدّثني محمّد بن عبد اللّه عن المدائني عن الحرث بن كعب عن حبيب بن عبد اللّه، قال و اللّه إنّي لعند عليّ اذ جاءه عبد اللّه بن معين من قبل محمّد بن أبي بكر يستصرخه قبل الوقعة، فقام عليّ عليه السّلام فنادى في النّاس الصّلاة جامعة فاجتمع النّاس فصعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه و ذكر رسول اللّه ثمّ قال عليه السّلام: أمّا بعد فهذا صريخ محمّد بن أبي بكر و اخوانكم من أهل مصر قد سار اليهم ابن النّابغة عدوّ اللّه و عدوّ من والاه و ولّا من عاد اللّه، فلا يكونن أهل الضّلال إلى باطلهم و الرّكون إلى سبيل الطاغوت أشدّ اجتماعا على باطلهم منكم على حقّكم، و قد بدءوكم و اخوانكم بالغزو فاعجلوا إليهم بالمواساة و النّصر، عباد اللّه إن مصر أعظم من الشّام خيرا و خير أهلا فلا تغلبوا على مصر فانّ بقاء مصر في أيديكم عزّ لكم و كبت لعدوّكم اخرجوا إلى الجزعة «و الجزعة بين الحيرة و الكوفة» لنتوا في هناك كلّنا غدا إنشاء اللّه.
قال فلمّا كان الغد خرج يمشى فأقام حتّى انتصب النّهار فلم يوافه مأئة رجل فرجع فلما كان العشاء بعث إلى الأشراف فجمعهم فدخلوا عليه القصر و هو كئيب حزين فقال عليه السّلام: الحمد للّه على ما قضى من أمر و قدّر من فعل و ابتلاني بكم أيّها الفرقة التي لا تطيع إذا أمرتها، و لا تجيب إذا دعوتها، لا أبا لغيركم ما ذا تنتظرون بنصركم و الجهاد على حقّكم، الموت خير من الذّلّ في هذه الدّنيا لغير الحقّ، و اللّه إن جائني الموت و ليأتينّي فليفرقنّ بيني و بينكم لتجدنّني لصحبتكم جدّ.
قال: ألا دين يجمعكم ألاحمية تغيظكم ألا تسمعون بعدوّكم ينتقص بلادكم و يشن الغارة عليكم أو ليس عجبا أنّ معاوية يدعو الجفاة الظعام الظلمة فيتّبعونه على غير عطاء و معونة و يجيبونه في السنّة المرّة و المرّتين و الثلاث إلى أىّ وجه شاء ثمّ أنا أدعوكم و أنتم أولو النّهى و بقيّة النّاس تختلفون و تفرّقون منّي و تعصونني و تخالفون عليّ.
فقام إليه مالك بن كعب الارحبى فقال: يا أمير المؤمنين اندب النّاس معي فانّه لا عطر بعد عروس، و إنّ الأجر لا يأتي إلّا بالكره، ثمّ التفت إلى النّاس، و قال: اتقوا اللّه و أجيبوا دعوة إمامكم و انصروا دعوته و قاتلوا عدوّكم إنا نسير إليهم يا أمير المؤمنين. فأمر عليّ عليه السّلام سعدا مولاه أن ينادى ألاسيروا مع مالك بن كعب إلى مصر و كان وجها مكروها فلم يجتمعوا إليه شهرا، فلما اجتمع له منهم ما اجتمع خرج بهم مالك بن كعب فعسكر ظاهر الكوفة و خرج معه عليّ عليه السّلام فنظر فاذا جميع النّاس نحو من ألفين فقال عليّ عليه السّلام سيروا و اللّه أنتم ما اخالكم تدركون القوم حتى ينقضي أمركم، فخرج مالك بهم و سار خمس ليال.
و قدم الحجاج بن عرية الأنصاري على عليّ عليه السّلام و قدم عليه عبد الرّحمن بن المسيّب الفرازي من الشّام، فأمّا الفرازي فكان عينا لعليّ لا ينام و أما الأنصارى فكان مع محمّد بن أبي بكر، فحدّثه الأنصارى بما عاين و شاهد و أخبره بهلاك محمّد و أخبره الفرازى انّه لم يخرج من الشّام حتّى قدمت البشرى من قبل عمرو بن العاص فيتبع بعضها بعضا بفتح مصر و قتل محمّد بن أبي بكر و حتّى اذن معاوية بقتله على المنبر و قال: يا أمير المؤمنين ما رأيت يوما قط سرورا مثل ما رأيته بالشّام حين أتاهم قتل ابن أبي بكر، فقال عليّ عليه السّلام أما إنّ حزننا على قتله على قدر سرورهم به لا بل يزيد أضعافا.
قال و حزن عليّ عليه السّلام على محمّد حتّى رؤى ذلك فيه و تبيّن في وجهه و قام خطيبا فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: الا و انّ المصر قد افتتحها الفجرة أولياء الجور و الظلم الذين صدّوا عن سبيل اللّه و بغوا الاسلام عوجا، ألا و إنّ محمّد بن أبي بكر قد استشهد رحمة اللّه عليه و عند اللّه نحتسبه، أما و اللّه لقد كان ما عملت ينتظر القضاء و يعمل للجزاء و يبغض شكل الفاجر و يحبّ سمت المؤمن، إنّى و اللّه ما ألوم نفسي على تقصير و لا عجز و إنّي لمقاساة الحرب مجد بصير إني لأقدم على الحرب و أعرف وجه الحزم و أقوم بالرّاى المصيب فاستصرخكم و اناديكم مستغيثا فلا تسمعون قولا و لا تطيعون لي أمرا حتّى تصير الامور إلى عواقب المسائة و أنتم القوم لا يدرك بكم الثّار و لا ينقص بكم الأوتار، دعوتكم إلى غياث اخوانكم منذ بضع و خمسين ليلا فجر جرتم علىّ جرجرة الجمل الأشر و تثاقلتم إلى الارض تثاقل من لا نيّة له في الجهاد و لا راى في الاكتساب للأجر، ثمّ خرج إلىّ منكم جنيد متدائب ضعيف كانما تساقون إلى الموت و هم ينظرون فافّ لكم، ثمّ نزل فدخل رحله.
قال المدايني: إنّ عليّا عليه السّلام قال: رحم اللّه محمّدا كان غلاما حدثا لقد كنت أردت أن اولي المر قال هاشم بن عتبة مصرا فانّه و اللّه لو وليها ما خلى لابن العاص و اعوانه العرصة و لا قتل إلّا و سيفه في يده بلا ذمّ لمحمد فلقد أحمد نفسه و قضا ما عليه.
قال المدايني و قيل لعليّ عليه السّلام لقد جزعت يا امير المؤمنين على محمّد بن أبي بكر فقال: و ما يمنعني إنّه كان لي ربيبا و كان لي أخا و كنت له والدا أعده ولدا.
|