فاتّقوا شرارهنّ و كونوا من خيارهنّ على حذر، و لا تطيعوهنّ في المعروف حتّى لا يطمعن في المنكر.
المعنی
ثمّ إنّه عليه السّلام بعد التّنبيه على جهة النّقصان فى النساء أمر بقوله (فاتّقوا شرارهنّ) على التجنّب و الهرب من الشّرار، و بقوله (و كونوا من خيارهنّ على حذر) على الحذر من الخيار، قال البحراني: و يفهم من ذلك أنّه لا بدّ من مقاربتهنّ و كان الانسان إنما يختار مقاربة الخيرة منهنّ فينبغي أن يكون معها على تحرّز و تثبّت في سياستها و سياسة نفسه معها إذا لم تكن الخيرة منهنّ خيرة إلّا بالقياس إلى الشّريرة.
روى في الفقيه عن جابر بن عبد اللّه الانصارى قال: كنّا جلوسا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال فتذاكرنا النساء و فضل بعضهنّ على بعض فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألا أخبركم بخير نسائكم قالوا: بلى يا رسول اللّه فأخبرنا، قال: إنّ من خير نسائكم الولود الودود السّتيرة العفيفة العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها المتبرّجة مع زوجها الحصان مع غيره التي تسمع قوله و تطيع أمره و إذا خلا بها بذلت له ما أراد منها و لم تبذل له تبذّل الرّجل.
قال و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ألا اخبركم بشرّ نسائكم قالوا: بلى يا رسول اللّه فأخبرنا قال: من شرّ نسائكم الذليلة في أهلها العزيزة مع بعلها العقيم الحقود التي لا تتوّرع عن قبيح المتبرّجة إذا غاب عنها زوجها الحصان معه إذا حضر التي لا تسمع قوله و لا تطيع أمره فاذا خلابها تمنّعت تمنّع الصّعبة عند ركوبها و لا تقبل له عذرا و لا تغفر له ذنبا و رواه في الكافي عن جابر بن عبد اللّه نحوه في كتاب النكاح في باب خير النساء و شرار النساء، و روى فيه أخبارا اخرى في معنى الخير و الشرّ.
و قوله (و لا تطيعوهنّ في المعروف حتّى لا يطمعن في المنكر) من قبيل المثل السائر: لا تعط عبدك كراعا فيأخذ ذراعا قال العلّامة المجلسي: و ترك طاعتهنّ في المعروف إما بالعدول إلى فرد آخر منه أو فعله على وجه يظهر أنّه ليس لطاعتهنّ بل لكونه معروفا أو ترك بعض المستحبات و يكون الترك حينئذ مستحبّا كما ورد تركها في بعض الأحوال كمال الحلال هذا.
و قد ورد الحثّ على ترك طاعتهنّ في غير واحد من الأخبار مثل ما في الفقيه عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال في النساء: لا تشاوروهنّ في النجوى و لا تطيعوهنّ في ذي قرابة إنّ المرأة إذا كبرت ذهب خير شطريها و بقى شرّهما، ذهب جمالها و احتدّ لسانها و عقم رحمها، و إنّ الرّجل إذا كبر ذهب شرّ شطريه و بقي خيرهما ثبت عقله و استحكم رأيه و قلّ جهله.
و فيه أيضا قال عليّ عليه السّلام: كلّ امرء تدبّره امرأة فهو ملعون، و قال: في خلافهنّ البركة، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أراد الحرب دعى نسائه فاستشارهنّ ثمّ خالفهنّ.
و في بعض الرّوايات العاميّة قال أمير المؤمنين عليه السّلام لا تطيعوا النساء على حال و لا تأمنوهنّ على مال، و لا تذروهنّ لتدبير العيال، فانّهنّ إن تركن و ما يرون أوردن المهالك، و أذلن الممالك، لا دين لهنّ عند لذّتهنّ، و لا ورع لهنّ عند شهوتهنّ، ينسين الخير و يحفظن الشّر، يتهافتن بالبهتان و يتمارين للطغيان يتصدّين للشّيطان.
و من طريق العامة أيضا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاوروهنّ خالفوهنّ.
تنبيه ظريف
ينبغي لنا أن نذكر هنا شطرا من أوصاف النساء و أخبارهن و بعض مكايدهنّ من طريق الأخبار و غيرها، و المقصود بذلك التحذير عنهنّ و التنبيه على كيدهنّ، حيث وصفه اللّه سبحانه في كتابه العزيز بالعظمة مع أنّه جعل كيد الشيطان ضعيفا حيث قال: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ و قال: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً.
و لذلك قال بعض أهل العرفان: إنا من النّسوان أحذر من الشّيطان فأقول: قال رسول اللّه شاوروهنّ و خالفوهنّ و قيل: إيّاك و موافقة النساء فرأيهنّ إلى أفن و عزمهنّ إلى وهن، و قيل: أكثروا لهنّ من لا، فانّ نعم يغريهنّ بالمثلة قال الشّاعر:
- تعيّرني بالغزو عرسى و ما درتبأنّى لها في كلّ ما أمرت ضدّ
و رأى سقراط امرأة تحمل نارا فقال نار تحمل نارا و الحامل شرّ من المحمول و قيل له: أىّ السّباع شرّ قال: المرأة و قيل: المرأة إذا أحبّتك آذتك و إذا أبغضتك خانتك فحبّها أذى و بغضها داء و قيل المرأة سبع معاشر و قيل حيوان شرير.
و في الحديث أنّه لما خلقت المرأة نظر إليها إبليس فقال أنت سؤلى و موضع سرّى و نصف جندى و سهمى الذي ارمى به فلا اخطى و إذا اختصمت هى و زوجها في البيت قام في كلّ زاوية من زوايا البيت شيطان يصفق و يقول فرّح اللّه من فرّحنى حتّى إذا اصطلحا خرجوا عميا يتعادون يقولون: أذهب اللّه نور من ذهب بنورنا.
و في الفقيه عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فى حديث إنّ إبراهيم خليل الرّحمن شكى إلى اللّه خلق سارة فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه إنّ مثل المرأة مثل الضّلع إن أقمته انكسر و إن تركته استمتعت به.
و في حديث إبليس مع يحيى بن ذكريا على نبيّنا و عليهما السّلام المروىّ فى المجلّد السماء و العالم من البحار و جادة في كتاب التّرمذي قال أى إبليس: يا نبيّ اللّه فأوّل ما اصيد به المؤمن من قبل النّساء «إلى أن قال» يا نبيّ اللّه إنّ أرجى الأشياء عندى و أدعمه لظهرى و أقرّه لعينى النّساء، فانّها حبالتي و مصائدي و سهمى الذي به لا اخطى بآبائي هنّ لو لم يكن هنّ ما اطعت اضلال أدنى آدميّ، قرّت عيني بهنّ أظفر بمقراتي و بهنّ أوقع في المهالك إذا اغتممت ليشت على النّساك و العبّاد و العلماء غلبوني بعد ما ارسلت عليهم الجيوش فانهزموا و بعد ما ركبت و قهرت ذكرت النّساء طابت و سكنت غضبي و اطمأنّ كظمى و انكشف غيظى و سلمت كأبتي و قرّت عيني و اشتدّ ازري، ولولاهنّ من نسل آدم لسجدتهنّ فهنّ سيّداتي و على عنقي سكناهنّ و علىّ تمماهنّ ما اشتهت امرأة من حبالتي حاجة إلّا كنت أسعى برأسي دون رجلي في اسعافها بحاجتها، لأنّهنّ رجائي و ظهري و عصمتي و سندي و ثقتي و غوثي، الحديث.
أقول: النّسخة كانت سقيمة جدّا فأثبتّه كما وجدت.
و في الأنوار النّعمانيّة للسّيد نعمة اللّه الجزائري و من أسباب الدّنيا و الميل إليها النّساء و إطاعتهنّ.
روى أنّ رجلا من بني إسرائيل رأى في المنام انّه خير ثلاث دعوات مستجابات بأن يصرفها حيث شاء، فشاور امرأته في محلّ الصّرف فرأت أن يصرف واحدة منها في حسنها و جمالها ليزيد حسن المعاشرة بينهما فصرفها في ذلك فصارت جميلة فيما بين بني اسرائيل فاشتهرت فاشتهر أمرها إلى أن غصبها ملك ظالم فدعا الرّجل غيرة بأن يصيرها اللّه تعالى على صورة كلب فصارت كلبا أسود و جاءت إلى باب زوجها و تضرّعت إليه مدّة حتّى رقّ قلبه فدعا بأن يصيّرها اللّه على صورتها الأولى، فضاعت الدّعوات الثلاث فيها و هي كما كانت بشوم مشاورة المرأة.
و حكى أنّ خسرو الملك أتى إليه رجل بسمكة كبيرة فأمر له بأربعة آلاف درهم فقالت شيرين فكيف تصنع إذا احتقر من اعطيته شيئا من حشمك و قال: أعطاني ما أعطى الصّياد أو أقلّ، فقال خسرو الملك إنّ الرّجوع عن الهبة قبيح خصوصا من الملوك فقالت شيرين: التّدبير أن تدعوه و تقول له هذه السّمكة ذكر أو انثى، فان قال ذكر فتقول له إنّما أردت انثى، و إن قال انثى فتقول له إنّما أردت ذكرا فاستدعاه فسأله عن ذلك فقال: أيّها الملك إنّها خنثى لا ذكر و لا انثى، فاستحسن جوابه و أمر له بأربعة آلاف درهم اخرى، فلمّا تسلّم الصيّاد ثمانية آلاف درهم من الخزّان و رجع سقط منها في الطريق درهم فاشتغل بأخذ الدّرهم الساقط فقالت شيرين للملك: انظر إلى خسّته و غلبة حرصه، فاستدعاه و سأله عن غرضه في اشتغاله بأخذه فقال أيّها الملك: كان عليه اسمك و حكمك فخفت أن يطأه أحد برجله غافلا عنه، فاستحسن أيضا جوابه و أمر له بأربعة آلاف درهم اخرى و ذهب الصّياد باثنى عشر ألف درهم.
و في موضع آخر منه أنّ كلّ فتنة وقعت في العالم فانّما جاءت من قبلهنّ و ذلك: إنّ الفتنة الاولى و هى اكل آدم من الشّجرة و اخراجه إلى الأرض إنّما جاء من قبل حوّا، لأنّ آدم لمّا لم يقبل و ساوس الشيطان وسوس إلى حوّاء فجاءت إلى آدم و كلّمته في أمر الأكل من الشّجرة حتى حملته عليه.
و أمّا الفتنة الأخيرة التي نشأ منها خراب العالم و هي غصب خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام و استظهارهم و اتّفاقهم على عداوته فانّما جاء من قبل عايشة و عداوتها و حسدها لفاطمة عليها السّلام بسبب أن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يظهر المحبّة لها و لولديها فغارت من هذا عايشة و أضمرت العداوة لها ثمّ أظهرتها فتخطت تلك العداوة من النّساء إلى الرّجال فبغض عليا عليه السّلام أبو بكر و عمر ففعلا ما فعلا و فعلت عايشة بعدهما ما فعلت. أقول: و شهادة أمير المؤمنين عليه السّلام بسبب قطام و سمّ جعدة للحسن بن عليّ عليهما السّلام غير خفيّ.
و في البحار روى عن جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السّلام أنّه قال: كان في بني اسرائيل رجل صالح و كان له مع اللّه معاملة حسنة و كان له زوجة و كان ظنينا بها و كانت من أجمل أهل زمانها مفرطة في الجمال و الحسن، و كان يقفل عليها الباب فنظرت يوما شابّا فهوته و هواها فعمل لها مفتاحا على باب دارها و كان يخرج و يدخل ليلا و نهارا متى شاء و زوجها لم يشعر بذلك.
فبقيا على ذلك زمانا طويلا فقال لها زوجها يوما و كان أعبد بني اسرائيل و أزهدهم: إنّك قد تغيرت علىّ و لم أعلم ما سببه و قد توسوس قلبي علىّ و كان قد أخذها بكرا، ثمّ قال و اشتهى منك أنك تحلفى لي أنّك لم تعرفي رجلا غيري، و كان لبني اسرائيل جبل يقسمون به و يتحاكمون عنده و كان الجبل خارج المدينة عنده نهر جار و كان لا يحلف أحد عنده كاذبا إلّا هلك، فقالت له و يطيب قلبك إذا حلفت لك عند الجبل قال: نعم، قالت: متى شئت فعلت.
فلمّا خرج العابد لقضاء حاجته دخل عليها الشّاب فأخبرته بما جرى لها مع زوجها و أنّها تريد أن تحلف له عند الجبل و قالت ما يمكنني أن أحلف كاذبة و لا أقول لزوجي فبهت الشّاب و تحيّر و قال فما تصنعين فقالت بكّر غدا و البس ثوب مكار و خذ حمارا و اجلس على باب المدينة فاذا خرجنا فأنا أدعه يكترى منك الحمار فاذا اكتراه منك بادر و احملنى و ارفعنى فوق الحمار حتّى احلف له و أنا صادقة أنّه ما مسّنى أحد غيرك و غير هذا المكاري، فقال: حبّا و كرامة.
و أنّه لمّا جاء زوجها قال لها قومي إلى الجبل لتحلفي به قالت مالي طاقة بالمشي فقال: اخرجي فان وجدت مكاريّا اكتريت لك فقامت و لم تلبس لباسها فلمّا خرج العابد و زوجته رأت الشّاب ينتظرها فصاحت به يا مكاري اكترى «كذا» حمارك بنصف درهم إلى الجبل قال: نعم.
ثمّ تقدّم و رفعها على الحمار و ساروا حتّى وصلوا إلى الجبل فقالت للشّاب انزلني عن الحمار حتّى أصعد الجبل، فلمّا تقدّم الشّاب إليها القت بنفسها إلى الأرض فانكشفت عورتها فشتمت الشاب فقال: و اللّه مالى ذنب.
ثمّ مدّت يدها إلى الجبل و حلفت له أنه لم يمسّها أحد و لا نظر إنسان مثل نظرك إلىّ مذ عرفتك غيرك و هذا المكاري، فاضطرب الجبل اضطرابا شديدا و زال عن مكانه و انكرت بنو اسرائيل فذلك قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ.
و في زهر الرّبيع كان في الهند رجل شجاع غيور و له امرأة جميلة فاتفق انّه سافر عنها، فجلست يوما على قصرها فرأت برهمن من براهمة الهند شابّا فحصل بينهما عشق و وصال و كان يأتي اليها متى ما أراد، فخرجت يوما إلى بيت جارها و أتى ذلك الشّاب إلى منزلها فلم يجدها فخرج في طلبها فلمّا دخلت أخذ الشّاب الهندي سوطا كان معه و ضربها.
و كان في تلك الحالة أتى زوجها من السّفر فقال لها برهمن: هذا زوجك أتى فكيف الحيلة فقالت: اضربني بهذا السّوط فاذا دخل زوجي و سألك فقل إنّ هذه المرأة فيها صرع أتى اليها بعد سفرك و طلبوني لاعوذبها بالأسماء و أقرء عليها و أضربها حتّى يخرج منها الجنّ، فتكدّرت على زوجها عيشه و خرج الشّاب الهندي و بعد هذا صارت كلما اشتهت وصال الشّاب الهندي صرعت نفسها و مضى زوجها يلتمس من الهندي و الهندي يمنّ عليه و يأخذ منه حقّ الجعالة حتّى يأتي إلى منزله لأجل أن يعوّذها ممّا عنده فصار الرّجل الغيور قوّادا ديّوثا.
و في حكمة آل داود امرأة السّوء مثل شرك الصّياد لا ينجو منها إلّا من رضى اللّه عنه و المرأة السّوء غلّ يلقيه اللّه في عنق من يشاء.
و قال داود عليه السّلام المرأة السّوء الحمل الثّقيل على الشّيخ الكبير، و المرأة الصّالحة كالتّاج المرصع بالذهب كلّما رآها قرّت عينه.
و عن مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله تعالى: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً قال عليه السّلام: المرأة الحسناء الصّالحة وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً حوريّة من حور العين وَ قِنا عَذابَ النَّارِ امرئة السّوء.
قال بعضهم.
- لقد كنت محتاجا إلى موت زوجتيو لكن قرين السّوء باق معمّر
- فيا ليتها صارت إلى القبر عاجلاو عذّبها فيه نكير و منكر
أقول، و حيث انجرّ الكلام إلى هذا المقام فينبغي أن نختمه بحديث المتكلّمة بالقرآن تذكرة للعاقلين و تنبيها للغافلين و إشارة إلى أنّ الأخبار المطلقة في مذمّة النّساء محمولة على الأفراد الغالبة و إلّا ففيها من لا يوجد مثلها في الرّجال زهدا و ورعا و صلاحا.
قال عبد اللّه بن المبارك: خرجت حاجّا إلى بيت اللّه الحرام فبينما أنا في بعض الطريق فاذا أنا بسواد يلوح فاذا هى عجوز فقلت: السّلام عليك، فقالت: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ، فقلت لها: يرحمك اللّه ما تصنعين في هذا المكان قالت: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ، فعلمت أنّها ضالّة عن الطريق فقلت لها: أين تريدين قالت: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فعلمت أنّها قضت حجّها و تريد بيت المقدّس.
فقلت لها: أنت منذ كم في هذا الموضع فقالت: ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا، قلت: ما أرى معك طعاما تأكلين قالت: هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ، قلت: فبأيّ شي ء تتوضين قالت: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً قلت: إنّ معي طعاما فهل تأكلين قالت: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ، قلت: ليس هذا شهر رمضان قالت: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، قلت: قد ابيح لنا الأفطار في السّفر قالت: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ.
قلت: فلم لا تتكلّمين مثل كلامي قالت: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عتيد، قلت: من أىّ النّاس أنت قالت: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا، قلت: قد أخطأت فاجعلني في حلّ، قالت: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ، قلت: فهل لك أن أحملك على ناقتي فتدركي القافلة قالت: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ.
فأنخت ناقتي: فقالت: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ، فغضضت بصرى عنها فلمّا أرادت أن تركب نفرت الناقة فمزقت ثيابها فقالت: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، فقلت لها: اصبرى حتّى أعقلها، قالت: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ.
فشددت لها الناقلة فقلت: اركبي، فركبت فقالت: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ، قال: فأخذت بزمام الناقة و جعلت أسعى و اصيح، فقالت: وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ، فجعلت أمشى رويدا و أترنّم بالشعر فقالت: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، فقلت لها: لقد اوتيت خَيْراً كَثِيراً، قالت وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.
فلما مشيت بها قليلا قلت: أ لك زوج قالت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، فسرت حتى أدركت القافلة فقلت لها هذه القافلة فمن لك فيها قالت: الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا، فعلمت أنّ لها أولادا قلت: و ما شأنهم في الحجّ قالت: وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، فعلمت أنهم أولاد الرّكب فقصدت بها القباب و العماريات. و قلت: هذه القباب فمن لك فيها قالت: وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ، فناديت يا إبراهيم يا موسى يا يحيى فاذا بشبان كأنهم الدنانير قد أقبلوا.
فلما استقرّ بهم الجلوس قالت: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ، فمضى أحدهم و اشترى طعاما فقدّموه فقالت كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ فقلت الآن طعامكم حرام علىّ حتى تخبروني بأمرها فقالوا: إنّها امنّا و لها منذ أربعين سنة لا تتكلّم إلّا بالقرآن مخافة أن تزلّ فيسخط عليها الرّحمن.
تنبيه و تحقيق
قال الشّارح المعتزلي في شرح هذا الكلام له عليه السّلام: و هذا الفصل كلّه رمز إلى عايشة و لا يختلف أصحابنا في انّها أخطات فيما فعلت ثمّ تابت و ماتت تائبة، و أنّها من أهل الجنّة.
قال قال كلّ من صنّف في السير و الأخبار إنّ عايشة كانت من أشدّ النّاس على عثمان حتّى أنّها اخرجت ثوبا من ثياب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنصبته في منزلها و كان تقول للدّاخلين إليها هذا ثوب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يبل و عثمان قد أبلى سنّته.
قالوا أول من سمّى عثمان نعثلا عايشة و النعثل الكثير شعر اللحية و الجسد، و كانت تقول اقتلوا نعثلا قتل اللّه نعثلا.
و روى المدائني في كتاب الجمل قال: لما قتل عثمان كانت عايشة بمكّة و بلغ قتله إليها و هي بشراف فلم تشك في أن طلحة هو صاحب الأمر و قالت بعدا لنعثل و سحقا ايه ذا الاصبع ايه أبا شبل ايه يابن عمّ لكأنّى انظر إلى اصبعه و هو يبايع له حثوا الابل و دعدعتها ثمّ قال و قال أبو مخنف: إنّ عايشة لما بلغها قتل عثمان و هي بمكّة أقبلت مسرعة و هي تقول ايه ذا الاصبع للّه أبوك أما أنّهم وجدوا طلحة لها. كفوا
فلما انتهت إلى شراف استقبلها عبيد بن أبي سلمة الليثي فقالت له: ما عندك قال: قتل عثمان قالت: ثمّ ما ذا قال: ثمّ جاز بهم الامور إلى خير مجاز بايعوا عليا، فقالت: لوددت أن السّماء انطبقت على الأرض إنّ تمّ هذا و يحك انظر ما ذا تقول قال: هو ما قلت لك يا امّ المؤمنين فولولت، فقال لها: ما شأنك يا أمّ المؤمنين و اللّه ما أعرف بين لابتيها أحدا أولى بها منه و لا أحقّ و لا أرى له نظيرا في جميع حالاته، فلما ذا تكرهين ولايته قال: فما ردّت عليه جوابا.
و في روضة الصّفا و قال عبيدة بن أبي سلمة في هذا المعنى أبياتا منها قوله:
- فمنك البدار و منك المفرو منك الرياح و منك المطر
- و أنت أمرت بقتل الامام و قاتله عندنا من أمر
قال أبو مخنف: و قد روى من طرق مختلفة أنّ عايشة لما بلغها قتل عثمان و هي بمكة قالت: أبعده اللّه ذلك بما قدمت يداه و ما اللّه بظلّام للعبيد.
قال: و قد روى قيس بن أبي حازم أنّه حجّ في العام الذي قتل فيه عثمان و كان معه عايشة لما بلغتها قتلته فتحمل إلى المدينة قال فسمعها تقول في بعض الطريق: ايد ذا لاصبع و إذا ذكرت عثمان قالت: أبعده اللّه حتّى أتتها خبر بيعة عليّ فقالت: لوددت إن هذه وقعت على هذه، ثمّ أمرت بردّ ركابيها إلى مكة فردّت معها و رأيتها في مسيرها إلى مكّة تخاطب نفسها كأنها تخاطب أحدا: قتلوا ابن عفّان مظلوما.
فقلت لها: يا امّ المؤمنين ألم اسمعك آنفا تقول أبعده اللّه و قد كنت قبل أشدّ النّاس عليه و أقبحهم فيه قولا فقالت: لقد كان ذلك و لكنى نظرت في أمره فرأيتهم استتابوه حتى تركوه كالفضة البيضاء أتوه صائما محرما في شهر حرام فقتلوه.
ثم قال: قال أبو مخنف جاءت عايشة إلى أمّ السلمة تخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان، فقالت لها: يا بنت أبى اميّة أنت أوّل مهاجرة في أزواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنت كبيرة امّهات المؤمنين و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقسم لنا من بيتك و كان جبرئيل أكثر ما يكون في منزلت فقالت: امّ السّلمة: لأمر ما قلت هذه المقالة فقالت عايشة: إنّ عبد اللّه أخبرنى أنّ القوم استتابوا عثمان فلما تاب قتلوه صائما في شهر حرام و قد عزمت الخروج إلى البصرة و معي الزّبير و طلحة فاخرجى معنا لعلّ اللّه أن يصلح هذا الأمر على أيدينا و بنا.
فقالت انا امّ سلمة إنّك كنت بالأمس تحرضين على عثمان و تقول فيه أخبث القول و ما كان أسمعه عندك إلّا نعثلا و إنك لتعرفين منزلة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كانت عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاذكرك قالت: نعم.
قالت: أ تذكرين يوم أقبل عليه السّلام و نحن معه حتّى إذا هبط من قديد ذات الشمال خلا بعليّ عليه السّلام يناجيه فأطال فأردت أن تهجمين عليهما فنهيتك فعصيتني فهجمت عليهما فما لبثت أن رجعت باكية فقلت: ما شأنك فقلت: إنّى هجمت عليهما و هما يتناجيان، فقلت لعليّ: ليس لي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلّا يوم من تسعة أيّام أ فما تدعني يابن أبي طالب و يومي فأقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله علىّ و هو غضبان محمّر الوجه فقال: أرجعى و راءك و اللّه لا يبغضه أحد من أهل بيتى و لا من غيرهم من النّاس الّا هو خارج من الايمان، فرجعت نادمة ساقطة.
فقالت عايشة: نعم اذكر ذلك.
قالت و اذكرك أيضا كنت أنا و أنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنت تغسلين رأسه و انا احيس له حيسا و كان الحيس يعجبه فرفع صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأسه و قال: ليت شعرى أيتكنّ صاحب «صاحبة ظ» الجمل الاذنب تنبحها كلاب الحوئب فتكون ناكبة عن الصراط فرفعت يدي من الحيس فقلت أعوذ باللّه و برسوله صلّى اللّه عليه و آله من ذلك، ثمّ ضرب على ظهرك و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إياك أن تكونيها، ثمّ قال: يا بنت أبي اميّة إياك أن تكونيها، يا حميراء أما أنّي فقد أنذرتك.
قالت عايشة نعم اذكر هذا.
قالت و اذكرك أيضا كنت أنا و أنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سفر له و كان عليّ يتعاهد نعلي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيخصفها و يتعاهد أثوابه فيغسلها، فبقيت له نعل يومئذ يخصفها و بعد في ظلّ سمرة و جاء أبوك و معه عمر فاستأذنا عليه فقمنا إلى الحجاب و دخلا يحادثاه فيما أرادا، ثمّ قالا: يا رسول اللّه إنا لا ندرى قدر ما تصحبنا فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ليكون بعدك لنا مفزعا، فقال لهما: أما أنّى أرى مكانه و لو فعلت لتفرّقتم عنه كما تفرّقت بنو اسرائيل عن هارون بن عمران، فسكتا ثمّ خرجا، فلما خرجنا إلى رسول اللّه قلت له: و كنت أجره عليه منّا من كنت يا رسول اللّه مستخلفا عليهم فقال عليه السّلام: خاصف النّعل، فنزلنا و لم نر أحدا إلّا عليا، فقلت: يا رسول اللّه ما نرى إلّا عليّا، فقال: هو ذاك.
فقالت عايشة: نعم اذكر ذلك.
فقالت فأىّ خروج تخرجين بعد هذا فقال: إنّما أخرج للاصلاح بين النّاس و أرجو فيه الأجر إن شاء اللّه، فقالت: أنت و رأيك فانصرفت عايشة عنها فكتبت أمّ سلمة ما قالت و قيل لها إلى علي.
قال الشّارح بعد نقل هذه الرّواية: فان قلت فهذا نصّ صريح في إمامة عليّ عليه السّلام فما تصنع أنت و أصحابك المعتزلة فيه قلت: كلّا إنّه ليس بنصّ كما ظننت لأنّه لم يقل قد استخلفت و إنّما قال لو استخلفت أحدا لاستخلفته، و ذلك لا يقتضي حصول الاستخلاف و يجوز أن يكون مصلحة المسلمين متعلّقة بالتّعب عليه لو كان النبيّ مأمورا بأن ينصّ على إمام بعينه من بعده فيكون من مصلحتهم أن يختاروا لأنفسهم من شاءوا إذا تركهم النبيّ و أراهم و لم يعيّن أحدا.
ثمّ قال: قال أبو مخنف: و ارسلت إلى حفصة تسألها الخروج و المسير فبلغ ذلك عبد اللّه بن عمر فأتى اخته فعزم عليها فأقامت و حطت الرّحال بعد ما همّت.
قال: و كتب الأشتر من المدينة إلى عايشة و هي بمكة: أمّا بعد فانّك ظعينة رسول اللّه و قد أمرك أن تقري في بيتك فان فعلت فهو خير لك، فان أبيت إلّا أن تأخذ منسئتك و تلقى جلبابك و تبدي للنّاس شعيراتك قاتلتك حتّى أردّك إلى بيتك و الموضع الذى يرضاه لك ربك.
فكتبت إليه في الجواب أما بعد فانّك أوّل العرب شبّ الفتنة و دعا إلى الفرقة و خالفت الأئمة و قد علمت أنّك لن تعجز اللّه حتّى يصيبك منه بنقمة ينتصر بها منك للخليفة المظلوم، و قد جائنى كتابك و فهمت ما فيه و سيكفينّك و كلّ من أصبح مماثلا لك في ضلالك و غيك إنشاء اللّه.
قال ابو مخنف: لما انتهت عايشة في مسيرها إلى الحوئب و هو ماء لبني عامر ابن صعصعة نبحتها الكلاب حتّى نفرت صعاب إبلها فقال قائل من أصحابها ألا ترون ما أكثر كلاب الحوئب و ما أشد نباحها، فأمسكت زمام بعيرها و قالت: و إنّها لكلاب الحوئب ردّوني ردّوني فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول، و ذكرت الخبر، فقال قائل. يرحمك اللّه فقد جزنا ماء الحوئب فقالت فهل من شاهد فلفّقوا لها خمسين أعرابيّا جعلوا لهم جعلا فحلفوا أنّ هذا ليس بماء الحوئب فسارت لوجهها.
انتهى ما أهمّنا نقله من كلامه هبط مقامه.
أقول لا يخفى على الناقد البصير و الذّكيّ الخبير المراقب للعدل و الانصاف و المجانب للتّعصب و الاعتساف وجوه الدّلالة فيما أورده الشّارح و رواه على مطاعن عايشة امّ الفاسقين و فضايح المتخلّفين الذينهم أئمّة النّار و جنود ابليس اللعين، و لا يخفى عليه أيضا عصبيّة الشّارح و من حذا حذوه من أصحاب المعتزلة في حقّ الخاطئة و أوليائهم الثلاثة و لا بأس بالتّنبيه على بعض تلك الوجوه فأقول: اولا أنّ ما ذكره من خطاء الخاطئة مسلّم و ما عقّبه به من توبتها و كونها من أهل الجنّة ممنوع و لا بدّ للمدّعى لها من الاثبات و أنّى لهم بذلك، بل الظاهر من حالات عايشة و فرط بغضها و شدّة عداوتها لعليّ هو العدم و يؤيّد ذلك أنها كانت في مقام اللجاجة و العداوة مع خليفتهم عثمان حتّى سمته نعثلا، و النّعثل على ما في القاموس الشّيخ الأحمق و يهودىّ كان بالمدينة و رجل لحياني كان يشبه به عثمان اذا نيل منه و كانت تقول: اقتلوا نعثلا قتل اللّه نعثلا، و كانت باقية على عداوتها بعد وفاته أيضا حيث إنّها كانت تقول بعدا لنعثل و سحقا و تقول أبعده اللّه ذلك بما قدّمت يداه و ما ربّك بظلّام للعبيد، و كذلك نار غضبها و نايرة حسدها لأمير المؤمنين عليه السّلام لم تكن بحيث تطفى.
يدلك على ذلك ما رواه الحميدي في الجمع بين الصّحيحين أنّ ابن الزّبير دخل على عايشة في مرضها فقالت له إنّي قاتلت فلانا و سمت المقاتل برجل قاتلته و قالت لوددت أنّى كنت نسيا منسيّا، فانّ تعبيرها عنه عليه السّلام بالرّجل و بفلان من دون أن يذكر لقبه الشّريف أو اسمه السّامي مقرونا بالتعظيم تدلّ على فرط عصبيّتها و استنكافها من التّصريح بالاسم و اللقب.
و أظهر من ذلك ما رواه الشّارح في هذا المقام من أنّه لمّا بعث أمير المؤمنين ابن عبّاس بعد انقضاء حرب الجمل إلى عايشة يأمرها بالرّحيل إلى المدينة قال لها: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أرسلنى إليك يأمرك بالرّحيل إلى المدينة فقالت: و أين أمير المؤمنين ذاك عمر، فقال: عمر و علىّ، قالت: اثبت إلى أن قالت إنّى معجلة الرّحيل إلى بلادى انشاء اللّه و اللّه ما من بلد أبغض من بلد أنتم فيه.
فانّ استكراهها من إطلاق لفظ أمير المؤمنين عليه الذي لقّبه اللّه تعالى به و أمر رسوله بأن يأمر أصحابه على السّلام عليه بامرة المؤمنين، على ما ورد في غير واحد من الرّوايات، دليل على كراهتها لحكم اللّه و إنكارها لأمر رسوله و ما ذلك إلّا من فرط الحقد و الحسد.
و ببالى انّى رأيت في بعض الرّوايات أنّها سمّت بعد وفات أمير المؤمنين و شهادته أحد غلمانه عبد الرّحمن أخذا من اسم عبد الرّحمن قاتل أمير المؤمنين شعفا بقتله و تيمّنا باسمه.
و هنا لطيفة و هي أنّ بهلول العاقل مرّ يوما بجماعة يذاكرون الحديث و يروون عن عايشة أنّها قالت: لو أدركت ليلة القدر لما سألت ربّي إلّا العفو و العافية، فقال بهلول: و الظفر بعليّ بن ابي طالب، يعني أنّها كانت أهمّ مسئولاتها الظفر عليه عليه السّلام.
هذا كلّه مضافا إلى أنّ توبتها لا يمكن أن تحصل بمجرّد النّدم على الخروج من البيت و الحرب بل يتوقف على التّفصى عمّا أراقها من دماء المسلمين من الأنصار و المهاجرين و ما نهبت من بيت مال المسلمين إلى غير ذلك من المفاسد و المظالم، و لم يتحقّق منها شي ء من ذلك و أنّى لها بذلك.
و ثانيا أنها إن كانت صادقة في قولها أنّ عثمان قد أبلى سنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فعليه لعنة اللّه، و إن كانت كاذبة فعليها غضب اللّه.
و ثالثا أنّ اللازم عليها أن تكون سالما لمن سالمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حربا لمن حاربه محبّة لمن أحبّه و مبغضة لمن أبغضه و شعفها بكون الخلافة لطلحة و استنكافها من كونها لأمير المؤمنين يدلّ على عكس ذلك.
و ذلك لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله توفّى و هو ساخط على طلحة للكلمة التي قالها يوم نزلت آية الحجاب على ما قدّمنا روايتها في تذييل الثاني من تذييلات الفصل الثالث من فصول الخطبة الثالثة، و في الطعن الثالث عشر من مطاعن عثمان التي أوردنا في التذييل الثاني من تذييلات كلامه الثالث و الأربعين و مات و هو راض عن أمير المؤمنين عليه السّلام فكانت عايشة ساخطة لأمير المؤمنين راضية عن طلحة موذية لرسول اللّه مخالفة لرأيه طارحة للغيرة و الحمية.
و رابعا أنّ هجومها على رسول اللّه و عليّ حين ما يتناجيان و قولها لعليّ ليس لي من رسول اللّه إلّا يوم من تسعة أيام أ فما تدعنى يابن أبي طالب و يومى، يدلّ على قلّة حيائها و عدم مبالاتها.
و خامسا أنّ قول رسول اللّه لها و هو غضبان محمرّ الوجه: ارجعى ورائك و اللّه لا يبغضه أحد من أهل بيتي و لا من غيرهم من الناس إلّا و هو خارج من الايمان، تدلّ على كونها مبغضة لأمير المؤمنين عليه السّلام خارجة من الايمان و رجوعها بعد إلى الايمان محتاج إلى البينة و البرهان و لم يثبت بالبديهة و العيان.
و سادسا أنّ سؤال رجلين عن رسول اللّه من الخليفة و الخلافة في حال السفر مع عدم اقتضاء الحال و المقام لذلك لما عليهم من تعب السفر و وصيته إمّا أن يكون رعاية لمصلحة الاسلام و إشفاقا للامة و شدّة في الدّين و الايمان أم استخبارا من وقت وفات الرّسول و تحصيلا للعلم بأنّهما متى يكونان مطلقي العنان، أم طمعا منهما في الخلافة و حرصا في الولاية و رجاء لأن ينصّ على أحدهما و يبدى البيان.
لا سبيل إلى الأوّل حتما زعمه الشّارح المعتزلي و صرّح به في كلامه الذي حكيناه في أواخر المقدّمة الثانية من مقدّمات الخطبة الشّقشقية و في غيره من كلماته أيضا في تضاعيف الشّرح إذ لو كان غرضهما الرّعاية لجانب الدّين و الشّفقة على الامّة كان اللازم عليهما الاصرار على السؤال و الاكمال في الكلام حتّى يسفر لهما وضح الحقّ، و كان ينبغي لهما بعد ما اجاب لهما رسول اللّه بقوله: إنّي قد أرى مكانه و لو فعلت لتفرّقتم عنه أن يقولا: دلّنا يا رسول اللّه على مكانه نعرفه و تلازمه و كيف يمكن أن نتفرّق عنه بعد تعيينك إيّاه و أمرك باتّباعه، فلمّا لم يصرّا على السؤال و لم يتفوّها بشي ء من ذلك و سكتا و خرجا بمجرّد أن قال لهما رسول اللّه: أرى مكانه علم أنّ غرضهما لم يكن الاشفاق على الامة و لحاظ مصلحة الاسلام و إنّما كان الطمع في الخلافة فلمّا قال أرى مكانه يأسا منهما و علما أنّ الخليفة غيرهما فسكتا و خرجا و سابعا أنّ قوله: لتفرّقتم عنه كما تفرّقت بنو اسرائيل عن هارون، لا يخفى ما في هذا التّشبيه من النكتة، فانّ هارون كان وصيّ موسى و بنو اسرائيل قد تفرّقوا عنه و اتخذوا عجلا جسدا له خوار، لا يكلّمهم و لا يهديهم سبيلا فأظهر صلوات اللّه عليه بهذا الكلام ما في قلبهما من النّفاق و أعلمهم أنّهم يتفرّقون عن وصيّه و لا يطيعون أمره كما خالف بنو اسرائيل موسى و تفرّقوا عن هارون.
و ثامنا أنّ إنكار الشّارح لدلالة الرّواية على خلافة أمير المؤمنين لا معنى له، إذ قوله: لو فعلت لتفرّقتم و إن لم يكن مستلزما لوقوع الفعل إلّا أنّ الضّمير في أرى مكانه راجع إلى المسئول عنه و قد سألا عن المستخلف و المفزع فقال: أرى مكانه فيدلّ على أنّ المستخلف و المفزع كان موجودا حين السؤال و إلّا لزم أن يكون كلامه غير مطابق للواقع و نعوذ باللّه من ذلك.
و هذا كلّه بعد الغضّ عن صحّة الرّواية و عن تصحيف العامة فيها و إلّا فقد قدّمنا هذه الرّواية من الاحتجاج في التّنبيه الثّاني من تنبيهات الكلام الثالث عشر و فيها أنّهما قالا: يا رسول اللّه فهل استخلفت أحدا قال: ما خليفتي فيكم إلّا خاصف النّعل فمرّا على عليّ و هو يخصف نعل رسول اللّه، و عليه فالرّواية ناصّة على خلافته من هذه الجهة أيضا.
و تاسعا ما زعمه الشّارح من جواز كون المصلحة في اختيار الامّة لأنفسهم من شاءوا و ترك النبيّ لهم فآرائهم فاسد جدا، إذ قد أثبتنا في المقدمة الثّانية من مقدّمات الخطبة الشّقشقيّة وجوب عصمة الامام، و العصمة ملكة خفيّة لا يمكن أن يبلغها الجهّال و الضّلال و يدركوها بأوهامهم فيقيموا إماما بآرائهم.
و قد مرّ في شرح الخطبة الثّانية إبطال الرّضا عليه السّلام لهذا الزّعم الفاسد و الرّأى الكاسد حيث قدّمنا هناك منه رواية شريفة في معرفة شأن الامام و قوله عليه السّلام فيها: إنّ الامامة أجلّ قدرا و أعظم شأنا و أعلا مكانا و أمنع جانبا و أبعد غورا من أن يبلغها النّاس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم إلى آخر ما قاله، و فيه كفاية لمن له علم و دراية هذا.
و قد مرّ في شرح الكلام الثالث عشر بعض مطاعن عايشة و شطر من الكلام فيها فليراجع ثمّة
|