فليعمل العامل منكم في أيّام مهله قبل إرهاق أجله، و في فراغه قبل أوان شغله، و في متنفسّه قبل أن يؤخذ بكظمه، و ليمهّد لنفسه و قدمه، و ليتزوّد من دار ظغنه لدار إقامته. فاللّه اللّه أيّها النّاس فيما استحفظكم من كتابه، و استودعكم من حقوقه، فإنّ اللّه لم يخلقكم عبثا، و لم يترككم سدى، و لم يدعكم في جهالة و لا عمّى، قد سمّى آثاركم، و علم أعمالكم، و كتب آجالكم و أنزل عليكم الكتاب تبيانا، و عمّر فيكم نبيّه أزمانا، حتّى أكمل له و لكم فيما أنزل من كتابه دينه الّذي رضي لنفسه، و أنهى إليكم على لسانه محابّه من الأعمال و مكارهه، و نواهيه و أوامره، فألقى إليكم المعذرة، و اتّخذ عليكم الحجّة، و قدّم إليكم بالوعيد، و أنذركم بين يدي عذاب شديد، فاستدركوا بقيّة أيّامكم، و اصبروا لها أنفسكم، فإنّها قليل في كثير الأيّام الّتي تكون منكم «فيها خ» الغفلة، و التّشاغل عن الموعظة، و لا ترخّصوا لأنفسكم، فتذهب بكم الرّخص فيها مذاهب الظّلمة، و لا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعصية.
اللغه
(المهل) محركة المهلة و (الارهاق) الاعجال و (الكظم) محركة مخرج النفس و (الظعن) الارتحال و (الانهاء) الاعلام و الابلاغ و (الرّخصة) التّسهيل في الأمر و الجمع رخص كغرفة و غرف و (الادهان) و المداهنة اظهار خلاف ما تضمر و الغشّ.
الاعراب
الفاء في قوله: فليعمل فصيحة، فاللّه اللّه منصوب على الاغراء أى فاتقوا اللّه، و تكرير اللّفظ نيابة عن الفعل المقدّر، و تبيانا منصوب على الحالية، و ازمانا على الظرفية، و الباء في قوله بالوعيد زايدة، و بقيّة أيّامكم منصوب على الظرف، و اصبروا لها اللّام بمعنى على بدليل قوله: فما أصبرهم على النّار، و قوله فانّها قليل أى شي ء قليل فحذف الموصوف كما حذف في قوله تعالى: وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً.
أى قبيلا رفيقا
المعنى
ثمّ إنّه عليه السّلام لمّا أشار إلى أنّه سبحانه عالم بما فى الصّدور و غالب على كلّ مقدور و كان ذلك مقتضيا لانجذاب الخلق إليه ليفوزوا بما لديه علما منهم بأنّه سبحانه طالب كلّ راغب و مدرك كلّ هارب أمر بعد ذلك بالطاعات و حذّر عن الخطيئات فقال: (فليعمل العامل منكم في أيّام مهله قبل إرهاق أجله) و هو أمر بالمبادرة إلى العمل قبل حلول الأجل، لأنّ الموت إذا حلّ ارتفع التّكليف و بطل، فليبادر في أيّام المهل قبل أن يحلّ الموت و ينزل و قبل أن يحول بينه و بين العمل.
(و في فراغه) من شدايد الأهوال (قبل أوان شغله) بفجايع الآجال (و في متنفّسه) أى سعة نفسه و خلاقه (قبل أن يؤخذ بكظمه) و خناقه (و ليمهّد لنفسه و قدمه) قبل أن لا ينفعه ندمه (و ليتزوّد من دار ظعنه) و رحلته (لدار إقامته) و محلّ فاقته، و إنّما أمر بذلك لأنّ سفر الآخرة مهول و السّبيل طويل و الخطر جليل فمن لم يمهّد لنفسه زادا يتقوّى به و لا لقدمه محلا يضعها عليه مع حزونة الطّريق و خشونته صعب له الوصول إلى المحلّ بل تاه في المهامه و ضلّ.
(فاللّه اللَّه عباد اللَّه فيما استحفظكم من كتابه) و طلب منكم تدبّر ما فيه من تكليفه و خطابه (و استودعكم من حقوقه) المؤدّية إلى ثوابه و عقابه (فانّ اللَّه سبحانه لم يخلقكم عبثا) لعبا (و لم يترككم سدى) هملا كالابل الرّتاع و الجمل الرّعاع، و انّما خلقكم على وجه الحكمة و الصّواب و جعلكم عاقلا قابلا للتّكليف و الخطاب لتستفيدوا محاسن الآداب، و تنافسوا في المكارم، و تسارعوا في المغانم و تحصّلوا المعارف و الطّاعات، و تنتهوا عن المعاصي و السّيئات.
فانه قد نصب لكم أعلام الهدى (و لم يدعكم في جهالة و لا عمى) فمن خبط بعد ذلك و طغى فقد ضلّ و غوى، و من أطاع فاتّقى فلسوف يعطيه ما يرضى و (قد سمّى آثاركم) خيرها و شرّها و رفع أخباركم نفعها و ضرّها (و علم أعمالكم) صغيرها و كبيرها (و كتب آجالكم) طويلها و قصيرها (و أنزل عليكم الكتاب تبيانا) و برهانا (و عمّر فيكم نبيّه) صلّى اللَّه عليه و آله آونة و (أزمانا) لانتظام معاشكم و اصلاح معادكم و اقامة للحجّة عليكم لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ».
(حتّى أكمل له صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و لكم فيما أنزل من كتابه دينه الّذي رضى لنفسه) و أتمّ عليكم نعمته الّتي اختارها له و لكم من اسلامه و شرعه كما قال عزّ من قائل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ.
(و أنهى إليكم) و أعلمكم (على لسانه) سلام اللَّه عليه و آله (محابّه من الأعمال) الحسنة (و مكارهه) من الأفعال القبيحة (و نواهيه) الموجبة للشّقاوة (و أوامره) المحصّلة للسعادة (فألقى إليكم المعذرة) أى العذر في عقوبتكم يوم القيامة حتّى لا يكون لكم الحجّة عليه بل يكون له الحجّة عليكم (و اتّخذ عليكم الحجّة) بما أنزله في كتابه لئلا تكونوا عن آياته في غفلة (و قدّم اليكم بالوعيد و أنذركم بين يدي عذاب شديد) أى قدّم إليكم الوعيد و خوّفكم أمام العذاب الشّديد ليكون الوعيد قبل حلول العقاب و الانذار قبل نزول العقاب، لأنّ العقاب من دون بيان قبيح و التأديب بعد التّكليف حسن و مليح كما قال تعالى شأنه: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.
فأرسل سبحانه رسله مبشّرين و منذرين و بعث رسوله بالكتاب المبين كيلا تقولوا يوم القيامة: إنّا كنّا عن هذا غافلين (فاستدركوا بقيّة أيّامكم و أصبروا لها أنفسكم) أى تداركوا ما أسلفتم من الذّنوب و الخطيئات فيما بقي لكم من الأوقات و احبسوا أنفسكم عليها بتحمّل مشاقّ الطاعات.
و في الحديث الصّبر صبران صبر على ما تكره و صبر عمّا تحبّ، فالصّبر الأوّل مقاومة النّفس للمكاره الواردة عليها و ثباتها و عدم انفعالها، و قد يسمّى سعة الصّدر و هو داخل تحت الشجاعة، و الصّبر الثاني مقاومة النّفس لقوّتها الشهوية و هو فضيلة داخلة تحت العفّة (فانّها قليل في كثير الأيام التي تكون منكم الغفلة و التشاغل عن الموعظة) يعني أنّ الأيام الباقية الّتي يمكن فيها الاستدراك و التدارك قليلة في جنب الأيام الّتي تكون فيها الغفلة و التّشاغل و هي كثيرة بالنسبة إليها.
و لعلّ الاتيان بلفظة تكون دون كانت للاشعار بأنّ غفلتهم ليست مختصّة بما مضى، بل ربما تكون فيما يأتي أيضا، و ذلك لما علم من حالهم أنّهم لا يستغرقون أوقاتهم الآتية بالتدارك و الطاعة فأمر عليه السّلام بالتدارك فيما هو آت إذ ما مضى قد فات فافهم.
(و لا ترخّصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرّخص فيها مذاهب الظلمة) أى مسالكها، و الظاهر أنّ المراد بالترخيص للنفوس المسامحة و المساهلة لها، فيكون المقصود بالنّهى المواظبة عليها و مجاهدتها.
روى الكلينيّ باسناده عن السّكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بعث سرية فلمّا رجعوا قال عليه السّلام: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر و بقي عليهم الجهاد الأكبر فقيل: يا رسول اللَّه ما الجهاد الأكبر قال: جهاد النّفس.
و في الوسايل عن الصّدوق باسناده عن شعيب العقرقوفي عن الصّادق عليه السّلام قال: من ملك نفسه إذا رغب و إذا رهب و إذا اشتهى و إذا غضب و إذا رضى حرّم اللَّه جسده على النّار.
و عن الكلينيّ عن عدّة من أصحابنا عن محمّد بن محمّد بن خالد رفعه قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام أقصر نفسك عمّا يضرّها من قبل أن تفارقك، واسع في فكاكها كما تسعى في طلب معيشتك فانّ نفسك رهينة بعملك، هذا.
و يحتمل أن يكون المراد به الترخيص في الشبهات المؤدّى إلى الاقتحام في الهلكات فيكون مساقه مساق ما وراه الصّدوق عنه عليه السّلام قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام خطب الناس فقال في كلام ذكره: حلال بيّن و حرام بيّن و شبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك، و المعاصي حمى اللَّه فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها.
و نظيره ما رواه في الوسائل عن الكراجكي في كتاب كنز الفوايد مسندا عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: قال جدّي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أيّها النّاس حلالي حلال إلى يوم القيامة و حرامي حرام إلى يوم القيامة ألا و قد بيّنهما اللَّه عزّ و جلّ في الكتاب و بيّنتهما لكم في سنّتي و سيرتي، و بينهما شبهات من الشّيطان و بدع بعدي من تركها صلح له أمر دينه و صلحت له مروّته و عرضه، و من تلبّس بها و وقع فيها و اتّبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى، و من رعى ماشيته قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعى ها في الحمى، ألا و إنّ لكلّ ملك حمى ألا و إنّ حمى اللَّه عزّ و جلّ محارمه فتوقوا حمى اللَّه و محارمه، الحديث.
(و لا تداهنوا فيهجم بكم الادهان على المعصية) و المراد بالمداهنة إمّا المساهلة للنفس فيكون هذه الجملة تأكيدا للجملة السّابقة، و إمّا ترك المناصحة و الصّدق و إظهار خلاف ما تضمر أعني النفاق و هو الأظهر.
و منه الحديث القدسي لعيسى عليه السّلام قال لمن تمرّد علىّ بالعصيان و عمل بالادهان ليتوقّع عقوبتي.
و مثله في حديث الباقر عليه السّلام قال: أوحى اللَّه عزّ و جلّ إلى شعيب النبيّ عليه السّلام انّى معذّب من قومك مأئة ألف أربعين ألفا من شرارهم، و ستّين ألفا من خيارهم فقال: يا ربّ هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار فأوحى إليه داهنوا أهل المعاصي و لم يغضبوا لغضبي.
|