عباد اللّه إنّ أنصح النّاس لنفسه أطوعهم لربّه، و إنّ أغشّهم لنفسه أعصاهم لربّه، و المغبون من غبن نفسه، و المغبوط من سلم له دينه، و السّعيد من وعظ بغيره، و الشّقيّ من انخدع لهواه، و اعلموا أنّ يسير الرّياء شرك، و مجالسة أهل الهوى منسأة للإيمان، و محضرة للشّيطان جانبوا الكذب فإنّه مجانب للإيمان، الصّادق على شفا منجاة و كرامة، و الكاذب على شرف مهواة و مهانة، و لا تحاسدوا فإنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النّار الحطب، و لا تباغضوا فإنّها الحالقة، و اعلموا أنّ الأمل يسهى العقل، و ينسى الذّكر، فأكذبوا الأمل فإنّه غرور، و صاحبه مغرور.
اللغه
(المنساة) و (المحضرة) محلّ النسيان و الحضور، و التاء فيهما للتكثير كما يقال أرض مسبعة أى كثير فيها السّباع و (الشفا) طرف كلّ شي ء و (الشرف) محركة المكان العالى و (المهواة) محلّ السقوط و (المهانة) الذلة و الحقارة و (الحالقة) الخصلة التي فيها حلق اى شؤم قال في القاموس: و الحالق المشئوم كالحالقة فالتاء للمبالغة و في القاموس أيضا الحالقة قطيعة الرّحم و التي تحلق رأسها في المصيبة، قال شارح القاموس و منه الحديث دبّ اليكم داء الامم البغضاء الحالقة، و هى قطيعة الرّحم انتهى.
و أمّا تفسير الحالقة بالمستأصلة للشعر كما في شرح المعتزلي و البحراني فلم أجده في كتب اللّغة و كذلك لم أجد تفسير الحالق بما يحلق به الشّعر بل المستفاد من القاموس خلافه حيث ذكر للحالق معاني و لم يذكر ذلك فيها، و قال: المحلق كمنبر الموسى فيفهم منه أن ما يحلق به الشعر و يستأصل به على وزن مفعل لا على وزن الفاعل و الفاعلة.
الاعراب
نفسه بالنّصب مفعول غبن، و دينه بالرفع فاعل سلم.
المعنى
(عباد اللَّه إنّ أنصح النّاس لنفسه أطوعهم لربّه) و ذلك لأنّه لما كان مقصود النّاصح بنصحه ايصال المنفعة إلى المنتصح و كان أعظم المنافع و أجلّها هو السّعادة الأبدية و العناية السّرمدية المستفادة من طاعة الحضرة الرّبوبيّة، لا جرم كان أنصح النّاس لنفسه أكثرهم طاعة لربّه.
(و إنّ أغشّ النّاس لنفسه أعصاهم لربّه) و الغشّ خلاف النّصح و هو عبارة عن عدم الخلوص و عن اظهار خلاف ما يضمر، و لما كان غرض الغاشّ من غشّه ايصال الضّرر إلى المستغشّ و كان أعظم المضارّ هو الشّقاوة الأبديّة و العقوبة الدّائمة الناشية من عصيان الحضرة الالهيّة، لا جرم كان أغشّ النّاس لنفسه أكثرهم معصية لربّه.
و في هاتين الجملتين من الأمر بالطاعة و التحذير عن المعصية ما لا يخفى، إذ أحبّ الأشياء إلى الانسان نفس الانسان فهو دائما طالب لمحابّها و منافعها.
هارب عن مضارّها و مكارهها، فيلزم له الاتيان بالطّاعة و الحذر عن المعصية لكون الاولى جالبة للمحبوب و الأخرى كاسبة للمكروه.
(و المغبون من غبن نفسه) أصل الغبن هو الخداع فالغابن خادع و المغبون مخدوع و الغبن في البيع هو بيع الكثير بالقليل، و لمّا كانت الشّهوات الدّنيوية و اللّذايذ العاجلة زهيدة قليلة في جنب الثّمرات الأخرويّة و المنافع الآجلة، و كان المشتغل باللّذات الدّنية و الصّارف عمره في الشّهوات الخسيسة قد فوّت على نفسه المنافع الكثيرة و النّعم الخطيرة، فكأنّه قد باع الكثير بالقليل و فوّت على نفسه الخطير بالحقير، لا جرم كان هو غابنا لنفسه و خادعا لها حيث بخسها ما تستحقّه من ثواب اللَّه و رضوانه، و منه قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ.
قال الطبرسي في تفسيره: هو تفاعل من الغبن و هو أخذ شرّ و ترك خير أو أخذ خير و ترك شرّ فالمؤمن ترك حظه من الدّنيا و أخذ حظه من الآخرة فترك ما هو شرّ له و أخذ ما هو خير له فكان غابنا، و الكافر ترك حظّه من الآخرة و أخذ حظّه من الدّنيا فترك الخير و أخذ الشرّ فيكون مغبونا، فيظهر في ذلك اليوم الغابن و المغبون هذا.
و لما كان السعادات الاخرويّة أنفس متاع لا متاع فوقه، و الغبن فيها أعظم غبن لا غبن مثلّه، لذلك حصر عليه السّلام المغبون فيمن غبن في ذلك و قال: المغبون من غبن نفسه على طريق المبالغة، و مثله قوله عليه السّلام (و المغبوط من سلم له دينه) فان سلامة الدّين لما كانت أعظم نعمة لا نعمة فوقها كان المنعم بذلك أحقّ بأن يغبط و يتمنّي مثل ماله من غير أن تريد زواله، و بهذا القيد يفترق الغبطة من الحسد حسبما ستعرف.
(و السعيد من وعظ بغيره) أى السّعيد في الآخرة من لاحظ حال الغير فاتّعظ به بأن ينظر إلى حال الصّالحين و ما لهم و ما أعدّ اللَّه لهم و بشّرهم به في كتابه الكريم من الجنان و الغلمان و الحور العين و الشراب من الكوثر و التّسنيم فيحذو حذوهم و يسلك مسالكهم و يلاحظ مصير المجرمين و مقرّهم و ما هيّأ اللَّه لهم و أنذهم به من الجحيم و ظلّ من يحموم و شراب من الزّقوم و الحميم فيعدل عن جادّتهم و يتنحّى عن قدّتهم.
(و الشّقىّ من انخدع لهواه) و غروره كما قال سبحانه: وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» و قال أيضا: وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي الخداع الذي لا حقيقة له و هو المتاع الرّدي الذي يدلّس به على طالبه حتّى يشتريه ثمّ يتبيّن له ردائته و الشّيطان هو المدلّس (و اعلموا أنّ يسير الرّيا سرك) فكيف بكثيره كما مضى تفصيلا في شرح الخطبة الثالثة و العشرين بما لا مزيد عليه (و مجالسة أهل الهوى منساة للايمان و محضرة للشّيطان) أراد بمجالسة أهل الهوى مجالسة أهل المعاصي و قد مضى بعض الأخبار النّاهية عنها في شرح كلامه الثالث عشر.
و أقول هنا: إنّ كون مجالسة أهل المعصية و مخالطتهم موجبة لنسيان الايمان و لحضور الشّيطان واضح، لأنّ الفساق باقبالهم إلى اللّعب و اللّهو و الفسق و الفجور و السيّئآت بما فيهم من دواعي الهوى و الشّهوات يسوّد ألواح خاطرهم و يرين وجه قلوبهم فيغفلون بذلك عن ذكر الحقّ و تذكّر الآخرة و يزيد الغفلة شيئا فشيئا و يشتدّ فيخرج نور الايمان من قلوبهم و يضمحلّ و يمحو و يحضر الشيطان في مجالسهم لاغوائهم و إضلالهم، فمن جالس معهم و خالطهم يكون المجالسة و المخالطة لا محالة مؤثّرة فيه، إذ المرء على دين خليله و قرينه فيقتدى بهم و يحذو حذوهم و يعمل عملهم فيكون ناسي الايمان و قرين الشّيطان مثلهم.
و يدلّ على ذلك الأخبار المستفيضة بل المتواترة ففي الوسائل عن الكلينيّ مسندا عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام في حديث قال: ما اجتمع ثلاثة من الجاحدين إلّا حضرهم عشرة أضعافهم من الشّياطين، فان تكلّموا تكلّم الشّياطين بنحو كلامهم، و إذا ضحكوا ضحكوا معهم، فاذا نالوا من أولياء اللَّه نالوا معهم، فمن ابتلى من المؤمنين بهم فاذا خاضوا في ذلك فليقم و لا يكن شرك شيطان و لا جليسه، فانّ غضب اللَّه لا يقوم له شي ء و لعنته لا يردّها شي ء ثمّ قال: فان لم يستطع فلينكر بقلبه و ليقم و لو حلب شاة أو فواق ناقة.
و عن عمرو بن يزيد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنّه قال: لا تصحبوا أهل البدع و لا تجالسوهم فتصيروا عند النّاس كواحد منهم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: المرء على دين خليله و قرينه.
و عن أبي حمزة عن عليّ بن الحسين عليه السّلام في حديث طويل إيّاكم و صحبة العاصين و معونة الظّالمين و مجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم و تباعدوا من ساحتهم.
و فيه من علل الشرائع مسندا عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عن أبيه عليه السّلام قال: قال عليّ بن الحسين عليه السّلام ليس لك أن تقعد مع من شئت لأنّ اللَّه تبارك و تعالى يقول: وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الحديث.
و من كتاب صفات الشيعة معنعنا عن محمّد بن قيس عن أبي جعفر عن آبائه عن عليّ سلام اللَّه عليه و عليهم قال: مجالسة الأشرار تورث سوء الظّن بالأخيار، و مجالسة الأخيار تلحق الأشرار بالأخيار، و مجالسة الفجّار للأبرار تلحق الفجّار بالأبرار فمن اشتبه عليكم أمره و لم تعرفوا دينه فانظروا إلى خلطائه، فان كانوا أهل دين اللَّه فهو على دين اللَّه، و إن لم يكن على دين اللَّه فلا حظّ لهم في دين اللَّه، إنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم كان يقول: من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يواخينّ كافرا و لا يخالطنّ فاجرا، و من آخى كافرا أو خالط فاجرا كان فاجرا كافرا و لنعم ما قيل في هذا المعنى:
- عن المرء لا تسأل و سل عن قرينهفكلّ قرين بالمقارن يقتدي
و من مجالس الشّيخ حسن ابن شيخنا الطّوسي قدّس اللَّه رمسهما مسندا عن أبي الخير قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: أربعة مفسدة للقلوب: الخلوة بالنّساء، و الاستمتاع منهنّ، و الأخذ برأيهنّ، و مجالسة الموتى فقيل: يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و ما مجالسة الموتى قال: كلّ ضالّ عن الايمان و جائر «حائر ظ» عن الأحكام، و الأخبار في هذا المعنى كثيرة و لا حاجة إلى الزّيادة.
ثمّ أمر بمجانبة الكذب بقوله: (جانبوا الكذب) و قد مرّ الكلام في قبحه عقلا و شرعا في شرح كلامه الثالث و الثمانين و يأتي تفصيل أقسامه في التذنيب الآتي، و علّل عليه السّلام قبحه هنا بقوله: (فانّه مجانب للايمان) و أراد عليه السّلام بذلك أنّ كلّا من الكذب و الايمان مجانب من الآخر و أن بينهما تباعدا و تجانبا.
و ذلك على القول بكون الايمان عبارة عن مجموع المعرفة و ما يتبعها من الأعمال الصّالحة واضح، لأنّ الصّدق على ذلك جزء للايمان و الكذب مضادّ له فيكون مضادّا للايمان، و أمّا على كونه عبارة عن نفس المعرفة فلأنّ الايمان من أعظم الفضايل المنجية و الكذب من أخس الرّذايل المهلكة و التباعد بين الفضيلة و الرّذيلة و الانجاء و الاهلاك أيضا ظاهر.
كما أشار إلى ذلك و أوضحه بقوله: (الصّادق على شفا منجاة و كرامة) أى على طرف من النجاة و الكرامة و مشارف عليهما أو على طرف من محلّ النّجاة و قريب منها يكاد أن يقع فيها و في الكرامة الدنيوية و الاخروية (و الكاذب على شرف مهواة و مهانة) أى على مكان عال من الهوى و الهوان أو مشارف لمحلّ السقوط و الذّلّة يكاد أن يسقط منها إلى الجحيم و يقع في العذاب الأليم قال الشّاعر:
- لا يكدب المرء إلّا من مهانتهأو عادة السّوء أو من قلّة الأدب
- لعفن جيفة كلب خير رايحةمن كذبة المرء في جدّ و في لعب
ثمّ نهى عن الحسد بقوله: (و لا تحاسدوا) و هو من أعظم الموبقات على ما ستعرف تفصيلا في التذنيب الآتي إنشاء اللَّه، و علّله بقوله (فانّ الحسد يأكل الايمان كما تأكل النّار الحطب) و هذا التعليل ممّا تظافرت الأخبار به عن النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أولاده المعصومين سلام اللَّه عليهم.
و قد اتّفق الأخبار ككلام علمائنا الأبرار على أنّ الحسد مضرّ بالنّفس و الجسد.
أمّا بالنّفس فقد قال الصّادق عليه السّلام: الحاسد مضرّ بنفسه قبل أن يضرّ بالمحسود كابليس لعنه اللَّه أورث بحسده له اللّعنة و لآدم عليه السّلام الاجتباء و الهدى و الرّفع إلى محلّ حقايق العهد و الاصطفاء، فكن محسودا و لا تكن حاسدا، فانّ ميزان الحاسد أبدا خفيف يثقل ميزان المحسود، و الرّزق مقسوم فما ذا ينفع الحسد الحاسد و ما ذا يضرّ المحسود الحسد و قال العلماء: إنّ الحسد يذهل نفس الحاسد و يغرق فكره بالاهتمام بأمر المحسود حتّى لا يبقى له فراغ بتحصيل المنافع العايدة إليها بل و يمحو ما حصلت لها من الملكات الخيريّة و الحسنات المنقوشة في جوهرها بطول تعوّد الحسد و تمادى اشتغال الفكر فيه و كثرة الحزن و الهمّ، لأنّ نعم اللَّه سبحانه على عباده غير معدودة، و فيوضاته غير متناهية، فاذا كان حسد الحاسد على الخلق بتلك الآلاء و النعم دام عليه الهمّ و الغمّ فيضيق وقته بل ينقطع عن اتيان الحسنات و يلقي نفسه في المهلكات و هو معنى قولهم عليهم السّلام: إنّه يأكل الايمان كما تأكل النّار الحطب، أى يستأصله و يفنيه و يبطله مثل استيصال النّار للحطب و إفنائها له.
و أمّا بالجسد فقد قال أمير المؤمنين عليه السّلام فيما يرويه السيّد «ره» في الكتاب: صحّة الجسد من قلّة الحسد.
و سرّه أنّ الحسود إذا دام عليه الحزن و الغمّ بتواتر الآلاء و النعم على المنعم أورث ذلك له طول السهر و تمادى الفكر و ضيق العيش و ضنك المعيشة و قلّة الراحة و مضيق الباحة، فينقطع عنه الابتهاج و يؤدّي ذلك إلى فساد المزاج.
ثمّ نهى عن العداوة و البغضاء بقوله (و لا تباغضوا فانّها الحالقة) أى البغضاء خصلة مشؤمة كما أنّ المحبة و الالفة ميمونة، أو أنّها موجبة لقطيعة الرّحم، و على تفسير الخالقة بما تحلق الشّعر و تستأصله من موسى و نحوه كما في شرحي المعتزلي و البحراني و إن لم أجده في كتب اللّغة فالكلام مبنيّ على الاستعارة، يعني أنها مستأصلة للخلق أو للدّين أو كليهما كما أنّ موسى مستأصلة للشّعر.
نعم يدلّ على تفسيرهما ما رواه الغزالي في كتاب إحياء العلوم في باب ذمّ الحسد عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال: و قال: دبّ إليكم داء الامم قبلكم الحسد و البغضاء و البغضة هي الحالقة لا أقول حالقة الشّعر و لكن حالقة الدّين و الذي نفس محمّد بيده لا تدخلون الجنّة حتّى تؤمنوا، و لن تؤمنوا حتّى تحابّوا ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم أفشوا السّلام بينكم.
و مثله في الكافي باسناده عن مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في حديث: ألا إنّ في التباغض الحالقة لا أعنى حالقه الشّعر و لكن حالقة الدّين.
و كيف كان فيدلّ على كراهة هذه الصّفة و شؤمها و إيجابها للقطيعة و لاستيصال النفوس و الدّين و الايمان أنّ نوع الانسان مدنيّ بالطّبع يحتاج في انتظام أمر معاشه و معاده إلى الاجتماع و الايتلاف و التعاون و التظافر، و كان أقوى أسباب الاجتماع و التعاون هو المودّة و المحبّة و المؤاخاة، و لذلك آخا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله بين الأصحاب و حثّ على الجمعة و الجماعة لتصفو الالفة و تخلص المحبّة، و نهى عن التباغض لما يستلزمه من التقاطع و عدم التعاون و تسلّط أيادي الحاسدين عليهم و تحكم آراء المعاندين و أهوائهم فيهم، بل ربما ينجرّ إلى حسد بعضهم بعضا و بغى بعضهم على بعض، فلا تسلم لهم نعمة و لا تصفو لهم لذّة، و لا يكون لهم فراغ العبادة، بل يكون بذلك بوارهم و هلاكهم في الدّنيا و الآخرة.
و لذلك ورد في غير واحد من الأخبار النّهي عنها و الحثّ على التّحابّ و الالفة.
مثل ما رواه الغزالي قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: سيصيب امّتي داء الامم، قالوا: و ما داء الامم قال عليه السّلام: الأشر و البطر و التكاثر و التّنافس في الدّنيا و التباعد و التحاسد حتّى يكون البغى ثمّ الهرج.
و في الكافي باسناده عن مالك بن أعين الجهني عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أدخل اللَّه عزّ و جلّ يده بين أيديهما و أقبل بوجهه على أشدّهما حبّا لصاحبه، فاذا أقبل اللَّه بوجهه عليهما تحاتت عنهما الذّنوب كما يتحات الورق من الشّجر.
و عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: من زار أخاه في بيته قال اللَّه عزّ و جلّ: أنت ضيفي و زائري علىّ قراك و قد أوجبت لك الجنّة بحبّك إيّاه.
و عن عدّة من أصحابنا عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: المؤمن مألوف لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف.
و عن حبيب الخثعمي عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فاضلكم أحسنكم أخلاقا الموطئون اكنافا الّذين يألفون و يؤلفون و توطأ رحالهم.
و عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: المتحابّون في اللَّه يوم القيامة على منابر من نور قد أضاء نور وجوههم و نور أجسادهم و نور منابرهم كلّ شي ء حتى يعرفوا به فيقال: هولاء المتحابّون في اللَّه.
و عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: إنّ المسلمين يلتقيان فأفضلهما أشدّهما حبّا لصاحبه.
و عن أبي عبد الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: المتحابّون في اللَّه يوم القيامة على أرض زبرجدة خضراء في ظلّ عرشه عن يمينه و كلتا يديه يمين، وجوههم أشدّ بياضا و أضوء من الشّمس الطالعة، يغبطهم بمنزلتهم كلّ ملك مقرّب و كلّ نبيّ مرسل يقول النّاس: من هؤلاء فيقال: هؤلاء المتحابّون في اللَّه.
و عن أبي حمزة الثمالي عن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال: إذا جمع اللَّه الأوّلين و الآخرين فنادى مناد يسمع النّاس فيقول: أين المتحابّون في اللَّه قال: فيقوم عنق من النّاس فيقال لهم: اذهبوا إلى الجنّة بغير حساب، قال: فتلقّيهم الملائكة فيقولون: إلى أين فيقولون: إلى الجنّة بغير حساب، قال: فيقولون: فأىّ ضرب أنتم من النّاس فيقولون: نحن المتحابّون في اللَّه، قال: فيقولون: و أىّ شي ء كانت أعمالكم قالوا: كنا نحبّ في اللَّه و نبغض في اللَّه قال عليه السّلام: فيقولون: نعم أجر العاملين.
و عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيرا فانظر إلى قلبك، فان كان يحبّ أهل طاعة اللَّه و يبغض أهل معصيته ففيك خير و اللَّه يحبّك، و إذا كان يبغض أهل طاعة اللَّه و يحبّ أهل معصيته فليس فيك خير و اللَّه يبغضك و المرء مع من أحبّ، هذا.
و بهذه الأخبار يعلم أنّ المقصود بالحبّ و البعض في الأخبار المطلقة الآمرة بالأوّل و الناهية عن الثّاني هو حبّ المؤمن و بغضه، فيجب تقييد اطلاقها بذلك و إلّا فقد علمت أنّ بغض المنافق و الكافر و العاصي مطلوب كحبّ المؤمن و بغضه منهىّ عنه كحبّهم، فالمدار في الحبّ و البغض على ما كان للّه و في اللَّه.
ثمّ إنّه نبّه على مفاسد طول الأمل و نهى عنه بقوله (و اعلموا أنّ) طول (الأمل) في الدّنيا (يسهى العقل) و يغفله عمّا يجذبه إلى اللَّه (و ينسى الذكر) أى يوجب نسيان ذكر الموت و الآخرة و ما هو نافع فيها.
و ذلك لأنّ طويل الأمل لافتتانه بالدّنيا و لذّاتها و شهواتها و حبّه لها و تمنّيه طول البقاء فيها يكون أوقاته مستغرقة في ذكرها و حديثها، و همّته مصروفة إلى تهيّة مقتضيات هواه، و نظره مقصورا في تحصيل مآربه و مناه، فيوجب ذلك غفلة العقل و نسيان الذكر إذ من أحبّ شيئا كره الفكر فيما يضادّه و يعانده و مضادّة العقل للهوى و ذكر الآخرة لذكر الدّنيا واضح لاغبار عليها كما قد مضى مفصّلا في شرح الخطبة الثّانية و الأربعين.
(فاكذبوا الأمل) بكثرة ذكر الموت و دوام اخطاره بالبال في الأيام و اللّيال، و ملاحظة أهوال المعاد و شدايد يوم التّناد، فانّ ذلك يوجب ردّ الأمل و تكذيبه.
و إنّما سمّى ردّ الأمل تكذيبا له، لأنّ النفس حال تمنّيها للمأمول تحكم حكما و هميّا بنيله و إدراكه، فاذا رجعت إلى صرف العقل و جوّزت بحكمه إمكان نزول الأجل قبل بلوغ الأمل كان تجويزها ذلك مكذّبا لما جزم به الوهم من الأحكام ورادّا له عن ذلك.
و علّل تكذيبه بقوله (فانّه غرور و صاحبه مغرور) يعني أنّ الأمل موجب للغرور و الغفلة و لا أصل له و لا حقيقة إذ ربّ شي ء تأمله النّفس تنقطع دونه فهو في الحقيقة و نفس الأمر: كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ.
تذنيبان
الاول فى الكذب
و قد مرّ شطر من الكلام في قبحه عقلا و شرعا مع طائفة من الأخبار الواردة فيه في شرح الكلام الثالث و الثمانين، و أردنا هنا اشباع الكلام فيه و في تفصيل أقسامه و أحكامه.
فأقول: إنّ الكذب من قبايح الذّنوب و فواحش العيوب و يترتّب عليه من المفاسد الدّينية و الدّنيويّة ما لا يحصى، مثل كونه خرّابا للايمان، و جلّا بالسخط الرّحمن، و موجبا لاهراق الدّماء و انتهاب الأموال، و باعثا على تحليل الفرج الحرام و تحريم فرج الحلال.
إذ من دنائة الكذب أنّه يردّ شهادة صاحبه و إن كان صادقا، و من شرافة الصّدق أنّه يقبل شهادة المتّصف به و إن كان كاذبا، و منشأ الكذب دنائة الهمّة و قلّة المروّة و غلبة الحرص و الخسّة، و منشأ الصّدق ارتفاع الهمّة و غلبة المروّة و كمال الفتوّة و الكذب شعار خلق، و مورد رنق، و أدب سيّي ء، و خلق رديّ، و عادة خسيسة، و صفة خبيثة، و قلّ ما يجلب به الالفة، و قلّ من ألفه إلّا أتلفه، و الصّدق لباس بهيّ و جوهر درّي و صفة و صيفة، و حالة شريفة، جالبة للالفة، كاسبة للمودّة، خدمته القلوب بالمحبّة، لحظته العيون بالمهابة.
و كفى لقبحه شرعا لو لم يرد به خبر إلّا قول أمير المؤمنين في رواية الكافي عن أصبغ بن نباتة عنه عليه السّلام لا يجد عبد طعم الايمان حتى يترك الكذب هزله و جدله «جدّه ظ» و كيف بذلك و الأخبار الواردة فيه فوق حدّ الاستفاضة كما مضى سابقا.
و يزيد على ساير المعاصي بأنّ أصحاب الكباير ربّما يلحقهم الحياء و الخجل من سوء عملهم، و يرجعون عن عملهم القبيح و يتوبون عنه، و أمّا الكاذب فلا يستحيى من كذبه لكونه كثير الاستعمال و مأنوسا مرفوع القبح عن نظره، و من تعوّد نفسه بذلك قلّ أن يرتدع عنه.
و من هنا قيل رأيت شريب خمر نزع، و لصّا أقلع، و صاحب فواحش ارتدع و ما رأيت كاذبا رجع.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ الكذب على قسمين: شرعىّ و غير شرعيّ، و أعنى بالشّرعي ما يجوز في الشّرع جوازا بالمعنى الأعم، و بالغير الشرعي خلافه و أعني به الحرام و
هو على قسمين جليّ و خفيّ
أما الجلى فهو على قسمين.
أحدهما الكذب في حقّ النّاس
أو في حقّ نفسه أو غيرهما، بأن يقول: وعدني فلان كذا مع أنّه لم يعده بشي ء أو يقول أعطيت فلانا كذا مع أنّه لم يعطه شيئا، أو أنّي عالم بكذا مع أنّه جاهل به، أو نحو ذلك.
و محصّله أن يخبر عن نفسه أو عن الغير كائنا ما كان بخبر مخالف للواقع، و أكثر الأخبار الواردة فيه محمول على هذا القسم و يزيد شناعته بأن يكذب ثمّ يروّج كذبه بالحلف باللّه، و هو الّذي بارز اللَّه بالمحاربة و يمينه هذه تذر الدّيار بلاقع من أهلها و تثقل الرّحم و توجب انقطاع النّسل و تدخل النّار و تبعث غضب الجبّار كما ورد في غير واحد من الأخبار، و قد عقد في الوسائل بابا عليها.
و ثانيهما الكذب على اللَّه و رسوله و الأئمّة
قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ.
و من هذا القسم الأخبار الموضوع خطبه 86 نهج البلاغه بخش 3ة و الأحاديث المجعولة في زمن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و بعده في زمن بني اميّة و بني العبّاس لعنهم اللَّه.
قال أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية الكافي الطّويلة: و قد كذب على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله في عهده حتّى قام خطيبا فقال: أيّها النّاس قد كثرت علىّ الكذّابة فمن كذب علىّ متعمّدا فليتبوّء مقعده من نار، هذا.
و أوّل من فتح باب هذا الكذب بعد النبيّ هم المتخلّفون الثلاثة حيث إنّهم قالوا إنّ النبيّ مات و لم يوص في الخلافة بشي ء فاغتصبوا بذلك الخلافة و رووا حديثا مجعولا من النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فنهبوا حقّ فاطمة سلام اللَّه عليها و غصبوا فدك و لحقهم التابعون و حذوا حذوهم.
و من عجيب ما روى أنّ علم الهدى (قده) وقع بينه و بين علماء العامّة مناظرة فانجرّ الكلام إلى الأخبار التي وضعوها في فضايل مشايخهم قال (ره): إنّ هذه الأخبار كلّها موضوع خطبه 86 نهج البلاغه بخش 3ة فقالوا من يقدر أن يكذب على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله فقال لهم: قد ورد في الرواية عنه أنه صلّى اللَّه عليه و آله قال في حياته: ستكثر علىّ الكذّابة بعد موتى فمن كذب علىّ متعمّدا فليتبوء مقعده من النّار، فهذا الحديث إمّا صدق أو كذب و على التّقديرين يثبت المطلوب.
و كيف كان فأكثر من ابتلاء بهذا القسم من الكذب العلماء السّوء، و يلحق به ما اعتاده الناس في محاوراتهم من أنّهم يكذبون ثمّ يقولون: اللَّه و رسوله أعلم.
روى في الوسائل من الكافي باسناده عن وهب بن عبد ربّه عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: من قال: اللَّه يعلم فيما لا يعلم اهتزّ لذلك عرشه إعظاما له.
و عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: إذا قال العبد: علم اللَّه و كان كاذبا قال اللَّه: و ما وجدت أحدا تكذب عليه غيري.
و هذا القسم من الكذب أعنى الكذب على اللَّه و رسوله و الأئمّة صلوات اللَّه و سلامه عليهم ممّا ورد في الأخبار أنّه ينقض الوضوء و الصّوم.
أمّا نقضه الصّوم فهو المشهور بين علمائنا الأخيار.
و أمّا نقضه الوضوء فليس بذلك، و حملها الشّيخ قدّس اللَّه روحه على نقضه الفضل و الكمال و الوجه الذي يستحقّ به الثواب، و بعض من قال بإبطاله الصّوم ربّما عمّمه بكونه في الدّنيا و الدّين سواء كان في الأحكام أو في الفتاوى، و سواء أسنده إلى اللَّه و إليهم عليه السّلام أم لا، و سواء كان الإخبار بالقول أم بالكتابة أم الاشارة و التفصيل في كتب الفقه.
و أما الكذب الخفى
فهو أن تخبر عن نفسك أو تخاطب ربّك بما لا حقيقة له و لا أصل أو تقول شيئا و أنت تعمل بخلافه مثل أن تقول: أستغفر اللَّه و أتوب إليه فانّك تظهر التّوبة و أنت غير راجع عن الخطيئة و لا قالع عن المعصية.
و لذلك روى عن ربيع بن خثيم أنّه قال: لا تقل أستغفر اللَّه و أتوب إليه، فانه كذب بل قل أستغفر اللَّه و أسأله التّوبة.
أو تقوم بين يدي ربّك في كلّ يوم و ليلة و تقرء فاتحة الكتاب في صلواتك و أقلّه عشر مرّات و تقول لربّك الحمد و الثّناء لك أيّها المربّي لنا الرّحمن الرّحيم بنا المالك لأمورنا في يوم وفودنا عليك فنحن نخصّك بالعبادة لا نعبد سواك، فإنّا لو رجعنا إلى أنفسنا و أنصفنا نعرف أنّنا كاذب في ذلك المقال و خاطئ في تلك الدّعوى، و كيف نكون صادقا مع ما نحن عليه من إطاعة الشّيطان و عبادته و انقياد أمره و نهيه و انفاذ حكمه و العمل بما يريده، و من إطاعة النّفس الأمّارة و القيام بما تهويه و تشتهيه مضافا إلى الرّيا و الشّرك الّذي نخفيه.
و نعم ما قال ابن عبّاس في تفسير قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ.
إنّه تعالى نهاك عن الاثنين و أنت اتّخذت الألوف فما أقلّ حياؤك و قال تعالى: أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا.
فقد جعل سبحانه إرادة النّفس و امنيّاتها الباطلة إلها، و إذا كان هذه حالنا فكيف يصحّ منّا دعوى تخصيصه تعالى بالعبادة، و كيف نجترى ء على مواجهته بذلك الخطاب الكاذب مع علمه بما في الصّدور و الضّماير و إحاطته بالبواطن و السّراير، فكأنه ظننّا أنه سبحانه أعجز من جميع الالهة حتّى خصّصناه بالكذب.
و مثله قولنا: إيّاك نستعين، على طريق الحصر فانّا إذا رجعنا إلى وجداننا و لاحظنا حالنا عرفنا أنّا نستعين في أمورنا من كلّ من سواه سبحانه نعم إذا آيسنا من الخلق رجعنا إلى الخالق فكيف نخصّصه بالاستعانة و نطلب منه الاعانة و لو تأمّلنا في هذا الكذب الخفىّ وجدناه أضرّ بأحوالنا من الكذب الجليّ لمانعيّته من قبول الطّاعات و من التأهّل للقيام على بساط المناجاة، و إيراثه الحسرة و الندامة و ملامة النّفس اللوّامة يوم القيامة.
فوا حسرتاه على ما فرّطنا في جنب اللَّه، و و أطول كربتاه على ما استخففنا في عبادة اللَّه. أيّها النّفس الخاطئ و القلب الجاهل القاسي بأنّك لو واجهت أحدا من النّاس و قلت له: إنّى لا أتردّد إلّا إلى بيتك، و لا ثقة لي إلّا بك، و لا عون لي سواك، و لا رجاء لي غيرك، و لا صديق لي دونك، مع علمك بأنه يعلم أنّك تتردّد إلى كلّ أحد و تثق بكلّ أحد و تستعين من غيره أكثر من التردّد و الوثوق و الاستعانة منه، و لك أصدقاء كثيرون سواه، لاستحييت من عندك و كنت خجلا من هذا الكذب الذي واجهته به و تنفعل من ملاقاته و المراجعة إليه إلّا بعد زمان طويل و مدّة متطاولة و أنت هنا إذ كان أوّل النّهار قلت إيّاك نستعين، ثمّ إذا جاء الظّهر قلت مثل ذلك، و هكذا مع أنّك تعمل بين هذين القولين و فيهما و بعدهما بخلاف ما قلت و تستعين الخلق و تأملهم و ترجو منهم.
أفلا تعلم أنّ من توجّه بحاجته إلى الخلق أو جعله سبب نجحها فقد تعرّض للحرمان و استحقّ من عنده سبحانه الخسران و فوات الاحسان.
فان شئت أن تعرف ذلك بعين اليقين فانظر إلى موسى بن عمران فانّه توسّل بالفقر إلى الحقّ و قال: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ.
فقيّض اللَّه له شعيبا عليه السّلام حتّى دعاه و آواه و زوّجه بنته و أعطاه العصا و اليد البيضاء و بلغ أمره إلى ما بلغ.
و انظر إلى يوسف بن يعقوب كيف خاب حيث استعان من المخلوق.
وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.
روى في الكافي عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنه قرء في بعض الكتب انّ اللَّه تعالى يقول: و عزّتي و جلالي و مجدي و ارتفاعي على عرشي لاقطعنّ أمل كلّ مؤمّل من الناس أمل غيري باليأس، و لأكسونّه ثوب المذلّة عند النّاس، و لا نحينّه من قربى، و لابعدّنه من و صلي أيؤمّل غيري في الشّدايد و الشّدايد بيدي، و يرجو غيري و يقرع بالكفر باب غيري و بيدي مفاتيح الأبواب و هي مغلقة و بابي مفتوح لمن دعاني، فمن ذا الّذي أمّلني لنوائبه فقطعته دونها، و من ذا الّذي رجاني لعظيمة فقطعت رجائه منّي، جعلت آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي، و ملأت سماواتي ممّن لا يملّ من تسبيحي، و أمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني و بين عبادي، فلم يثقوا بقولي ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنّه لا يملك كشفها أحد غيري إلّا من بعد إذني، فمالي أراه لاهيا عنّي أعطيته بجودي ما لا يسألني ثمّ انتزعته عنه فلم يسألني ردّه و سأل غيري، أ فيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثمّ اسأل فلا أجيب سائلي أ بخيل أنا فيبخلني عبدي، أو ليس الجود و الكرم لي أو ليس العفو و الرحمة بيدى أو ليس أنا محلّ الآمال فمن يقطعها دوني أفلا يخشى المؤمّلون أن يؤمّلوا غيري فلو أنّ أهل سماواتي و أهل أرضي أمّلوا جميعا ثمّ اعطيت كلّ واحد منهم مثل ما أمّل الجميع ما انتقص من ملكي مثقال ذرّة، و كيف ينقص ملك أنا قيّمه فيا بؤسا للقانطين من رحمتي، و يا بؤسا لمن عصاني و لم يراقبني هذا.
و بقي الكلام في الكذب الشرعي و أعنى ما هو سايغ في الشرع المطّهر و تحقيقه يحتاج إلى تمهيد مقدّمة و هي: إنا قد حقّقنا في الأصول أنّ الأحكام الشّرعية تابعة للمصالح و المفاسد الواقعيّة و بيّنا هناك أنّ حكم الشّارع المقدّس بوجوب شي ء أو حرمته من جهة أنه أدرك فيه حسنا ملزما واقعيا فحكم بوجوبه، أو قبحا ملزما واقعيّا فحكم بحرمته، خلافا للأشاعرة القائلين بأنّ الحسن و القبح إنّما هو تابع للأمر و النّهى و بأنّ الصّلاة مثلا إنّما هي حسنة لتعلّق الأمر بها و الكذب قبيح لتعلّق النّهى عليه، و أنّه لو نهى الشارع عن الأولى و أمر بالثّاني لكان الأولى قبيحة و الثّاني حسنا، و قد حقّقنا بطلان هذا المذهب و فساد هذا القول في الأصول بما لا مزيد عليه.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ حرمة الكذب إنّما هي من أجل ما فيه من المفسدة الواقعيّة، كالضّرر على المخاطب أو غيره أو نحو ذلك ممّا قدّمنا، و أقلّ درجات تلك المفسدة هو إلقاء المخاطب في بيداء الجهالة و اعتقاده للشي ء على خلاف ما هو عليه، فتلك المفسدة فيه صارت مقتضية لحرمته.
فلو فرضنا أنّ هذه المفسدة الواقعيّة كانت متعارضة بجهة حسن و مصلحة في الظاهر متداركة بها تلك المفسدة كالكذب المتضمّن لانجاء نفس محترمة من القتل مثلا ارتفعت الحرمة قطعا، لانتفاء سببها.
و مثله المصلحة الواقعيّة الّتي في الصّدق، فانها اقتضت وجوبها، فلو فرضنا معارضتها لمفسدة ظاهريّة راجحة عليها كالصدق المتضمّن لقتل نبيّ مثلا تبدّل حكم الوجوب فيه بالحرمة فيكون الصدق حينئذ حراما.
ثم أقول: إنّ جهات المفسدة الواقعية في الكذب لو كانت مساوية لجهات المصلحة الظاهرية فيه كان الكذب حينئذ مباحا، لتساوي مقتضيات الحسن و القبح، و ذلك كالكذب في الوعد للأهل و الأولاد على ما سيأتي في الأخبار، و لو كانت جهة المفسدة راجحة فهو حينئذ باق على حرمته.
و لو كانت جهة المصلحة راجحة فامّا أن تكون ملزمة له فيكون حينئذ واجبا كالكذب و الخديعة في الحرب توصّلا إلى قتل الكافر الواجب و إمّا أن لا تكون ملزمة فيكون حينئذ مستحبّا كالكذب لاصلاح ذات البين.
و إذا ظهر لك ذلك فاعلم أنّه قد رخّص لنا أهل البيت الأطهار سلام اللَّه و صلواته عليهم ما تعاقب اللّيل و النّهار في بعض أقسام الكذب في أخبارهم المأثورة و لا بأس بالاشارة إليها.
فأقول: روى ثقة الاسلام الكلينيّ في الكافي عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد ابن عيسى عن أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: الكلام ثلاثة: صدق و كذب و إصلاح بين الناس، قال: قيل له: جعلت فداك ما الاصلاح بين النّاس قال: تسمع من الرّجل كلاما يبلغه فيخبث نفسه فتلقاه فتقول قد سمعت منّ فلان قال فيك من الخير كذا و كذا خلاف ما سمعت منه.
و عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن صفوان عن أبي مخلد السّراج عن عيسى بن حسان قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: كلّ كذب مسئول عنه صاحبه يوما إلّا كذبا في ثلاثة: رجل كايد في حربه فهو موضوع خطبه 86 نهج البلاغه بخش 3 عنه، و رجل أصلح بين اثنين يلقي هذا بغير ما يلقي به هذا يريد بذلك الاصلاح بينهما، و رجل وعد أهله شيئا و هو لا يريد أن يتمّ لهم.
بل المستفاد من الأخبار الأخر جواز الحلف باليمين الكاذبة لدفع ظلم الظّالم عن نفسه أو ماله أو نفس أخيه المؤمن أو ماله.
مثل ما رواه في الوسائل عن الصدوق باسناده عن ابن بكير عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: نمرّ بالمال على العشّار فيطلبون منّا أن نحلف لهم فيخلّون سبيلنا و لا يرضون منّا إلّا بذلك، قال عليه السّلام فاحلف لهم فهو أحلى «أحلّ خ» من التمر و الزّبد، قال: و قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: التّقية في كلّ ضرورة و صاحبها أعلم بها حين تنزل.
و عنه باسناده عن الحلبيّ أنه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام: عن الرّجل يحلف لصاحب العشور يحرز بذلك ماله، قال: نعم.
قال: و قال الصّادق عليه السّلام: اليمين على وجهين إلى أن قال: فأمّا الذي يوجر عليها الرّجل إذا حلف كاذبا و لم تلزمه الكافرة فهو أن يحلف الرّجل في خلاص امرء مسلم أو خلاص ماله من متعدّ يتعدّى عليه من لصٌ أو غيره.
و فيه عن الشّيخ باسناده عن السّكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: احلف باللّه كاذبا و نجّ أخاك من القتل.
إلى غيره مما رواه فيه و عقد عليه بابا، و اللّه الهادي و هو العاصم من هفوات الجنان و سقطات اللّسان.
الثاني فى الحسد
و هو من أعضل الدّاء و أكبر المعاصي و أفسدها للقلب و جرح لا يبرء، و الكلام فيه في مقامات:
المقام الاول فى حده
و قد عرّف بأنه انبعاث القوّة الشهوية إلى تمنّي مال الغير و حاله التي هو عليها و زوالها عن ذلك الغير، و هو مستلزم لحركة القوّة الغضبيّة و عرّفه الغزالي في احياء العلوم بأنّه كراهة النّعمة و حبّ زوالها من المنعم عليه، و يقابله الغبطة و هو أن لا تحبّ زوال النعمة و لا تكره وجودها و دوامها و لكن تشتهى لنفسك مثلها، و الثاني أعمّ من الأول لشموله ما لو أحبّ زوال النّعمة عن المنعم عليه و إن كان لا يتمنّاها لنفسه، و هو ناش عن غاية خبث الطّينة و سوء السّريرة و أشدّ مما لو أحبّ زوالها عنه و انتقالها إليه فالحدّ الثّاني أولى
الثاني في الآيات و الأخبار الواردة فيه
فأقول قال سبحانه: وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ.
فقد أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالاستعاذة من شرّ الحاسد بعد أن أمره بالاستعاذة من شرّ السّاحر فأنزله منزلته، و قال في معرض التوبيخ: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ و قال: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها».
فانّ مسائتهم من إصابة الحسنة و فرحهم باصابة السّيّئة دليل على حسدهم و قال: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ.
و في الكافي عن داود الرّقي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: اتّقوا اللّه و لا يحسد بعضكم بعضا إنّ عيسى بن مريم عليه السّلام كان من شرايعه السيح في البلاد فخرج في بعض سيحه و معه رجل من أصحابه قصير و كان كثير اللّزوم لعيسى عليه السّلام فلما انتهى عيسى إلى البحر قال: بسم اللّه، بصحّة يقين منه فمشى على ظهر الماء، فقال الرّجل القصير حين نظر إلى عيسى عليه السّلام جازه: بسم اللّه بصحّة يقين منه فمشى على الماء و لحق بعيسى عليه السّلام فدخل العجب بنفسه فقال: هذا عيسى عليه السّلام روح اللّه يمشي على الماء و أنا أمشى على الماء فما فضله علىّ قال: فرمس فى الماء فاستغاث بعيسى عليه السّلام فتناوله من الماء فأخرجه ثمّ قال عليه السّلام له: ما قلت يا قصير.
قال: قلت: هذا روح اللّه يمشى على الماء و أنا أمشى على الماء فدخلنى من ذلك عجب فقال له عيسى عليه السّلام: لقد وضعت نفسك في غير الموضع الذي وضعك اللّه فيه فمقتك اللّه على ما قلت فتب إلى اللّه عزّ و جلّ ممّا قلت قال عليه السّلام: فتاب الرّجل و عاد إلى مرتبته الّتي وضعه اللّه فيها فاتّقوا اللّه و لا يحسدنّ بعضكم بعضا.
و عن معاوية بن وهب قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام آفة الدّين الحسد و العجب و الفخر.
و عن داود الرقّي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وسلّم: قال اللّه تعالى لموسى بن عمران: لا تحسدنّ النّاس على ما آتيتهم من فضلي و لا تمدّنّ عينيك إلى ذلك و لا تتبعه نفسك فانّ الحاسد ساخط لنعمي صاد لقسمي الّذي قسمت بين عبادي و من كان كذلك فلست منه و ليس منّي.
و عن فضيل بن عياض عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ المؤمن يغبط و لا يحسد و المنافق يحسد و لا يغبط.
و عن محمّد بن مسلم قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ الرّجل ليأتي بأدنى بادرة فيكفر و إنّ الحسد ليأكل الايمان كما تأكل النّار الحطب.
و في الوسايل من المجالس مسندا عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه الصّادق عليه السّلام أصول الكفر ثلاثة: الحرص، و الاستكبار، و الحسد.
و في الأنوار النّعمانيّة للسيّد المحدّث الجزايري قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ستّة يدخلون النّار قبل الحساب بستّة: الأمراء بالجور، و العرب بالعصبيّة و الدّهاقين بالكبر، و التجار بالخيانة، و أهل الرّستاق بالجهالة، و العلماء بالحسد قال و في حديث آخر إنّ الحسد عشرة أجزاء منها تسعة بين العلماء و واحد في النّاس و لهم من ذلك الجزء الحظّ الأوفر، و روى ما رواه أولا الغزالي في احياء العلوم عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله مثله إلى غير هذه ممّا وردت فيه.
و قد استفيد منها و من الآيات السّابقة حرمته و كونه من أعظم الموبقات مضافا إلى اجماع علماء الاسلام عليه.
فان قلت: فكيف التّوفيق بين هذه الأدلّة و بين حديث رفع التسعة المعروف بين الفريقين، و المرويّ في الوسايل عن الصّدوق في التّوحيد و الخصال بسند صحيح عن حريز بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطاء، و النسيان، و ما اكرهوا عليه، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون و ما اضطرّو إليه، و الحسد، و الطيرة، و التّفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة، فانّ المراد برفع تلك الأمور إمّا رفع جميع آثارها التي منها المؤاخذة عليها، أو رفع خصوص المؤاخذة، و على التقديرين فيدلّ على رفع المؤاخذة على الحسد و عدم كونه معصية فينا في الأدلّة السابقة.
قلت: قد جمع بينهما شيخنا العلّامة المرتضى الأنصاري (قد) في الرّسائل بحمله على ما لم يظهر الحاسد أثر حسده بلسان أو غيره بجعل عدم النطق باللّسان قيدا له.
قال (ره): و يؤيّده تأخير الحسد عن الكلّ في مرفوعة الهندي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام المرويّة في أواخر أبواب الكفر و الايمان من أصول الكافي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: وضع عن أمّتي تسعة أشياء: الخطاء، و النسيان، و ما لا يعلمون و ما لا يطيقون، و ما اضطرّوا إليه، و ما استكرهوا عليه، و الطيرة، و الوسوسة في التفكّر في الخلق، و الحسد ما لم يظهر بلسان أويد الحديث.
قال (ره): و لعلّ الاقتصار في النبويّ الأوّل على قوله ما لم ينطق لكونه أدنى مراتب الاظهار.
قال: و روى ثلاثة لا يسلم منها أحد: الطيرة، و الحسد، و الظّن، قيل: فما نصنع قال: إذا تطيّرت فامض، و إذا حسدت فلا تبغ، و إذا ظننت فلا تحقّق، و البغى عبارة عن استعمال الحسد.
قال: و لأجل ذلك عدّ في الدّروس من الكبائر في باب الشّهادات إظهار الحسد لا نفسه، و في الشرائع إنّ الحسد معصية و كذا بغض المؤمن و التظاهر بذلك قادح في العدالة، ثمّ قال: و الانصاف أنّ في كثير من أخبار الحسد إشارة إلى ذلك انتهى كلامه رفع مقامه.
أقول: أمّا استشهاده بكلام صاحب الشّريع ففيه ما لا يخفى لصراحتها في كون نفس الحسد معصية، و كون التظاهر به قادحا في العدالة إنّما هو لأجل كونه طريقا إليه لا من حيث موضوع خطبه 86 نهج البلاغه بخش 3يّته فيه، و لعلّ ذلك أيضا مراد الشّهيد في الدّروس فانظر ما ذا ترى.
و أمّا ما قاله من أنّ في كثير من أخبار الحسد إشارة إلى ذلك فهو صحيح و من جملة تلك الأخبار، ما رواه في الوسائل من مجالس الشّيخ حسن ابن شيخنا الطوسي (ره) معنعنا عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عن أبيه عن جدّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم لأصحابه: ألا إنّه قد دبّ اليكم داء الامم من قبلكم و هو الحسد ليس بحالق الشعر لكنه حالق الدّين و ينجى فيه أن يكفّ الانسان يده و يخزن لسانه و لا يكون ذا غمر على أخيه المؤمن.
قال صاحب الوسائل بعد روايته: و تقدّم ما يدلّ على العفو عن الحسد الّذي لا يظهر أثره.
و فيه من الكافي باسناده عن حمزة بن حمران عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ثلاثة لم ينج منها نبيّ فمن دونه: التّفكّر في الوسوسة في الخلق، و الطيرة، و الحسد إلّا أنّ المؤمن لا يستعمل حسده هذا.
و قال شيخنا السيّد قدّس اللّه روحه في مجلس الدّرس: الأقرب حمل رفع المؤاخذة على الحسد في حديث رفع التّسعة على ما كان من قبيل الخطرات القلبيّة الزائلة بسرعة و حمل ما دلّ على حرمته و كونه من الكباير على ما عداه ممّا اشتدّ و تأكّد.
الثالث فى اسباب الحسد
و هي كثيرة و حصرها الغزالي في إحياء العلوم في سبعة: العداوة، و التعزّز و التكبّر، و التعجّب، و الخوف من فوت المقاصد المحبوبة، و حبّ الرياسة، و خبث النّفس.
أمّا العداوة و هى أشدّ الأسباب و معناها أن تكره النّعمة على غيرك لكونه عدوّا لك و كونك مبغضا له فانّ البغض إذا رسخ في النّفس يقتضي التشفّي و الانتقام و ربما يعجز المبغض عن أن يتشفى بنفسه فيتمنّى زوال النعمة من المبغوض و يكون زوالها منه موجبا لفرحه كما أنّه يفرح إذا ابتلى ببليّة أو أصابته مصيبة و يكون ذلك تشفّيا لخاطره، و قد وصف اللّه سبحانه الكفار بهذه الصّفة في قوله: وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ و قوله: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها.
و هذا القسم من الحسد ربما يفضى إلى القتال و الجدال و استغراق العمر في إزالة النعمة بالحيل و السّعاية و طلب أسباب زوالها على كلّ حال.
و أمّا التعزّز فهو أن يثقل عليه ترفّع غيره عليه فاذا أصاب بعض نظرائه و أمثاله ولاية أو علما أو مالا خاف من تكبّره عليه و هو يشقّ عليه ذلك و لا يسمح نفسه تحمّل ذلك فلا يرضى بكونه منعما عليه بتلك النّعمة حذرا من ذلك، و محصّله الخوف من تفاخر الغير عليه لا حبّ تفاخره على الغير و ربما يرضى بمساواته له.
و أمّا التّكبّر فهو أن يكون في طبعه أن يتكبّر على الغير و يترفّع عليه و يكون الغير منقادا له مطيعا لأمره و نهيه صاغرا عنده، فاذا نال نعمة خاف من عدم إطاعته و انقياده له و عدم إمكان ترفّعه عليه كما كان أو ترقّيه إلى مقام يترفّع هو عليه فيكون مطيعا بعد ما كان مطاعا، و متكبّرا عليه بعد ما كان متكبّرا، و من هذا الباب كان حسد كفّار قريش في حقّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا قالوا كيف يتقدّم علينا غلام يتيم و يكون رسولا علينا و نكون مطيعا له كما حكى اللَّه عنهم بقوله: وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ و أرادوا بذلك نزوله على الوليد بن المغيرة لعنه اللّه أو أبي مسعود عروة بن مسعود الثقفي أو غيرهما لأجل كون هؤلاء من رؤساء القبايل و ذوي الأموال الجسيمة و عظيم المنزلة عندهم لا يثقل عليهم التّواضع و الطاعة لهم كما كان يثقل عليهم طاعته صلّى اللّه عليه و آله.
و أمّا التّعجب فهو أن تكون النّعمة عظيمة و المنصب جليلا فيتعجّب من فوز مثله بمثل تلك النعمة كما حكى اللّه سبحانه عن الامم السّابقة بقوله.
إِذْ قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَ قالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ.
فتعجّبوا من أن يفوز برتبة الرسالة و الوحى و الزلفى من اللّه بشر مثلهم فحسدوا و أحبّوا زوال النبوّة عنهم إشفاقا من أن يفضل عليهم من هو مثلهم في البشريّة و لم يكن مقصودهم إظهار كبر و لا طلب رياسة و لابينهم سابقة عداوة أو نحو ذلك من ساير أسباب الحسد.
و أمّا الخوف من فوت المقاصد العظيمة فهو يختصّ بمتزاحمين على مقصود واحد، فانّ كلّ واحد منهما يحسد صاحبه و يريد انفراده بذلك المقصود، و من هذا الباب تحاسد الضرّات في مقاصد الزّوجية و تحاسد الاخوة من أجل تزاحمهم على نيل المنزلة في قلب الأبوين للتوصّل إلى مقاصد الكرامة و الشرافة أو المال و العزّة كما وقع من اخوة يوسف عليه السّلام في حقّه و من قابيل في حقّ هابيل، و منه أيضا تحاسد الواعظين و الرّاثين و نحوهما.
و أمّا حبّ الرّياسة فمنشأه حبّ الاختصاص بنعمة لا يشاركه فيها غيره، و حبّ ثناء النّاس له و فرحه بتفرّده بها، فاذا رأى مشاركا له فيها سائه ذلك، و هو غالب في العلماء السّوء فانّهم يحبّون أن يكونوا مرجعا للنّاس و ملجئا، و يكون تردّدهم إليهم و لا يرضون بمشاركة الغير لهم.
و من هذا الباب كان حسد علماء اليهود لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فانّهم كانوا ينكرون معرفته و لا يؤمنون به خيفة من أن تبطل رياستهم و استتباعهم مهما نسخ علمهم.
و منه أيضا كان حسد الخلفاء الثلاثة لأمير المؤمنين عليه السّلام مضافا إلى العداوة و البغضاء التي كانت فيهم و غير ذلك من الأسباب السابقة، إذ لا امتناع في اجتماع الأسباب المتعدّدة.
و الفرق بين هذا القسم و سابقه اشتراط التّزاحم على المقصود في السّابق دون ذلك، إذ ربّما ترى عالما أو صانعا يختصّ بفنّ مخصوص من العلم أو الصّناعة يمدحه النّاس بأنه فريد دهره و وحيد عصره في ذلك الفنّ أو الصّناعة، فانّه لو سمع في أقصى البلاد بنظير له فيه لساءه ذلك و أحبّ موته أو زوال النّعمة عنه.
و أمّا خبث النّفس فالحسد بذلك خارج عن جميع الأقسام السّابقة، فانّك ترى من النّاس من ليس غرضه في رياسة و لا تعزّز و لا تكبّر إذا وصف عنده حال عبد من عباد اللّه فيما أنعم اللّه به عليه يشقّ عليه ذلك و إذا وصف له اضطراب أمور النّاس و إدبارهم يفرح بذلك، فهو دائما يحبّ الادبار لغيره و يبخل بنعم اللّه على عباده كانّهم يأخذونها من ملكه و خزانته، و ليس لذلك سبب ظاهر إلّا خبث النّفس و شقائها و رذالة الطبع و دنائته و معالجته شديدة إذ الحسد الثابت بساير الأسباب أسبابه عارضة يتصوّر زوالها و يرجى إزالته، و هذا ناش من خبث الطّينة و سوء السريرة فيعسر زواله و إلى ذلك ينظر ما قيل.
- كلّ العداوة قد ترجى إماطتها إلّا عداوة من عاداك من حسد
و هذه هي أسباب الحسد و قد يجتمع بعضها أو أكثرها أو جميعها في شخص فيشتدّ حسده و يتضاعف، و أكثر المحاسدات تجتمع فيها جملة من هذه الأسباب و قلّما يتجرّد سبب واحد منها، نعوذ باللّه من شرور النفس و شحّ الأنفس.
الرابع
في بيان سبب كثرة الحسد بين العلماء على ما أخبر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أنّه عشرة أجزاء منها تسعة بين العلماء و واحد في النّاس و لهم من ذلك الجزء الحظّ الأوفر.
فأقول: العلماء إمّا علماء الدّنيا أو علماء الآخرة، و المراد بالأوّل من كان غرضه من العلم هو الدّنيا و تحصيل رياستها و حبّ شهواتها و قنياتها و طلب الوقع في قلوب النّاس و ابتغاء إقبالهم إليه، و بالثّاني هم العارفون باللّه و الراغبون في الآخرة و الزّاهدون في الدّنيا المعرضون عنها.
و الحسد إنّما هو بين الطائفة الاولى، و سببه تزاحمهم على غرض واحد إذ كلّ منهم يريد الفضل لنفسه دون صاحبه، و يتمنّى الاشتهار و المرجعيّة و الرّياسة و صداء النّعلين و نحو ذلك، و يريد ذلك بعينه غيره من أبناء جنسه فيتزاحمان على غرض واحد.
و من أجل التّزاحم أيضا ينشأ الحسد بين أفراد جنس واحد و أبناء نوع واحد كالتّاجر للتّاجر، و الواعظ للواعظ، و البزّاز للبزّاز و هكذا، فانّ الغالب أنّ البزّاز يحسد للبزّاز دون العطار و دون الواعظ، و العالم يحسد العالم دون الصّانع و لما ذكرناه ترى الحسد بين علماء بلدة واحدة أكثر مما بين علماء بلدتين و ما بين البلدتين القريبتين أكثر ممّا بين البلدتين النائيتين لزيادة التزاحم في الأولى على الثّانية، و منشأ ذلك كلّه هو حبّ الدّنيا، فانّ الدّنيا هي الّتي تضيق على المتزاحمين.
و أمّا علماء الآخرة العارفون باللّه و المبتهجون بمعرفته سبحانه فلا يكون بينهم تحاسد، لأنّ غرضهم هو الآخرة و مقصدهم هو المعرفة و لا ضيق في شي ء منهما كالدّنيا ألا ترى أنّ من أحبّ معرفته سبحانه و معرفة صفاته و أفعاله من عجائب ملكوت سمائه و أرضه لا يعادي و لا يبغض غيره ممّن كان يحبّ معرفة ذلك أيضا و ذلك لسعة بحر المعرفة و عدم الضّيق فيه، بل المعلوم الواحد يعلمه ألف ألف عالم و يفرح بمعرفته و يلتذّ به و لا ينتقص لذّة أحدهم بسبب غيره، بل يحصل بكثرة العارفين ثمرة الافادة و الاستفادة و الانس و الصّحبة، و غرضهم إنّما هو تحصيل المنزلة عند اللّه و الزّلفى لديه و ما عند اللّه أعظم من أن يضيق على الطّالبين و لا يسع الرّاغبين، إذ البحر لا ينفد بالقطر، و الشّمس لا ينقص بالذّر، و ليس كمال الدّنيا إذا وقع في يد أحد خلت عنه يد الآخر أو كجاهها إذا اتّصف به شخص حرم عنه غيره، إذا لجأه عبارة عن ملك القلوب و مهما امتلاء قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر أو نقص عنه لا محالة فيكون سببا للمحاسدة.
و بالجملة فنعمة العارف و جنّته معرفته الّتي هي صفة ذاته، و هو دائما يجنى ثمارها و يغتذي بفواكهها، و هي فاكهة غير مقطوعة و لا ممنوعة بل قطوفها دانية و إن غمض العين الظاهرة فروحه ترتع كلّ الأوقات في جنّة عالية و رياض زاهرة و كثرتهم لا يوجب تحاسدهم بل كانوا كما قال ربّ العالمين: وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ و هذا حالهم و هم في الدّنيا فما ظنّك بهم إذا انكشف عنهم الغطاء و شاهدوا المحبوب في العقبى فأهل العرفان و اليقين برآء من الحسد في الدّنيا و الآخرة جميعا، بل الحسد من صفات المبعدين عن سعة علّيين إلى ضيق سجّين، و لذلك و سم به الشّيطان اللّعين، حيث أظهر الحسد و البغضاء لما رأى اختصاص آدم بالخلافة و الاحتباء و لمّا دعى إلى السجود استكبر و أبى، و تمرّد و عصى، فاستحقّ الجحيم و قيل له: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ.
و إذا عرفت أنّ منشأ الحسد هو التّوارد على مقصود يضيق عن الوفاء لمن ابتغى فعليك بمقصد لا تزاحم فيه أصلا و لذّة لانفاد لها و نعمة لا زحمة فيها و لا يوجد ذلك في الدّنيا إلّا في معرفة الحقّ تعالى و معرفة صفاته العلياء و إن لم تكن تشتاق. إلى ذلك و لا تجد لذّة لذلك فأنت في ذلك معذور لأنّك في يد هواك مغمور مقهور و الصّبي لا يعرف لذّة الملك و السّلطنة، و إنّما لذّته في اللّهو و اللّعبة، فانّ هذه لذّة يختص بإدراكها الرّجال دون الصّبيان و الأطفال، و المعرفة مختصّة بأهل الكمال و هم الّذين لا غرض لهم إلّا اللَّه و هم رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
و لا يشتاق إلى هذه اللّذة غيرهم، لأنّ الشّوق بعد الذّوق، و من لم يذق لم يعرف و من لم يعرف لم يشتق، و من لم يشتق لم يطلب، و من لم يطلب لم يدرك، و من لم يدرك بقى مع المحرومين في أسفل السّافلين.
وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ.
الخامس
في معالجة الحسد الّذي هو من موبقات الذّنوب و من الأمراض العظيمة للقلوب، و الدّواء النّافع له هو أن تعرف أنّه مضرّ عليك في الدّنيا و الدّين و غير مضرّ بالمحسود في الدّنيا و الدّين، بل نافع له فيهما، و مهما عرفت هذا عن بصيرة و كنت صديقا لنفسك شفيقا لها و لم تكن عدوّا و مبغضا لها فارقت الحسد لا محالة.
أمّا كونه مضرّا عليك في الدّين فلما مرّ في الأخبار السّابقة من كونه سببا لسخط الجبّار و آكلا للايمان أكل الحطب للنّار، بل الحاسد في الحقيقة ساخط لقضاء اللَّه و غضبان على قدر اللَّه كاره للنّعم الّتي قسّمت بين عباد اللَّه، و حسده في الحقيقة اعتراض على الخالق فيما منحه على الخلايق و ايراد على الحكمة و جناية على حدقة التّوحيد، و فيه متابعة الشّيطان اللّعين و أوليائه من الكفّار و المنافقين حيث إنّه حسد و قال: أ أسْجُدُ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ طينٍ فَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ
و كذلك أولياؤه لم يزالوا حاسدين معاندين للمؤمنين، مبغضين لهم و بعداوتهم معلنين متألّمين بفرحهم و بتألّمهم مسرورين، فمن كان حاسدا فهو للشّيطان و أوليائه قرين، و هو معهم في أسفل السّافلين.
و أمّا كونه مضرّا عليك في الدّنيا فلأنّك تتألّم بحسدك فيها و تتعذّب به دائما و لا تزال في همّ و غمّ، إذ نعم اللَّه سبحانه في الدّنيا في حقّ البرّ و الفاجر و المؤمن و الكافر غير معدودة، و فيوضاته غير متناهية و أنت كلّما رأيت تنعّم المحسود بنعمة تألّمت و تأثّرت، فلا يحصل لك خلاص من الحزن و الألم لعدم انقطاع الآلاء و النّعم، و لا يكون لك فراغ من الكفر و يطول عليك الهجود و السّهر فليطرق عليك النّصب و الآلام، و يتراكم عليك الأوصاب و الأسقام، لسراية المرض من القلب إلى البدن و من الخلد إلى الجسد.
و لذلك قال أمير المؤمنين عليه السّلام: صحّة الجسد من قلّة الحسد، و قيل الحسد يضرّ بنفس الحاسد قبل إضراره بالمحسود.
و قد روي أنّ رجلا كان يغشي بعض الملوك فيقوم بحذاء الملك فيقول: أحسن إلى المحسن باحسانه فانّ المسي ء سيكفيكه إسائته، فحسده رجل على ذلك المقام و الكلام فسعى به إلى الملك فقال: إنّ هذا الذي يقوم بحذائك و يقول ما يقول يزعم أنّ الملك أبخر، فقال الملك و كيف يصحّ ذلك عندي قال: تدعوه إليك فانّه إذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلّا يشمّ ريح البخر فقال له: انصرف حتّى أنظر.
فخرج من عند الملك فدعى الرّجل إلى منزله فأطعمه طعاما فيه ثوم، فخرج الرّجل من عنده فقام بحذاء الملك على عادته فقال: أحسن إلى المحسن باحسانه فانّ المسي ء سيكفيكه إسائته، فقال له الملك: ادن منّي، فدنا منه فوضع يده على فيه حذرا من أن يشمّ الملك منه رايحة الثّوم فقال الملك: ما أرى فلانا إلّا قد صدق و كان الملك لا يكتب بخطّه إلّا بجايزة أوصلة، فكتب له كتابا بخطّه إلى عامل من عمّاله: إذا أتاك حامل كتابي هذا فاذبحه و اسلخه و حشّ جلده تبنا و ابعث به إلىّ، فأخذ الكتاب و خرج، فلقاه الرّجل الذي سعى به فقال: ما هذا الكتاب قال: خطّ الملك لي بجايزة، فقال: هبه لي فوهبه له، فأخذه و مضى إلى العامل فقال العامل في كتابك أن أذبحك و أسلخك، قال: إنّ الكتاب ليس هو لي فاللّه اللَّه في أمرى حتّى تراجع الملك، فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه و سلخه و حشي جلده تبنا و بعث به.
ثمّ عاد الرّجل كعادته إلى الملك و قال مثل قوله، فتعجّب الملك و قال: ما فعلت الكتاب فقال لقاني فلان فاستوهبه منّي فوهبته له، قال الملك: إنّه ذكر لي أنّك تزعم أنّي أبخر، قال: ما قلت ذلك، قال: فلم وضعت يدك على فيك قال: لأنّه أطعمني طعاما فيه ثوم فكرهت أن تشمّه، قال: صدقت ارجع إلى مكانك فقد كفاك المسي ء إسائته.
و أمّا عدم كونه مضرّا بالمحسود في الدّنيا و الدّين فواضح.
أمّا الدّنيا فلأنّ النعمة لا تزول عنه بحسدك، بل ما قدّره اللَّه في حقّه من النعمة و الاقبال و من طيب العيش و حسن الحال لا بدّ أن يدوم إلى أجل معلوم، لارادّ لحكمه و لا دافع لقضائه، إذ كلّ شي ء عنده بمقدار، و لكلّ أجل كتاب و مهما لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود ضرر.
و لعلّك تقول: ليت النعمة كانت تزول عن المحسود بحسدي فهذا غاية الجهالة و السفاهة لأنّه بلاء تشتهيه أوّلا لنفسك، فانّك أيضا لا تخلو من حاسد يحسدك فلو كانت النعمة تزول بالحسد للزم أن تنقطع عنك النعم و عن كلّ أحد بل يزول الايمان عن المؤمنين لأنّ الكفّار حاسدون لهم في ذلك محبّون ارتفاعه عنهم كما قال سبحانه: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ.
و ان اشتهيت أن تزول النعمة عن محسودك بحسدك و لا تزول عنك بحسد حاسدك، فهذا غاية الغباوة و الحماقة، لأنّ كلّ واحد من الحسّاد يشتهى الاختصاص بهذا الخاصيّة فأىّ ترجيح لك على غيرك فان قلت: سلّمنا هذا كلّه و لكن ما تقول فيما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النّوفلي عن السّكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: كاد الفقر أن يكون كفرا و كاد الحسد أن يغلب القدر، فانّ المستفاد من هذه الرّواية أنّ الحسد له تأثير في زوال النعمة.
قلت: هذه لا تكافي ء الأدلّة السّابقة، لعدم سلامة سندها و قلّتها بالنسبة إليها، مع إمكان الجمع بينهما بأن يقال بتأثير الحسد في الجملة كالعين الصائبة إلّا أنه لا يوجب زوال النعمة بالمرّة فيمكن أن يزول النعمة التي صارت سببا لحسد الحاسد عن المحسود ثمّ ينتقل المحسود إلى نعمة أخرى أشرف و أجل ممّا زالت منه، لما قد روي في الأخبار من أنّ الرّزق مقسوم، و من قوله صلّى اللَّه عليه و آله لن تموت نفس حتّى تستكمل رزقها فاتّقوا اللَّه و أجملوا في الطلب فتأمّل.
و أمّا عدم كونه مضرّا بالمحسود في الدّين فواضح مستغن عن البيان.
و أمّا انتفاعه به في الدّين و الدّنيا فظاهر أيضا.
أمّا الدّين فلأنّه مظلوم من جهتك و أنت ظالم له و ميزانه ثقيل و ميزانك خفيف كما مرّ في الأخبار، و أيضا فانّه بصبره و تحمّله على أذاك يفوز فوزا عظيما و يدرك ما أعدّ اللَّه من عظيم الأجر للصّابرين كما يشهد به ما في الوسائل عن الصّدوق باسناده عن معاوية بن وهب عن الصّادق جعفر بن محمّد عليه السّلام قال: اصبر على أعداء النّعم فانّك لن تكافى ء من عصى اللَّه فيك بأفضل من أن تطيع اللَّه فيه، و مثله رواية عمّار بن مروان عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام و نحوهما أخبار اخر.
و أمّا انتفاعه به في الدّنيا فهو إنّ أهمّ أغراض الخلق مسائة الأعداء و ألذّ عيشهم أن يكون أعداؤهم معذّبين، و لا عذاب أشد ممّا أنت فيه من ألم الحسد و غاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة و أن تكون في غمّ و حسرة بسببهم، و قد فعلت بنفسك ما هو مرادهم، و لذلك لا يشتهي عدوّك موتك بل يشتهى طول حياتك لتنظر ما أنعم اللَّه به عليه و ينقطع نياط قلبك حسدا كلّما رأيته، و لذلك قيل:
- لا مات أعداؤك بل خلّدواحتّى يروا فيك الّذي يكمد
- لا زلت محسودا على نعمةفانّما الكامل من يحسد
و إن شئت زيادة وضوح إضرار الحاسد بنفسه و انتفاع المحسود بحسده فاختبر ذلك بقصّة يوسف عليه السّلام و اخوته حيث حسدوه و قالوا: اقْتُلُوهُ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ فَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ.
فأدركه العناية الأزليّة و الرّحمة الالهيّة و اعطي بمحسوديّته الملك و المملكة و العزّ و السّلطنة و ابتلوا بحاسديّتهم بالفقر و الفاقة و الضّر و المسكنة حتّى صاروا محتاجين إليه بسوء الأعمال فدخلوا عليه و نادوه بلسان الابتهال: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ و سوء الحال فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ فاصبحوا بفضله مذعنين و عن علوّ شأنه مفصحين بقوله: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ...، وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً بعد أن كانوا له حسّدا و أنت أيّها النّاقد البصير و الذّكيُّ الخبير إذا أحطت خبرا بما تلوناه عليك و عرفت مضارّ الحسد و مفاسده فراقب الانصاف و جانب الاعتساف و لاحظ نفسك و امحض لها نصحك و لا تكسب لها الخسارة في الحال و لا تجلب لها الشّقاوة في المآل، و لا تبخس حظّك عند الخالق، و لا تسقط وقعك من قلوب الخلايق، و نعمة المحسود دائمة شئت أم أبيت، باقية كرهت أم رضيت، فلا تكن للشّيطان وليّا و لا لنفسك عدوّا و لا للمؤمنين خصيما، فلا تفت على نفسك فوايد المحبّة، و لا تحرمها من منافع الالفة و المودّة، و لا توقعها في مضارّ البغضاء و العداوة، أ فما دريت في شرح هذه الخطبة أنّها حالقة للدّين و الايمان، ساخطة للرّحمن، و باللّه أستعيذ من خبث النفس و شرور الأنفس، و به أعتصم من مكايد الشّيطان و موبقات الايمان، و منه التوفيق و عليه التكلان و هو المستعان.
|