الفصل الثالث
فَأَيْنَ> تَذْهَبُونَ، و أَنّى تُؤفَكُونَ، وَ الْأَعْلامُ قائِمَةٌ، وَ الْآياتُ واضحة، و المنار منصوبة، فأين يتاه بكم، بل كيف تعمهون، و بينكم عترة نبيّكم، و هم أزمّة الحقّ، و أعلام الدّين، و ألسنة الصّدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، و ردوهم ورود اليهم العطاش، أيّها النّاس خذوها عن خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّه يموت من مات منّا و ليس بميّت، و يبلى من بلى منّا و ليس ببال، فلا تقولوا بما لا تعرفون، فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون
اللغة
(أفك) افكا كذب و افكه عنه صرفه و قلبه أو قلب رأيه و (المنار) العلم المنصوب في الطريق ليهتدى به الضّال و الموضع المرتفع الذي يوقد في أعلاه النّار و (تاه) تيها و تيهانا ضلّ و تحيّروتاه في الأرض ذهب متحيّرا و منه قوله تعالى: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ. أى يحارون و يضلّون و (عمه) في طغيانه عمها من باب تعب إذا تردّد متحيّرا قال سبحانه: فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. و رجل عمه و عامه أى متحيّر حاير عن الطريق و (ورد) البعير و غيره الماء وردا و ورودا بلغه و وافاه من غير دخول و قد يحصل دخول فيه و (الهيم) بالكسر الابل العطاش و (بلى) الثوب يبلى من باب رضى بلىّ بالكسر و القصر و بلاء بالضمّ و المدّ
الاعراب
أين اسم استفهام سؤال عن المكان، و أنّى تؤفكون بمعنى كيف كما فسّر به قوله فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ. و المقصود بالاستفهام التوبيخ، و الواو في قوله عليه السّلام: و الأعلام قائمة للحال، و كذلك في قوله و بينكم، و الفاء في قوله فأنزلوهم فصيحة، و الضمير في قوله خذوها راجع إلى ما يفهم من المقام من الفايدة و الرّواية و نحوهما على حدّ قوله: تورات بالحجاب
المعنى
اعلم أنّه عليه السّلام لما شرح في الفصلين السّابقين حال المتّقين و الفاسقين و ذكر في بيان صفات الفسّاق انهم أخذ و الجهالة و الضّلالة من الجهّال و الضّلال عقّب ذلك بالأمر بملازمة أئمّة الدّين و أعلام اليقين لكونهم القادة الهداة أدّلاء على طريق النّجاة و كون لزومهم باعثا على التّقوى و محصّلا للقربى و وبّخ المخاطبين أوّلا بصدّهم عن الحقّ و ميلهم إلى الباطل و عدولهم عن أئمة الأنام عليهم الصّلاة و السّلام بقوله: (فأين تذهبون) أى أىّ طريق تسلكون أبين من طريق الحقّ و هذه الجملة مأخوذة من قوله سبحانه في سورة التكوير: وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ، وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ، وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ.
روى عليّ بن إبراهيم في تفسير هذه الآية عن جعفر بن محمّد عليه السّلام قال: حدّثنا عبد اللّه بن موسى عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت: قوله: وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ قال: يعني النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما هو بمجنون في نصبه أمير المؤمنين عليه السّلام علما للنّاس قلت قوله: وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ قال ما هو تبارك و تعالى على نبيّه بغيبه بضنين عليه قلت: وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ قال: كهنة الّذين كانوا في قريش فنسب كلامهم إلى كلام الشّيطان الّذين كانوا معهم يتكلّمون على ألسنتهم فقال: و ما هو بقول شيطان رجيم مثل أولئك قلت.
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ
قال عليه السّلام أين تذهبون في عليّ يعني ولايته أين تفرّون منها إن هو إلّا ذكر للعالمين أخذ اللّه ميثاقه على ولايته قلت قوله: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ.
قال في طاعة عليّ و الأئمة عليه السّلام من بعده (و أنّى تؤفكون) أى تصرفون عن عبادة اللّه إلى عبادة غيره و تقلبون عن طريق الهدى إلى سمت الضلالة و الرّدى كما قال تعالى في سورة الأنعام: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» و في سورة الملائكة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ و في سورة المؤمن: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.
قال الطبرسيّ في تفسير هذه الآية أى الّذى أظهر هذه الدّلالات و أنعم بهذه النّعم هو اللّه خالقكم و مالككم خالق كلّ شي ء من السّماوات و الأرض و ما بينهما لا يستحقّ العبادة سواه فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره مع وضوح الدّلالة على توحيده هذا.
و لا يخفى عليك أنّ ما ذكرته في شرح هذه الفقرة إنّما هو أخذا بظاهر كلامه عليه السّلام و لكنّ الأظهر بمقتضى السّياق أنّه عليه السّلام أراد بها توبيخ المخاطبين على العدول عنه فيكون معنى قوله: أنّى تؤفكون أنّى تقلبون عنّي و عن ولايتي و ملازمتي.
و مثل ذلك قوله عليه السّلام (و الأعلام قائمة و الآيات واضحة و المنار منصوبة) فانه يجوز أن يراد به أعلام القدرة و آيات المقدرة و آثار التوحيد و منار التفريد و أدلّة الوجود من المهاد الموضوع خطبه 87 نهج البلاغه بخش 3 و السّماء المرفوع و اختلاف اللّيل و النّهار و الفلك الجاري في البحر الزخّار و المطر النّازل من السحاب الذي أحيى به الأرض بعد موتها و بثّ فيها من الدّواب إلى غير هذه من دلايل التوحيد و الجلال و علائم الكمال و الجمال.
إلّا أنّ الأظهر أنّ المراد بها هو أعلام الدّين و آيات اليقين و منار الهدى و أئمة الورى، و يشهد بذلك ما ورد في حديث وصفهم عليه السّلام: جعلتهم أعلاما لعبادك و منارا في بلادك أى هداة يهتدى بهم.
و يدلّ عليه الأخبار الواردة في أنّهم عليه السّلام آيات اللّه و بيّناته، مثل ما في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم مسندا عن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ.
قال أبو جعفر عليه السّلام: نزلت في الذين كذّبوا في أوصيائهم صمّ و بكم كما قال اللّه في الظّلمات من كان من ولد إبليس فانّه لا يصدق بالأوصياء و لا يؤمن بهم أبدا، و هم الذين أضلّهم اللّه و من كان من ولد آدم عليه السّلام آمن بالأوصياء و هم على صراط مستقيم قال: و سمعته يقول: كذبوا بآياتنا كلّها في بطن القرآن ان كذّبوا بالأوصياء كلّهم، و منه في قوله: وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ.
قال: أمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمة صلوات اللّه عليهم، و الدّليل على ذلك قول أمير المؤمنين عليه السّلام: ما للّه آية أكبر منّى.
و منه باسناده عن داود بن كثير الرّقي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه: وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ.
قال عليه السّلام: الآيات الأئمة و النّذر الأنبياء عليه السّلام.
و منه عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ قال تخضع رقابهم يعني بني أميّة، و هي الصّيحة من السّماء باسم صاحب الأمر عليه السّلام إلى غير ذلك مما ورد عنهم عليهم السّلام في تفسير الآيات القرآنيّة مما لا نطيل بروايتها، فقد ظهر بذلك كلّه أنهم المراد بالآيات الواضحة فيكون إطلاقها عليهم باعتبار أنهم علامات جليلة واضحة لعظمة اللّه و قدرته و علمه و لطفه و رحمته.
- فما آية للّه أكبر منهمفهم آية من دونهم كلّ آية
- سرى سرّهم في الكائنات جميعهافمن سرّهم لم يخل مثقال ذرّة
هذا و قوله (فأين يتاه بكم بل كيف تعمهون) تأكيد لقوله فأين تذهبون و أنّى تؤفكون، فانّه لمّا سألهم عن إفكهم و ذهابهم و وبّخهم عليه أكّده بذلك مشيرا به إلى أنّ الافك و الذّهاب موجب لتيههم و تحيّرهم و عمههم و ضلالتهم.
و أكّد الجملة الحالية السّابقة أعني قوله: و الأعلام قائمة إلخ بقوله (و بينكم عترة نبيّكم) مشيرا به إلى أنّهم المراد بالأعلام و الآيات، و المراد بعترة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الأئمة عليهم السّلام.
و يدلّ عليه ما في البحار من العيون و معاني الأخبار عن الهمداني عن عليّ عن أبيه عن ابن أبي عمير عن غياث بن إبراهيم عن الصّادق عن آبائه عليهم السّلام قال: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن معنى قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّى مخلف فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي من العترة فقال: أنا و الحسن و الحسين و الأئمة التسعة من ولد الحسين عليهم السّلام تاسعهم مهديهم و قائمهم لا يفارقون كتاب اللّه و لا يفارقهم حتّى يردوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حوضه. و سيأتي في شرح الخطبة الثّالثة و التسعين مزيد تحقيق في معنى العترة إنشاء اللّه (و هم أزمّة الحقّ و ألسنة الصدق) يعني أنّهم عليهم السّلام القائدون يقودون الخلق إلى الحقّ كما تقاد النّاقة بالزمام إلى الطريق، و هم تراجمة الوحي كما أنّ اللّسان ترجمان النفس و يدلّ على الأوّل وصفهم في فقرات الزيارة الجامعة بقوله: و قادة الأمم، يعني أنهم عليهم السّلام قادة الأمم إلى معرفة اللّه و دينه يقودونهم بدعائهم و تعريفهم و أمرهم و ترغيبهم إلى المعرفة و الدّين، فمن أجاب قادوه إلى الجنة و من أناب ساقوه إلى النّار كما قال عليه السّلام: أنا قسيم الجنّة و النّار، و هو نعمة اللّه على الأبرار و نقمته على الفجّار.
و يدلّ على الثاني وصفهم عليهم السّلام في فقرات الزيارة المذكورة بقوله: و تراجمة لوحيه، يعني أنّهم المؤدّون من الحقّ إلى الخلق فلا يخفى ما بين القرينتين في كلامه عليه السّلام من الحسن و اللّطف حيث إنّ محصّل معناهما أنهم عليهم السّلام دلائل للخلق على الحقّ و وسايط للحقّ إلى الخلق هذا.
و يجوز أن يكون المراد بقوله: و هم أزمّة الحقّ أنّ زمام الحقّ بيدهم عليهم السّلام فيكون مساقه مساق قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحقّ مع عليّ و هو مع الحقّ أينما دار.
و من طرق الخاصة متواترا عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة صلوات اللّه و سلامه عليه و عليهم: الحقّ مع الأئمة الاثنى عشر، و في فقرات الزيارة الجامعة: و الحقّ معكم و فيكم و منكم و إليكم و أنتم أهله و معدنه.
و أن يكون المراد بقوله عليه السّلام و ألسنة الصدق أنهم لا يقولون إلّا صدقا و حقّا فيكون تصديقا لدعاء إبراهيم حيث إنّه دعا ربّه بما حكاه اللّه عنه بقوله في سورة الشعراء: وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ.
أى اجعل صادقا من ذرّيتي يجد أصل ديني و يدعو النّاس إلى ما كنت أدعوهم إليه، فاستجاب اللّه دعوته و اصطفى من ذريّته محمّدا و آله صلوات اللّه و سلامه عليه و عليهم و جعلهم لسان صدق له.
و يؤيّد ذلك ما في تفسير القمّي عند قوله: وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ.
قال: هو أمير المؤمنين عليه السّلام و في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قال الطّبرسيّ أى اتّقوا معاصي اللّه و اجتنبوا و كونو مع الصّادقين الذين يصدقون في أخبارهم و لا يكذبون، و معناه كونوا على مذهب من يستعمل الصدق في أقواله و أفعاله و صاحبوهم و رافقوهم و قد وصف اللّه الصّادقين في سورة البقرة بقوله: وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ إلى قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
فأمر سبحانه بالاقتداء بهؤلاء، و قيل: المراد بالصّادقين هم الّذين ذكرهم اللّه في كتابه و هو قوله: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ.
يعني حمزة بن عبد المطلب و جعفر بن أبي طالب.
وَ> مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ يعني عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
و روى الكلينيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال: كونوا مع الصّادقين مع عليّ عليه السّلام و أصحابه.
و روى جابر عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله و كونوا مع الصّادقين، قال: مع آل محمّد سلام اللّه عليهم.
ثمّ إنّه عليه السّلام بعد توصيف العترة الطّاهرة بأنّهم أزمّة الحقّ و ألسنة الصدق أمر بتعظيمهم و إجلالهم بقوله (فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن) قال الشّارح المعتزلي في شرحه إنّه عليه السّلام أمر المكلّفين أن يحروا العترة في إجلالها و إعظامها و الانقياد و الطّاعة لأوامرها مجرى القرآن.
و قال الشّارح البحراني: اعلم أنّ للقرآن منازل: الاولى القلب و هو فيه بمنزلتين: إحداهما منزلة الاكرام و التّعظيم، و الثانية منزلة التصوّر فقط، الثالثة منزلته في الوجود اللّساني بالتلاوة، الرابعة منزلته في الدفاتر و الكتب، و أحسن منازله هي الأولى فالمراد إذن الوصية باكرامهم و محبّتهم و تعظيمهم كما يكرم القرآن بالمحبّة و التّعظيم.
أقول: فعلى ما ذكراه يكون معنى كلامه عليه السّلام أنزلوهم بأحسن المنازل التي كانت للقرآن، و الأظهر عندي أنّ معناه أنزلوهم بأحسن المنازل التي أثبتها القرآن لهم، فانّ المنازل الثابتة لهم عليهم السّلام بالآيات القرآنيّة متفاوتة مختلفة في العلوّ و الرفعة فأمر عليه السّلام بانزالهم بأحسن المنازل و أسنى المراتب، و هو بأن يستمسكوا بأظهر الآيات دلالة على رفعة شأنهم و علوّ مقامهم مثل قوله سبحانه: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ الدّال على خلافتهم و ولايتهم (ع) و قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً الدّال على عصمتهم و طهارتهم و قوله: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى الدّال على ملازمتهم و مودّتهم روى الطّبرسيّ في مجمع البيان في تفسير الآية الأخيرة من كتاب شواهد التنزيل مرفوعا إلى أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه خلق الأنبياء من أشجار شتّى و خلقت أنا و عليّ من شجرة واحدة فأنا أصلها و عليّ فرعها و الحسن و الحسين ثمارها و شيعتنا أوراقها، فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجا، و من زاغ هوى، و لو أنّ عبدا عبد اللّه بين الصّفا و المروة ألف عام ثمّ ألف عام ثمّ ألف عام حتّى يصير كالشنّ البالي ثمّ لم يدرك محبّتنا أكبّه اللّه على منخريه في النّار ثمّ تلا: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى .
قال الطبرسيّ و روى زاذان عن عليّ عليه السّلام قال: فينا في ال حم آية لا يحفظ مودّتنا إلّا كلّ مؤمن ثمّ قرء هذه الآية و إلى هذا أشار الكميت في قوله:
وجدنا لكم في آل حم آية. تأوّلها منّا تقىّ و معرب
و في البحار ذكر أبو حمزة الثّمالي في تفسيره حدّثنى عثمان بن عمير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين قدم المدينة و استحكم الاسلام قالت الأنصار فيما بينهم: نأتي رسول اللَّه فنقول له إنه تعروك امور فهذه أموالنا فاحكم فيها غير حرج و لا محظور عليك، فأتوه في ذلك فنزل: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقرأها عليهم فقال تودّون قرابتي من بعدي، فخرجوا من عنده مسلّمين لقوله، فقال المنافقون: إنّ هذا الشي ء افتراه في مجلسه أراد بذلك أن يذلّلنا لقرابته من بعده فنزلت: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً.
فأرسل إليهم فتلاها عليهم فبكوا و اشتدّ عليهم فأنزل اللّه: (وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) الآية.
فأرسل في أثرهم فبشّرهم و قال: و يستجيب اللّه الّذين آمنوا و هم الّذين سلّموا لقوله ثمّ قال سبحانه: وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً.
أى من فعل طاعة نزد له في تلك الطاعة حسنا بأن نوجب له الثواب.
و ذكر أبو حمزة الثمالي عن السّدى أنّه قال: اقتراف الحسنة المودّة لآل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صحّ عن الحسن بن عليّ عليه السّلام أنّه خطب النّاس فقال في خطبته: أنا من أهل البيت الذين افترض اللّه مودّتهم على كلّ مسلم فقال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً).
فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت.
و روى اسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام انّه قال: إنّها نزلت فينا أهل البيت أصحاب الكساء انتهى كلامه رفع مقامه.
و قال الفخر الرّازي في التفسير الكبير نقل صاحب الكشاف عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات تائبا، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا مستكمل الايمان، ألا و من مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر و نكير، ألا و من مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما يزفّ العروس إلى بيت زوجها، ألا و من مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا و من مات على حبّ آل محمّد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرّحمة، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة و الجماعة.
ألا و من مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه، ألا و من مات على بغض آل محمّد مات كافرا، ألا و من مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رايحة الجنّة، قال: هذا هو الذي رواه صاحب الكشّاف.
و أنا أقول: آل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم هم الذين يؤول أمرهم إليه فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ و أكمل كانوا هم الآل و لا شكّ أنّ فاطمة و عليّا و الحسن و الحسين كان التعلّق بينهم و بين رسول اللَّه أشدّ التّعلّقات، و هذا كالمعلوم بالنّقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل، و أيضا اختلف النّاس في الآل فقيل هم الأقارب، و قيل هم امّته فان حملناه على القرابة فهم الآل و إن حملناه على الامّة الذين قبلوا دعوته فهم أيضا آل، فثبت أنّ على جميع التقديرات هم الآل و أمّا غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل فمختلف فيه.
قال: و روى صاحب الكشاف أنّه لمّا نزلت هذه الآية قيل يا رسول اللَّه من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم عليّ و فاطمة و ابناهما، فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و إذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التّعظيم و يدلّ عليه وجوه: الأوّل قوله تعالى «إلّا المودّة في القربى» و الثّاني لا شكّ أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم كان يحبّ فاطمة عليها السلام قال صلّى اللَّه عليه و آله: فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها، و ثبت بالنّقل المتواتر من محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أنّه كان يحبّ عليّا و الحسن و الحسين، و إذا ثبت ذلك وجب على كلّ الامّة مثله لقوله: (وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) و لقوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) و لقوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) و لقوله سبحانه: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
الثّالث أنّ الدعاء للآل منصب عظيم و لذلك جعل هذا الدّعاء خاتمة التشهّد في الصّلاة و هو قوله: اللّهمّ صلّ على محمّد و على آل محمّد و ارحم محمّدا و آل محمّد، و هذا التّعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل فكلّ ذلك يدلّ على أن حبّ آل محمّد واجب، و قال الشّافعي:
- يا راكبا قف بالمحصّب من منىو اهتف بساكن خيفها و النّاهض
- سحرا إذا فاض الحجيج إلى منىفيضا كما نظم الفرات الفائض
- إن كان رفضا حبّ آل محمّدفليشهد الثّقلان أنّي رافضي
انتهى كلام الرازي خذله اللَّه اقول: و لا يكاد ينقضي عجبى من هذا النّاصب أنّه مع نقله تلك الأخبار المستفيضة المتفق عليها بين الفريقين و اقراره بهذه الفضايل للآل كيف يتعصّب في حقّ أئمته و يرضى بخلافتهم و يذعن بامامتهم مع أنّ دلالة هذه الأخبار على كفرهم و شقاوتهم غير خفيّة إذ بغضهم لأهل بيت الرّسول في حياته و بعد وفاته ظاهر، و أذاهم لبضعته في إحراق بابها و إسقاط جنينها و غصب فدك منها واضح، و تسليطهم بني اميّة و بني أبي معيط على رقاب أهل البيت و ما جرى من الظلم و الجور بسبب ذلك عليهم عليهم السّلام غني عن البيان، و إنما أنطق اللَّه لسانه على الحقّ إتماما للحجّة و إكمالا للبيّنة لئلا يقول يوم القيامة: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ» «وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ» «وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.
ثمّ إنّ الشّارح المعتزلي قال في شرح هذه الفقرة أعني قوله عليه السّلام: فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن بعد كلامه الذي قدّمنا ذكره: فان قلت: فهذا القول منه عليه السّلام يشعر بأنّ العترة معصومة فما قول أصحابكم في ذلك قلت: نصّ أبو محمّد بن مثنويه في كتاب الكفاية على أنّ عليّا عليه السّلام معصوم و إن لم يكن واجب العصمة و لا العصمة شرط في الامامة لكن أدلّة النّصوص قد دلّت على عصمته و القطع على باطنه و نفسه و إنّ ذلك أمر اختصّ هو به دون غيره من الصّحابة، و الفرق ظاهر بين قولنا زيد معصوم و بين قولنا زيد واجب العصمة، لأنّه امام و من شرط الامام أن يكون معصوما فالاعتبار الأوّل مذهبنا و الاعتبار الثّاني مذهب الاماميّة انتهى كلامه هبط مقامه.
و فيه أنّك قد عرفت في مقدّمات شرح الخطبة الشقشقيّة بما لا مزيد عليه و في غيرها أيضا أنّ العصمة شرط في الامامة، و محصّل ما قلناه هناك: أنّ غير المعصوم لا يؤمن منه الخطأ و الضّلال فكيف يأمنه النّاس في ضلالته و خطائه، و إن شئت زيادة الاستبصار فارجع ثمّة.
و أمّا قوله عليه السّلام (و ردوهم ورود اليهم العطاش) فأشار به إلى اقتباس العلوم و اكتساب الأنوار منهم، فانهم (ع) لما كانوا ينابيع العلوم و كان علمهم بمنزلة العذب الفرات و كان الخلق محتاجين إليهم في ذلك حسن منه عليه السّلام أن يأمرهم بورودهم و يشبّه ورودهم بورود الابل الظّمآن على الماء و هو نظير قوله سبحانه.
(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
قال الحارث سألت أمير المؤمنين عليه السّلام عن هذه الآية قال: و اللَّه إنّا لنحن أهل الذّكر نحن أهل العلم نحن معدن التأويل و التنزيل.
ثمّ إنّه عليه السّلام لما ذكر فضايل الآل و مناقبهم عقّب ذلك و أكّده بذكر منقبة أخرى و فضيلة عظمى رواها عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فقال (أيّها الناس خذوها عن خاتم النّبييّن) و سيّد المرسلين (صلّى اللَّه عليه و آله) أجمعين (أنّه يموت من مات منّا و ليس بميّت و يبلى من بلى منّا و ليس ببال) اعلم أنّ هذا الحديث من مشكلات الأحاديث و متشابهاتها و قد اختلف في توجيهه أنظار الشّراح و تأوّله كلّ بما يقتضيه سليقته و مذاقه، و أعظمهم خبطا و أشدّهم و هما الشارح البحراني مع فضله و ذكائه و براعته في علم الحكمة حسبما تطلع عليه و لا غرو فيه فانّ الحكمة بعيدة عن مذاق الأخبار و حاجبة من اقتباس الأنوار و الأسرار المودعة في كنوز أحاديث الأئمة الأطهار.
و أنا أتمسّك في شرح المقام بحبل العناية الأزليّة و أستمدّ من الحضرة الالهيّة و أستمسك بذيل أهل بيت العصمة و الطّهارة، و أبيّن أوّلا جهة الاشكال و هو أنّ كلامه عليه السّلام بظاهره متناقض حيث إنّه نفى الموت و البلا عنهم بعد إثباتها عليهم و الايجاب يناقض السلب و السّلب للايجاب، و أيضا أنهم عليهم الصّلاة و السّلام هل يحكم بموتهم و بلاهم في الواقع و نفس الأمر على ما هو مقتضى الشطر الايجابيّ من القضيّتين أولا يحكم بشي ء منهما في حقّهم على ما يقتضيه الجزء السّلبيّ منهما، فأقول و باللّه التوفيق: إنّ حلّ الاشكال في المقام موقوف على تحقيق الكلام في كلّ من القضيّتين و به يرتفع التناقض من البين.
فأمّا القضيّة الأولى فمحصّل القول فيها أنّ النّبيّ و الأئمة صلوات اللَّه و سلامه عليه و عليهم إلّا الحجّة المنتظر عجّل اللَّه فرجه قد انتقلوا من دار الدّنيا إلى دار الآخرة و خرجت أرواحهم من أبدانهم و جرى الموت عليهم حقيقة كما هو نصّ الجزء الايجابي من هذه القضيّة، و نفى الموت عنهم إنما هو من مفتريات عبد اللَّه ابن سبا و من حذا حذوه من الغلاة مخالف لاجماع الامة و لنصّ الكتاب و السنّة و قد قال سبحانه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) و قال: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ.
و أمّا سلب الموت عنهم عليهم السّلام في الجزء الثّاني من القضيّة فهو محمول على حياتهم بأجسادهم المثالية كما هو مذهب جمع من أصحابنا على ما حكى عنهم الطّبرسيّ في مجمع البيان في تفسير قوله: (وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ.
و إليه ذهب المحدّث المجلسيّ في كتاب حقّ اليقين و نسبه فيه على ما ببالي إلى المفيد (ره).
و قال في البحار في المجلّد الرابع عشر منه: و نحن لا ننكر الأجساد المثالية و تعلّق الأرواح بها بعد الموت بل نثبتها لدلالة الأحاديث المعتبرة عليها، بل لا يبعد عندى وجودها قبل الموت أيضا فتتعلّق بها الأرواح في حال النوم و شبهه من الأحوال لضعف تعلّقها بالأجساد الأصلية فيسير بها في عوالم الملك و الملكوت و لا أستبعد في الأرواح القويّة تعلّقها بالأجساد المثالية الكثيرة، و تصرّفها في جميعها في حاله فلا يستبعد حضورهم عليهم السّلام في آن واحد عند جمع كثير من المحتضرين و غيرهم.
و قال (ره) في المجلّد التاسع منه بعد نقله رواية البرسى في مشارق الأنوار استقبال أمير المؤمنين و حضوره جنازة نفسه في ظهر الكوفة عند تشييع الحسنين عليهما السّلام لها: و لا أردّ هذه الرّواية لورود الأخبار الكثيرة الدالّة على ظهورهم عليهم السّلام بعد موتهم في أجسادهم المثالية كما نقلنا عنه في شرح الكلام التاسع و الستّين، و لا بعد في ذلك أى في ثبوت الأجساد المثالية لهم، فقد ثبت ذلك في حقّ المؤمنين الّذينهم من فاضل طينتهم و أشعّة أنوارهم فكيف و هو عليه السّلام أمير المؤمنين و هو و أولاده المعصومون سادات أهل الايمان و اليقين بهم سعد من سعدو بولايتهم فاز من فاز و كلّ الكمالات فيهم و منهم و بهم و إليهم.
روى الكلينيّ في الكافي باسناده عن القاسم بن محمّد عن الحسين بن أحمد عن يونس بن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد اللَّه عليه السّلام فقال: ما يقول النّاس في أرواح المؤمنين فقلت: يقولون تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش، فقال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: سبحان اللَّه المؤمن أكرم على اللَّه من أن يجعل روحه في حوصلة طير، يا يونس إذا كان ذلك أتاه محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الملائكة المقرّبون عليهم السّلام فاذا قبضه اللَّه عزّ و جلّ صيّر تلك الروح في قالب كقالبه في الدّنيا فيأكلون و يشربون، فاذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصّورة الّتي كانت في الدّنيا.
و رواه في مجمع البيان عن تهذيب الأحكام للشيخ عن القاسم بن محمّد نحوه.
و في الكافي باسناده عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد اللَّه عليه السّلام: إنّا نتحدّث عن أرواح المؤمنين أنّها في حواصل طيور خضر ترعى في الجنّة و تأوى إلى قناديل تحت العرش فقال عليه السّلام: لا إذن ما هى في حواصل طير، قلت: فأين هي فقال عليه السّلام في روضة كهيئة الأجساد في الجنة.
و في مجمع البيان و الصافي من التهذيب عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن أرواح المؤمنين، فقال: في الجنّة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان.
و كيف كان فلا غبار على ذلك، و إطباق المشايخ على القدح في يونس بن ظبيان و نسبتهم له إلى الغلوّ و الكذب مع مدح بعضهم له و تلقّى جمع منهم روايته هذه بالقبول و بنائهم على مضمونها مع اعتضادها بالرّوايات الاخر لا يقدح في روايته هذه و العمل عليها، هذا هو الذي يقتضيه النظر الجليل في توجيه سلب الموت عنهم (ع).
و أمّا الذي يقتضيه النظر الدقيق فهو أن يقال بحياتهم بعد موتهم بأجسادهم الأصلية التي كانت في الدّنيا، و لا غرو فيه بعد دلالة الأخبار المعتبرة عليه.
مثل ما في الوسائل في باب كراهة الاشراف على قبر النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله من فوق عن الكلينيّ عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد البرقي عن جعفر بن المثنى الخطيب قال: كنت بالمدينة و سقف المسجد الذي يشرف على القبر قد سقط، و الفعلة يصعدون و ينزلون و نحن جماعة، فقلت لأصحابنا: من منكم له موعد يدخل على أبي عبد اللَّه عليه السّلام الليلة فقال مهران بن أبي نصر: أنا، و قال إسماعيل بن عمّار الصّيرفي: أنا فقلنا: سلاه عن الصّعود لنشرف على قبر النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، فلما كان من الغد لقيناهما فاجتمعنا جميعا، فقال اسماعيل: قد سألناه لكم عمّا ذكرتم فقال: ما أحبّ لأحد منهم أن يعلوه فوقه و لا آمنه أن يرى منه شيئا يذهب منه بصره أو يراه قائما يصلّي أو يراه مع بعض أزواجه.
و في البحار من المناقب لابن شهر آشوب عن عبد اللَّه بن سليمان و زياد بن المنذر و الحسن العباس بن حريش كلّهم عن أبي جعفر عليه السّلام و أبان بن تغلب و معاوية ابن عمّار و أبو سعيد المكاري كلّهم عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لقى الأوّل فاحتجّ عليه ثمّ قال: أترضى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله بيني و بينك فقال:
و كيف بذلك فأخذ بيده فأتى به مسجد قبا فاذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فيه فقضى له على الأوّل.
و فيه من إرشاد القلوب عن الصّادق عليه السّلام في حديث طويل ذكر فيه احتجاج أمير المؤمنين عليه السّلام على أبي بكر بحديث الغدير و غيره فقال أبو بكر: لقد ذكرتني يا أمير المؤمنين أمرا لو يكون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم شاهدا فأسمعه منه، فقال أمير المؤمنين: اللَّه و رسوله عليك من الشّاهدين يا أبا بكر إذا رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله حيّا و يقول لك إنّك ظالم لي في أخذ حقّي الّذي جعله اللَّه لي و لرسوله دونك و دون المسلمين أ تسلّم هذا الأمر إلىّ و تخلع نفسك منه فقال أبو بكر: يا أبا الحسن و هذا يكون أرى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله حيّا بعد موته يقول لي ذلك. فقال أمير المؤمنين: نعم يا أبا بكر، قال: فأرنى ذلك إن كان حقّا، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: اللَّه و رسوله عليك من الشّاهدين إنّك تفى بما قلت قال أبو بكر: نعم فضرب أمير المؤمنين عليه السّلام على يده و قال: تسعى معي نحو مسجد قبا فلمّا ورداه تقدّم أمير المؤمنين عليه السّلام فدخل المسجد و أبو بكر من ورائه فاذا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في قبلة المسجد، فلمّا رآه أبو بكر سقط لوجهه كالمغشيّ عليه فناداه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: ارفع رأسك أيّها الضّليل المفتون، فرفع أبو بكر رأسه و قال: لبّيك يا رسول اللَّه أحياة بعد الموت يا رسول اللَّه فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: ويلك يا أبا بكر (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) الحديث و نحوها أخبار اخر.
و أنت بعد ذلك لو سنحت بخاطرك سوانح الشبهات و خالجتك الشّكوك و احتملت تأويل هذه الأخبار بالأجساد المثالية و أردت أن يطمئن قلبك بجواز الحياة على الأجساد الأصلية فراجع إلى ما رواه في البحار من المناقب عن أبان بن تغلب و الحسين بن معاوية و سليمان الجعفري و إسماعيل بن عبد اللَّه بن جعفر كلّهم عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام
قال: لمّا حضر رسول اللَّه المماة دخل عليه عليّ عليه السّلام فأدخل رأسه معه ثمّ قال: يا علي إذا أنا متّ فغسّلني و كفنّي ثمّ اقعدني و سائلني و اكتب و من تهذيب الأحكام فخذ بمجامع كفني ثمّ اسألني عما شئت فو اللَّه لا تسألني عن شي ء إلّا أجبتك.
و رواه فيه من البصاير و الكافي و الخرائج عن البزنطي عن فضيل عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام مثله، و فيه و في رواية أبي عوانه باسناده قال عليّ عليه السّلام ففعلت فأنبأني بما هو كائن إلى يوم القيامة.
و في البحار أيضا من الخرائج عن إسماعيل بن عبد اللَّه بن جعفر عن أبيه عليه السّلام قال: قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: أمرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله إذا توفّى أن استسقي سبع قرب من بئر غرس فأغسله بها، فاذا غسلته و فرغت من غسله أخرجت من في البيت قال: فاذا اخرجتهم فضع فاك على فيّ ثمّ سلني عمّا هو كائن إلى أن تقوم الساعة من أمر الفتن، قال عليّ عليه السّلام: ففعلت ذلك فأنبأني بما يكون إلى أن تقوم الساعة، و ما من فئة تكون إلّا و أنا أعرف أهل ضلالها من أهل حقّها.
و من الخرائج أيضا عن حفص بن البخترى عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لأمير المؤمنين: إذا أنا متّ فغسّلني و كفّنّى و ما املي عليك فاكتب قلت: ففعل قال: نعم.
و يزيد توضيحا لذلك الأخبار الواردة في كتب المقاتل من أنّ الرّأس الأطيب الأطهر الأنور للسيّد الشّهداء روحي و جسمى له الفداء كان ينظر و يتحرّك و يتكلّم بعد قتله عليه السّلام فيكبّر تارة و يحوقل أخرى و يقرأ من القرآن آية الكهف و غيرها على السّنان و يخبر عن ما سنح بخاطر ابن وكيدة بالكوفة، إلى غير هذه ممّا شوهدت منه من المعجزات و الكرامات، أ فيمكن لك أن تقول إنّ ذلك لم يكن رأسه الأصلي و إنّما كان رأسه المثالي فاذا جاز الحياة على الرأس الذي هو جزء من البدن الشريف سلام اللَّه عليه فكيف بالبدن تمامه.
و قد روى غير واحد من أرباب المقاتل المعتبرة جلوس الجسد المذبوح عند وداع أهل بيته عليه السّلام له و معانقته لبنته الصغيرة و وصيّته إليها بأن يقول لشيعته:
- شعتي ما إن شربتم ماء عذب فاذكرونىأو سمعتم بغريب أو شهيد فاندبوني
إلى آخر الأبيات الّتي خرجت من الحلقوم الشّريف لعن اللَّه قاتليه و ظالميه أبد الآبدين و دهر الداهرين.
فحاصل الكلام و فذلكة المرام أنّي لا أمنع من تصرّفات أرواحهم الكلّيّة في أجسادهم الأصليّة كتصرّفها فى الأجساد المثاليّة على ما عليه أساطين العلماء باقدار من اللَّه سبحانه و إفاضة منه الحياة عليهم بعد موتهم إظهارا لشرفهم و رفعتهم و كرامتهم و إتماما للحجّة في بعض المقامات (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).
و لا أرى مانعا من ذلك إلّا ما في المجلس التّاسع عشر من كتاب أسرار الشّهادات من أنّ القول بتعلّق الأرواح بالأجساد الدّنيويّة الأصليّة قبل قيام الساعة أو قبل الرّجعة ممّا قام الاجماع على بطلانه و لكنّك خبير بما فيه إذ المسألة غير معنونة في كلام الأصحاب فكيف يمكن دعوى الاجماع و بعد الغضّ عن ذلك غايته أنّه إجماع منقول بخبر الواحد و هو على القول بحجّيته لا يكافؤ الأخبار المستفيضة الدّالّة على خلافه.
و يؤيّد ما ذكرته و يقرّبه ما في مجمع البيان في تفسير الآية السّابقة أعنى قوله: (وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) فانّه بعد ما اشكل في حياة الشهداء بقوله: فان قيل: فنحن نرى جثّة الشهداء مطروحة على الأرض لا تنصرف و لا يرى فيه شي ء من علامات الأحياء، قال (ره) ما نصّ عبارته: فالجواب أمّا على مذهب من يقول من أصحابنا أنّ الانسان هو النّفس إنّ اللَّه يجعل لهم أجساما كأجسامهم في دار الدّنيا يتنعّمون فيها دون أجسامهم التي في القبور فانّ النّعيم و العذاب إنما يحصل عنده إلى النّفس التي هي الانسان المكلّف عنده دون الجثة إلى أن قال: فأمّا على مذهب من قال من أصحابنا إنّ الانسان هذه الجمل المشاهدة و إنّ الرّوح هو النّفس المتردّد في مخارق الحيوان و هو أجزاء الجوّ فالقول أنه يلطف أجزاء من الانسان لا يمكن أن يكون الحىّ حيّا بأقلّ مما يوصل إليها النّعيم و إن لم تكن تلك الجملة بكمالها، لأنّه لا يعتبر الأطراف و أجزاء السّمن في كون الحىّ حيّا، فانّ الحىّ لا يخرج بمفارقتها من كونه حيّا.
و ربّما قيل: بأنّ الجثّة يجوز ان يكون مطروحة في الصورة و لا يكون ميتة فتصل إليها اللّذات كما أنّ النّائم حىّ و تصل إليه اللّذات مع أنه لا يحسّ و لا يشعر بشي ء من ذلك، فيرى في النوم ما يجد به السّرور و الالتذاذ حتّى يودّ أن يطول نومه فلا ينتبه.
و قد جاء في الحديث أنّه يفسح له مدّ بصره و يقال له نم نومة العروس، و قريب منه ما في التّفسير الكبير للفخر الرّازي حيث قال: فان قيل: نحن نشاهد أجسادهم ميتة في القبور فكيف يصحّ ما ذهبتم إليه قلنا: أما عندنا فالبنية ليست شرطا في الحياة و لا امتناع في أن يعيد اللَّه الحياة إلى كلّ واحد من تلك الذّرات و الأجزاء الصّغيرة من غير حاجة إلى التركيب و التأليف، و أمّا عند المعتزلة فلا يبعد أن يعيد اللَّه إلى الأجزاء التي لا بدّ منها في ماهية الحىّ و لا يعتبر بالأطراف و يحتمل أيضا ان يحييهم إذا لم يشاهدوا.
و بالجملة فقد تقرّر ممّا ذكرنا جواز الحياة على الأبدان الأصلية في الجملة و ارتفع بعد ذلك في نظرك بما نسبه الطبرسيّ إلى جمع من أصحابنا و الفخر الرّازي إلى المعتزلة مع أنه لا يعبؤ باستبعاد العقول بعد دلالة نصّ الآية و قيام الأخبار المستفيضة عليه هذا.
و أمّا القضية الثانية أعنى قوله: و يبلى من بلى منّا و ليس ببال، فقد ظهر تحقيق الكلام فيها مما سبق إذ بعد القول بحياة الأبدان على الوجه الذي قلناه لا يتصوّر البلى لمنافاتها له، نعم لا ينافيها على الوجه الذي اختاره الأشاعرة و الوجه الذي ذهب إليه المعتزلة و جمع من أصحابنا على ما عرفت في نقل كلامهم.
و يدلّ على ذلك أى على عدم البلى ظواهر الأخبار السّابقة مضافة إلى ما في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحكم عن زياد بن أبي الجلال عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما من نبيّ و لا وصيّ نبيّ يبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيّام حتّى ترفع روحه و عظمه إلى السّماء و إنما يؤتى مواضع آثارهم و يبلغونهم من بعيد السّلام و يسمعونهم في مواضع آثارهم من قريب.
و في الوسائل عن الشيخ باسناده عن محمّد بن سنان عن المفضل بن عمر قال: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقلت له: إنّي اشتاق إلى الغرّى فقال: ما شوقك إليه فقلت: له إنّي أحبّ أن أزور أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال عليه السّلام: هل تعرف فضل زيارته قلت: لا إلّا أن تعرّفني، فقال عليه السّلام: إذا زرت أمير المؤمنين عليه السّلام فاعلم أنّك زائر عظام آدم و بدن نوح و جسم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام الحديث.
و ما في شرح المعتزلي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّ الأرض لم تسلّط عليّ و أنها لا تأكل لي لحما و لا تشرب لي دما.
و في الفقيه عن الصّادق عليه السّلام إنّ اللّه عزّ و جلّ حرّم عظامنا على الأرض و حرّم لحومنا على الدّود أن يطعم منها شيئا.
و قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم حياتي خير لكم و مماتي خير لكم، قالوا: يا رسول اللّه و كيف ذلك قال عليه السّلام: أما حياتي فانّ اللّه عزّ و جلّ يقول: و ما كان اللّه ليعذّبهم و أنت فيهم، و أمّا مفارقتي إيّاكم فانّ أعمالكم تعرض علىّ كلّ يوم فما كان من حسن استزدت اللّه لكم و ما كان من قبيح استغفرت اللّه لكم، قالوا: و قد رحمت يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعنون صرت رميما فقال عليه السّلام: كلّا إنّ اللّه تبارك و تعالى حرّم لحومنا على الأرض أن يطعم منها شيئا، هذا.
و مقتضى الجمع بين هذه الأخبار و الأخبار الدالّة على نقل عظام آدم عليه السّلام إلى الغريّ و عظام يوسف إلى الأرض المقدّسة هو اختصاص حكم عدم البلى بهذه الشجرة المباركة أعني خاتم النبيّين و أوصيائه المعصومين سلام اللّه عليهم أجمعين.
فان قلت: فاذا قلت بعدم البلى على ما يقتضيه قوله عليه السّلام ليس ببال فكيف التوفيق بينه و بين قوله و يبلى من بلى منّا المقتضي لثبوت البلى قلت: ذلك محمول على زعم أغلب الخلق فانّ اسراء عالم الحواسّ من الناس لمّا زعموا أنّ الموت ملازم للبلى و قاسوا أولياء اللّه و عباده المصطفين بساير الخلق و لم يعرفوا أنّهم لا يقاس بهم أحد فأثبتوا البلى في حقّهم و لذلك عقّب عليه السّلام الايجاب بالسّلب كما أنّ اللّه سبحانه ردّ حسبان الخلق و زعمهم لكون القتل مستلزما للموت في سورة البقرة بقوله: (وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ) و في سورة آل عمران بقوله: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) فان قوله: (وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ).
في الآية الاولى دليل على أنهم لم يكن لهم شعور بحياتهم فاذا لم يكن لهم شعور بذلك فلا يكون لهم شعور بعدم البلى البتة من حيث الملازمة بينه و بين الموت في نظرهم كملازمة الموت للقتل عندهم، هذا.
و أما حمل البلى على بلى الأكفان فبعيد، و أبعد منه حمله على بلى الأبدان و حمل عدم البلى على عدمه للأرواح كما يظهر من شرح البحراني حيث قال في شرح هاتين الفقرتين ما نصّ عبارته: و إشارة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بهذه الكلمة تقرير لقوله تعالى: (وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الآية.
لما اتفقت عليه كلمة العلماء و نطقت به البراهين العقلية أنّ أولياء اللّه لا يموتون و لا يبلون و إن بليت أجسادهم.
قال بعض الخائضين فيما لا يعنيه: قوله: و يبلى من بلى منّا، نصّ جلّى على أنّ أجساد الأولياء تبلى، و ذلك يخالف ما يعتقده النّاس من أنّ أجسادهم باقية إلى يوم القيامة.
قلت: الاعتقاد المذكور لبعض الناس إنّما نشأ من قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قتلى بدر: زمّلوهم بكلومهم و دمائهم فانهم يحشرون يوم القيامة و أوداجهم تشخب دما، و قوله تعالى: و لا تحسبنّ الّذين قتلوا، الآية و ليس و لا واحد منهما بدال على أن الأجساد لا تموت و لا تبلى.
أمّا الخبر فليس مقتضاه أنها تبقى صحيحة تشخب دما إلى يوم القيامة، بل ذلك ممّا يشهد ببطلانه الحسّ، بل يحمل على أنّها كما تعاد يوم القيامة تعاد مجروحة تشخب جراحها دما كهيئتها يوم موتها.
و أمّا الآية فالذي أجمع عليه علماء المفسّرين أنّ الحياة المذكورة فيها هي حياة النّفوس، و هو ظاهر في سبب نزولها عن ابن عباس (رض) قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لما اصيبت إخوانكم باحد جعل اللّه أرواحهم في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنّة و تأكل من ثمارها و تأوى إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش، فلمّا وجد و اطيب مأكلهم و مشربهم و مقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنّا أنّا في الجنّة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد و لا يتكلّموا عند الحرب فقال اللّه عزّ و جلّ: أنا ابلّغهم عنكم فنزلت: و لا تحسبنّ الّذين قتلوا، الآية.
فاذن لا منافاة بين كلامه عليه السّلام و ما ورد في القرآن و الخبر، و مقصوده عليه السّلام بهذه الكلمة تقرير فضيلتهم و أنّهم أولياء باقون عند ربّهم في ظلّ كرامته انتهى كلامه.
و قد تحصّل منه أنه (ره) يحمل الموت و البلى في كلامه عليه السّلام على بلى الأجساد و موتها و يحمل عدم الموت و البلى فيه على حياة النفوس و الأرواح و بقائها و أنت خبير بما فيه.
أمّا أوّلا فلأنّ القول ببلى أجساد الأئمة و موتها خلاف ما هو المستفاد من الأخبار المستفيضة السّابقة.
و ثانيا أنّ الامام عليه السّلام إنّما أتى بالحديث النّبويّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إظهارا للرفعة و الكرامة و مقصوده عليه السّلام به المفاخرة و بيان فضيلة و منقبة مختصّة بهم عليه السّلام، و من المعلوم أنّ بقاء الأرواح مع بلى الأجساد ليس فضيلة مخصوصة بأهل بيت الرسالة بل هي جارية في حقّ ساير النّاس من المؤمنين و الكفّار، و قد مرّ في شرح الخطبة الثّانية و الثمانين أنّ أرواح المؤمنين في وادي السّلام و أرواح الكفّار في البرهوت، فأىّ معنى لحمل عدم البلى فيه علي عدم بلى الأرواح، مع أنّ استعمال لفظ البلى و عدم البلى إنّما هو مصطلح فى الأجساد و الأجسام دون الأنفس و الأرواح و هو واضح لا يخفى، بل الأرواح لا يتصوّر في حقّها البلى فلا معنى لنفى البلى عنها إلّا على وجه السالبة بانتفاء الموضوع خطبه 87 نهج البلاغه بخش 3 و ثالثا قوله ره: قلت: الاعتقاد المذكور إنّما نشأ من قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آه فيه أنّ سند الاعتقاد المذكور ليس منحصرا فيما ذكره بل قد دلّ عليه ما قدّمناه من الأدلّة.
و رابعا أنّ دعوى اتّفاق المفسّرين على كون الحياة المذكورة في الآية هي حياة النفوس ممنوعة، لما عرفت سابقا اختلاف المفسّرين فيها، فمنهم من يحملها على الحياة بالأجساد المثالية، و منهم من يحملها على الحياة بالأبدان الأصليّة، و منهم من يحملها على حياة النفوس فكيف يمكن مع هذا الخلاف دعوى الاتفاق، و ما أبعد ما بين هذه الدّعوى و بين إنكار البعض حديث الأرواح مستدّلا بكون الروح عرضا لا يتنعّم، فانّ دعوى الشارح للاتفاق واقع في طرف الافراط كما أنّ انكار هذا البعض في جانب التفريط من حيث أنّ الروح جسم لطيف هوائيّ حسّاسة فعّالة و ليس عرضا كما توهّمه فيجوز أن يتنعّم و يلتذّ.
و خامسا أنّ الحديث الذي نقله عن ابن عباس في مقام الاستظهار به قد عرفت ردّ الصادق عليه السّلام له في روايتي يونس بن ظبيان و أبي بصير المتقدّمتين، و اللّه العالم بحقايق الامور، و المحصّل لما في الصدور و انّما أطنبت الكلام في المقام لكونه من مزالق الأقدام محتاجا إلى كشف الحجاب عن المرام و قد وضح لك فيه ما اقتضت الأدلّة من الكتاب و السّنة و من اللّه سبحانه أسأل العصمة و السداد من الخطاء في القول و الاعتقاد بمحمد و آله الأطهار الأمجاد.
ثمّ إنّه عليه السّلام لمّا ذكر مناقب آل العباء و من خصّه اللّه بالولاية و الولاء و أكّده بحديث سلب الموت و البلى و كان ذلك بعيدا عن مذاق العوام و أمرا عجيبا عند العقول و الأوهام و مظنة للردّ و الانكار لا جرم أردفه بقوله (و لا تقولوا بما لا تعرفون فانّ أكثر الحقّ فيما تنكرون) و هو نهى لهم عن القول في حقّ العترة بما لا يعرفون و عن التسرّع إلى ردّ ما يستعجبون معلّلا بأنّ أكثر الحقّ فيما ينكرون و المقصود به أنّ صاحب الولاية لا يقاس بالنّاس إذ شئونات الولاية المطلقة بعيدة عن الوهم و القياس و إدراكات الخلق أغلبها مقصورة على عالم الحواس، و الجاهل ربما ينكر بداء جهالته الحقّ إذا خالف طبعه أو عجز عن إدراكه فهمه أو سبق إليه اعتقاده ضدّه بشبهة أو تقليد أو بما انقدح في وهمه من شكّ و ترديد، فلا يجوز الخوض في اللّجاج و العناد بمجرّد الاستغراب و الاستبعاد.
|