الفصل الثالث
حتّى إذا تصرّمت الامور، و تقضّت الدّهور، و أزف النّشور، أخرجهم من ضرائح القبور، و أوكار الطّيور، و أوجرة السّباع، و مطارح المهالك، سراعا إلى أمره، مهطعين إلى معاده، رعيلا صموتا، قياما صفوفا، ينفذهم البصر، و يسمعهم الدّاعي، عليهم لبوس الاستكانة، و ضرع الإستسلام و الذّلّة، قد ضلّت الحيل، و انقطع الأمل، و هوت الأفئدة كاظمة، و خشعت الأصوات مهينمة، و ألجم العرق، و عظم الشّفق، و أرعدت الأسماع لزبرة الدّاعي إلى فصل الخطاب، و مقايضة الجزاء و نكال العقاب، و نوال الثّواب.
اللغة
(صرمت) النّخل قطعته و انصرم اللّيل و تصرّم ذهب و (قضّ) الشي ء يقضّه قطعه و (أزف) شخوص فلان يأزف أزفا من باب تعب قرب و دنا و منه قوله: أزفت الآزفة، أى قربت القيامة و دنت، سمّيت بذلك لأنّ كلّ ما هو آت قريب و (نشر) الموتى نشورا من باب قعد حيّوا و نشرهم اللّه يتعدّي و لا يتعدّى، و قد يتعدّي بالهمزة يقال أنشرهم اللّه و قال تعالى: و إذا شاء أنشره، أى أحياه بعد إماتته.
و (الضّريح) الشّق في وسط القبر في جانب فعيل بمعنى مفعول و (اوجرة) السّباع جمع و جار بالكسر و هو جحرها الذي تأوى إليه و (هطع) يهطع من باب منع أسرع مقبلا و أهطع فى عدوه أسرع و منه قوله تعالى: مهطعين إلى الدّاع، أى مسرعين إليه في خوف.
و (الرّعيل) القطعة من الخيل و الجماعة من النّاس و (الصّموت) جمع صامت كالصّمت و الصّمات مصدر بمعنى السّكوت من صمت يصمت من باب قتل و (اللّبوس) بفتح اللّام ما يلبس قال تعالى: و علّمناه صنعة لبوس، يعني الدّرع و (الاستكانه) الخضوع و (ضرع) له يضرع من باب منع ضراعة ذلّ و خضع، و ضرع ضرعا من باب تعب لغة و ضرع ضرعا و زان شرف ضعف، و تضرّع إلى اللّه ابتهل و (كظم) يكظم كظما من باب ضرب و سكت و رجل كظيم و مكظوم مكروب.
و (الهينمة) الصّوت الخفىّ و (الجم العرق) بلغ الفم فصار كاللجام و (الشفق) الخوف و (ارعدت الاسماع) بالبناء على المجهول أخذتها الرّعدة و (الزّبرة) من زبره زبرا من باب ضرب زجره و نهره و (قايضته) به بالياء المثناة التّحتانيّة عارضته عرضا بعرض و (نكل) به تنكيلا صنع به صنعا يحذر غيره، و النّكال اسم منه أو هو العقوبة و (النّوال) العطا.
الاعراب
سراعا، منتصب على الحال من مفعول أخرج و كذلك المنصوبات بعده، و لبوس الاستكانة مرفوع على الابتداء قدّم عليه خبره للتّوسع، و قوله إلى فصل الخطاب متعلّق بالدّاعي.
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل من الكلام قد ساقه عليه السّلام لبيان ما يحلّ على النّاس بعد الموت و يلحق بهم من شدايد القيامة و أهوالها و أشار به إلى النّشر و المعاد فقال (حتّى إذا تصرّمت الامور و تقضت الدّهور) أى تعطلت امور النّاس بموتهم و انقضت الازمان و تقطعت (و أزف النّشور) أى دنى و قرب وقت احيائهم بعد إماتتهم أمر اللّه سبحانه بنفخ الصّور فنشرهم و حشرهم.
و (أخرجهم من ضرايح القبور) ان كانوا مدفونين فيها (و أو كار الطيور) ان كانوا أكيل طير (و أوجرة السّباع) إن كانوا فريسة سبع (و مطارح المهالك) ان قتلوا في معركة حرب و نحو ذلك و بالجملة ينشرهم اللّه و يأتي بهم جميعا أينما كانوا (سراعا إلى أمره) و قضائه غير لابثين (مهطعين الى معاده) غير مماكسين كما قال تعالى في سورة ق يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أى يسرعون إلى أمره بلا مكث و تأخير، و فى سورة القمر: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْ ءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ.
(رعيلا صموتا قياما صفوفا) أى جماعة ساكتين قائمين صافين لا يقدرون على الكلام و لا يرخّص لهم في القعود كما قال تعالى في سورة النّبأ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ أي بنو آدم على أحد التّفاسير وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً و فيها أيضا يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً.
روى في المجمع عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه سئل عن هذه الآية فقال: يحشر عشرة أصناف من امّتي أشتاتا قد ميّزهم اللّه من المسلمين و بدّل صورهم فبعضهم على صورة القردة، و بعضهم على صورة الخنازير، و بعضهم منكوسون أرجلهم من فوق و وجوههم من تحت ثمّ يسحبون عليها، و بعضهم عمى يتردّدون، و بعضهم صمّ بكم لا يعقلون، و بعضهم يمضغون ألسنتهم يسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذّرهم أهل الجمع، و بعضهم مقطّعة أيديهم و أرجلهم، و بعضهم مصلّبون على جذوع من النّار، و بعضهم أشدّ نتنا من الجيف، و بعضهم يلبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم.
فأمّا الذين على صورة القردة فالقتاة من النّاس، و أمّا الذين على صورة الخنازير فأهل السّحت، و أمّا المنكوسون على رؤوسهم فآكلة الرّبا، و العمى الجائرون في الحكم، و الصمّ البكم المعجبون بأعمالهم، و الذين يمضغون ألسنتهم العلماء و القضاة الذين خالف أعمالهم أقوالهم، و المقطّعة أيديهم و أرجلهم الذين يؤذون الجيران، و المصلّبون على جذوع من نار فالسّعاة بالنّاس إلى السلطان، و الذين أشدّنتنا من الجيف فالذين يتمتّعون بالشّهوات و اللذات و يمنعون حقّ اللّه في أموالهم، و الذين هم يلبسون الجباب فأهل الفخر و الخيلاء.
(ينفذهم البصر) بصر الجبّار تعالى أى لا يخفى أحد منهم مع كثرتهم عن ادراكه سبحانه و لا يعزب عن علمه كما قال في سورة الحاقة: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (و يسمعهم الدّاعي) يعني أنّهم مع هذه الكثرة أيضا يشملهم و يحيط بهم عموم دعاء الدّاعى إلى فصل الخطاب و يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم نداء المنادي إلى الموقف و الحساب، و إليه الاشارة بقوله تعالى في سورة ق.
يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ.
قال الطبرسي: و إنّما قال من مكان قريب لأنّه يسمعه الخلايق كلّهم على حدّ واحد فلا يخفى على أحد قريب و لا بعيد فكأنّهم نودوا من مكان يقرب منهم (عليهم لبوس) الخضوع و الخشوع و (الاستكانة و ضرع) التذلل و (الاستسلام و الذلة) من هول هذا اليوم و فزعه كما قال سبحانه في سورة طه: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً.
قال الطبرسي أى خضعت و ذلت خضوع الأسير في يد من قهره و المراد خضع أرباب الوجوه و استسلموا الحكم للحيّ الذي لم يمت و لا يموت، و إنّما اسند الفعل إلى الوجوه لأنّ أثر الذّلّ يظهر عليها، و قيل المراد بالوجوه الرّؤساء و القادة و الملوك أى يذلّون و ينسلخون عن ملكهم و عزّهم، و في سورة المعارج: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ.
أى يخرجون من القبور مسرعين كأنّهم يسعون إلى علم نصب لهم خاضعة أبصارهم لا يستطيعون النّظر من هول ذلك اليوم و تغشيهم المذلّة (قد ضلّت الحيل) أى الحيل الدّنيويّة فلا يستطيعون الخلاص ممّا هم فيه بالحيلة و التّدبير كما كانوا يخلصون من بعض آلام الدّنيا بها (و انقطع الأمل) أى أملهم في الدّنيا لامتناع عودهم إليها و انقطاع طمعهم عنها (و هوت الأفئدة كاظمة) أى خلت من الفرح و السّرور بل و من كلّ شي ء حال كونها ساكتة أو مكروبة و محزونة و هو مأخوذ من قوله تعالى في سورة إبراهيم: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ.
قال الطبرسي: مهطعين أى مسرعين و قيل يريد دائمي النظر إلى ما يرون لا يطرفون مقنعي رؤوسهم أى رافعي رؤوسهم إلى السّماء حتّى لا يرى الرّجل مكان قدمه من شدّة رفع الرأس و ذلك من هول يوم القيامة و قال مورج: معناه ناكسي رؤوسهم بلغة قريش لا ير إليهم طرفهم أى لا يرجع إليهم أعينهم و لا يطبقونها و لا يغمضونها و إنّما هو نظر دائم و أفئدتهم هواء أى قلوبهم خالية من كلّ شي ء و قيل خالية من كلّ سرور و طمع في الخير لشدّة ما يرون من الأهوال كالهواء الذي بين السّماء و الأرض و قيل معناه و أفئدتهم زائلة عن مواضعها قد ارتفعت إلى حلوقهم لا تخرج و لا تعود إلى أماكنها بمنزلة الشي ء الذاهب في جهات مختلفة المتردّد في الهواء و قيل معناه خالية عن عقولهم (و خشعت الأصوات مهينمة) أى حال كونها ذات هينمة و خفاء قال: وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً.
قال في مجمع البيان: أى خضعت الأصوات بالسّكون لعظمة الرّحمن، و الهمس هو صوت الاقدام أى لا تسمع من صوت الاقدام أى لا تسمع من صوت أقدامهم إلّا صوتا خفيّا كما يسمع من أخفاف الابل عند سيرها و قيل الهمس إخفاء الكلام و قيل معناه إنّ الأصوات العالية بالأمر و النّهى في الدّنيا ينخفض و يذلّ أصحابها فلا يسمع منهم إلّا الهمس (و الجم العرق) أى بلغ أفواههم، قال الشّارح المعتزلي: و في الحديث أنّ العرق ليجرى منهم حتّى أنّ منهم من يبلغ ركبتيه، و منهم من يبلغ صدره، و منهم من يلجمه و هم أعظمهم مشقّة.
أقول: و عن الارشاد عن الصّادق عليه السّلام في حديث إنّ الغنى ليوقف للحساب و يسيل منه العرق حتّى لو شرب منه أربعون بعيرا لصدر، و يأتي لهذا مزيد تفصيل في شرح المختار المأة و التّاسع و الثمانين إنشاء اللّه (و عظم الشّفق) و في بعض الرّوايات أنّ شعر رأس النّاس و بدنهم يبيض من شدّة الخوف و الاشفاق بعد ما كان أسود«» (و ارعدت الاسماع لزبرة الدّاعي إلى فصل الخطاب) أى أخذتها الرّعدة و الاضطراب من زجر الدّاعي و نهره و هيبة صوته قال الطبرسي في تفسير قوله وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ.
قيل إنّه يناد المناد من صخرة بيت المقدّس أيتها العظام البالية و الأوصال المنقطعة و اللحوم المتمزّقة قومي لفصل القضاء و ما أعدّ اللّه لكم من الجزاء و قيل إنّ المنادى هو إسرافيل يقول يا معشر الخلائق قوموا للحساب (و مقايضة الجزاء) مبادلتها و معاوضتها (و نكال العقاب) إن كسبت يداه في الدّنيا سيئة (و نوال الثّواب) إن اقترف فيها حسنة.
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ
تنبيه و تحقيق
اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة كبعض الخطب الآتية نصّ صريح في ثبوت المعاد الجسماني و عليه قد دلّت الآيات القرآنيّة مما ذكرناها و ما لم يذكر، و السّنن النّبوية المتواترة بل هو ضروري الدين و عليه اتفاق المسلمين و مع ذلك كلّه لايعباء بخلاف الحكماء و منعهم منه بناء على امتناع اعادة المعدوم من حيث امتناع عود أسبابه بعينها من الوقت و الدّورة الفلكية المعيّنة و غيرهما و ربّما قال بعض الحكماء أى حكماء الاسلام بجواز عود المثل و ربّما قلّد بعضهم ظاهر الشّريعة في أمر المعاد الجسماني، و إثبات السّعادة و الشقاوة البدنيّة مع الرّوحانيّة.
قال الصّدر الشّيرازى في شرح الهداية للميبدي: و اعلم أنّه قد زعمت الفلاسفة الطبيعيّون و اوساخ الدّهرية الذين لا اعتداد بأقوالهم و آرائهم في الملّة و لا في الفلسفة انكار المعاد مطلقا للانسان زعما منهم أنّه متكوّن من مزج و امتزاج لهذا الهيكل المحسوس بما له من القوى و الأعراض و ذلك يفنى بالموت و لا يبقى فيه إلّا الموادّ العنصرية و لا اعادة للمعدوم فمهما فسد لا يرجى له عايدة فحكموا بأنّه إذا مات مات و نيل سعادته أو شقاوته قد فات كما حكى اللّه عنهم في كتابه المجيد: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا مثل العشب و المرعى فيصير غثاء أهوى فلهذا السّبب أنكروا النبّوة المنذرة بالبعث و فوايدها و أصرّوا صريحا على منع نشر موايدها، و في هذا تكذيب العقل على ما يراه المحقّقون من أهل الفلسفة و الشّرع على ما قرّره المحقّقون من أهل الملّة.
و اتّفق المحقّقون من الفلاسفة و الملّيين على ثبوت المعاد و حقيّته لكنّهم اختلفوا في كيفيّته.
فذهب جمهور المسلمين على أنّه جسمانيّ فقط، لأنّ الرّوح عندهم جسم سار في البدن سريان الزّيت في الزّيتون و ماء الورد في الورد و النّار في الفحم.
و ذهب جمهور الفلاسفة إلى أنّه روحانيّ فقط، لأنّ البدن ينعدم بصوره و أعراضه فلا يعاد و النّفس جوهر مجرّد باق لا سبيل إليه للفساد.
و ما تزيّن به كثير من علماء الاسلام كأصحابنا الاماميّة و الشّيخ الغزالي و الكعبي و الحلبي و الرّاغب الاصفهاني هو القول بالمعادين: الرّوحاني و الجسماني جميعا ذهابا إلى أن النّفس جوهر مجرّد يعود إلى البدن، و هذا رأى كثير من الصّوفيّة و الكراميّة و به يقول جمهور النّصارى و التّناسخيّة.
قال الامام الرّازي إلّا أنّ الفرق أنّ المسلمين يقولون بحدوث الأرواح و ردّها إلى البدن لا في هذا العالم بل في الآخرة، و التّناسخيّة بقدمها و ردّها إليه في هذا العالم و ينكرون الآخرة و الجنّة و النّار.
أقول: و ممّن قال بالمعادين الشّيخ الرّئيس أبو عليّ بن سينا قال في محكىّ كلامه من الشفا: يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو مقبول من الشّرع و لا سبيل إلى إثباته إلّا من طريق الشّريعة و تصديق خبر النبوّة و هو الذي للبدن عند البعث و خيرات البدن و شروره معلومة لا تحتاج أن تعلم، و قد بسطت الشّريعة الحقة التي أتانا بها سيّدنا و مولينا محمّد صلّى اللّه عليه و آله حال السّعادة و الشّقاوة اللتين بحسب البدن.
و منه ما هو مدرك بالعقل و القياس البرهاني و قد صدّقه النبوّة و هو السّعادة و الشّقاوة البالغتان الثابتتان بالمقائيس اللتان للأنفس و إن كانت الأوهام منّا تقصر عن تصوّرها الآن، لما نوضح من العلل و الحكماء الالهيّون رغبتهم في اصابة هذه السّعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السّعادة البدنيّة بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك و ان اعطوها و لا يستعظمونها في جنب هذه السّعادة التي هى مقاربة الحقّ الأوّل انتهى كلامه.
و قال المحقّق الشّيرازي أيضا في شرح الهداية: اعلم أنّ إعادة النّفس إلى بدن مثل بدنها الذي كان لها فى الدّنيا مخلوق من سنخ هذا البدن بعد مفارقتها عنه في القيامة كما نطقت به الشّريعة من نصوص التّنزيل و روايات كثيرة متظافرة لأصحاب العصمة و الهداية غير قابلة للتّأويل كقوله تعالى: وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أمر ممكن غير مستحيل فوجب التّصديق بها لكونها من ضروريّات الدّين و إنكاره كفر مبين و لا استبعاد أيضا فيها بل الاستبعاد و التّعجب من تعلّق النّفس إليه في أوّل الأمر أظهر من تعجّب عوده إليه إلى أن قال: و لا يضرّنا أيضا كون البدن المعاد غير البدن الأوّل بحسب الشّخص لاستحالة كون المعدوم بعينه معادا و ما شهد من النّصوص من كون أهل الجنّة صردا مردا، و كون ضرس الكافر مثل جبل أحد، و كذا ما روى من قوله يحشر بعض النّاس يوم القيامة على صورة يحسن عندها القردة و الخنازير، يعضد ذلك، و كذا قوله: كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها.
فان قيل فعلى هذا يكون المثاب و المعاقب باللذات و الآلام الجسمانيّة غير من صدرت منه الطاعات و الخيرات و ارتكب المعاصى و الشّرور.
قلنا: العبرة في ذلك الجوهر المدرك و هو النّفس و لو بواسطة الآلات و هي باقية بعينها و كذا المادّة و السنخ كالأجزاء الأصليّة في البدن أو غيرها و لهذا يقال للشّخص مع انتقاله من الصّبا إلى الشّيخوخيّة و التّجدّدات و الاستحالات الواقعة فيما بين أنّه هو بعينه و إن تبدّلت الصّور و الهيآت و كثير من الأعضاء و الآلات و لا يقال لمن جنى في الشّباب و عوقب في المشيب أنّه عقاب بغير الجاني انتهى.
و أنت إذا أحطت خبرا بالأقوال في المسألة فلا بأس بالاشارة إلى بعض شبه المنكرين مع إبطال شبههم حسبما اشير إليه في الكتاب العزيز قال سبحانه: أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ.
روى أنّ امية بن خلف أو العاص بن وائل السّهمى أو أبي بن خلف و هو المرويّ عن الصّادق عليه السّلام أيضا جاء بعظم بال متفتّت و قال: يا محمّد أ تزعم أنّ اللّه يبعث هذا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نعم و يدخلك جهنّم فنزلت الآية، و هو المراد بالانسان في الآية و إن كان الحكم جاريا في حقّ كل من ينكر البعث و الحشر إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب على ما تقرّر في الاصول فالمعنى: أو لم يعلم الانسان أنا خلقناه من نطفة، ثمّ نقلناه من النّطفة إلى العلقة، و من العلقة إلى المضغة، و من المضغة إلى العظام، و كسونا العظام لحما، ثمّ أنشأناه خلقا آخر كامل العقل و الفهم، فاذا كمل عقله و فهمه صار متكلّما مخاصما، فمن قدر على مثل هذا فكيف لا يقدر على الاعادة و الاحياء مع أنّها أسهل من الانشاء و الابتداء ثمّ أكّد سبحانه الانكار عليه فقال: و ضرب لنا مثلا، أى ضرب المثل في إنكار البعث بالعظم البالي وفتّه بيده، و نسي خلقه، أى ترك النّظر في خلق نفسه مع أنّه من أدلّ الدلائل على جواز البعث و إمكانه، لما ذكرناه من أنّه مخلوق من نطفة متشابهة الأجزاء مع كونه مختلف الأعضاء إذ لو كان خلقه من أشياء مختلفة الصّور لأمكن أن يقال العظم خلق من جنس صلب و اللحم من جنس رخو و كذلك الحال في كلّ عضو، و لما كان خلقه من متشابهة الأجزاء مع اختلاف صوره كان ذلك دليلا على كمال الاختيار و القدرة.
مضافا إلى القوّة العاقلة و الفاهمة و الناطقة التي أعطاها اللّه له و أبدعها فيه فقدر معها على المخاصمة و الاحتجاج مع أنّ تلك القوّة لم تكن في النطفة أصلا و لم تكن من مقتضياتها و دلالة ذلك على الاختيار و الاقتدار أقوى.
ثمّ إنّ المنكرين للبعث منهم من لم يذكر فيه دليلا و لا شبهة و إنّما اكتفى بمجرّد الاستبعاد و ادّعى الضرورة و البداهة في استحالة المعاد و هم الأكثرون و يدلّ عليه ما حكاه تعالى عنهم في غير موضع كما قال: و قالوا أ إذا ظللنا في الأرض ء إنّا لفى خلق جديد، أ إذا متنا و كنا ترابا و عظاما ء إنّا لمبعثون، ءإنّك لمن المصدّقين أ إذا متنا و كنّا ترابا و عظاما ءإنّا لمدينون إلى غير ذلك.
و مثلها ما حكاه هنا بقوله: قال من يحيى العظام و هى رميم، على طريق الاستبعاد، و هو المراد بالمثل الذي ضربه الانسان المذكور و لما كان استبعاده من جهة التفتّت و التفرق اختار العظم للذكر لبعده عن الحياة لعدم الاحساس فيه و وصفه بما يقوى جانب الاستبعاد من البلا و التفتّت و قال: هى رميم، و قد دفع اللّه سبحانه بقوله: و نسى خلقه، إذ لو كان تدبّر في خلقه و عرف قدرة خالقه و اختياره و علمه لما استبعد ذلك.
و منهم من ذكر شبهة و إن كان مرجعها بالأخرة إلى الاستبعاد أيضا و هى على وجهين: أحدهما أنّه بعد العدم لا يبقى شي ء فكيف يصحّ على المعدوم الحكم بالوجود و دفعها بقوله. قل يحيها الّذي أنشأها أوّل مرّة، يعنى كما خلق الانسان و لم يكن شيئا مذكورا كذلك يعيده و إن لم يبق شيئا مذكورا.
و ثانيهما أنّ من تفرّق أجزاؤه في مشارق الأرض و مغاربها و صار بعضه في أبدان السباع، و بعضه في جدران الرّباع و بعضه في ضرايح القبور و بعضه في أو كار الطيور كيف يجمع.
و أبعد من ذلك أنّه قد يأكل الانسان سبع و يأكل السّبع طاير و يأكل الطائر إنسان آخر، و من المعلوم أنّ أجزاء المأكول يصير جزء بدن الآكل فاذا حشر الانسان و الحيوان على ما هو المذهب الحقّ فتلك الأجزاء المفروضة إمّا أن تعاد في بدن الآكل أو في بدن المأكول أو هما معا، فان اعيدت في بدن الآكل لزم أن لا يعاد المأكول، و إن اعيد المأكول لزم أن لا يعاد الآكل و إن كان الثالث لزم المحال، لأنّ الجزء الواحد لا يكون في موضعين.
فقال تعالى في إبطال هذه الشّبهة: و هو بكلّ خلق عليم، و توضيحه أنّ في بدن الآكل أجزاء أصليّة و أجزاء فضليّة، و في المأكول كذلك، فاذا أكل الانسان سبع صار الأصلى من أجزاء المأكول فضليا من أجزاء الآكل و الأجزاء الأصليّة للآكل هي ما كان له قبل الاكل، و اللّه بكلّ خلق عليم، يعلم الأصلى من الفضلى فيجمع الأجزاء الاصليّة للآكل و ينفخ فيها روحه، و يجمع الأجزاء الاصليّة للمأكول فينفخ فيها روحه، و كذلك يجمع الأجزاء المتفرقة من البقاع و الأصقاع بحكمته الشّاملة و قدرته الكاملة.
ثمّ بالغ سبحانه في إبطال إنكارهم بقوله: الذي جعل لكم من الشّجر الأخضر نارا فاذا أنتم منه توفدون، و وجه المبالغة هو أنّ الانسان مشتمل على جسم يحسّ به و حياة سارية فيه و هي كحرارة جارية فيه، فان استبعدتم وجود حرارة و حياة فيه فلا تستبعدوه فانّ النار في الشّجر الأخضر الذي يقطر منه الماء أعجب و أغرب و أنتم تشهدونه حيث إنّكم منه توقدون.
و إذا حقّقت ما ذكرناه و وضح لك صحّة المعاد الجسماني وضوح الشّمس في رابعة النّهار: ظهر لك فساد ما ربّما قيل أو يقال: من أنّ الآيات المشعرة بالمعاد الجسماني ليست أكثر و أظهر من الآيات المفيدة للتّجسّم و التّشبه و الجبر و القدر و نحو ذلك و قد وجب تأويلها قطعا و صرفها عن ظواهرها.
قلنا دلّ هذه الآيات أيضا إلى بيان المعاد الرّوحاني و أحوال سعادة النّفس و شقاوتها بعد مفارقة الأبدان و الأجسام على وجه يفهمه العوام، فانّ الأنبياء مبعوثون إلى كافّة الخلق للارشاد بقدر الاستعداد إلى سبيل الحقّ و تكميل النفوس بحسب القوّة النظرية و العملية و تبقية النظام المفضى إلى صلاح الكلّ.
و ذلك بالتّرغيب و التّرهيب بالوعد و الوعيد و البشارة بما يعتقدونه لذّة و كمالا و الانذار عمّا تعدونه ألما و نقصانا و أكثرهم عوام تقصر عقولهم لا يفهمون عالم الأشباح و المحسوسات عن ذات المبدأ الأوّل و الشّريعة تحاكيها بمثالاتها المأخوذة من المبادى الجسمانية و تحاكى الأفعال الالهية بأفعال المباد المدنيّة من الملوك و السلاطين القهارين و هكذا. فوجب أن يخاطبهم الأنبياء في باب المعاد بما هو مثال للمعاد الحقيقي ترغيبا و ترهيبا للعوام و تتميما للنظام و لهذا قيل إنّ الكلام مثل و أشباح للفلسفة.
وجه ظهور الفساد أنّ الذّهاب إلى المجاز إنّما هو عند تعذّر إرادة الحقيقة و المصير إلى التأويل عند عدم إمكان الظاهر كما في آيات الجبر و القدر و التجسّم، و ما نحن فيه ليس من هذا القبيل إذ لا تعذّر ههنا سيّما على قول من يقول بكون البدن المعاد مثل الأوّل لا عينه.
و حمل كلام الشريعة و نصوص الكتاب على الأمثال و الأشباح و الاشارة إلى معاد النفس و الرّعاية لمصلحة العامّة التوجب «توجب ظ» نسبة المتصدّعين للشرع إلى الكذب فيما يتعلّق بالتبليغ و القصد إلى تضليل أكثر الخلائق و التعصّب طول العمر لترويج الباطل و إخفاء الحقّ لأنهم لا يفهمون من الكلام إلّا ظاهره الّذي لا حقيقة له على ما زعمه هذا القائل، و ما هذه إلّا فرية بيّنة و بهتان عظيم.
و بذلك كلّه ظهر أنّ ما حكاه في شرح البحراني من تأويل بعض الفضلاء كلام الامام عليه السّلام في هذا الفصل على ما يناسب مذهب القائلين بالمعاد الروحاني مما لا طائل تحته بل تطويل الكتاب بمثل تلك التأويلات الباردة الفاسدة موجب لتفويت الوقت و تضييع القوّة القدسيّة.
عصمنا اللّه سبحانه من هفوات الجنان، و عثرات اللسان بحق محمّد و آله البررة الكرام عليه و عليهم السّلام إلى يوم البعث و القيام.
هداية و ارشاد
في الاشارة إلى معنى الحشر على ما حقّقه صدر المتألّهين في كتابه المسمّى بمفاتح الغيب و ايراد بعض الأخبار الواردة في ذلك و ما يناسب ذلك.
فاعلم أنّ الزّمان علّة التّغير و التعاقب و الاحتجاب بوجه، و المكان علّة التفرّق و التكثّر و الاغتياب بوجه، فهما سببان لاختفاء الموجودات و احتجاب بعضها عن بعض، فاذا ارتفعا في القيامة ارتفع الحجب بين الخلائق فيجتمع الخلائق كلّهم و الأوّلون و الآخرون قل إنّ الأوّلين و الآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم فهي يوم الجمع ذلك يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن.
و بوجه آخر، ذلك يوم الفصل لأنّ الدّنيا دار مغالطة و اشتباه يتشابك فيها الحقّ و الباطل و يتعانق فيها الوجود و العدم و الخير و الشرّ و النور و الظلمة و في الآخرة يتقابل المتخاصمان و يتفرّق المتخالفان، و يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرّقون.
و فيها يتميّز التشابهان، ليميز الخبيث من الطيّب، و ينفصل الخصمان، ليحقّ الحقّ و يبطل الباطل، ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حىّ عن بيّنة.
و لا منافاة بين هذا الفصل و ذلك الجمع بل هذا يوجب ذلك، هذا يوم الفصل جمعناكم و الأوّلين، و الحشر أيضا بمعنى الجمع، و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا إذا عرفت ذلك فأقول قال سبحانه: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ، وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ، وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ.
قال الطبرسيّ في تفسير الصور: و هو قرن ينفخ فيه إسرافيل و وجه الحكمة في ذلك أنها علامة جعلها اللّه ليعلم بها العقلا آخر أمرهم في دار التكليف ثمّ تجديد الخلق فشبه ذلك بما يتعارفونه من بوق الرحيل و النزول و لا يتصوّره النفوس بأحسن من هذه الطريقة، و قوله: فصعق من في السموات و من في الأرض، أى يموت من شدّة تلك الصّيحة التي تخرج من الصّور جميع من السموات و الأرض يقال: صعق فلان إذا مات بحال هائلة شبيهة بالصيحة العظيمة.
و اختلف في المستثنى بقول إلّا من شاء اللّه، و في المجمع روى مرفوعا هم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت و في رواية أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سأل جبرئيل عن هذه الآية من ذا الذي لم يشاء اللّه أن يصعقهم قال: هم الشهداء متقلّدون أسيافهم حول العرش.
و قوله: ثمّ نفخ فيه اخرى فاذا هم قيام ينظرون، أراد النفخة الثانية و يسمّى النفخة الاولى بنفخة الصعق، و الثانية بنفخة البعث أى ثمّ نفخ فيه نفخة اخرى فاذا هم قائمون من قبورهم يقلّبون أبصارهم في الجوانب، و قال الطبرسي أى ينتظرون ما يفعل بهم و ما يؤمرون به.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي باسناده عن ثوير بن أبي فاخته عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: سئل عن النفختين كم بينهما قال: ما شاء اللّه، فقيل له فأخبرني يا بن رسول اللّه كيف ينفخ فيه فقال: أما النّفخة الاولى فانّ اللّه يأمر اسرافيل فيهبط إلى الأرض و معه الصّور و للصّور رأس واحد و طرفان و بين رأس كلّ طرف منهما إلى الآخر ما بين السماء و الأرض، فاذا رأت الملائكة إسرافيل و قد هبط إلى الدّنيا و معه الصور قالوا: قد أذن اللّه في موت أهل الأرض و في موت أهل السّماء.
قال: فهبط إسرافيل بحظيرة القدس و هو مستقبل الكعبة فاذا رأوه أهل الأرض قالوا: قد أذن اللّه عزّ و جلّ في موت أهل الأرض، فينفخ فيه نفخة فيخرج الصّوت من الطرف الذي يلي الأرض فلا يبقى في الأرض ذو روح إلّا صعق و مات، و يخرج الصّوت من الطرف الذي يلي السّماوات، فلا يبقى في السّماوات ذو روح إلّا صعق و مات إلّا إسرافيل.
قال: فيقول اللّه لاسرافيل: يا إسرافيل مت، فيموت إسرافيل فيمكثون في ذلك ما شاء اللّه، ثمّ يأمر السّماوات فتمور و يأمر الجبال فتسير و هو قوله: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً.
يعني يبسط و يبدّل الأرض غير الأرض يعني بأرض لم تكسب عليها الذنوب بارزة ليس عليها جبال و لا نبات كما دحاها أوّل مرّة و يعيد عرشه على الماء كما كان أوّل مرّة مستقلّا بعظمته و قدرته.
قال: فعند ذلك ينادي الجبّار جلّ جلاله بصوت من قبله جوهرى (جهورى خ ل) يسمع أقطار السّماوات و الأرضين: لمن الملك اليوم فلا يجبه مجيب، فعند ذلك يقول الجبّار عزّ و جلّ مجيبا لنفسه: للّه الواحد القهّار، و أنا قهرت الخلائق كلّهم و أمّتهم إنّي أنا اللّه لا إله إلّا أنا وحدي لا شريك لي و لا وزير و أنا خلقت خلقي بيدى و أنا أمّتهم بمشيّتي و أنا أحياهم بقدرتي.
قال: فينفخ الجبّار نفخة اخرى في الصّور فيخرج الصّوت من أحد الطرفين الذي يلي السّماء فلا يبقى في السّموات أحد إلّا حىّ و قام كما كان، و يعود حملة العرش، و يحضر الجنّة و النّار و يحشر الخلائق للحساب.
قال الرّاوى: فرأيت عليّ بن الحسين يبكى عند ذلك بكاء شديدا.
فان قلت إذا فنت الأجساد و انعدمت الأجسام فما الفائدة في خطاب لمن الملك قلنا: ما يصدر عن الحكيم العليم لا بدّ و أن يكون متضمّنا للحكمة و المصلحة و إن كانت مختفية عندنا، و يمكن أن يكون فيه اللطف بالنّسبة إلى المكلّفين من حيث إنّ المخبر الصّادق إذا أخبرهم بوقوع ذلك الخطاب يوجب ذلك حقارة الدّنيا في نظرهم و عدم اغترارهم بملكها و سلطنتها و يوجب زيادة علمهم بقدرة اللّه و عزّته و بتفرّده في تدبير العالم، تعالى علوا كبيرا هذا.
و روى عليّ بن إبراهيم أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: و أتى جبرئيل رسول اللّه و أخذ بيده و أخرجه إلى البقيع فانتهى به إلى قبر فصوت بصاحبه فقال: قم باذن اللّه فخرج منه رجل أبيض الرّأس و اللحية يمسح التّراب عن وجهه و هو يقول: الحمد للّه و اللّه أكبر، فقال جبرئيل: عد باذن اللّه تعالى، ثمّ انتهى به إلى قبر آخر فقال: قم باذن اللّه، فخرج منه رجل مسوّد الوجه و هو يقول: يا حسرتاه يا ثبوراه، ثمّ قال له جبرئيل: عد إلى ما كنت فيه باذن اللّه تعالى، فقال: يا محمّد هكذا يحشرون يوم القيامة، فالمؤمنون يقولون هذا القول و هؤلاء يقولون ما ترى.
و في الأنوار النّعمانية للسيد الجزائري قال روى شيخنا الكلينيّ قدّس اللّه روحه و تغمّده اللّه برحمته في الصحيح عن يعقوب الأحمر قال: دخلنا على أبي عبد اللّه عليه السّلام نعزّيه باسماعيل فترحّم عليه ثمّ قال: إنّ اللّه تعالى نعى إلى نبيّه نفسه فقال: إنك ميّت و إنّهم ميّتون، و كلّ نفس ذائقة الموت ثمّ أنشأ عليه السّلام يحدّث فقال: إنه يموت أهل الأرض حتّى لا يبقى أحد، ثمّ يموت أهل السماء حتّى لا يبقى أحد إلّا ملك الموت و حملة العرش و جبرئيل و ميكائيل.
قال: فيجي ء ملك الموت حتّى يقف بين يدي اللّه تعالى فيقول له، من بقى و هو أعلم، فيقول: يا ربّ لم يبق إلّا ملك الموت و حملة العرش و جبرئيل و ميكائيل فيقال له قل لجبرئيل و ميكائيل فليموتا فتقول الملائكة عند ذلك يا ربّ رسوليك و أمينيك، فيقول تعالى: إنّى قضيت على كلّ نفس فيها الرّوح الموت.
ثمّ يجي ء ملك الموت حتّى يقف بين يدي اللّه عزّ و جلّ فيقول له: من بقى و هو أعلم، فيقول: يا ربّ لم يبق إلّا ملك الموت و حملة العرش، فيقول: قل لحملة العرش فليموتوا، ثمّ يجي ء كئيبا حزينا لا يرفع طرفه فيقول له من بقى و هو أعلم، فيقول: يا ربّ لم يبق إلّا ملك الموت، فيقول له: مت يا ملك الموت، فيموت.
ثمّ يأخذ الأرض بيمينه و السّماوات بشماله فيقول: أين الذين كانوا يدعون معى شريكا أين الذين يجعلون معى الها آخر و في الأنوار أيضا إنّ النّفخة الأولى هي اللّتى للهلاك تأتي النّاس بغتة و هم فى أسواقهم و طلب معايشهم فاذا سمعوا صوت الصّور تقطعت قلوبهم و أكبادهم من شدّته فيموتوا دفعة واحدة، فيبقى الجبّار جلّ جلاله فيأمر عاصفة فتقلع الجبال من أماكنها و تلقاها في البحار و تفور مياه البحار و كلّما في الأرض و تسطح الأرض كلّها للحساب فلا يبقى جبل و لا شجر و لا بحر و لا وهدة و لا تلعة فتكون أرضا بيضاء حتّى أنّه روى لو وضعت بيضة في المشرق رايت في المغرب، فيبقى سبحانه على هذا الحال مقدار أربعين سنة.
فاذا أراد أن يبعث الخلق قال مولينا الصّادق عليه السّلام أمطر السّماء على الأرض أربعين صباحا فاجتمعت الأوصال و نبتت اللحوم و يأمر اللّه تعالى ريحا حتّى تجمع التّراب الذي كان لحما و اختلط بعضه ببعض و تفرّق في البرارى و البحار و في بطون السّباع فتجمعه تلك الريح في القبر.
فعند ذلك يجي ء إسرافيل و صوره معه و يأمره بالنفخة الثانية، و ينفخ فيه النفخة الثّانية فاذا نفخ تركّبت اللّحوم و الأعضاء و أعيدت الأرواح إلى أبدانها و انشقّت القبور فخرج النّاس خائفين من تلك الصّيحة ينفضون التّراب عن رؤوسهم، فيجي ء إلى كلّ واحد ملكان عند خروجه من القبر يقبض كلّ واحد منهما عضدا منه فيقولان له: أجب ربّ العزّة، فيتحيّر من لقائهما و يأخذه الخوف و الفزع حتّى أنّه في تلك الساعة يبيض شعر رأسه و بدنه بعد ما كان أسود.
و عند ذلك يكثر في الأرض الزلزال حتّى يخرج ما فيها من الأثقال و يشيب كلّ الأطفال و تضع كلّ ذات حمل حملها و ترى النّاس سكارى و ما هم بسكارى و لكن عذاب اللّه شديد.
و في روضة الكافي باسناده عن ثوير بن أبي فاختة قال: سمعت عليّ بن الحسين عليهما السّلام يحدّث في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: حدّثنى أبي أنّه سمع أباه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يحدّث النّاس.
قال إذا كان يوم القيامة بعث اللّه تبارك و تعالى النّاس من حفرهم عزلّا مهلاجردا في صعيد واحد يسوقهم النّور و يجمعهم الظلمة حتّى يقفوا على عقبة المحشر، فيركب بعضهم بعضا و يزدحمون دونها فيمنعون من المضي فيشتدّ أنفاسهم و يكثر عرقهم و يضيق بهم أمورهم، و يشتدّ ضجيجهم و يرتفع أصواتهم.
قال عليه السّلام و هو أوّل هول من أهوال القيامة قال: فتشرف الجبّار تبارك و تعالى عليهم من فوق عرشه في ظلال من الملائكة فيأمر ملكا من الملائكة فينادي فيهم: يا معشر الخلائق انصتوا و استمعوا مناد الجبّار، قال: فيسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم.
قال: فتتكسر أصواتهم عند ذلك و يخشع أبصارهم و يضطرب فرايصهم و تفزع قلوبهم و يرفعون رؤوسهم إلى ناحية الصّوت مهطعين إلى الداعى قال: فعند ذلك يقول الكافر: هذا يوم عسر.
قال: فيشرف الجبّار عزّ ذكره عليهم فيقول: أنا اللّه لا إله إلّا أنا الحكم العدل الذي لا يجور اليوم أحكم بينكم بعدلى و قسطي لا يظلم اليوم عندى أحد، اليوم آخذ للضعيف من القويّ بحقّه و لصاحب المظلمة بالمظلمة بالقصاص من الحسنات و السّيئآت و اثيب على الهبات و لا يجوز هذه العقبة عندى ظالم و لا أحد عنده مظلمة إلّا مظلمة يهبها لصاحبها و اثيبه عليها و آخذ له بها عند الحساب فتلازموا أيّها الخلايق و اطلبوا بمظالمكم عند من ظلمكم بها في الدّنيا، و أنا شاهد لكم عليهم و كفى لي شهيدا.
قال: فيتعارفون و يتلازمون فلا يبقى لأحد له عند أحد مظلمة أو حقّ إلّا لزمه بها.
قال: فيمكثون ما شاء اللّه فيشتدّ حالهم و يكثر عرقهم و يشتدّ غمّهم و يرتفع أصواتهم بضجيج شديد فيتمنّون المخلص منه بترك مظالمهم لأهلها.
قال: و يطلع اللّه عزّ و جلّ على جهدهم فينادى مناد من عند اللّه تبارك يسمع آخرهم كما يسمع أولهم: يا معشر الخلايق انصتو الداعى اللّه تبارك و تعالى و اسمعوا إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول: أنا الوهّاب إن أحببتم أن تواهبوا فواهبوا و إن لم تواهبوا أخذت لكم بمظالمكم.
قال: فيفرحون بذلك لشدّة جهدهم و ضيق مسلكهم و تزاحمهم.
قال عليه السّلام فيهب بعضهم مظالمهم رجاء أن يتخلّصوا مما هم فيه و يبقى بعضهم فيقول: يا ربّ مظالمنا أعظم من أن نهبها.
قال عليه السّلام فينادى مناد من تلقاء العرش أين رضوان خازن الجنان جنان الفردوس قال: فيأمر اللّه عزّ و جلّ أن يطلع من الفردوس قصر من فضّة بما فيه من الآنية و الخدم قال: فيطلعه عليهم في حفافة القصر الوصايف و الخدم.
قال فينادي مناد من عند اللّه تبارك و تعالى: يا معشر الخلايق ارفعوا رؤوسكم فانظروا إلى هذا القصر، قال: فيرفعون رؤوسهم فكلّهم يتمنّاه، قال: فينادى مناد من عند اللّه يا معشر الخلايق هذا لكلّ من عفى عن مؤمن، قال: فيعفون كلّهم إلّا القليل.
قال: فيقول اللّه عزّ و جلّ لا يجوز إلى جنّتي اليوم ظالم و لا يجوز إلى ناري اليوم ظالم، و لا أحد من المسلمين عنده مظلمة حتّى يأخذها منه عند الحساب أيّها الخلايق استعدّوا للحساب.
قال: ثمّ يخلّى سبيلهم فينطلقون إلى العقبة يلوذ بعضهم بعضا حتّى ينتهوا إلى العرصة و الجبار تبارك و تعالى على العرش قد نشرت الدواوين و نصبت الموازين احضر النبيّون و الشهداء و هم الأئمة يشهد كلّ إمام على أهل عالمه بأنّهم قد قام فيهم بأمر اللّه عزّ و جلّ و دعاهم إلى سبيل اللّه.
قال: فقال له رجل من قريش: يابن رسول اللّه إذا كان للرّجل المؤمن عند الرّجل الكافر مظلمة أىّ شي ء يأخذ من الكافر و هو من أهل النّار قال: فقال له عليّ بن الحسين عليهما السّلام: تطرح من المسلم من سيئآته بقدر ما له على الكافر فيعذب الكافر بها مع عذابه بكفره عذابا بقدر ما للمسلم قبله من مظلمة.
قال: فقال له القرشيّ فاذا كانت المظلمة لمسلم عند مسلم كيف يؤخذ مظلمته من المسلم قال: يؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر حقّ المظلوم فيزاد على حسنات المظلوم.
قال: فقال له القرشيّ: فان لم يكن للظالم حسنات، قال: للمظلوم سيئات يؤخذ من سيئات المظلوم فيزاد على سيئات الظالم.
|