و إنّ غدا من اليوم قريب، يذهب اليوم بما فيه، و يجي ء الغد لاحقا به، فكأنّ كلّ امرء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته، و مخطّ حفرته، فيا له من بيت وحدة، و منزل وحشة، و مفرد غربة، و كأنّ الصّيحة قد أتتكم، و السّاعة قد غشيتكم، و برزتم لفصل القضاء، قد زاحت عنكم الأباطيل، و اضمحلّت عنكم العلل، و استحقّت بكم الحقائق، و صدرت بكم الامور مصادرها، فاتّعظوا بالعبر، و اعتبروا بالغير، و انتفعوا بالنّذر.
اللغة
(مخطّ حفرته) في بعض النّسخ بالخاء المعجمة لأنّ القبر يخطّ أوّلا ثمّ يحفر، و في بعضها بالحاء المهملة من حطّ القوم إذا نزلوا.
الاعراب
إضافة المخطّ إلى حفرته من باب الاضافة في سعيد كرز إذ المراد بهما القبر، و قوله: فيا له من بيت وحدة، النّداء للتّفخيم و التّهويل، و اللّام للاستغاثة، و الضّمير في له، راجع إلى مخطّ حفرته، و من بيت وحدة تميز.
قال الرّضيّ: و قد يكون الاسم في نفسه تامّا لا لشي ء آخر أعنى لا يجوز اضافته فينصب عنه التميز و ذلك في شيئين: أحدهما الضّمير و هو الأكثر و ذلك فيما فيه معنى المبالغة و التّفخيم كمواضع التّعجب نحويا له رجلا و يا لها قصّة و يا لك ليلا و يا لها خطّة «إلى أن قال» فان كان الضّمير فيها«» لا يعرف المقصود منه فالتّميز عن المفرد كقول امرء القيس:
- فيا لك من ليل كأنّ نجومهبكلّ مغار القتل شدّت بيذبل
و إن عرف المقصود من الضّمير برجوعه إلى سابق معيّن كقولك: جائني زيد فيا له رجلا و ويله فارسا و يا ويحه رجلا و لقيت زيدا فللّه درّه رجلا، أو بالخطاب لشخص معيّن نحو قلت لزيد يا لك من شجاع و للّه درّك من رجل و نحو ذلك، فليس التميز عن المفرد، لأنّه لا إبهام إذا في الضّمير بل عن النّسبة الحاصلة بالاضافة، كما يكون كذلك إذا كان المضاف إليه فيها ظاهرا، نحو يا لزيد رجلا و للّه درّ زيد رجلا إلى آخر ما ذكره.
المعنى
ثمّ حذّر بقرب الموت فقال: (و انّ غدا من اليوم قريب) كنّى بالغد عن وقت الموت (يذهب اليوم بما فيه) من الخير و الشّر و الطّاعة و المعصية (و يجي ء الغد لاحقا به) ثمّ حذّر ببلوغ القبر و كنّى عنه بقوله (فكان كلّ امرء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته و مخطّ حفرته) و أشار إلى هول ذلك المنزل و وصفه بالأوصاف الموحشة المنفّرة فقال (فيا له من بيت وحدة و منزل وحشة و مفرد غربة) ثمّ حذّر بالصّيحة و نفخ الصّور و قيام السّاعة فقال: (و كان الصّيحة قد أتتكم و السّاعة قد غشيتكم) و الظّاهر أنّ المراد بالصّيحة الصّيحة و النّفخة الثانية و قد اشير اليهما أعنى الصّيحتين في سورة يس قال تعالى: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ.
قال في مجمع البيان: أى ما ينتظرون إلّا صيحة واحدة يريد النّفخة الاولى عن ابن عبّاس، يعني أنّ القيامة تأتيهم بغتة تأخذهم الصّيحة وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ أى يختصمون في امورهم و يتبايعون في الأسواق، ثمّ أخبر عن النفخة الثّانية و ما يلقونه فيها إذا بعثوا بعد الموت فقال: و نفخ في الصّور فاذاهم من الأجداث، و هى القبور، إلى ربّهم أى إلى الموضع الّذي يحكم اللّه فيه لا حكم لغيره هناك، ينسلون، أى يخرجون سراعا ثمّ أخبر عن سرعة بعثهم فقال: إن كانت إلّا صيحة واحدة، أى لم تكن المدّة إلّا مدّة صيحة واحدة، فاذا هم جميع لدينا محضرون، أي فاذا الأوّلون و الآخرون مجموعون في عرصات القيامة محضرون في موقف الحساب و في سورة الزّمر: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ.
قال في مجمع البيان: فصعق من في السّموات آه أى يموت من شدّة تلك الصّيحة الّتي تخرج من الصّور جميع من في السّماوات و الأرض، و قوله: ثمّ نفخ فيه أخرى، يعني نفخة البعث و هي النّفخة الثّانية.
(و برزتم لفصل القضاء) أى لحكم العدل الفاصل بين الحقّ و الباطل ليتميّز المصيب من المخطى، و المسلم من الكافر، و المؤمن من المنافق ليجزى كلّ ما عمل كما قال عزّ من قائل: وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ.
(قد زاحت عنكم الأباطيل) أى بعدت و تنحت عنكم الهيآت الباطلة الممكنة الزّوال (و اضمحلّت عنكم العلل) أى ذهبت و انحلّت عنكم العلل و الأمراض النّفسانيّة (و استحقّت بكم الحقائق) قال الشّارح المعتزلي: أى حقّت و وقعت فاستفعل بمعنى فعل (و صدرت بكم الأمور مصادرها) أراد به رجوع كلّ امرء إلى ثمرة ما قدّم، قاله البحراني (فاتّعظوا بالعبر) أى بكلّ ما يفيد اعتبارا و تنبّها على أحوال الآخرة و بما فيه تذكرة للموت و ما بعده من الشّدايد و الأهوال، ألا ترى إلى الآباء و الاخوان و الأبناء و الولدان و الأقرباء و الجيران كيف طحنتهم المنون، و توالت عليهم السّنون، و فقدتهم العيون، اندرست عن وجه الأرض آثارهم و انقطعت عن الأفواه أخبارهم.
- إذا كان هذا حال من كان قبلنافانّا على آثارهم نتلاحق
(و اعتبروا بالغير) أى بتغيّرات الدّهر و انقلاباته على أهله، لا يدوم سروره، و لا تتمّ اموره، لا يقيم على حال، و لا يمتنع بوصال، و عوده كاذبة. و آماله خائبة.
- تحدّثك الأطماع أنّك للبقاءخلقت و أنّ الدّهر خلّ موافق
- كأنّك لم تبصر اناسا ترادفت عليهم بأسباب المنون اللّواحق
(و انتفعوا بالنّذر) أى بكلّ ما أفاد تخويفا بالآخرة و ما فيها من المفزعات و الدّواهى فيا من عدم رشده، و ضلّ قصده إنّ أوقاتك محدودة، و أنفاسك معدودة، و أفعالك مشهورة، و أنت مقيم على الاصرار، غافل عن يوم تشخص فيه الأبصار.
- إذا نصب الميزان للفصل و القضاو ابلس محجاج و اخرس ناطق
- و اجّجت النّيران و اشتدّ غيظهاإذا فتحت أبوابها و المغالق
- فانّك مأخوذ بما قد جنيتهو إنّك مطلوب بما أنت سارق
- فقارب و سدّد و اتّق اللّه وحده و لا تستقلّ الزّاد فالموت طارق
|