ما ضرّ إخواننا الّذين سفكت دمائهم و هم بصفّين ألّا يكونوا اليوم أحياء، يسيغون الغصص، و يشربون الرّنق، قدو اللّه لقوا اللّه فوفّاهم أجورهم، و أحلّهم دار الأمن بعد خوفهم، أين إخواني الّذين ركبوا الطّريق و مضوا على الحقّ أين عمّار و أين ابن التّيّهان و أين ذوا الشّهادتين و أين نظراؤهم من إخوانهم الّذين تعاقدوا على المنيّة، و أبرد برءوسهم إلى الفجرة. قال: ثمّ ضرب يده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء ثمّ قال عليه السّلام: أوه على إخواني الّذين تلوا القرآن فأحكموه، و تدبّروا الفرض فأقاموه، أحيوا السّنّة، و أماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا، و وثقوا بالقائد فاتّبعوه، ثمّ نادى بأعلى صوته: الجهاد الجهاد عباد اللّه ألا و إنّي معسكر في يومي هذا فمن أراد الرّواح إلى اللّه فليخرج. قال نوف و عقد للحسين عليه السّلام في عشرة آلاف، و لقيس بن سعد (ره) في عشرة آلاف، و لأبي أيّوب الأنصاري في عشرة آلاف، و لغيرهم على أعداد اخر و هو يريد الرّجعة إلى صفّين، فما دارت الجمعة حتّى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه اللّه فتراجعت العساكر فكنّا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كلّ مكان.
اللغه
(الغصص) جمع الغصّة و هى ما يعترض في الحلق و (الرنق) بالفتح و التحريك الكدر من الماء، و في بعض النسخ بالكسر و لا بأس به قال في القاموس: رنق الماء كفرح و نصر رنقا و رنقا و رنوقا كدر فهو رنق كعدل و كتف و جبل. و (ابن التيهان) قال الشارح بالياء المنقوطة باثنتين تحتها المشدّدة المكسورة و قبلها تاء منقوطة باثنتين فوقها، و قال العلّامة المجلسي (ره): و المضبوط في أكثر النسخ بالياء الساكنة و فتح التاء و كسرها معا، و فى القاموس و تيّهان مشدّدة الياء و يكسر و تيهان بالسكون. و (اوه) على إخوانى بسكون الواو و كسر الهاء كلمة توجّع و فيها لغات اخر قال في القاموس: اوه كجير و حيث و أين واه و إوه بكسر الهاء و الواو المشدّدة واو بحذف الهاء و اوّه بفتح الواو المشدّدة و اووه بضمّ الواو واه بكسر الهاء منوّنة واو بكسر الواو منوّنة و غير منوّنة و أوتاه بفتح الهمزة و الواو و المثنّاة الفوقيّة و اوياه بتشديد المثناة التحتية كلمة يقال عند الشكاية أو التوجّع اه اوها واه تاوها و تاوّه قالها.«» و (تختطفها) من الاختطاف و هو أخذ الشي ء بسرعة و في بعض النسخ تتخطفها
الاعراب
ما في قوله ما ضرّ إخواننا، نافية و يحتمل الاستفهام على سبيل الانكار، و اخواننا بالنصب مفعول ضرّ و فاعله ألّا يكونوا و جملة يسيغون في محلّ النّصب صفة للاحياء، و الجهاد الجهاد بالنصب على الاغراء
المعنى
و أكّد هذا المعنى بقوله (ما ضرّ إخواننا) المؤمنين (الّذين سفكت دماؤهم بصفّين ألّا يكونوا اليوم أحياء) مثل حياتنا (يسيغون الغصص) و يتجرّعون الهموم من توارد الالام (و يشربون الرنق) أى الكدر من كثرة مشاهدة المنكرات.
و لما نفى تضرّرهم بعدم الحياة نبّه على ما حصل لهم من عظيم المنفعة بالممات فقال و ل (قد و اللّه لقوا اللّه فوفّاهم اجورهم) بغير حساب (و أحلّهم في دار الأمن) مفتّحة لهم الأبواب (بعد خوفهم) من سوء المال و فتن أهل الضلال.
ثمّ استفهم توجّعا و تحسّرا عن السّلف الصالحين و قال (أين إخوانى الّذين ركبوا الطريق) أى جادّة الشريعة (و مضوا على الحقّ) أى المعرفة و الولاية.
ثمّ استفهم عن بعض من مضى بعينه و سمّاه بخصوصه لكونه من أعيان الصحابة و أكابرهم فقال (أين عمار) و هو ابن ياسر المعروف و أبوه عربيّ قحطانيّ و امّه أمة لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي ولدت عمارا فاعتقه أبو حذيفة فمن هناك كان عمّار مولى لبني مخزوم.
قال الشارح المعتزلي: و للحلف و الولاء الّذين بين بني مخزوم و بين عمّار و أبيه ياسر كان اجتماع بني مخزوم على عثمان حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب حتّى انفتق له فتق في بطنه زعموا و كسروا ضلعا من أضلاعه، فاجتمعت بنو مخزوم فقالوا: و اللّه لئن مات لا قتلنا به أحدا غير عثمان.
قال أبو عمرو بن عبد البرّ: كان عمّار بن ياسر ممّن عذّب في اللّه ثمّ أعطاهم ما أرادوا بلسانه مع اطمينان قلبه فنزل فيه «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا» و هذا مما أجمع عليه أهل التفسير و هاجر إلى أرض الحبشة و صلّى القبلتين و هو من المهاجرين الأوّلين و شهد بدرا و المشاهد كلّها و أبلى بلاء حسنا ثمّ شهد اليمامة فأبلى فيها أيضا و يومئذ قطعت أذنه.
و قال ابن عبّاس في قوله تعالى أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ أنه عمار بن ياسر «كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها» أبو جهل ابن هشام.
و روى أبو عمرو عن عايشة أنها قالت: ما من أحد من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أشاء أن أقول فيه لقلت إلّا عمّار بن ياسر، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إنّه ملى ء إيمانا إلى أخمص قدميه.
قال أبو عمرو و من حديث خالد بن الوليد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من أبغض عمارا أبغضه اللّه.
قال: و من حديث عليّ بن ابي طالب عليه السّلام إنّ عمارا جاء يستأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوما فعرف صوته فقال: مرحبا بالطيّب المطيّب، يعني عمّارا.
قال: و من حديث أنس عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله اشتاقت الجنّة إلى أربعة: عليّ عليه السّلام و عمّار، و سلمان، و بلال.
قال أبو عمرو: و فضايل عمّار كثير يطول ذكرها.
أقول: و قد مضى جملة من فضائله و مجاهداته بصفيّن و كيفيّة شهادته رضى اللّه تعالى عنه هنالك في تذييل المختار الخامس و الستّين و كان سنّه يوم قتل نيفا و تسعين.
(و أين ابن التيهان) و اسمه مالك و اسم أبيه مالك ايضا، و قال أبو نعيم: أبو الهيثم بن التيهان اسمه مالك و اسم التيهان عمرو بن الحارث كان «رض» أحد النقباء ليلة العقبة و شهد بدرا و الأكثر على أنه أدرك صفّين مع أمير المؤمنين عليه السّلام و قتل بها، و قيل: توفّى في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال أبو عمرو: و هذا القول لم يتابع عليه قائله، و قيل: توفّى سنة عشرين أو إحدى و عشرين.
(و أين ذو الشهادتين) و هو خزيمة بن ثابت الأنصاري يكنّى أبا عمارة شهد بدرا و ما بعدها من المشاهد و شهد صفين مع عليّ عليه السّلام فلما قتل عمّار بن ياسر قاتل «ره» حتّى قتل حسبما عرفته في تذييل المختار الخامس و السّتين.
و انما لقّب بذو الشهادتين لما رواه الصدوق في الفقيه بسنده عن عبد اللّه بن أحمد الذّهلي قال: حدّثنا عمارة بن خزيمة بن ثابت أنّ عمّه حدّثه و هو من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ابتاع فرسا من أعرابيّ فأسرع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المشي ليقضيه ثمن فرسه فأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس و هم لا يشعرون أنّ النبيّ عليه السّلام ابتاعه، حتّى زاد بعضهم الأعرابي في السّوم على الثمن فنادى الأعرابي فقال: إن كنت مبتاعا لهذا الفرس فابتعه و إلّا بعته، فقام النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله حين سمع الأعرابي فقال: أو ليس قد ابتعته منك، فطفق الناس يلوذون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بالأعرابي و هما يتشاجران، فقال الأعرابي: هلمّ شهيدا يشهد أنّى قد بايعتك، و من جاء من المسلمين قال للاعرابي إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن ليقول إلّا حقّا حتّى جاء خزيمة بن ثابت فاستمع لمراجعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأعرابي فقال خزيمة إنّي أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله على خزيمة فقال: بم تشهد قال: بتصديقك يا رسول اللّه فجعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شهادة خزيمة بن ثابت شهادتين و سمّاه ذو الشهادتين و روى هذه القصّة في الكافي بنحو آخر عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن معاوية بن وهب قال: كان البلاط حيث يصلّى على الجنائز سوقا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسمّى البطحاء يباع فيها الحليب و السّمن و الأقط و أنّ أعرابيا أتى بفرس له فأوثقه فاشتراه منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ دخل ليأتيه بالثمن فقام ناس من المنافقين فقالوا: بكم بعت فرسك قال: بكذا و كذا، قالوا: بئس ما بعت، فرسك خير من ذلك و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج إليه بالثمن وافيا طيّبا، فقال الأعرابي: ما بعتك و اللّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سبحان اللّه بلى و اللّه لقد بعتني، و ارتفعت الأصوات فقال الناس: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقاول الأعرابي، فاجتمع ناس كثير فقال أبو عبد اللّه«» و مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ أقبل خزيمة بن ثابت الأنصاري ففرج الناس بيده حتّى انتهى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: اشهد يا رسول اللّه لقد اشتريته منه، فقال الأعرابي: أتشهد و لم تحضرنا، و قال له النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أشهدتنا فقال له: لا يا رسول اللّه و لكنّى علمت أنّك قد اشتريت أ فاصدّقك بما جئت به من عند اللّه و لا اصدّقك على هذا الأعرابي الخبيث قال: فعجب له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال له: يا خزيمة شهادتك شهادة رجلين.
(و أين نظراؤهم) و أشباههم (من إخوانهم الّذين تعاقدوا) و تعاهدوا (على المنيّة) و جدّوا فى المقاتلة حتّى قتلوا بصفّين كابن بديل و هاشم بن عتبة و غيرهما ممّن تقدّم ذكره في تذييل المختار الخامس و الستّين (و أبرد برءوسهم إلى الفجرة) أى ارسلت رؤوسهم مع البريد للبشارة بها إلى الفسقة الطغام من أمراء الشام. (قال) الرّاوى (ثمّ ضرب عليه السّلام يده إلى لحيته فأطال البكاء) من تقلّب الزمان و فقد الاخوان و تراكم الهموم و الأحزان (ثمّ قال) توجّعا و تحسّرا.
(اوه على إخوانى الّذين تلوا القرآن فأحكموه) أى أحسنوا تلاوته و مبانيه و فهموا مقاصده و معانيه و عملوا بمقتضاه و مؤدّاه (و تدبّروا الفرض فأقاموه) أى تفكروا في علل الواجبات و أسرار العبادات فواظبوا عليها و قاموا بوظايفها تحصيلا للغرض الأقصى منها و هو الزلفى إلى اللّه و القربى إلى رضوان اللّه الّذي هو أشرف اللّذات و أعلى الدرجات و (أحيوا السّنّة) يحتمل أن يكون المراد بها المستحبّات فيكون ذكرها بعد القرآن و الفرض نظير ما روى عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنما العلم ثلاثة: آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنّة قائمة و ما خلاهنّ فهو فضل.
أى العلم النافع آية محكمة أى واضحة الدّلالة أو غير منسوخة فانّ المتشابه و المنسوخ لا ينتفع بهما غالبا، و فريضة عادلة أى الواجبات المصونة من الافراط و التفريط، و سنّة قائمة أى المندوبات الباقية غير المنسوخة، و على هذا الاحتمال فالمراد باحياء السنّة الاتيان بها و المراقبة عليها.
إلّا أنّ الأظهر بقرينة المقابلة بينه و بين قوله: (و أماتوا البدعة) أن يراد بالسنّة مقابل البدعة، يعني السنة الّتي سنّها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الشريعة الّتي شرعها.
روى في البحار من معاني الأخبار مرفوعا قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: أخبرني عن السنّة و البدعة و عن الجماعة و عن الفرقة، فقال أمير المؤمنين السنّة ما سنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و البدعة ما أحدث من بعده، و الجماعة أهل الحقّ و إن كانوا قليلا، و الفرقة أهل الباطل و إن كانوا كثيرا.
و على هذا فالمراد باحياء السنّة أخذ أحكام الشرع و العمل عليها.
روى في البحار من المحاسن عن أبي جعفر عن أبيه عليهما السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تمسّك بسنّتي في اختلاف أمّتي كان له أجر مأئة شهيد.
و المراد باماتة البدعة إبطالها و تركها و الاعراض عنها و عن أهلها. روى في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم قال في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ هؤلاء أهل البدع و الشبهات و الشهوات يسوّد اللّه وجوههم ثمّ يلقونه.
و فيه من ثواب الأعمال عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من مشى إلى صاحب بدعة فوقّره فقد مشي في هدم الاسلام.
(دعوا للجهاد فأجابوا) و نهضوا إليه (و وثقوا) أى اطمأنوا و اتّكلوا (بالقائد) أراد به نفسه الشريف لكونه قائدا لهم إلى سبيل الحقّ (فاتّبعوه).
(ثمّ) إنّه عليه السّلام لما رغّب المخاطبين و رهّب و وعظهم و ذكّر و بشّرهم و أنذر و توجّع من مفارقة أصحابه و تحسّر تخلّص إلى أصل غرضه.
و (نادى بأعلا صوته: الجهاد الجهاد عباد اللّه) أى اسرعوا إليه و انهضوا به (ألا و اني معسكر في يومي هذا) أى جامع للعساكر في المعسكر (فمن أراد الرواح إلى اللّه) أى الذهاب إلى الفوز برضوانه أو إلى لقائه تعالى بالشهادة (فليخرج) (قال نوف: و عقد للحسين عليه السّلام) راية (في عشرة آلاف و لقيس بن سعد) ابن عبادة (في عشرة آلاف) و كان سعد أبو قيس رئيس الخزرج و لم يبايع أبا بكر و مات على عدم البيعة و المشهور أنّهم قتلوه لذلك و أحالوا قتله على الجنّ و افتروا شعرا من لسان الجنّ كما مرّ في المقدّمة الثالثة من مقدّمات الخطبة الثالثة و في التنبيه الأوّل من شرح المختار السابع و الستّين.
و قال الشّارح المعتزلي: سعد هو الّذي حاول إقامته في الخلافة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يبايع أبا بكر حين بويع و خرج إلى حوران فمات بها، قيل قتلته الجنّ لأنه بال قائما في الصحراء ليلا و رووا بيتي شعر قيل إنهما سمعا ليلة قتله و لم ير قائلهما
- نحن قتلنا سيّد الخزرج سعد بن عبادةو رميناه بسهمين فلم يخط فؤاده
و يقول قوم: إنّ أمير الشام يومئذ كمن له من رماه ليلا و هو خارج إلى الصحراء بسهمين فقتله لخروجه عن طاعته، و قد قال بعض المتأخّرين:
- يقولون سعد شكّت الجنّ قلبهألا ربّما صحّحت ذنبك بالعذر
- و ما ذنب سعد أنّه بال قائماو لكنّ سعدا لم يبايع أبا بكر
- و قد صبرت من لذّة العيش أنفسو ما صبرت عن لذّة النّهى و الأمر
و كان قيس من صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كبار شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام، و كان طوالا جوادا شجاعا شهد مع أمير المؤمنين عليه السّلام حروبه كلّها، و كان مخلصا في اعتقاده ثابت الرأى في التشيّع و المحبّة.
و قد مرّ في التنبيه الثاني من شرح المختار السابع و الستّين ما يفصح عن جلالة شأنه و رفعة مقامه و أحببت أن أورد هنا رواية مفيدة لخلوص عقيدته على وجه الكمال مع تضمّنها لاعجاز غريب لأمير المؤمنين عليه السّلام.
فأقول: روى في البحار من كتاب إرشاد القلوب عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري و عبد اللّه بن عباس قالا: كنّا جلوسا عند أبي بكر في ولايته و قد أضحى النهار و إذا بخالد بن الوليد المخزومي قد وافي في جيش قام غباره و كثر صهيل أهل خيله، و إذا بقطب رحى ملوىّ في عنقه قد فتل فتلا فأقبل حتّى نزل عن جواده و دخل المسجد و وقف بين يدي أبي بكر فرمقه الناس بأعينهم فهالهم منظره.
ثمّ قال: اعدل يا ابن أبي قحافة حيث جعلك الناس في هذا الموضع الّذى لست له أنت بأهل، و ما ارتفعت إلى هذا المكان إلّا كما يرتفع الطافى من السّمك على الماء، و انما يطفو و يعلو حين لا حراك به، مالك و سياسة الجيوش و تقديم العساكر و أنت بحيث أنت من دنائة الحسب و منقوص النسب و ضعف القوى و قلّة التحصيل لا تحمى ذمارا و لا تضرم نارا فلا جزى اللّه أخا ثقيف و ولد صهّاك خيرا.
إنّى رجعت متكفأ من الطايف إلى جدة فى طلب المرتدّين فرأيت علىّ بن أبي طالب عليه السّلام و معه عتاة من الدّين حماليق شزرات أعينهم من حسدك و بدرت حنقا عليك و قرحت آماقهم لمكانك، منهم ابن ياسر و المقداد و ابن جنادة أخو غفار و ابن العوام و غلامان أعرف أحدهما بوجهه، و غلام أسمر لعلّه من ولد عقيل أخيه.
فتبيّن لى المنكر في وجوههم و الحسد في احمرار أعينهم، و قد توشّح علىّ بدرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لبس ردائه السحاب و لقد اسرج له دابّته العقاب، و لقد نزل علىّ على عين ماء اسمها روية، فلما رءانى اشمأزّ و بربر و أطرق موحشا يقبض على لحيته.
فبادرته بالسلام استكفاء و اتّقاء و وحشة، فاستغنمت سعة المناخ و سهولة المنزل فنزلت و من معى بحيث نزلوا اتّقاء عن مراوغته، فبدانى ابن ياسر بقبيح لفظه و محض عداوته فقر عنى هزؤا بما تقدّمت به إلى بسوء رأيك.
فالتفت إلىّ أصلع الرأس و قد ازدحم الكلام فى حلقه كهمهمة الأسد أو كقعقعة الرّعد فقال لي بغضب منه: أو كنت فاعلا يا با سليمان فقلت له: إى و اللّه لو أقام على رأيه لضربت الّذي فيه عيناك، فأغضبه قولي إذ صدقته و أخرجه إلى طبعه الذي أعرفه به عند الغضب.
فقال: يا ابن اللّخناء مثلك من يقدر على مثلي أو يجسر أو يدير اسمى في لهواته الّتي لا عهد لها بكلمة حكمة، ويلك إني لست من قتلاك و لا من قتلا صاحبك و اني لأعرف بمنيتي منك بنفسك.
ثمّ ضرب بيده إلى ترقوتي فنكسنى عن فرسي و جعل يسوقني دعا الى رحى للحارث بن كلدة الثقفي، فعمد إلى القطب الغليظ فمدّ عنقى بكلتا يديه و أداره فى عنقى ينفتل له كالعلك المسخن.
و أصحابى هؤلاء وقوف، ما أغنوا عنّي سطوته، و لا كفّوا عنّى شرته فلا جزاهم اللّه عنى خيرا، فانهم لما نظروا اليه كأنما نظروا إلى ملك موتهم، فو الّذي رفع السماء بلا اعماد لقد اجتمع على فكّ هذا القطب مأئة «ألف خ» رجل أو يزيدون من أشدّ العرب فما قدروا على فكّه فدلّنى عجز الناس عن فكّه أنه سحر منه أو قوّة ملك قد ركبت فيه، ففكّه الان عنّى إن كنت فاكّه، و خذ لى بحقّى إن كنت آخذه، و إلّا لحقت بدار عزّى و مستقرّ مكرمتى، قد ألبسنى ابن أبى طالب من العار ما صرت به ضحكة لأهل الدّيار.
فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال: ما ترى إلى ما يخرج من هذا الرّجل كأنّ ولايتى ثقل على كاهله أو شجى فى صدره.
فالتفت إليه عمر فقال: فيه دعابة لا تدعها حتّى تورده فلا تصدره «و جهل خ» و حسد قد استحكما في خلده فجريا منه مجرى الدّماء لا يدعانه حتّى يهنا منزلته و يورطاه ورطة الهلكة.
ثمّ قال أبو بكر لمن بحضرته: ادعوا لي قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، فليس لفكّ هذا القطب غيره.
قال: و كان قيس سيّاف النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان رجلا طويلا طوله ثمانية عشر شبرا في عرض خمسة أشبار و كان أشدّ الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين عليه السّلام.
فحضر قيس فقال له: يا قيس إنك من شدّة البدن بحيث أنت ففكّ هذا القطب من عنق أخيك خالد.
فقال قيس: و لم لا يفكّه خالد عن عنقه قال: لا يقدر عليه.
قال: فما لا يقدر عليه أبو سليمان و هو نجم عسكركم و سيفكم على أعدائكم كيف أقدر عليه أنا.
قال عمر: دعنا من هزؤك و هزلك و خذ فيما حضرت له.
فقال: لمسألة: تسألونها طوعا أو كرها تجبروني عليه.
فقال له: إن كان طوعا و إلّا فكرها.
قال قيس: يا ابن صحّاك خذل اللّه من يكرهه مثلك إنّ بطنك لعظيمة و إنّ كرشك لكبيرة، فلو فعلت أنت ذلك ما كان منك.
فخجل عمر من قيس بن سعد فجعل ينكث أسنانه بأنامله.
فقال أبو بكر: و ما بذلك منه، اقصد لما سئلت.
فقال قيس: و اللّه لو أقدر على ذلك لما فعلت، فدونكم و حدّادى المدينة فانّهم أقدر على ذلك منّي، فأتوا بجماعة من الحدّادين فقالوا: لا ينفتح حتّى نحميه بالنّار. فالتفت أبو بكر إلى قيس مغضبا، فقال: و اللّه ما بك من ضعف من فكّه و لكنّك لا تفعل فعلا يعيبك فيه إمامك و حبيبك أبو الحسن، و ليس هذا بأعجب من أنّ أباك رام الخلافة ليبتغى الاسلام عوجا فحدّ اللّه شوكته و أذهب نخوته و أعزّ الاسلام لوليّه و أقام دينه بأهل طاعته، و أنت الان في حال كيد و شقاق.
قال: فاستشاط قيس بن سعد غضبا و امتلأ غيظا، فقال: يا ابن أبي قحافة إنّ لك جوابا حميا بلسان طلق و قلب جرىّ، لولا البيعة الّتي لك في عنقى سمعته منّى و اللّه لان بايعتك يدي لم يبايعك قلبى و لا لسانى و لا حجّة لى فى علىّ بعد يوم الغدير و لا كانت بيعتى لك إلّا كالّتى نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا، أقول قولى هذا غير هائب منك، و لا خائف من معرتك، و لو سمعت هذا القول منك بدأة لما فتح لك منّى صالحا.
إن كان أبي رام الخلافة فحقيق أن يرومها بعد من ذكرته، لأنه رجل لا يقعقع بالشنان و لا يغمز جانبه كغمز التينة ضخم صنديد و سمك منيف و عز بازخ اشوس، بخلافك أيّها النعجة العرجاء و الديك النافش لا عن صميم و لا حسب كريم و أيم اللّه لان عاودتنى في أبى لألجمنّك بلجام من القول يمجّ فوك منه دما، دعنا نخوض في عمايتك و نتردّى في غوايتك على معرفة منّا بترك الحقّ و اتّباع الباطل.
و أما قولك إنّ عليّا إمامى ما انكر إمامته و لا أعدل عن ولايته و كيف انقض و قد أعطيت اللّه عهدا بامامته و ولايته يسألني عنه فأنا إن ألقى اللّه بنقض بيعتك أحبّ إلىّ من انقض عهده و عهد رسوله و عهد وصيّه و خليله.
و ما أنت إلّا أمير قومك إن شاءوا تركوك و إن شاءوا عزلوك، فتب إلى اللّه مما اجترمته و تنصّل إليه مما ارتكبته، سلّم الأمر إلى من هو أولى منك بنفسك، فقد ركبت عظيما بولايتك دونه و جلوسك في موضعه و تسميتك باسمه، و كأنك بالقليل من دنياك و قد انقشع عنك كما ينقشع السحاب و تعلم أىّ الفريقين شرّ مكانا و أضعف جندا و أمّا تعييرك إيّاى بانّه مولاى هو و اللّه مولاى و مولاك و مولى المؤمنين أجمعين آه آه أنّى لي بثبات قدم أو تمكّن وطأ حتّى الفظك لفظ المنجنيق الحجرة و لعلّ ذلك يكون قريبا و تكتفى بالعيان عن الخبر.
ثمّ قام و نفض ثوبه و مضى، و ندم أبو بكر عمّا أسرع إليه من القول إلى قيس، الحديث.
قال نوف (و) عقد (لأبي أيّوب الأنصاري) أيضا (في عشرة آلاف) و أبو أيّوب هو خالد بن زيد بن كعب الخزرجي من بنى النجار شهد العقبة و بدرا و ساير المشاهد، و عليه نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين قدم المدينة و شهد مع أمير المؤمنين مشاهده كلّها و كان على مقدمته يوم النهروان.
(و) عقد (لغيرهم على اعداد اخر و هو عليه السّلام يريد الرّجعة إلى صفين فما دارت الجمعة حتّى ضربه الملعون) أشقى الأولين و الاخرين شقيق عاقر ناقة صالح (ابن ملجم) المرادي (لعنه اللّه) حسبما عرفت تفصيل ضربته في شرح المختار التاسع و الستّين.
(فتراجعت العساكر) من المعسكر إلى الكوفة قال الرّاوي (فكنّا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كلّ مكان) كما قال الفرزدق:
- فلا غرو للأشراف إن ظفرت لهاذئاب الأعادى من فصيح و أعجم
- فحربة وحشىّ سقت حمزة الرّدى و قتل علىّ من حسام مصمّم
و المراد من اختطاف الذئاب إمّا النهب و القتل و الاذلال أو الاغواء و الاضلال قال الشارح المعتزلي: يقال: إنّ هذه الخطبة آخر خطبة خطبها أمير المؤمنين عليه السّلام قائما.
|