و من خطبة له عليه السّلام
و هى المأة و السابعة و الخمسون من المختار فى باب الخطب و الظاهر أنّها مع الخطبة الثّامنة و الثّمانين متّحدتان ملتقطتان من خطبة طويلة قدّمنا روايتها من الكافي في شرح الخطبة التي أشرنا اليها
أرسله على حين فترة من الرّسل، و طول هجعة من الامم، و انتقاض من المبرم، فجاءهم بتصديق الّذي بين يديه، و النّور المقتدى به، ذلك القرآن فاستنطقوه و لن ينطق، و لكن أخبركم عنه، ألا إنّ فيه علم ما يأتي و الحديث عن الماضي، و دواء دائكم، و نظم ما بينكم.
اللغة
(الفترة) بين الرّسل انقطاع الوحى و الرّسالة و (الهجعة) النّومة من اللّيل أو من أوّله و (أبرم) الحبل جعله طاقين ثمّ فتله و أبرم الأمر أحكمه
الاعراب
على في قوله عليه السّلام: على فترة بمعنى في كما في قوله تعالى: عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ.
و من في قوله: من الرّسل نشوية و كذا في قوله: من الامم و من المبرم، و الباء في قوله فجاءهم بتصديق آه يحتمل المصاحبة و التّعدية.
المعنى
اعلم أنّ مدار هذه الخطبة على فصلين:
الفصل الاول
في الاشارة إلى بعثة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فضيلته عليه السّلام و فضيلة ما جاء به من كتاب اللّه سبحانه و هو قوله (أرسله على حين فترة من الرّسل و طول هجعة من الامم) قد تقدّم شرح هاتين القرينتين في شرح الخطبة الثّامنة و الثّمانين، فليراجع ثمّة (و انتقاض من المبرم) أى انتقاض ما أبرمه الأنبياء و الرّسل من أحكام الدّين و أحكموه من قوانين الشرع المبين (فجاءهم بتصديق الّذي بين يديه) أى جاءهم الرّسول مصاحبا بالتّصديق أى مصدّقا لما قبله فيكون التّصديق وصفا لنفس الرسول كما قال تعالى: وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ.
و على كون الباء للتّعدية فالمعنى أنّه أتاهم بكتاب فيه تصديق الّذي بين يديه، فيكون المصدّق هو الكتاب كما قال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ.
قال في مجمع البيان: أى لما قبله من كتاب و رسول عن مجاهد و قتادة و الرّبيع و جميع المفسّرين و إنّما قيل لما بين يديه لما قبله لأنّه ظاهر له كظهور الّذي بين يديه. و قال الفخر الرّازي في تفسير هذه الآية: الوصف الثّاني لهذا الكتاب قوله: مصدّقا لما بين يديه، و المعنى أنّه مصدّق لكتب الأنبياء عليهم السّلام و لما أخبروا به عن اللّه عزّ و جلّ.
ثمّ في الآية وجهان: الأوّل أنّه تعالى دلّ بذلك على صحّة القرآن لأنّه لو كان من عند غير اللّه لم يكن موافقا لساير الكتب، لأنّه كان امّيا لم يختلط بأحد من العلما و لا تلمّذ لأحد و لا قرء على أحد شيئا، و المفترى إذا كان هكذا امتنع أن يسلم عن الكذب و التّحريف، فلمّا لم يكن كذلك ثبت أنّه عرف هذه القصص بوحى اللّه الثّاني قال أبو مسلم: المراد منه أنّه تعالى لم يبعث نبيّا قطّ إلّا بالدّعاء إلى توحيده و الايمان به و تنزيهه عمّا لا يليق به، و الأمر بالعدل و الاحسان و الشّرايع الّتي هي صلاح كلّ زمان، فالقرآن مصدّق لتلك الكتب في كلّ ذلك بقي في الآية سؤالان: الأوّل كيف سمّى ما مضى بأنّه بين يديه و الجواب أنّ تلك الأخبار لغاية ظهورها سماها بهذا الاسم.
الثاني كيف يكون مصدّقا لما تقدّمه من الكتب مع أنّ القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام و الجواب إذا كانت الكتب مبشّرة بالقرآن و بالرّسول و دالّة على أنّ أحكامها تثبت إلى حين بعثته و أنّها تصير منسوخة عند نزول القرآن كانت موافقة للقرآن، فكان القرآن مصدّقا لها، و أمّا فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أنّ القرآن مصدّق لها، لأنّ دلائل المباحث الالهيّة لا تختلف في ذلك، فهو مصدّق لها في الأخبار الواردة في التوراة و الانجيل، هذا.
و الأظهر كون التّصديق في قوله عليه السّلام: وصفا للقرآن و الباء فيه للتّعدية بقرينة قوله (و النّور المقتدى به) فانّه وصف له أيضا و كونه نورا يهتدى به في ظلمات الجهل، و يقتدى بأحكامه ظاهر، قال سبحانه: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ.
(ذلك) الموصوف بما تقدّم هو (القرآن) المنزل من عند اللّه إعجازا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (فاستنطقوه) يحتمل أن يكون المراد به الأمر باستفهام مضامينه و تفهم ما تضمّته من الحقائق و الدقايق و الحلال و الحرام و الحدود و الأحكام.
و لمّا كان التّفهّم عنه بنفسه غير ممكن لاشتماله على المحكم و المتشابه و النّاسخ و المنسوخ و الظّاهر و الباطن و التنزيل و التأويل و غيرها عقّبه بقوله (و لن ينطق) أى لا يمكن تفهيمه بنفسه أبدا بل لا بدّ له من مترجم فأردفه بقوله (و لكن أخبركم عنه) تنبيها على أنّه عليه السّلام مترجمه و قيّمة و مفهم معانيه و ظواهره و بواطنه.
و يجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل فيكون المراد باستنطاقهم له إنطاقهم إياه و لمّا كان ذلك موهما لكونه ذا نطق بنفسه أتى بقوله: و لن ينطق، من باب الاحتراس الّذي عرفت في ديباجة الشّرح من المحسنات البديعية ثمّ عقّبه بقوله: و لكن اخبركم عنه تنبيها على أنّه خطّ مسطور بين الدّفتين ليس له لسان بل لا بدّ له من ترجمان و هو عليه السّلام لسانه و ترجمانه و إلى ذلك يشير عليه السّلام في الخطبة المأة و الثانية و الثّمانين بقوله: فالقرآن آمر زاجر و صامت ناطق، أى صامت بنفسه و ناطق بترجمانه، و لعلّنا نذكر لهذا الكلام معنى آخر في مقامه إنشاء اللّه حيثما بلغ الشّرح إليه هذا.
و قد تقدّم في التّذييل الثّالث من تذييلات الفصل السّابع عشر من الخطبة الاولى الأدلّة العقليّة و النقليّة على أنّ دليل القرآن و قيّمه و ترجمانه و العالم بمعانيه و مبانيه و بأسراره و بواطنه و ظواهره هو أمير المؤمنين عليه السّلام و الطيّبون من أولاده سلام اللّه عليهم جميعا.
و قد علمت هناك أيضا أنّ القرآن مشتمل على علم ما كان و ما يكون و ما هو كائن و إليه أشار هنا بقوله (ألا إنّ فيه علم ما يأتي) أى أخبار اللّاحقين كليّاتها و جزئياتها و أحوال الموت و البرزخ و البعث و النّشور و القيامة و الجنّة و النّار و درجات الجنان و دركات الجحيم و أحوال السّابقون إلى الاولى و السّائرون إلى الأخرى، و تفاوت مراتب المثابين و المعاقبين في الثواب و العقاب شدّة و ضعفا و قلّة و كثرة و غير ذلك ممّا يحدث في المستقبل.
(و الحديث عن الماضي) أى أخبار السّابقين و كيفيّة بدء الخلق من السّماء و الأرض و الشّجر و الحجر و النّبات و الانسان و الحيوان و قصص الأنبياء السّلف و اممهم و معاصريهم من ملوك الأرض و السّلاطين و غير ذلك ممّا مضى.
(و دواء دائكم) لاشتماله على الفضايل العلميّة و العمليّة بها يحصل اصلاح النّفوس و الشّفاء من الأمراض النّفسانيّة و البرء من داء الغفلة و الجهالة (و نظم ما بينكم) لتضمّنه القوانين الشّرعية و الحكمة السّياسيّة الّتي بها نظام العالم و استقامة الأمور.
|