منها- فعند ذلك لا يبقى بيت مدر و لا وبر إلّا و أدخله الظّلمة ترحة، و أولجوا فيه نقمة، فيومئذ لا يبقى لهم في السّماء عاذر، و لا في الأرض ناصر، أصفيتم بالأمر غير أهله، و أوردتموه غير ورده، و سينتقم اللّه ممّن ظلم مأكلا بمأكل، و مشربا بمشرب، من مطاعم العلقم، و مشارب الصّبر و المقر، و لباس شعار الخوف، و دثار السّيف، و إنّما هم مطايا الخطيئات، و زوامل الآثام، فاقسم ثمّ أقسم لتنخمنّها أميّة من بعدي كما تلفظ النّخامة، ثمّ لا تذوقها و لا تتطعّم بطعمها أبدا ما كرّ الجديدان.
اللغة
(الترحة) المرّة من التّرح بالتحريك الهمّ و الحزن و (أصفيت) فلانا بكذا خصّصته به و (المأكل) و (المشرب) مصدران بمعنى الأكل و الشّرب و يجوز هنا أن يجعلا بمعنى المفعول و (المقر) ككتف الصّبر أو شبيه به أو السمّ كالمقروزان فلس و (الشعار) ما يلي الجسد من الثّياب و (الدّثار) ما فوقه و (المطايا) جمع مطيّة و هى الدّابة تمطو أى تجدّ في سيرها و (الزّوامل) جمع الزّاملة و هي الّتي يحمل عليها من الابل و غيرها و (تنخم) دفع بشي ء من أنفه أو صدره و (النّخامة) بالضمّ النّخاعة.
الاعراب
قال الشّارح المعتزلي: مأكلا منصوب بفعل مقدّر أى يأكلون مأكلا، و الباء هنا للمجازاة الدّالّة على الصّلة كقوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ و قال سبحانه قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ و قال البحراني: و مأكلا و مشربا منصوبان بفعل مضمر و التّقدير و يبدلهم مأكلا بمأكل. أقول: الظّاهر أنّ الباء على ما قرّره الشّارح المعتزلي من الفعل سببيّة لا للمجازاة، و إن كان مراده بالمجازاة هى السّببيّة فلا مشاحة، و على تقرير البحراني فهى للمقابلة، و على قول الأوّل فمن في قوله: من مطاعم العلقم و مشارب الصبر، بيان لمأكلا و مشربا، و على قول الثّاني فهى بيان لقوله: بمأكل و مشرب فافهم جيّدا. و الانصاف أنّه لا حاجة إلى تقدير الفعل، بل يجعل مأكلا و مشربا مفعولين لظلم بواسطة الحرف المقدّر، و يجعل قوله: بمأكل متعلّقا بينتقم، و على ذلك فيكون من مطاعم بيانا لقوله: لمأكل كما قدّمناه في قول البحراني، و تقدير الكلام و سينتقم اللّه ممن ظلم أحدا في أكل أو شرب بأكل من مطاعم العلقم و بشرب من مشارب الصّبر، و على ذلك فيستقيم الكلام على أحسن نظام كما هو غير خفيّ على اولى الأفهام.
المعنى
الفصل الثاني (منها)
في وصف حال بني اميّة و الاخبار عن ملكهم و ظلمهم و زوال دولتهم بعد فسادهم في الأرض و هو قوله (فعند ذلك لا يبقى بيت مدر و لا وبر) أى أهل الحضر و البدو (إلّا و أدخله الظلمة) من بني أميّة و من أعوانهم (ترحة) أى همّا و حزنا (و اولجوا) أى ادخلوا (فيه نقمة) و عقوبة (فيومئذ) يحيق بهم العذاب و (لا يبقى لهم في السّماء عاذر) أى ناصر (و لا في الأرض ناصر) فيزول دولتهم و يكسر صولتهم.
و أردف ذلك بتوبيخ المخاطبين الرّاضين بفعل الظّلمة و المتقاعدين عن ردعهم عن ظلمهم فقال (أصفيتم بالأمر) أى آثرتم بأمر الخلافة (غير أهله) الّذي هو حقّ له (و أوردتموه غير ورده) أى أنزلتموه عند من لا يستحقّه من الأوّل و الثاني و الثّالث و من يحذ و حذوهم من معاوية و ساير بني اميّة، إذ الخطاب في أصفيتم و إن كان متوجّها إلى المخاطبين الحاضرين إلّا أنّ المراد به العموم كساير الخطابات الشّفاهيّة.
(و سينتقم اللّه ممّن ظلم مأكلا بمأكل و مشربا بمشرب من مطاعم العلقم و مشارب الصّبر و المقر) أى يبدل نعمتهم بالنّقمة و مطاعمهم اللّذيذة الشّهية بالمريرة.
قال الشّارح البحراني: و استعار لفظ العلقم و الصّبر و المقر لما يتجرّعونه من شدايد القتل و أحوال العدوّ و مرارات زوال الدّولة (و) ينتقم أيضا ب (لباس شعار الخوف و دثار السّيف) أى بالخوف اللّازم لهم لزوم الشّعار و بالسّيف اللّازم عليهم لزوم الدّثار، و تخصيص الشّعار بالخوف و الدّثار بالسيف لأنّ الخوف باطن في القلوب و السّيف ظاهر في البدن كما أنّ الشّعار ما كان يلي الجسد من الثّياب و الدّثار ما فوقه فناسب الأوّل بالأوّل و الثّاني بالثّاني (و انّما هم مطايا الخطيئات و زوامل الآثام) يعنى أنّهم حمّال المعاصي و السّيئات لكون حركاتهم و سكناتهم كلّها على خلاف القانون الشّرعي.
ثمّ أخبر عن زوال ملكهم و أتى بالقسم البارّ المؤكّد تنبيها على أنّ المخبر به واقع لا محالة فقال (فاقسم) باللّه العليم (ثمّ اقسم) به و إنّه لقسم لو تعلمون عظيم (لتنخمنّها اميّة) أى لتلفظنّ الخلافة بنو أميّة (من بعدى كما تلفظ النخامة) أى تدفع من الصدر و الأنف (ثمّ لا تذوق) لذّت (ها و لا تتطعم بطعمها أبدا ما كرّ الجديدان) أى اللّيل و النهار يعني أنّهم لا يجدون حلاوتها و لا يستلذّون بها و لا ينالون إليها أبدا الدّهر، لأنه تعالى قد أخبر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ مدّة ملكهم ألف شهر بقوله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
و أخبره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمير المؤمنين عليه السّلام و أولاده الطاهرين.
روى في الصافي عن عليّ بن إبراهيم القمّي (ره) قال: رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قرودا تصعد منبره فغمّه ذلك، فأنزل اللّه سورة القدر: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
تملك بنو أميّة ليس فيها ليلة القدر.
و فيه عن الكافي عن الصادق عليه السّلام أري رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في منامه أنّ بني أميّة يصعدون على منبره من بعده و يضلّون الناس عن الصراط القهقرى، فأصبح كئيبا حزينا قال عليه السّلام: فهبط عليه جبرئيل عليه السّلام فقال: يا رسول اللّه مالى أراك كئيبا حزينا قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أميّة في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلّون النّاس عن الصراط القهقرى، فقال: و الذي بعثك بالحقّ نبيا إنّي ما اطّلعت عليه، فعرج إلى السماء فلم يلبث أن نزل عليه بآى من القرآن يونسه بها قال: أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ و أنزل عليه إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
جعل اللّه ليلة القدر لنبيّه خيرا من ألف شهر ملك بني أميّة، و في معناه اخبار أخر هذا و قد تقدّم تفصيل زوال الدّولة الأمويّة و انقراضهم بيد السّفاح في شرح الخطبة المأة و الرّابعة، فليراجع هناك.
|