و هى المأة و التاسعة و الخمسون من المختار فى باب الخطب و شرحها في فصلين:
الفصل الاول
أمره قضاء و حكمة، و رضاه أمان و رحمة، يقضي بعلم، و يعفو بحلم، الّلهُمّ لك الحمد على ما تأخذ و تعطي، و على ما تعافي و تبتلي، حمدا يكون أرضى الحمد لك، و أحبّ الحمد إليك، و أفضل الحمد عندك، حمدا يملاء ما خلقت، و يبلغ ما أردت، حمدا لا يحجب عنك، و لا يقصر دونك، حمدا لا ينقطع عدده، و لا يفنى مدده، فلسنا نعلم كنه عظمتك إلّا أنّا نعلم أنّك حىّ قيّوم، لا تأخذك سنة و لا نوم، لم ينته إليك نظر، و لم يدركك بصر، أدركت الأبصار، و أحصيت الأعمال، و أخذت بالنّواصي و الأقدام، و ما الّذي نري من خلقك، و نعجب له من قدرتك، و نصفه من عظيم سلطانك، و ما تغيّب عنّا منه، و قصرت أبصارنا عنه، و انتهت عقولنا دونه، و حالت سواتر الغيوب بيننا و بينه أعظم
اللغة
قال الفيومى (عافاه) اللّه محى عنه الأسقام و العافية اسم منه و هى مصدر جاءت على فاعلة، و مثله ناشئة اللّيل بمعنى نشوء اللّيل و الخاتمة بمعنى الختم، و العاقبة بمعنى العقب، و ليس لوقعتها كاذبة
الاعراب
جملة لا تأخذه في محلّ النّصب على الحال، و ما في قوله عليه السّلام: و ما الّذي نرى للاستفهام على وجه الاستحقار، و الواو في قوله عليه السّلام: و ما تغيّب، حاليّة و ما موصول اسمىّ بمعنى الّذي مرفوع المحلّ على الابتداء و خبره أعظم.
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة متضمّن لتعظيم اللّه سبحانه و تبجيله بجملة من نعوت كماله و أوصاف جماله قال عليه السّلام (أمره قضاء و حكمة) يجوز أن يراد بأمره الأمر التّكويني أعني الاختراع و الاحداث، فيكون القضاء بمعنى الانفاذ و الامضاء، و حمله عليه حينئذ من باب المبالغة أو المصدر بمعنى الفاعل أو المفعول، يعني أنّ أمره سبحانه نافذ و ممضى لا رادّ له و لا دافع كما قال عزّ من قائل إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
اى إذ أراد أن يكوّنه فيكون.
قال الزّمخشري: فان قلت: ما حقيقة قوله: أن يقول له كن فيكون قلت: هو مجاز من الكلام و تمثيل لأنّه لا يمتنع عليه شي ء من المكوّنات و أنّه بمنزلة من المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع، و المراد بالحكمة حينئذ العدل و النّظام الأكمل، فمحصّل المعنى أنّ أمره تعالى نافذ في جميع الموجودات و المكوّنات، متضمّن للعدل، و مشتمل على النظام الأكمل.
و يجوز أن يراد به الأمر التّكليفي فيكون القضاء بمعنى الحتم و الالزام يعنى أنّ أمره سبحانه حتم و إلزام مشتمل على الحكمة و المصلحة في المأمور به كما هو مذهب العدليّة من كون الأوامر و النّواهي تابعة للمصالح و المفاسد الكامنة الواقعيّة، و قد تكون المصلحة في نفس الأمر دون المأمور به كما في الأوامر الابتلائيّة.
و يجوز أن يكون المراد به الشّأن فيكون القضاء بمعنى الحكم، يعني أنّ شأنه تعالى حكم و حكمة لأنّه القادر القاهر العالم العادل، فبمقتضى قدرته و سلطانه حاكم، و بمقتضى علمه و عدله حكيم.
و كون الأمر بمعنى الشّأن قد صرّح به غير واحد منهم الزّمخشري في تفسير الآية السّابقة قال: إنّما أمره إنّما شأنه إذا أراد شيئا إذا دعاه داعى حكمة إلى تكوينه و لا صارف أن يقول له كن أن يكوّنه من غير توقّف، فيكون فيحدث أى فهو كائن موجود لا محالة. (و رضاه أمان و رحمة) أى أمان من النّار و رحمة للأبرار إذ رضوانه سبحانه مبدء كلّ منحة و نعمة، و منشاء كلّ لذّة و بهجة كما قال تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ.
(يقضى بعلم) أى يحكم بما يحكم به لعلمه بحسن ذلك القضاء و اقتضاء الحكمة و العدل له و هو كالتفسير لقوله: أمره قضاء و حكمة، كما أنّ قوله (و يعفو بحلم) بمنزلة التّفسير لقوله: و رضاه أمان و رحمة، لأنّ العفو يعود إلى الرّضا بالطّاعة بعد تقدّم الذّنب، و إنّما يتحقّق العفو مع القدرة على العقاب إذ العجز عن الانتقام لا يسمّى عفوا فلذلك قال: يعفو بحلم، يعني أنّ عفوه لكونه حليما لا يستنفره الغضب.
ثمّ أثنى عليه تعالى بالاعتراف بنعمه فقال (اللّهمّ لك الحمد على ما تأخذ و تعطى و على ما تعافي و تبتلى) أى على السّرّاء و الضّرّاء و الشّدة و الرّخاء، و قد تقدّم تحقيق معنى الأخذ و الاعطاء، و وجه استحقاق اللّه سبحانه للحمد بهذين الوصفين في شرح الخطبة المأة و الثّانية و الثّلاثين، و وجه استحقاقه للحمد على البلاء و الابتلاء هناك أيضا مضافا إلى شرح الخطبة المأة و الثّالثة عشر.
و أقول هنا زيادة على ما تقدّم: إنّه قد ثبت في علم الأصول أنّ اللّه عزّ و علا الغنيّ المطلق عمّا سواه و المتعالى عن الحاجة إلى ما عداه، بل غني كلّ مخلوق بجوده، و قوام كلّ موجود بوجوده، فاذا جميع ما يصدر عنه سبحانه في حقّ العباد من الأخذ و الاعطاء و المعافاة و الابتلاء و الافتقار و الاغناء ليس الغرض منها جلب منفعة لذاته أو دفع مضرّة عن نفسه، بل الغرض منها كلّها مصالح كامنة للمكلّفين و منافع عائدة إليهم يعلمها سبحانه و لا نعلمها إلّا بعضا منها ممّا علّمنا اللّه سبحانه بالقوّة العاقلة أو بتعليم حججه، فكم من فقير لا يصلحه إلّا الفقر و لو استغنى لطغى، و كم من غنيّ لا يصلحه إلّا الغنى و لو افتقر لكفر، و ربّ مريض لو كان معتدل المزاج لا نهمك في الشّهوات و اقتحم في الهلكات، و كأيّن من صحيح البنية لو مرض لم يصبر عليه و أحبّ المنيّة، و هكذا جميع ما يفعله سبحانه في حقّ المكلّفين فهو في الحقيقة نعمة منه تعالى عليهم ظاهرة أو باطنة كما قال عزّ من قائل وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً فاذا ثبت أنّ هذه كلّها إنعام منه سبحانه عليهم، و إحسان اليهم ظهر وجه استحقاقه للحمد و الثّناء عليها كلّها إذ الشّكر على النّعم فرض عقلا و نقلا هذا.
و يدلّ على ما ذكرنا من كون الابتلاء منه تعالى في الحقيقة نعمة منه على العباد ما رواه في الكافي عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّه ليكون للعبد منزلة عند اللّه فما ينالها إلّا باحدى خصلتين: إمّا بذهاب في ماله أو ببليّة في جسده.
و فيه عن يونس بن رباط قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ أهل الحقّ لم يزالوا منذ كانوا في شدّة اما إنّ ذلك إلى مدّة قليلة و عافية طويلة.
و فيه عن عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول إنّ المؤمن من اللّه عزّ و جلّ لبأفضل مكان ثلاثا إنّه ليبتليه بالبلاء ثمّ ينزع نفسه عضوا عضوا و هو يحمد اللّه على ذلك.
ثمّ أخذ في تفخيم شأن حمده عليه و تعظيمه باعتبار كيفيّته فقال (حمدا يكون أرضي الحمد لك) أى أكمل رضاء منك به من غيره (و أحبّ الحمد إليك و أفضل الحمد عندك) أى أشدّ محبّة منك إليه و أرفع منزلة عندك من ساير المحامد لاتّصافه بالفضل و الكمال و رجحانه على ما سواه.
ثمّ اتبعه بتفخيمه باعتبار كميّته فقال (حمدا يملاء ما خلقت) من السّماء و العرش و الأرض (و يبلغ ما أردت) من حيث الكثرة و الزّيادة.
ثمّ بتفخيمه باعتبار الخلوص فقال (حمدا لا يحجب عنك و لا يقصر) أى لا يحبس (دونك) لخلوصه من شوب العجب و الرّيا و ساير ما يمنعه عن الوصول إلى درجة القبول و الرّضا ثمّ باعتبار مادّته فقال (حمدا لا ينقطع عدده و لا يفنى مدده) هذا و تكرار لفظ الحمد إمّا لقصد التّعظيم كما في قوله: وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ و في قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ.
أو للتّلذّذ بذكر المكرّر كما في قول الشّاعر:
- سقى اللّه نجدا و السّلام على نجدو يا حبّذا نجد على الناى و البعد
- نظرت إلى نجد و بغداد دونه لعلّى أرى نجدا و هيهات من نجد
و في قوله:
- تاللّه يا ظبيات القاع قلن لناليلاى منكنّ أم ليلى من البشر
أو للاهتمام بشأنه، ثمّ إنّه عليه السّلام لمّا بالغ في حمده سبحانه و الثّناء عليه من حيث الكيف و الكمّ و الخلوص و العدد و المدد، و كان الحمد عبارة عن الوصف بالجميل على وجه التّعظيم و التّبجيل، و كان ذلك موهما لمعرفة عظمة المحمود له حقّ معرفتها، عقّب ذلك بالاعتراف بالعجز عن عرفان كنه عظمته، تنبيها على عدم إمكان القيام بوظايف الثّناء عليه و إن بولغ فيه منتهى المبالغة، تأسيّا بما صدر عن صدر النّبوّة من الاعتراف بالعجز حيث قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا احصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، و لهذا أتى بالفاء المفيدة للتّعقيب و الاتّصال فقال (فلسنا نعلم كنه عظمتك) لقصور المشاعر الظّاهرة و الباطنة من المتفكّرة و المتخيّلة و غيرهما و القوّة العقلانية و إن كانت على غاية الكمال و بلغت إلى منتهى معارجها عن إدراك ذاته و اكتناه عظمته (إلّا أنّا نعلم) أى لكن نعرفك بصفات جمالك و جلالك فنعلم (أنّك حيّ قيّوم).
قال في الكشّاف: الحىّ الباقي الّذي لا سبيل عليه للفناء و على اصطلاح المتكلّمين الّذي يصحّ أن يعلم و يقدر، و القيّوم الدّائم القيام بتدبير الخلق و حفظه (لا تأخذك سنة) هى ما يتقدّم النّوم من الفتور يسمّى النّعاس (و لا نوم) بالطّريق الأولى و هو تأكيد للنّوم المنفي ضمنا. قال الزّمخشري: و هو تأكيد للقيّوم لأنّ من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيّوما، و منه حديث موسى عليه السّلام أنه سأل الملائكة و كان ذلك«» من قومه كطلب الرؤية: أ ينام ربّنا فأوجى اللّه إليهم أن يوقظوه ثلاثا و لا يتركوه ينام، ثمّ قال: خذ بيدك قارورتين مملوّتين فأخذهما و ألقى اللّه عليه النعاس فضرب إحداهما على الاخرى فانكسرتا، ثمّ أوحى إليه قل لهؤلاء إنّى امسك السماوات و الأرض بقدرتي فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا.
و كيف كان فالمقصود بقوله: لا تأخذك سنة و لا نوم تنزيهه تعالى عن صفات البشر و تقديسه عن لوازم المزاج الحيواني.
فان قلت: مقتضى المقام أن ينفى النوم أوّلا و السنة ثانيا إذ مقام التقديس يناسبه نفى الأقوى ثمّ الأضعف كما تقول: زيد لا يقدّم على الحرام بل لا يأتي بالمكروه، و فلان لا يفوت عنه الفرائض و لا النوافل، كما أنّ التمجيد بالاثبات على عكس ذلك، فيقدّم فيه غير الأبلغ على الأبلغ تقول: فلان عالم تحرير و جواد فياض.
قلت: سلّمنا و لكنه قدّم سلب السنة تبعا لكلام اللّه سبحانه و ملاحظة للترتيب الطبيعي، فانّ السنة لما كانت عبارة عن الفتور المتقدّم عن النوم فساق الكلام على طبق ما في نفس الأمر.
(لم ينته إليك نظر) عقليّ أو بصري (و لم يدركك بصر) قد تقدّم تحقيق عدم امكان إدراكه تعالى بالنظر و البصر أي بالمشاعر الباطنة و الظاهرة في شرح الفصل الثاني من الخطبة الاولى و شرح الخطبة التاسعة و الأربعين و الخطبة الرّابعة و السّتين و الفصل الثّاني من الخطبة التّسعين مستوفي و أقول هنا مضافا إلى ما سبق: إنّ قوله عليه السّلام: لم يدركك بصر، إبطال لزعم المجوّزين للرّؤية، فانّ الامة قد اختلفوا في رؤية اللّه تعالى على أقوال، فذهب الاماميّة و المعتزلة إلى امتناعها مطلقا، و ذهبت المشبّهة و الكراميّة إلى جوازها منزّها عن المقابلة و الجهة و المكان.
قال الاعرابي في كتاب إكمال الاكمال ناقلا عن بعض علمائهم إنّ رؤيته تعالى جايزة في الدّنيا عقلا، و اختلف في وقوعها و في أنّه هل رآه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الاسرى أم لا، فأنكرته عايشة و جماعة من الصّحابة و التّابعين و المتكلّمين، و أثبت ذلك ابن عباس، و قال: إنّ اللّه اختصّه بالرّؤية و موسى بالكلام و إبراهيم بالخلّة، و أخذ به جماعة من السّلف، و الأشعريّ، و جماعة من أصحابه و ابن حنبل و كان الحسن يقسم لقد رآه، و قد توقّف فيه جماعة، هذا حال رؤيته في الدّنيا.
و أمّا رؤيته في الآخرة فجايزة عقلا، و أجمع على وقوعها أهل السّنة و أحالها المعتزلة و المرجئة و الخوارج، و الفرق بين الدّنيا و الآخرة أنّ القوى و الادراكات ضعيفة في الدّنيا حتّى إذا كانوا في الآخرة و خلقهم للبقاء قوى إدراكهم فأطاقوا رؤيته، انتهى كلامه على ما حكى عنه.
و قد عرفت فيما تقدّم أنّ استحالة ذلك مطلقا هو المعلوم من مذهب أهل البيت عليهم السّلام، و عليه إجماع الشّيعة باتّفاق المخالف و المؤالف، و قد دلّت عليه الأدلّة العقليّة و النقليّة من الآيات و الأخبار المستفيضة، و من جملة تلك الآيات قوله سبحانه: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.
استدلّ بها النّافون للرّؤية و قرّروها بوجهين: أحدهما أنّ إدراك البصر عبارة شايعة عن الادراك بالبصر إسناد للفعل إلى الآلة، و الادراك بالبصر هو الرّؤية بمعنى اتّحاد المفهومين أو تلازمهما، و الجمع المعرّف باللّام عند عدم قرينة العهديّة و البعضيّة تفيد العموم و الاستغراق باجماع أهل العربيّة و الاصول و أئمّة التّفسير، و بشهادة استعمال الفصحاء، و صحّة الاستثناء فاللّه سبحانه قد أخبر بأنه لا يراه أحد في المستقبل، فلو رآه المؤمنون في الجنّة لزم كذبه. و اعترض عليه بأنّ اللّام في الجمع لو كان للعموم و الاستغراق كان قوله: تدركه الابصار موجبة كلية، و قد دخل عليها النفى فرفعها هو رفع الايجاب الكلّي و رفع الايجاب الكلّى سلب جزئيّ، و لو لم يكن للعموم كان قوله: لا تدركه الأبصار سالبة مهملة في قوّة الجزئية فكان المعنى لا تدركه بعض الأبصار، و نحن نقول بموجبه حيث لا يراه الكافرون، و لو سلّم فلا نسلّم عمومه في الأحوال و الأوقات، فيحمل على نفى الرّؤية في الدّنيا جمعا بين الأدلّة.
و الجواب أنه قد تقرّر في موضعه أنّ الجمع المحلّى باللّام عام نفيا و اثباتا في المنفيّ و المثبت كقوله تعالى: وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ.
حتّى أنه لم يرد في سياق النفى في شي ء من الكتاب الكريم إلّا بمعنى عموم النفى و لم يرد لنفى العموم أصلا، نعم قد اختلف في النفى الدّاخل على لفظة كلّ لكنّه في القرآن المجيد أيضا بالمعنى الذي ذكرنا كقوله تعالى: وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ.
إلى غير ذلك، و قد اعترف بما ذكرنا في شرح المقاصد و بالغ فيه.
و أمّا منع عموم الأحوال و الأوقات فلا يخفى فساده، فانّ النفى المطلق غير المقيّد لا وجه لتخصيصه ببعض الأوقات إذ لا ترجيح لبعضها على بعض، و هو من الأدلّة على العموم عند علماء الاصول.
و أيضا صحّة الاستثناء دليل عليه و هل يمنع أحد صحّة قولنا: ما كلّمت زيدا إلّا يوم الجمعة، و لا اكلّمه إلّا يوم العيد و قال تعالى وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ، إلى قوله إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ و قال لا تُخْرِجُوهُنَّ إلى قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ و أيضا كلّ نفى ورد في القرآن بالنسبة إلى ذاته تعالى فهو للتأبيد و عموم الأوقات لا سيّما ما قبل هذه الآية. و أيضا عدم إدراك الأبصار جميعا لا يختصّ بشي ء من الموجودات خصوصا مع اعتبار شمول الأحوال و الأوقات، فلا يختصّ به تعالى فتعيّن أن يكون التمدّح بمعنى عدم إدراك شي ء من الأبصار له في شي ء من الأوقات.
و ثانيهما أنّه تعالى تمدّح بكونه لا يرى به فانّه ذكره في أثناء المدايح و ما كان من الصّفات عدمه مدحا كان وجوده نقصا، فيجب تنزيه اللّه تعالى بنفيه مطلقا.
ثمّ لمّا نفى عنه درك الأبصار له أثبت له دركه للأبصار فقال عليه السّلام (أدركت الأبصار و أحصيت الأعمال) كما نطق به الكتاب العزيز قال عزّ من قائل: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ و قال أيضا يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ.
أى أحاط به عددا لم يغب عنه شي ء و نسوه لكثرته أو تهاونهم به، و اللّه على كلّ شي ء شهيد أى يعلم الأشياء كلّها من جميع وجوهها لا يخفى عليه شي ء منها، و قال أيضا تلو هذه الآية: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ. ثمّ وصفه سبحانه بكمال الاقتدار فقال (و أخذت بالنّواصي و الأقدام) أى أحاطت قدرتك بنواصى العباد و أقدامهم، و أخذت بها على وجه القهر و الاذلال، و يجوز أن يكون المراد به خصوص أخذ المجرمين بنواصيهم و أقدامهم يوم القيامة كما قال تعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ.
و نسبته عليه السّلام الأخذ إلى اللّه سبحانه مع كونه فعل الملائكة من باب الاسناد إلى السبب الآمر كما أسند اللّه التوفى الى نفسه في قوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها مع كونه فعل ملك الموت بدليل قوله سبحانه في سورة السجدة: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ.
قال الفخر الرّازي في تفسير الآية الاولى: و في كيفيّة الأخذ ظهور نكالهم لأنّ في نفس الأخذ بالنّاصية إذلالا و إهانة، و كذلك الأخذ بالقدم.
و في الأخذ بها و جهان بل قولان لأهل التّفسير.
أحدهما أن يجمع بين ناصيتهم و قدمهم من جانب ظهورهم فيربط بنواصيهم أقدامهم أو من جانب وجوههم فتكون رؤوسهم على ركبهم و نواصيهم في أصابع أرجلهم مربوطة.
و الثاني أنّهم يسحبون سحبا، فبعضهم يؤخذ بناصيته، و بعضهم يجرّ برجله ثمّ استفهم على سبيل الاستحقار لما استفهم عنه فقال (و ما الّذي نرى من خلقك) أى من مخلوقاتك على كثرتها و اختلاف أجناسها و أنواعها و هيئاتها و مقاديرها و خواصّها و أشكالها و ألوانها إلى غير هذه من أوصافها و حالاتها الّتي لا يضبطها عدّ و لا يحيط بها حدّ (و نعجب له من قدرتك) أى من مقدوراتك الغير المتناهية عددا و مددا و كيفا و كمّا (و نصفه من عظيم سلطانك) النّافذ في الأنفس و الآفاق، و الماضي في أطباق الأرض و أقطار السّماء (و) الحال أنّ (ما تغيّب عنّا منه) أى من مخلوقك و مقدورك و ملكك (و قصرت أبصارنا عنه) من محسوسات الموجودات (و انتهت عقولنا دونه) من معقولات المخلوقات (و حالت سواتر الغيوب بيننا و بينه) أى كانت سرادقات العزّة و أستار القدرة عائلة بيننا و بينه، و حاجبة لنا من الوصول إليه من غيابات الغيوب و الغيب المحجوب.
(أعظم) و أفخم يعني أنّه لو قيس كلّ ما شاهدناه بأبصارنا و أدركناه بعقولنا و وصفناه بألسنتنا ممّا ذرأه اللّه سبحانه في عالم الامكان إلى ما غاب عنّا من أسرار القدرة و الجلال، و شئونات الكبرياء و الجمال لم يكن إلّا أقلّ قليل كنسبة الجدول إلى النّهر، بل القطرة إلى البحر
|