الفصل الثاني منها
ثمّ إيّاكم و تهزيع الأخلاق و تصريفها، و اجعلوا اللّسان واحدا، و ليختزن الرّجل لسانه فإنّ هذا اللّسان جموح بصاحبه، و اللّه ما أرى عبدا يتّقي تقوى تنفعه حتّى يختزن لسانه، و إنّ لسان المؤمن من وراء قلبه، و إنّ قلب المنافق من وراء لسانه، لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام تدبّره في نفسه فإن كان خيرا أبداه و إن كان شرّا واراه، و إنّ المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه لا يدري ما ذا له و ما ذا عليه، و لقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه، و لا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه، فمن استطاع منكم أن يلقى اللّه سبحانه و هو نقيّ الرّاحة من دماء المسلمين و أموالهم، سليم اللّسان من أعراضهم فليفعل.
اللغة
(هزعت) الشجر تهزيعا كسّرته و فرّقته و (خزن) المال و اختزنه أحرزه
الاعراب
قوله: و إيّاكم و تهزيع الأخلاق، انتصاب تهزيع على التحذير قال الشارح المعتزلي: و حقيقته تقدير فعل و صورته جنّبوا أنفسكم تهزيع الأخلاق فايّاكم قائم مقام أنفسكم، و الواو عوض عن الفعل المقدّر و قد جاء بغير واو في قول الشاعر:
- إيّاك أن ترضى صحابة ناقصفتنحط قدرا من علاك و تحقرا
المعنى
اعلم أنّه عليه السّلام لما ختم الفصل السّابق بالأمر بالاستقامة و النهى عن المروق و الخروج عن جادّة الشريعة أردفه بالتحذير عن تهزيع الأخلاق الملازم للنّفاق فقال: (ثمّ إيّاكم و تهزيع الأخلاق) و تفريقها (و تصريفها) و تقليبها و نقلها من حال إلى حال كما هو شأن المنافق، فانّه لا يبقى على خلق و لا يستمرّ على حالة واحدة بل قد يكون صادقا و قد يكون كاذبا، و تارة وفيّا و اخرى غادرا، و مع الظالمين ظالما و مع العدول عادلا.
روى في الكافي عن محمّد بن الفضيل قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السّلام أسأله عن مسألة، فكتب إلىّ إنّ المنافقين يخادعون اللّه و هو خادعهم و إذا قاموا إلى الصّلاة قاموا كسالى يرآؤن النّاس و لا يذكرون اللّه إلّا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء و من يضلل اللّه فلم تجد له سبيلا، ليسوا من الكافرين و ليسوا من المؤمنين و ليسوا من المسلمين يظهرون الايمان و يصيرون إلى الكفر و التكذيب لعنهم اللّه.
و لما حذّر عن تصريف الأخلاق و النّفاق أمر بقوله (و اجعلوا اللّسان واحدا) على اتّحاد اللّسان اذ تعدّد اللّسان من وصف المنافق يقول في السرّ غير ما يقوله فى العلانية، و في الغياب خلاف ما يقوله في الحضور، و يتكلّم مع هذا غير ما يتكلّم مع ذلك.
روى في الكافي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: بئس العبد عبد يكون ذا وجهين و ذا لسانين يطرى أخاه شاهدا و يأكله غايبا، إن أعطى حسده و إن ابتلى خذله.
و فيه عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن عليّ بن أسباط عن عبد الرّحمان بن حمّاد رفعه قال: قال اللّه تبارك و تعالى لعيسى عليه السّلام: يا عيسى ليكن لسانك في السرّ و العلانية لسانا واحدا و كذلك قلبك إنّي احذرك نفسك و كفى بي خبيرا لا يصلح لسانان في فم واحد و لا سيفان في غمد واحد و لا قلبان في صدر واحد و كذلك الأذهان.
قال بعض شرّاح الكافي: أمره اللّه تعالى بثلاث خصال هي امّهات جميع الخصال الفاضلة و الأعمال الصالحة: الأوّل أن يكون لسانه في جميع الأحوال واحدا يقول الحقّ و يتكلّم به فلا يقول في السرّ خلاف ما يقول في العلانية كما هو شأن الجهال، لأنّ ذلك خدعة و نفاق و حيلة و تفريق بين العباد و إغراء بينهم.
الثاني أن يكون قلبه واحدا قابلا للحقّ وحده غير متلوّث بالحيل و لا متلوّث بالمكر و الختل، فانّ ذلك يميت القلب و يبعده من الحقّ و يورثه أمراضا مهلكة.
الثالث أن يكون ذهنه واحدا و هو الذكاء و الفطنة، و لعلّ المراد به هنا الفكر في الامور الحقّة النافعة و مباديها، و بوحدته خلوصه عن الفكر في الباطل و الشرور و تحصيل مباديها و كيفيّة الوصول إليها، و بالجملة أمره أن يكون لسانه واحدا و قلبه واحدا و ذهنه واحدا و مطلبه واحدا هذا.
و لما أمرهم بجعل لسانهم واحدا أردفه بالأمر بحفظه و حرزه فقال (و ليختزن الرّجل لسانه) أى ليلازم الصّمت (فانّ هذا اللّسان جموح بصاحبه) يقحمه في المعاطب و المهالك، و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إن كان في شي ء الشوم ففى اللّسان، و في حديث آخر قال صلّى اللّه عليه و آله: نجاة المؤمن من حفظ لسانه رواهما في الكافي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد تقدّم في شرح كلماته السابعة و السّبعين فصل واف في فوائد الصّمت و آفات اللّسان و أوردنا بعض ما ورد فيه من الأخبار و أقول هنا: روى في الكافي عن ابن القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال لقمان لابنه: يا بنيّ إن كنت زعمت أنّ الكلام من فضّة فانّ السكوت من ذهب.
و عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: قال أبو الحسن عليه السّلام: من علامات الفقه العلم و الحلم و الصّمت إنّ الصّمت باب من أبواب الحكمة إنّ الصّمت يكسب المحبّة إنّه دليل على كلّ خير.
و عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: كان أبو ذر يقول: يا مبتغى العلم إنّ هذا اللّسان مفتاح خير و مفتاح شرّ فاختم على لسانك كما تختم على ذهبك و ورقك.
و عن عليّ بن حسن بن رباط عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا يزال العبد المؤمن يكتب محسنا ما دام ساكتا فاذا تكلّم كتب محسنا أو مسيئا.
فقد علم بذلك كلّه أنّ سلامة الانسان في حفظ اللّسان و أنّ نجاته من وبال الدّنيا و نكال الاخرة في الامساك عن فضول الكلام، و إليه أشار بقوله (و اللّه ما أرى عبدا يتقى تقوى تنفعه حتّى يختزن لسانه) فانّ التقوى النافع هو ما يحفظه من غضب الجبّار و ينجيه من عذاب النّار، و لا يحصّل ذلك إلّا بالاتّقاء من جميع المحرّمات و الموبقات الموقعة في الجحيم و السخط العظيم، و الكذب و الغيبة و الهجاء و السّعاية و النّميمة و القذف و السّب و نحوها من حصائد الألسنة من أعظم تلك الموبقات، فلا بدّ من الاتّقاء منها و اختزان اللّسان عنها.
و لما أمر باختزان اللسان و نبّه على توقّف التقوى النّافع عليه أردفه بالتنبيه على أنّ اختزانه من فضول الكلام و سقطات الألفاظ من خواصّ المؤمن و عدم اختزانه من أوصاف المنافق و ذلك قوله: (و انّ لسان المؤمن من وراء قلبه) يعني أنّ لسانه تابع لقلبه (و انّ قلب المنافق من وراء لسانه) يعني قلبه تابع للسانه.
بيان ذلك ما أشار بقوله (لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام تدبّره في نفسه) و تفكّر في عاقبته (فان كان خيرا) و رشدا تكلّم به أى أظهره و (أبداه و ان كان شرّا) و غيّا اختزن لسانه عنه أى (واراه) و أخفاه فكان لسانه تابع قلبه حيث انه نطق به بعد حكم العقل و إجازته (و انّ المنافق) يسبق حذفات لسانه و فلتات كلامه مراجعة فكره و (يتكلّم) من دون فكر و رويّة (بما أتى على لسانه لا يدرى ما ذا له و ما ذا عليه) فكان قلبه تابع لسانه لأنه بادر إلى التكلّم من غير ملاحظة ثمّ رجع إلى قلبه فعرف أنّ ما تكلّم به مضرّة له.
ثمّ استشهد بالحديث النبوى صلّى اللّه عليه و آله على أنّ استقامة الايمان إنّما هو باستقامه اللسان على الحقّ و خزنه عن الباطل و هو قوله (و لقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يستقيم ايمان عبد حتّى يستقيم قلبه و لا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه) ظاهر هذا الحديث يفيد ترتّب استقامة الايمان على استقامة القلب و ترتّب استقامة القلب على استقامة اللّسان.
أمّا ترتّب الأوّل على الثّاني فلا غبار عليه، لأنّ الايمان حسبما عرفت في شرح الخطبة المأة و التاسعة عبارة عن الاعتراف باللّسان و الاذعان بالجنان فاستقامة القلب جزء من مفهومه و هو جهة الفرق بينه و بين الاسلام كما أنه لا غبار على ترتّبه على الثالث على قول من يجعل العمل بالأركان أيضا شطرا منه.
و أمّا ترتّب الثاني على الثالث فلا يخلو من اشكال و اغلاق، لظهور أنّ اللّسان ترجمان القلب فاستقامته موقوفة على استقامته لا بالعكس، و بعد التنزّل عن ذلك فغاية الأمر تلازمهما و ارتباط كلّ منهما بالاخر، و أمّا التوقّف فلا.
و وجه التلازم أنّ القلب لما كان رئيس الأعضاء و الجوارح و من جملتها اللّسان كان استقامته مستلزمة لاستقامتها و كذلك استقامتها مستلزمة لاستقامته لأنها لو لم تكن مستقيمة بأن صدر منه الذنب و الباطل يسرى عدم استقامتها أى فسادها إلى القلب فيفسد بفسادها.
و يدلّ على ذلك ما رواه في الكافي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ما من عبد إلّا و في قلبه نكتة بيضاء فاذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء، فان تاب ذهب ذلك السواد، و إن تمادى في الذّنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطى البياض، فاذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا و هو قول اللّه عزّ و جلّ «كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ».
فانّ هذه الرّواية و الاية المستشهد بها كما ترى مضافة إلى الروايات الاخر تدل على اسوداد لوح القلب بكثرة الذنوب الصّادرة من الجوارح، فيوجب عدم استقامتها لعدم استقامته و استقامتها لاستقامته.
لكنه يتوجّه عليه أنّ غاية ما يتحصّل من هذا التقرير أنّ عدم استقامتها سبب لعدم استقامته، و أمّا أنّ استقامتها سبب لاستقامته فلا فافهم جيّدا.
مع أنّ لقائل أن يقول: إنّ مرجع صدور الذّنب عنها الموجب لعدم استقامتها في الحقيقة إلى عدم استقامته لأنّ القلب إذا كان سالما مستقيما لا يعزم على معصية و لا يريدها، و مع عدم إرادتها لا يصدر ذنب عن الأعضاء حتّى يسرى ظلمته و رينه إلى القلب.
فقد علم من ذلك كلّه أنّ استقامة اللّسان كساير الأعضاء موقوفة على استقامة القلب و مترتّبة عليها لا بالعكس.
و بعد اللّتيا و الّتي فالّذي يخطر بالبال في حلّ الاشكال السابق أنّ معنى الحديث أنّه لا يعرف استقامة ايمان عبد إلّا بأن يعرف استقامة قلبه، و لا يعرف استقامة قلبه إلّا باستقامة لسانه، فيستدلّ باستقامة اللّسان على الحقّ أى بتنطقه على كلمة التوحيد و النبوّة و الولاية، و بامساكه عن الغيبة و النميمة و الكذب و غيرها من هفوات اللّسان على استقامة القلب أى على إذعانه بما ذكر و على خلوّه عن الأمراض النفسانية و يستدلّ باستقامته على استقامة الايمان أى على أنّ العبد مؤمن كامل.
و يقرب هذا التوجيه أنّه عليه السّلام لما ذكر أنّ لسان المؤمن من وراء قلبه و أنّ قلب المنافق من وراء لسانه عقّبه بهذا الحديث ليميّز بين المؤمن و المنافق، و يحصل لك المعرفة بها حقّ المعرفة فيسهل عليك التشخيص إذا بينهما إذ تعرف بعد ذلك البيان أنّ مستقيم اللّسان مؤمن و غير مستقيمه منافق.
قال الشارح الفقير الغريق في بحر الذّنب و التقصير: إنّي قد أطلت فكرى و أتعبت نظري في توجيه معنى الحديث و أسهرت ليلتي هذه و هي اللّيلة الثالثة عشر من شهر اللّه المبارك في حلّ إشكاله حتّى مضت من أوّل اللّيل ثماني ساعات و أثبتّ ما سنح بالخاطر و أدّى إليه النّظر القاصر، ثمّ تجلّى بحمد اللّه سبحانه و منّته نور العرفان من ألطاف صاحب الولاية المطلقة على القلب القاسى فأسفر عنه الظلام و اهتدى إلى وجه المرام فسنح بالبال توجيه وجيه هو أعذب و أحلى، و معنى لطيف هو أمتن و أصفى و هو أن يقال: إنه عليه السّلام كنّى باستقامة الايمان و القلب و اللّسان عن كمالها و أنّ مراده أنّ من أراد أن يكون ايمانه كاملا أى ايمانا نافعا في العقبى لا بدّ من أن يكمل قلبه أى يكون بريئا سالما من الأمراض النفسانيّة، و من أراد كمال قلبه فلا بدّ له من أن يكمل لسانه أى يكون محفوظا من العثرات مختزنا إلّا عن خير، ففى الحقيقة الغرض من الحديث التّنبيه و الارشاد إلى تكميل القلب و اللّسان لتحصيل كمال الايمان. و نظيره ما رواه عن الحلبي رفعه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أمسك لسانك فانّها صدقة تصدق به على نفسك ثمّ قال: و لا يعرف عبد حقيقة الايمان حتّى يخزن من لسانه.
و على هذا التوجيه التأم أجزاء كلام الامام على أحسن ايتلاف و انسجام إذ يكون الحديث حينئذ أشدّ ارتباطا بسابقه، لأنه عليه السّلام لما أمر بأن يختزن الرجل لسانه و أكّده بأن خزن اللّسان من وظايف المؤمن لكون لسانه من وراء قلبه، عقّبه بهذا الحديث تأييدا و تقوية و استشهادا على ما أمر به من اختزان اللّسان و يكون مناسبته للاحقه أيضا أكثر و هو قوله: (فمن استطاع منكم أن يلقى اللّه سبحانه و هو نقىّ الراحة) و الكفّ (من دماء المسلمين) أى سالما من قتلهم (و أموالهم سليم اللّسان من اعراضهم) أى متجنّبا من الغيبة و الفحش و النميمة و الهجاء و نحوها (فليفعل) لأنّ ذلك من شرايط الاسلام و لوازم الايمان فانّ المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده.
قال الشارح البحراني و شرط ذلك أى الكفّ عن دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم بالاستطاعة لعسره و شدّته و إن كان واجب الترك على كلّ حال و أشدّها الكفّ عن الغيبة فانّه يكاد أن لا يستطاع انتهى.
أقول: الظاهر من قوله: و إن كان واجب الترك على كلّ حال، وجوب تركها حتّى مع عدم الاستطاعة و هو باطل، أو الاستطاعة مساوق للقدرة و هى شرط في جميع التكاليف الشرعية قال اللّه تعالى «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا أمرتكم بشى ء فائتوا منه ما استطعتم.
|