و أنتم بنو سبيل على سفر من دار ليست بداركم، و قد أوذنتم منها بالارتحال، و أمرتم فيها بالزّاد. و اعلموا أنّه ليس لهذا الجلد الرّقيق صبر على النّار، فارحموا نفوسكم فإنّكم قد جرّبتموها في مصائب الدّنيا أ فرأيتم جزع أحدكم من الشّوكة تصيبه، و العثرة تدميه، و الرّمضاء تحرقه، فكيف إذا كان بين طابقين من نار، ضجيع حجر، و قرين شيطان، أعلمتم أنّ مالكا إذا غضب على النّار حطم بعضها بعضا لغضبه، و إذا زجرها توثّبت بين أبوابها جزعا من زجرته، أيّها اليفن الكبير الّذي قد لهزه القتير، كيف أنت إذا التحمت أطواق النّار بعظام الأعناق، و نشبت الجوامع حتّى أكلت لحوم السّواعد.
اللغة
(الطابق) وزان هاجر و صاحب و رويا معا الاجر الكبير، و ظرف يطبخ فيه معرب تابه و الجمع طوابيق و (اليفن) محرّكة الشيخ الكبير
الاعراب
و قوله: ضجيع حجر حال من اسم كان، و على القول بأنّ كان الناقصة و أخواتها لا تعمل في الحال كما نسب إلى المحقّقين من علماء الأدبيّة فلا بدّ من جعل كان تامة بمعنى وجد، و على ذلك فيكون قوله: بين طابقين ظرفا لغوا متعلّقا بكان.
المعنى
(و أنتم بنو سبيل على سفر من دار ليست بداركم) شبّههم بأبناء السبيل تنبيها على أنّ كونهم في هذه الدّار بالعرض و أنّ وطنهم الأصلي هو الدّار الاخرة و أنهم مسافرون إليها.
(و) قوله (قد أوذنتم منها بالارتحال و أمرتم فيها بالزاد) قد تقدّم في شرح المختار الثالث و الستّين و غيره توضيح معنى الفقرة الأولى، و مرّ غير مرّة أنّ المراد بالزاد الّذي أمروا بأخذها هو التقوى قال عزّ و جلّ «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ» و الغرض من هاتين الفقرتين و سابقتهما التنفير عن الدّنيا و الترغيب إلى الأخرى و تنبيه المخاطبين من نوم الغفلة و الجهالة و إرشادهم إلى الاستعداد و تهيئة الزاد لسلوك مسالك الاخرة.
و بيان ذلك بلسان الرمز و الاشارة أنّ للّه تعالى عالمين: عالم الدّنيا و عالم الاخرة و نشأتين: الغيب و الشهادة و الملك الملكوت، و أنّ الناس في مبدء تكوّنهم مخلوقون من موادّ العالم الأسفل و لهم الارتقاء بحسب الفطرة الأولى الّتي فطر الناس عليها إلى جوار اللّه سبحانه قاله سبحانه برحمته و عنايته، خلق الأنبياء و بعثهم ليكونوا هداة الخلق إلى معادهم و قوادهم في السفر إليه و سابقوهم إلى منازلهم، كرؤساء القوافل و أنزل الكتب ليعلّمهم و يبيّن لهم كيفيّة السفر و الارتحال و أخذ الزاد و الراحلة و تعريف الأحوال عند الوصول إلى منازلهم في الاخرة.
و الخلق ما داموا في الدّنيا و لم يصلوا إلى أوطانهم الأصليّة، فهم في الظلمات على حالات متفاوتة مختلفة، فمنهم نائمون، الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا، الدّنيا منام و العيش فيها كالأحلام، و منهم موتى لقوله تعالى «أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ».
فمن مات عن هذه الحياة المجازية الموسومة باللّعب و اللّهو كما قال تعالى «إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ» فقد انتبه عن نوم الغفلة و حىّ بالحياة الأبديّة.
فانّ الموت على ضربين أحدهما الارادى المشار إليه بقوله عليه السّلام: موتوا قبل أن تموتوا، و الاخر الطبيعي و إليه الاشارة بقوله تعالى: «أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ». فكلّ من مات بالموت الارادى أى قلع قلبه عن العلايق و الامنيّات و نهى نفسه عن الهوى و الشهوات فقد حىّ بالحياة السّرمديّة الطبيعيّة.
قال أفلاطن: مت بالارادة تحيى بالطبيعة، و كلّ من مات بالموت الطبيعي فقد هلك هلاكا أبديّا عقلا و ضلّ ضلالا بعيدا و من كان في هذه أعمى فهو في الاخرة أعمى و أضلّ سبيلا، هذا.
و لما أمر عليه السّلام بالتقوى و بشّر بما رتّب عليها من الثواب و حسن الماب أردف ذلك بالانذار و الوعيد من أليم السخط و العذاب فقال (و اعلموا أنه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار) الّتي قعرها بعيد، و حرّها شديد، و شرابها صديد، و عذابها جديد، و مقامعها حديد، لا يفتر عذابها، و لا يموت ساكنها، كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إنّ اللّه كان عزيزا حكيما.
روى في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم عن ابن أبي عمير عن أبى بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: يا بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خوّفني فانّ قلبي قد قسى، فقال: يا با محمّد استعد للحياة الطويلة، فانّ جبرئيل جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو قاطب و قد كان قبل ذلك يجي ء و هو متبسّم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا جبرئيل جئتني اليوم قاطبا فقال: يا محمّد قد وضعت منافخ النار، فقال صلّى اللّه عليه و آله: و ما منافخ النار يا جبرئيل فقال: يا محمّد إنّ اللّه عزّ و جلّ أمر بالنّار فنفخ عليها ألف عام حتّى ابيضّت، ثمّ نفخ عليها ألف عام حتّى احمرّت، ثمّ نفخ عليها ألف عام حتّى اسودّت، فهى سوداء مظلمة لو أنّ قطرة من الضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها، و لو أنّ حلقة واحدة من السلسلة الّتي طولها سبعون ذراعا وضعت على الدّنيا لذابت الدّنيا من حرّها، و لو أنّ سربالا من سرابيل أهل النار علّق بين السماء و الأرض لمات أهل الدّنيا من ريحه.
قال عليه السّلام فبكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بكى جبرئيل، فبعث اللّه إليهما ملكا فقال لهما: ربكما يقرئكما السلام و يقول قد امنتكما أن تذنبا ذنبا اعذّبكما عليه فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جبرئيل متبسّما بعد ذلك. ثمّ قال: إنّ أهل النار يعظمون النّار، و إنّ أهل الجنّة يعظمون الجنّة و النعيم و إنّ جهنّم إذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاما فاذا بلغوا علاها قمعوا بمقامع الحديد، فهذه حالهم و هو قول اللّه عزّ و جلّ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» ثمّ تبدّل جلودهم غير الجلود الّتي كانت عليهم، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام حسبك قلت: حسبي حسبى.
(فارحموا نفوسكم) إلى مصير هذه النّار الّتي علمت وصفها و عرفت حال أهلها (فانّكم قد جرّبتموها في مصائب الدّنيا) و لم تصبروا على أهون مصائبها و أحقر آلامها (أ فرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه و العثرة تدميه و الرّمضاء) أى الأرض الشديدة الحرارة (تحرقه فكيف) حاله و تحمّله (إذا كان بين طابقين من نار) يغشيهم العذاب من فوقهم و من تحت أرجلهم و يقول ذوقوا ما كنتم تعملون (ضجيع حجر) أشير إليه في قوله: وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ قال ابن عبّاس و ابن مسعود: إنّها حجارة الكبريت لأنّها أحرّ شي ء إذا احميت و قيل إنهم يعذّبون بالحجارة المحمية بالنّار.
(و قرين شيطان) و هو المشار إليه في قوله سبحانه وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، و قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قال ابن عباس و غيره: أى شيطانه الّذي أغواه و إنما سمّى قرينه لأنه يقرن به في العذاب.
و في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال عليه السّلام أما أهل الجنّة فزوّجوا الخيرات الحسان و أما أهل النار فمع كلّ إنسان منهم شيطان يعني قرنت نفوس الكافرين و المنافقين بالشياطين فهم قرناؤهم.
(أعلمتم أنّ مالكا) و هو اسم مقدّم خزنة النار و الملائكة الموكّلين لأمرها قال تعالى عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: و الّذي نفسى بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنّم بألف عام فهم كلّ يوم يزدادون قوّة إلى قوّتهم.
و في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن الصّادق عليه السّلام في خبر المعراج قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: فصعد جبرئيل و صعدت حتّى دخلت سماء الدّنيا فما لقيني ملك إلّا و هو ضاحك مستبشر حتّى لقيني ملك من الملائكة لم أر أعظم خلقا منه كريه المنظر ظاهر الغضب فقال لي مثل ما قالوا من الدّعا إلّا أنّه لم يضحك و لم أر فيه الاستبشار ما رأيت ممّن ضحك من الملائكة فقلت: من هذا يا جبرئيل فانّى قد فزعت منه، فقال: يجوز أن تفزع منه فكلّنا نفزع منه إنّ هذا مالك خازن النار لم يضحك قط و لم يزل منذ ولاه اللّه جهنّم يزداد كلّ يوم غضبا و غيظا على أعداء اللّه و أهل معصيته فينتقم اللّه به منهم و لو ضحك إلى أحد كان قبلك أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك لضحك إليك، و لكنّه لا يضحك فسلّمت عليه فردّ السلام علىّ و بشّرني بالجنّة.
فقلت لجبرئيل و جبرئيل بالمكان الّذي وصفه اللّه «مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ»: ألا تأمره أن يريني النار فقال له جبرئيل: يا مالك أر محمّدا صلّى اللّه عليه و آله النار، فكشف منها غطائها و فتح بابا منها فخرج منها لهب ساطع في السّماء و فارت و ارتفعت حتّى ظننت ليتناولنى مما رأيت، فقلت: يا جبرئيل قل له: فليرد عليها غطائها، فأمرها فقال لها: ارجعى فرجعت إلى مكانها الّذي خرجت منه، الحديث، فقد علم به زيادة قوّته و شدّة غيظه و غضبه.
(إذا غضب على النار حطم بعضها بعضا لغضبه) أى أكله أو كسره و منه الحطمة اسم من أسماء جهنم قال تعالى لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ أى ليطرحنّ فيها قال مقاتل و هى تحطم العظام و تأكل اللحوم حتّى تهجم على القلوب و لتفخيم أمرها قال تعالى وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ المؤجّجة أضافها سبحانه إلى نفسه ليعلم أنها ليست كنيران الدّنيا.
«ج 25» (و اذا زجرها توثّبت بين أبوابها جزعا من زجرته) و لمّا حذّر من أهوال الجحيم و أفزعهم بذكر وصف مالك خازنها حذّرهم بأسلوب آخر و أيّهم بقوله: (أيّها اليفن) أى الشيخ (الكبير الّذي قد لهزه) أى خالطه (القتير) و المشيب، و تخصيصه بالخطاب من بين ساير المخاطبين لكونه أولى بالحذر و الاقلاع عن المعصية و الخطاء لاشراف عمره على الزوال و الانقضاء و قرب تورّطه في ورطات الاخرى.
(كيف أنت) استفهام على سبيل التقرير تقريعا على المعصية (إذا التحمت) أى التصقت و انضمّت (أطواق النار بعظام الأعناق) كما قال تعالى الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ.
(و نشبت الجوامع) أى علقت الأغلال الجامعة بين الأيدي و الأعناق (حتّى أكلت لحوم السّواعد) قال تعالى في سورة الرّحمن يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ قال الطبرسيّ أى تأخذهم الزّبانية فيجتمع بين نواصيهم و أقدامهم بالغلّ، و في سورة الفرقان وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً قال الطبرسيّ مقرّنين أى مصفّدين قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال.
|