فمن ناج معقور، و لحم مجزور، و شلو مذبوح، و دم مسفوح، و عاضّ على يديه، و صافق بكفّيه «لكفّيه خ»، و مرتفق بخدّيه، و زار على رأيه، و راجع عن عزمه، و قد أدبرت الحيلة، و أقبلت الغيلة، ولات حين مناص، و هيهات هيهات قد فات ما فات، و ذهب ما ذهب، و مضت الدّنيا لحال بالها- فما بكت عليهم السّماء و الأرض و ما كانوا منظرين.
اللغة
(جزرت) الجزور نحرتها و (الشلو) بالكسر العضو و الجسد من كلّ شي ء و كلّ مسلوخ أكل منه شي ء و بقيت منه بقيّة و الجمع أشلاء كحبر و أحبار و (ارتفق) اتكاء على مرفق يده أو على المخدّة و (الغيلة) الشّر أو بمعنى الاغتيال و هو الخديعة و (المناص) المهرب من ناص عن قرنه ينوص نوصا إذا هرب و المناص أيضا الملجأ. و قوله (لحال بالها) قال الشارح المعتزلي كلمة يقال فيما انقضى و فرط أمره و قيل: البال القلب و رخاء النفس أى مضت الدّنيا لما يهواه قلبها.
الاعراب
جملة و قد أدبرت الحيلة في محلّ النصب حال من فاعل راجع و قوله: و لات حين مناص، لا مشبّهة بليس و التاء زايدة و حين بالنصب خبر لا و اسمها محذوف، قال نجم الأئمة: و قد يلحق لا التاء نحو لات فيختصّ بلفظ الحين مضافا إلى نكرة، نحو لات حين مناص، و قد يدخل على لفظة أوان و لفظة هنا أيضا و قال الفراء يكون مع الأوقات كلّها و أنشد: و لات ساعة مندم. و التاء في لات للتأنيث كما في ربّة و ثمّة قالوا: إما لتأنيث الكلمة أى لا، أو لمبالغة النفى كما في علّامة فاذا وليها حين فنصبه أكثر من رفعه و يكون اسمها محذوفا و حين خبرها أى لات الحين حين مناص و تعمل يعنى لات عمل ليس لمشابهتها له بكسع«» التاء إذ يصير على عدد حروفه ساكنة الوسط و لا يجوز أن يقال باضمار اسمها كما في نحو عبد اللّه ليس منطلقا، لأنّ الحرف لا يضمر فيه و إن شابه الفعل، و اذا رفعت حين على قلّته فهو اسم لا و الخبر محذوف أى لات حين مناص حاصلا، و لا يستعمل إلّا محذوفة أحد الجزئين.
هذا قول سيبويه و عند الأخفش أنّ لات غير عاملة و المنصوب بعدها بتقدير فعل، فمعنى لات حين مناص لا أرى حين مناص، و المرفوع بعدها مبتدأ محذوف الخبر، و فيه ضعف لأنّ وجوب حذف الفعل الناصب و خبر المبتدأ له مواضع متعينة قال نجم الأئمّة: و لا يمتنع دعوى كون لات هي لاء التبرية، و يقوّيه لزوم تنكير ما اضيف حين إليه، فاذا انتصب حين بعدها فالخبر محذوف كما في لا حول و إذا ارتفع فالاسم محذوف أى لات حين حين مناص كما في لا عليك، و نقل عن أبى عبيد أنّ التاء من تمام حين كما جاء:
- العاطفون تحين ما من عاطفو المطعمون زمان ما من مطعم
و قد ضعف لعدم شهرة تحين في اللّغات و اشتهار لات حين، و أيضا فانّهم يقولون لات أوان و لات هنا و لا يقال تاوان و تهنا. و كيف كان فجملة و لات حين مناص في موضع النصب حال من فاعل اقبلت، و قوله: هيهات هيهات اسم فعل فيه معنى البعد، و فيه ضمير مرتفع عايد إلى مناص و المعنى بعد المناص جدّا حتى امتنع. قال نجم الأئمة و كلّ ما هو من اسماء الأفعال بمعنى الخبر«» ففيه معنى التعجّب فمعنى هيهات أى ما أبعده، و شتّان أى ما أشدّ الافتراق، و سرعان و وشكان أى ما أسرعه، و بطان أى ما أبطاه. و قال الزمخشرى في الكشاف في قوله تعالى أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ. هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ قرأ هيهات بالفتح و الكسر و الضمّ كلّها بتنوين و بلا تنوين و بالسّكون على لفظ الوقف. و قال أبو عليّ و انّما كرّر هيهات في الاية و في قول جرير:
- فهيهات هيهات العقيق و من بهو هيهات وصل بالعقيق فواصله
للتأكيد أمّا اللتان في الاية ففي كلّ واحد ضمير مرتفع يعود إلى الاخراج إذ لا يجوز خلوّه من الفاعل و التقدير: هيهات إخراجكم، لأنّ قوله: انّكم مخرجون بمعنى الاخراج أى بعد اخراجكم للوعد إذ كان الوعد إخراجكم بعد موتكم استبعد أعداء اللّه إخراجهم لما كانت العدة به بعد الموت، ففاعل هيهات هو الضّمير العايد إلى انكم مخرجون الّذي هو بمعنى الاخراج. و امّا في البيت ففى هيهات الأوّل ضمير العقيق و فسّر ذلك ظهوره مع الثّاني، هذا. و ذكر في القاموس في هيهات إحدى و خمسين لغة لا مهمّ بنا إلى ذكرها.
المعنى
ثمّ قسّم أهلها باعتبار ما يصيبهم من حوادثها و مزورها إلى أصناف بعضها أحياء و بعضها أموات و هو قوله: (فمن ناج معقور) أى مجروح كالهارب من الحرب بعد مقاساة الأحزان و الشدائد، و قد جرح بدنه، و هذا صفة الباقين في الدّنيا قد نجوا من الموت و لكن صاروا غرضا للافات.
(و لحم مجزور) أى قتيل صار لحما مقطوعا (و شلو مذبوح) قال الشّارح البحراني: أراد ذى شلو أى عضو مذبوح أي قد صار بعد الذبح أشلاء«» متفرّقة، و يحتمل أن يكون مذبوح صفة للشلو، و أراد بالذبح مطلق الشق كما هو في أصل اللغة (و دم مسفوح) أى ذى دم مسفوك (و عاض على يديه) بعد الموت ندما على التفريط في أمر اللّه و هو وصف للظالمين قال تعالى وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (و صافق بكفيه) أى ضارب إحداهما على الاخرى تأسّفا و تحسّرا (و مرتفق بخدّيه) أى جاعل راحة كفّيه تحت خدّيه متكا على مرفقيه همّا و حزنا (و زار على رأيه) أى عائب على اعتقاده فانه لما كان عقيدته طول المكث و البقاء في الدّنيا و امتداد زمان الحياة و كان ذلك موجبا للالتفات بكليته إليها و انقطاعه عن الاخرة و انهما كه في الشهوات، ثمّ انكشف بالموت فساد تلك العقيدة و بطلان ذلك الاعتقاد لا جرم أزرى على رأيه و عابه (و راجع عن عزمه) أى عن قصده، و ذلك لأنّ قصده لما كان السّعى في تحصيل الدّنيا و عمارتها و الاكثار من قيناتها و كان منشأ ذلك أيضا زعم تمادى مدّة الحياة و اللّبث فيها فانكشف خلافه، كان ذلك موجبا لرجوعه عن عزمه و ندمه عليه، هذا.
و لما كانت الجملات«» المتعاطفات الأخيرة كلّها مشتركة المعنى في إفادة ندم الأموات«» على ما فرّطوا في جنب اللّه عقّبها بالجملة الحالية أعنى قوله: (و قد أدبرت الحيلة و أقبلت الغيلة) تنبيها بها على أنه لا ثمر للندم و لا منفعة في العضّ على اليدين و الصفق بالكفين و الارتفاق بالخدّين و لا فائدة في الازراء على الرأى و الرّجوع عن العزم، و الحال أنّه قد ولي الاحتيال و أقبل الهلاك و الاغتيال لأنّ الحيلة للخلاص من العقاب و التدبر و للفوز بالثواب إنّما هو قبل أن يغتال مخالب المنية كما قال سبحانه إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ.
و أما بعد ما أنشبت أظفارها فلا كما قال سبحانه وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ و لو قال بعد الموت حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ يقال له لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ فانقطع العلاج و امتنع الخلاص.
(و لات حين مناص هيهات هيهات) أى بعد المناص و الخلاص جدّا و الحال أنه (قد فات ما فات و ذهب ما ذهب) الاتيان بالموصول فى المقامين تفخيما بشأن الفايت الذاهب أى فات زمان تدارك السيئات، و ذهبت أيام جبران الخطيئات، و انقضى وقت تحصيل النجاة من العقوبات، و الخلاص من ورطات الهلكات.
(و مضت الدّنيا لحال بالها) أى بما فيها خيرا كان و شرّا، و قيل: أى مضت الدّنيا لما يهواه قلبها و للسّبيل الّذي أرادت و لم تكترث لحال القوم و لم تهتم لأمرهم بل نسيتهم، و هذا مثل قولهم: مضى فلان لسبيله، و مضى لشأنه.
(فما بكت عليهم السّماء و الأرض و ما كانوا منظرين) اقتباس من الاية الشريفة في سورة الدّخان.
و اختلف في معناها على وجوه: أحدها أنّه لم تبك عليهم أهل السّماء و أهل الأرض، لأنهم لا يستحقون أن يتأسّف عليهم أحد و يحزن لفقدهم، و كأنهم توقعوا ذلك لعزّتهم و رفعة درجتهم في نظرهم.
الثّاني أنّه ما بكى عليهم المؤمنون من أهل الأرض و لم يبك عليهم أهل السّماء كما يبكون على فقد الصالحين، لأنّ هؤلاء مسخوط عليهم، و هو قريب من الوجه الأوّل.
الثّالث أنّه سبحانه أراد المبالغة في وصف القوم بصغر القدر، فانّ العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك قالت: بكاه السّماء و الأرض، و أظلم لفقده الشمس و القمر، قال جرير يرثى عمر بن عبد العزيز:
- فالشّمس طالعة ليست بكاسفةتبكى عليك نجوم اللّيل و القمر
أى ليست مع طلوعها كاسفة نجوم اللّيل و القمر لأنّ عظم المصيبة قد سلبها ضوءها، و قال النابغة:
- تبدو كواكبه و الشّمس طالعةلا النور نور و لا الاظلام اظلام
الرابع أن يكون ذلك كناية عن أنّه لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منها إلى السّماء، و قد روى عن ابن عبّاس أنّه سئل عن هذه الاية فقيل: و هل يبكيان على أحد قال: نعم مصلّاه في الأرض، و مصعد عمله في السّماء، و روى عن أنس عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما من مؤمن إلّا و له باب يصعد منه عمله و باب ينزل منه رزقه، فاذا مات بكيا عليه.
قال الطبرسي: على هذا يكون معنى البكاء الاخبار عن الاختلال بعده، قال مزاحم العقيلي:
- بكت دارهم من أجلهم فتهلّلتدموعى فأىّ الجازعين ألوم
- أ مستعبرا يبكى من الهون و البلى أم آخر يبكى شجوه و يهيم
و قوله: و ما كانوا منظرين، أى عوجلوا بالعقوبة و لم يمهلوا، نسأل اللّه سبحانه أن يوفقنا التوبة قبل حلول الفوت، و للانابة قبل نزول الموت، و أن لا يجعلنا في زمرة من غضب عليه اللّه، و من نادى واحسرتا على ما فرّطت في جنب اللّه، بمحمّد و آله الكرام عليهم الصّلاة و السّلام.
|