و أوصيكم بذكر الموت و إقلال الغفلة عنه، و كيف غفلتكم عمّا ليس يغفلكم، و طمعكم فى من ليس يمهلكم، فكفى واعظا بموتى عاينتموهم، حملوا إلى قبورهم غير راكبين، و أنزلوا فيها غير نازلين، فكأنّهم لم يكونوا للدّنيا عمّارا، و كأنّ الاخرة لم تزل لهم دارا، أوحشوا ما كانوا يوطنون، و أوطنوا ما كانوا يوحشون، و اشتغلوا بما فارقوا، و أضاعوا ما إليه انتقلوا، لا عن قبيح يستطيعون انتقالا، و لا في حسن (حسنة خ) يستطيعون ازديادا، أنسوا بالدّنيا فغرّتهم، و وثقوا بها فصرعتهم.
الاعراب
و واعظا إمّا حال من الفاعل قدم على ذيها للاتّساع فيها، أو تميز رافع للابهام عن النسبة كما في قوله تعالى: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً، و قولهم: للّه درّه فارسا قال أكثر علماء الأدبيّة في هذا المثال إنّه تميز، و قال بعضهم إنّه حال أى ما أعجبه في حال فروسيته و رجّح ابن الحاجب الأوّل قال: لأنّ المعنى مدحه مطلقا بالفروسيّة و إذا جعل حالا اختصّ المدح و يقيّد بحال فروسيّته، قال نجم الأئمّة و أنا لا أرى بينهما فرقا لأنّ معنى التمييز عنده: ما أحسن فروسيّته، فلا يمدحه غير حال الفروسيّة إلّا بها، و هذا المعنى هو المستفاد من ما أحسنه في حال فروسيّته، و تصريحهم بمن في للّه درّك من فارس دليل على أنّه تمييز، و كذا قولهم: عزّ من قائل. و جملة عاينتموهم، في محل الرفع صفة لموتى، و جملة حملوا تحتمل الحال و الاستيناف البياني
المعنى
و لما أوصاهم بالتقوى أردفه بالايصاء بذكر الموت الّذى هو هادم اللّذات و قاطع الامنيّات فقال: (و اوصيكم بذكر الموت) أى بكثرة ذكره (و إقلال الغفلة عنه) و إنما أوصاهم به لاستلزامه الاعراض عن الدّنيا و الرغبة إلى الاخرة، و الاقلاع عن الاثم و المعصية و التقصير في الأمل و الجدّ في العمل.
و من هنا قال بعض العلماء: حقّ العاقل أن يكثر ذكر الموت، فذكره لا يقرب أجله و يفيده ثلاثا: القناعة بما رزق، و المبادرة بالتوبة، و النشاط في العبادة.
و قال آخر: ذكر الموت يطرد فضول الأمل و يهون المصائب و يحول بين الانسان و الطغيان. و ما ذكره أحد في ضيق إلّا وسّعه عليه، و لا في سعة إلّا ضيّقها عليه.
و كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام من جملة دعائه إذا نعي إليه ميّت: اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد و اكفنا طول الأمل، و قصّره عنّا بصدق العمل، حتّى لا نؤمل استتمام ساعة بعد ساعة، و لا استيفاء يوم بعد يوم، و لا اتّصال نفس بنفس و لا لحوق قدم بقدم، و سلّمنا من غروره، و آمنّا من شروره، و انصب الموت بين أيدينا نصبا، و لا تجعل ذكرنا له غبّا، و اجعل لنا من صالح الأعمال عملا نستبطئ معه المصير اليك، و نحرص له على و شك اللحاق بك، حتّى يكون الموت مأنسنا الّذى نأنس به، و مألفنا الّذي نشتاق إليه، و حامتنا الّتي نحبّ الدّنوّ منها.
فانّ قوله عليه السّلام: و انصب الموت بين أيدينا نصبا، أراد به أن يجعله على ذكر بحيث لا يغيب عن الذّهن لحظة، و هو تمثيل بحال ما ينصب أمام الانسان فهو لا يغيب عن نظره وقتا ما.
و قوله: و لا تجعل ذكرنا له غبّا، أى وقتا دون وقت و يوما دون يوم، و الغبّ في أوراد الابل أن تشرب يوما و تدعه يوما.
و إلى هذا المعني يلمح قوله عليه السّلام في الدّيوان المنسوب إليه:
- جنبي تجافي عن الوسادخوفا من الموت و المعاد
- من جاف عن بكرة المنايالم يدر ما لذّة الرقاد
- قد بلغ الزرع منتهاءلا بدّ للزرع من حصاد
- يا مؤثر الدّنيا على دينهو التّائه الحيران عن قصده
- أصبحت ترجو الخلد فيها و قدأبرز ناب الموت عن حدّه
- هيهات إنّ الموت ذو أسهممن يرمه يوما بها يرده
و لأجل شدّة الاعتبار و الاتّعاظ اتبعه بقوله (فكفى واعظا بموتا عاينتموهم) كيف انتقلوا من ذروة القصور إلى خطّة القبور، و من العزّ و المنعة إلى الذّل و المحنة (حملوا إلى قبورهم غير راكبين و انزلوا فيها غير نازلين).
لما كان المتعارف في الركوب و النزول ما كان عن قصد و اختيار و شعور، و إرادة و على مثل الخيل و البغال، و كان حمل الموتى على الاسرة و الجنائز و أعواد المنايا و انزالهم منها لا عن شعور و إدراك، لا جرم نفي عنهم وصفي الرّكوب و النزول.
و بعبارة اخرى الركوب و النّزول من الأفعال الاختياريّة للانسان فبعد الموت و انقطاع الحسّ و الحياة و ارتفاع الادراك و الاختيار يكون مثل جماد محمول، فكمالا يوصف الجماد بالركوب فهكذا الميّت.
و هذه الفقرة مثل قوله عليه السّلام في الخطبة المأة و العاشرة: حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا، و انزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا.
(فكأنّهم لم يكونوا للدّنيا عمّارا، و كأنّ الاخرة لم تزل بهم دارا) يعني أنهم لظعنهم عن الدّنيا و تركهم لها بكلّيتها كأنّهم لم يكونوا ساكنين فيها و عامرين لها.
و أنهم لارتحالهم إلى الاخرة و استمرارهم فيها أبد الاباد كأنّها كانت لهم منزلا و مقيلا.
(أوحشوا ما كانوا يوطنون) من دار الدّنيا (و أوطنوا ما كانوا يوحشون) من الدار الاخرى استبدلوا بظهر الأرض بطنا و بالسعة ضيقا و بالأهل غربة و بالنّور ظلمة.
(و اشتغلوا بما فارقوا و أضاعوا ما إليه انتقلوا) أى اشتغلوا بما فارقوا عنه من نعيم الدّنيا و قيتا تها و أضاعوا ما انتقلوا إليه من نعيم الاخرة و لذّاتها.
و ذلك لكون اشتغالهم بالدّنيا و شعفهم بلذّاتها الحاضرة مانعا لهم عن الالتفات إلى الكمالات المؤدّية إلى لذّات الاخرة، فذهبت هذه اللذات ضياعا، و فاتت عنهم لما فرطوا فيها و قصروا في تحصيلها و أعقبهم فواتها طول الحسرة و الندامة، و ملامة النفس اللوامة، و ذلك لعظم ما حصلت لهم من الخيبة و الخسران، و عدم امكان تدارك تلك الحسرة و الحرمان و إليه أشار بقوله: (لا عن قبيح يستطيعون انتقالا و لا في حسن يستطيعون ازديادا) أى لا يقدرون على الانتقال و الازعاج عن أعمالهم القبيحة المحصلة للعذاب، و لا على الاكثار و الازدياد من الأعمال الحسنة الكاسبة للثواب، إذ الانتقال عن الاولى و الازدياد من الاخرى إنما يتمكّن منهما في دار التكليف، و الاخرة دار الجزاء و لذلك أنّ كلّا منهم إذا دخل في قبره و شاهد هول المطلع قال: ربّ ارجعون لعلّى أعمل صالحا فيما تركت، و يقال فى الجواب: كلا إنّها كلمة هو قائلها.
(أنسوا بالدّنيا فغرّتهم) لأنها حلوة خضرة حفت بالشهوات و تحبّبت إلى الناس بلذّتها العاجلة الحاضرة فأنسوا بها و نسوا الاخرة (و وثقوا بها فصرعتهم) أى اطمئنّوا إليها و اعتمدوا عليها لما شاهدوا من حسن ظاهرها فصرعتهم في مصارع الهوان فبئست الدار لمن لم يتّهمها و لم يكن منها على وجل فقد رأينا تنكّرها و تغيّرها لمن دان لها و اثرها داخلة إليها حين ظعنوا عنها لفراق الأبد هل زوّدتهم إلّا السغب أو أحلّتهم إلّا الضنك أو نوّرت لهم إلّا الظلمة أو أعقبتهم إلّا الندامة فكيف يثق بها اللبيب أو يركن إليها الاريب، هذا.
|