منها:
مِنْ مَلَائِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ- وَ رَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ- هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ- وَ أَخْوَفُهُمْ لَكَ وَ أَقْرَبُهُمْ مِنْكَ- لَمْ يَسْكُنُوا الْأَصْلَابَ- وَ لَمْ يُضَمَّنُوا الْأَرْحَامَ- وَ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ- وَ لَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ الْمَنُونِ- وَ إِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهِمْ مِنْكَ- وَ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ وَ اسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ- وَ كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ وَ قِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ- لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ- لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ وَ لَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ- وَ لَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ- وَ لَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ
اللغة
أقول: المهين: الحقير. و التشعّب: الاقتسام و التفريق. و المنون: الدهر. و ريبة: ما يكره من حوادثه. و المكانة: المنزلة. و كنه الشي ء: نهاية حقيقته. و زريت عليه: عبث فعله.
المعنى
و اعلم أنّ من في صدر هذا الفصل لبيان الجنس، و ذلك أنّه عليه السّلام لمّا شرع في بيان عظمة اللّه تعالى و جلاله جعل مادّة ذلك التعظيم تعديد مخلوقاته و ذكر الأشرف فالأشرف منها
فذكر الملائكة السماوية، و أشار إلى أفضليّتهم بأوصاف:
الأوّل: كونهم أعلم خلق اللّه به
و هو ظاهر. إذ ثبت أنّ كلّ مجرّد كان علمه أبعد عن منازعة النفس الأمّارة بالسوء الّتي هي مبدء الغفلة و السهو و النسيان كان أكمل في معارفه و علومه ممّن عداه، و لأنّ الملائكة السماويّة وسائط لغيرهم في وصول العلم و سائر الكمالات إلى الخلق فكانوا كالاستادين لمن عداهم، و ظاهر أنّ الاستاد أعلى درجة من التلميذ، و قد عرفت في الخطبة الاولى أنّ المعارف مقولة بحسب التشكيك.
الثاني: كونهم أخوف له
و ذلك لكونهم أعلم بعظمة اللّه و جلاله و كلّ من كان أعلم بذلك كان أخوف و أشدّ خشية: أمّا الاولى: فلما مرّ، و أمّا الثانية: فلقوله تعالى «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»«» فحصر الخشية في العلماء.
و بحسب تفاوت العلم بالشدّة و الضعف يكون تفاوت الخشية بهما.
الثالث: كونهم أقرب منه
و المراد لا القرب المكانىّ لتنزّهه تعالى عن المكان بل قرب المنزلة و الرتبة منه. و ظاهر أنّ من كان أعلم به و أخوف منه كان أقرب منزلة عنده لقوله تعالى «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ»«».
الرابع من سلب النقصانات البشريّة عنهم
كونهم لم يسكنوا الأصلاب، و لم يضمّنوا الأرحام، و لم يخلقوا من ماء مهين، و لم يختلف عليهم حوادث الدهر. و ظاهر كون هذه الامور الأربعة نقصانات تلزم الحيوان العنصرىّ لاستلزامها التغيّر و مخالطة المحالّ المستقذرة و معاناة الأسقام و الأمراض و سائر الهيئات البدنيّة المانعة عن التوجّه إلى اللّه فكان سلبها عمّن لا يجوز عليه من كمالاته.
و قوله: و إنّهم على مكانتهم [مكانهم خ ] منك. إلى آخره.
و قوله: و إنّهم على مكانتهم [مكانهم خ ] منك. إلى آخره. لمّا بيّن عظمة الملائكة بالنسبة إلى من عداهم شرع في المقصود و هو بيان عظمة اللّه تعالى بالنسبة إليهم، و حقارتهم على عظمتهم بالقياس إلى عظمته و كبريائه: أى أنّهم مع كونهم على هذه الأحوال الّتي توجب لهم العظمة و الإجلال من قرب منزلتهم منك و كمال محبّتهم لك و غرقهم في أنوار كبريائك عن الالتفات إلى غيرك لو عرفوا كنه معرفتك لصغرت في أعينهم أعمالهم، و علموا أن لا نسبة لعبادتهم إلى عظمتك و جلال وجهك، و لمّا كان كمال العبادة و مطابقتها للأمر المطاع بحسب العلم بعظمته، و كان ذات الحقّ سبحانه أعظم من أن يطّلع عليه بالكنه ملك مقرّب أو نبيّ مرسل لا جرم كانت عبادة الملائكة بحسب معارفهم القاصرة عن كنه حقيقته.
فكلّ من كانت معرفته أتمّ كانت عبادة من دونه مستحقرة في جانب عبادته حتّى لو زادت معارفهم به و أمكن اطّلاعهم على كنه حقيقته لزادت عبادتهم و كانت أكمل فاستحقروا ما كانوا فيه و عابوا أنفسهم بقصور الطاعة و العبادة عمّا يستحقّه كماله المطلق، و عبّر بقلّة الغفلة عن عدمها في حقّهم مجازا إطلاقا لاسم اللازم على ملزومه.
إذ كان كلّ معدوم قليل و لا ينعكس، و جعل قلّة الغفلة في مقابلة كثرة الطاعة، و يحتمل أن يريد بقلّة الغفلة قوّة معرفة بعضهم بالنسبة إلى بعض مجازا أيضا إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه. إذ كانت قلّة الغفلة مستلزمة لقوّة المعرفة و زيادتها، و قد سبق ذكر أنواع الملائكة السماويّة و غيرهم، و ذكر نكت من أحوالهم في الخطبة الاولى.
|