و من عشق شيئا أعشى بصره، و أمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة، و يسمع باذن غير سميعة، قد خرقت الشّهوات عقله، و أماتت الدّنيا قلبه، و ولهت عليها نفسه، فهو عبد لها، و لمن في يديه شي ء منها، حيثما زالت زال إليها، و حيثما أقبلت أقبل عليها، لا ينزجر من اللّه بزاجر، و لا يتّعظ منه بواعظ، و هو يرى المأخوذين على الغرّة، حيث لا إقالة و لا رجعة، كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون، و جاءهم من فراق الدّنيا ما كانوا يأمنون، و قدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون. فغير موصوف ما نزل بهم
اللغة
(و له) الرّجل من باب ضرب و منع و حسب اذا تحيّر من شدّة الوجد و في بعض النسخ و لهت بالتضعيف و نصب نفسه على المفعول و (الغرّة) بكسر الغين المعجمة الاغترار و الغفلة يقال اغترّه فلان أى أتاه على غرّة منه
الاعراب
نفسه بالضمّ فاعل و لهت، و لمن في يديه، عطف على لها. و جملة و هو يرى، منصوبة المحلّ على الحال من فاعل يتّعظ، و قوله: فغير موصوف ما نزل بهم، غير بالرّفع خبر مقدّم على مبتدئه أعني ماء الموصولة لافادة الحصر و الدّلالة على أنّ غير ما نزل قابل لأن يوصف كما في قوله سبحانه: لا فيها غول، أى ليس غول في خمور الجنة بخلاف خمور الدّنيا و ايراد المسند اليه بلفظ الموصول للتفخيم و التهويل كما في قوله: فغشيهم من اليمّ ما غشيهم.
المعنى
(و من عشق شيئا) أى كان مولعا به شديد المحبّة له، فانّ العشق هو الافراط في الحبّ و التجاوز عن حدّ الاعتدال.
قال جالينوس الحكيم العشق من فعل النفس و هى كامنة في الدّماغ و القلب و الكبد، و في الدماغ ثلاث مساكن التخيّل في مقدّمه، و الفكر في وسطه، و الذكر في آخره فلا يكون أحد عاشقا حتى اذا فارق معشوقه لم يخل من تخيّله و فكره و ذكره فيمتنع من الطعام و الشراب باشتغال قلبه و كبده من النوم باشتغال الدّماغ بالتخيّل و الذكر و الفكر للمعشوق، فيكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به، و متى لم يكن كذلك لم يكن عاشقا.
و كيف كان فالمراد أنّ من أفرط في محبّة شي ء (اغشى) ذلك الشي ء (بصره و أمرض قلبه) أى يكون فرط حبّه لذلك الشي ء مانعا عن توجّهه الى ما يلزمه التوجّه إليه و حاجبا عن النظر إلى مصالحه و ما يلزمه الاشتغال به فيكون غافلا عما عداه، صارفا أوقاته بكلّيته إلى هواه، و يكون عشقه مانعا عن ادراكه العقول، و يكون عشقه ايضا مانعا عن ادراكه لعيوب المعشوق، و عن التفاته الى مساويه، و من هنا قيل:
- و عين الرّضا عن كلّ عيب كليلةكما أنّ عين السّخط تبدى المساويا
و غرضه عليه السّلام أنّ أهل الدّنيا لكثرة حبّهم لها و فرط رغبتهم إليها قصرت أبصارهم عن النظر إلى اخراهم، و مرضت قلوبهم عن التوجه إلى عقباهم، و صرفوا أوقاتهم بكلّيتها إليها و إلى زخارفها و قنياتها، غافلين عن ادراك عيوباتها و مساويها و لم يعرفوا أنها غدّارة مكّارة، غرّارة يونق منظرها و يوبق مخبرها، و لم تف إلى الآن لأحد من عشّاقها، و لم تصدق ظنّ أحد من طالبيها و راغبيها (فهو ينظر بعين غير صحيحة و يسمع باذن غير سميعة) لغفلته عما سوى المحبوب و عدم تنبّهه بما فيه من العيوب فلا ينظر اليه بنظر البصيرة و الاعتبار حتى يبصر ما فيه من المفاسد و المضار، و لا يستمع إلى المواعظ و الزواجر و النواهى و الأوامر حتّى يأخذ عدّته ليوم تبلى السرائر.
(قد خرقت الشهوات عقله) شبّه العقل بالثوب اذ كما أنّ الثوب زينة الانسان و وقاية للبدن من الحرّ و البرد فكذلك العقل زينة للمرء و وقاية له من حرّ نار الجحيم يعبد به الرّحمن و يكتسب به الجنان، و جعل عقل الرجل الموصوف بمنزلة ثوب خلق و رشح الاستعارة بذكر الخرق إذا الثوب إذا كان خرقا خلقا ممزقا لا ينتفع به صاحبه فكذلك العقل إذا كان مفرقا بالشهوات الباطلة مصروفا في اللّذات العاجلة لا ينتفع به فيما خلق لأجله البتة و في الحقيقة هذه القوّة نكر أو شيطنة و ليست بالعقل و إنما هى شبيهة بالعقل.
(و أماتت الدّنيا قلبه) فلا انتفاع له به كميّت لا نفع له (و ولهت عليها نفسه) أى صار في فرط محبّته للدّنيا بمنزلة الواله عليها و المفتون بها (فهو عبد لها و لمن في يديه شي ء منها) لأنه اذا كانت همته مصروفة اليها و أوقاته مستغرقة في جمعها و جبايتها صار زمام أمره بيدها (حيثما زالت زال اليها و حيثما أقبلت أقبل عليها) كعبد دائر في حركاته و سكناته مدار مولاه بل عبوديته لها أشدّ و أخسّ من عبودية العبد لسيّده، إذ طاعة العبد و انقياده لسيّده ربما يكون قسّريا و خدمة ذلك لدنياه عن وجه الشّوق و الرّغبة و الرضاء و المحبة و في هذا المعنى قال الشاعر:
- ما النّاس إلّا مع الدّنيا و صاحبهافكيف ما انقلبت يوما به انقلبوا
- يعظّمون أخا الدّنيا فان و ثبتيوما عليه بما لا يشتهى و ثبوا
(لا ينزجر من اللّه بزاجر و لا يتّعظ منه بواعظ و هو يرى) الكتب الالهية و الصحف السّماويّة و الأخبار النّبويّة المشحونة بذمّ الدّنيا النّاهية عن الركون اليها و الاعتماد عليها، مضافا إلى رؤيته المخرجين عن الدّنيا بجبر و قهر، و المقلعين عنها بكره و قسر (المأخوذين على الغرّة) و حالة الاغترار و الغفلة المشغولين بالدّنيا و شهواتها الغافلين عن هادم اللّذات و سكراته (حيث لا اقالة) لهم عن ذنوبهم (و لا رجعة) لهم إلى الدّنيا ليتداركوا سيئات أعمالهم.
(كيف نزل بهم) من شدايد الأهوال (ما كانوا يجهلون و جاءهم من فراق الدّنيا ما كانوا يأمنون و قدموا من) عقبات (الآخرة على ما كانوا يوعدون) فانه لو تفكّر في ذلك و تذكّر ذلك يوشك أن يؤثر فيه و يقلّ فرحه بالدّنيا و شعفه بها.
لأنه بعد ما لاحظ أحوال هؤلاء الماضين و تصوّر تبدّد أجزائهم في قبورهم، و محو التراب حسن صورهم، و أنهم كيف ارملوا نسائهم و ايتموا أولادهم و ضيّعوا أموالهم، و خلت عنهم مجالسهم و مدارسهم، و انقطعت عنهم آثارهم و معالمهم، و عرف أنّه عن قريب كائن مثلهم انقلع لا محالة عن هواه و ارتدع عن حبّ دنياه
- تفانوا جميعا فما مخبرو ماتوا جميعا و مات الخبر
- تروح و تغد و بنات الثرىفتمحو محاسن تلك الصّور
- فيا سائلى عن اناس مضواأما لك فيما ترى معتبر
لا سيّما لو عمق نظره في ما حلّ بالأموات بعد موتهم، و ما نزل بساحتهم حين موتهم، لكان ندمه أشدّ و حسرته آكد.
(ف) انه (غير موصوف ما نزل بهم) من الشّدائد و الآلام، و يحتمل أن يكون ضمير بهم راجعا إلى الذين لم يجيبوا الدّاعي المقدّم ذكرهم بقوله: فلا الدّاعي أجابوا و لا فيما رغبت إليه رغبوا
|