قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال، و حضرتكم كواذب الآمال. فصارت الدّنيا أملك بكم من الآخرة، و العاجلة أذهب بكم من الآجلة، و إنّما أنتم إخوان على دين اللّه ما فرّق بينكم إلّا خبث السّرائر، و سوء الضّمائر. فلا توازرون و لا تناصحون، و لا تباذلون و لا توادّون. ما بالكم تفرحون باليسير من الدّنيا تدركونه و لا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه. و يقلقكم اليسير من الدّنيا يفوتكم حتّى يتبيّن ذلك في وجوهكم و قلّة صبركم عمّا زوي منها عنكم، كأنّها دار مقامكم. و كأنّ متاعها باق عليكم. و ما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه إلّا مخافة أن يستقبله بمثله. قد تصافيتم على رفض الآجل و حبّ العاجل، و صار دين أحدكم لعقة على لسانه. صنيع من قد فرغ من عمله و أحرز رضاه سيّده.
اللغة:
لا توازرون: لا تتعاونون. لا تتباذلون: لا يعطي بعضكم بعضا. و زوي: نحّي. و لعقة- بضم اللام- ما تأخذه اللّعقة.
الإعراب:
ما بالكم مبتدأ و خبر، و المصدر من أن يستقبل مجرور بمن محذوفة، و مخافة فاعل يمنع، و صنيع نصب على المصدرية أي صنعتم صنيع من إلخ.. أو صنيعا مثل صنيع.
المعنى:
(قد غاب- الى- الآجلة).
عبدتم الدنيا، و استولت على قلوبكم و عقولكم بآمالها الكاذبة، و زينتها الباطلة، و قطعت كل علاقة بينكم و بين الآخرة.
المذاهب الأربعة:
(و إنما أنتم إخوان على دين اللّه ما فرق بينكم إلا خبث السرائر و سوء السرائر).
ألستم على دين الإسلام و هو واحد لا اختلاف فيه، لأن مصدره الوحي الذي ينطق بعضه ببعض، و يشهد بعضه على بعض: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً- 82 النساء». و إذن فلا سبب للخصام و الصراع إلا الأهواء و الأغراض. و تسأل: ان أكثر الاختلافات أو الكثير منها بين علماء المسلمين في الأمور الدينية- يرجع الى النظر و الاجتهاد، فكيف حصر الإمام (ع) الاختلاف بخبث السرائر و سوء الضمائر.
الجواب: ان قول الإمام: «ما فرق بينكم» معناه ما جعلكم فرقا و شيعا متناحرة إلا خبث السرائر، لأن الاختلاف في النظر و لمجرد الاجتهاد- لا يوجب التفرقة و العداء.. و الذي يؤيده إرادة الإمام لهذا المعنى قوله بلا فاصل: (فلا توازرون و لا تناصحون و لا تباذلون و لا توادون).
و بهذه المناسبة نشير الى ان جريدة «الجمهورية» المصرية عدد 31- 4- 1972 نشرت لأحد القراء هذا السؤال: «هل يجب على المسلم أن يتقيد في أعماله بواحد من المذاهب الأربعة: المالكي، و الحنفي، و الشافعي، و الحنبلي».
و منذ سنوات سئل المرحوم الشيخ محمود شلتوت هذا السؤال، و كان آنذاك شيخا للأزهر، فأجاب بأن التقيد بخصوص هذه المذاهب دون غيرها- ما أنزل اللّه به من سلطان، و ان للمسلم أن يختار العمل بالمذهب الجعفري. و انتشرت فتواه هذه في جميع البلاد الاسلامية.
و بعد أن انتقل شلتوت الى ربه قال شيخ أزهري، اسمه الشيخ صالح شرف: «على المسلم أن يقلد مذهبا من هذه المذاهب الأربعة». و نشر قوله هذا في العدد الذي أشرنا إليه من جريدة «الجمهورية». و في عدد 7- 4 من هذه الجريدة رد عليه الشيخ محمد صالح سعدان، و قال: «إن الشيخ صالح شرف قد أوجب بفتواه ما لم يوجبه اللّه و رسوله، و لم يرد به كتاب و لا سنة، و اللّه يقول: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ- 21 الشورى» و رسولنا الكريم يقول: «من أحدث في ديننا هذا ما ليس فيه فهو رد». و قد كان الأولى بالشيخ في فتواه أن يرشد السائل الى انه لا يجب التقيد بمذهب من المذاهب الأربعة».
و في عدد 14- 4 من «الجمهورية» نشر السيد محمد أحمد كشك- من مصر- كلمة أيد فيها الشيخ سعدان، و قال فيما قال: «إن الذين يوجبون الالتزام بالمذاهب الأربعة يحرمون حق النظر و البحث في كتاب اللّه و سنة رسوله، و العمل بثمرتهما، و يترتب على ذلك فتور الهمم و توقف الفقة».
و تدل هذه المعركة ان عهد التقليد الأعمى قد ولى أو كاد، و ان راية الحق لا بد أن تعلوا، و لو بعد حين.. لقد اتفق المسلمون قولا واحدا و قديما و حديثا على ان الجاهل عليه ان يقلد العالم المخلص في الأمور الدينية و الزمنية كالطلب و الهندسة و إلا انسد عليه باب العمل، و ليس هذا من التقليد الأعمى في شي ء، لأن التقليد الباطل هو أن يقلد الجاهل جاهلا، و العالم عالما، أما تقليد الجاهل للعالم فعلى الأصول.
و اختلف الشيعة و السنة في فتح باب الاجتهاد للأكفاء من غير الأئمة الأربعة.. فقال الشيعة: ان باب الاجتهاد مفتوح لكل كفؤ، و طريقه مسلوك لكل من تأهل بمؤهلاته من الأولين و الآخرين. و قال السنة- على وجه العموم- : كلا، ان باب الاجتهاد موصود، و طريقه مسدود بعد الأربعة.. و من جملة ما رد به الشيعة على السنة أنه على قولهم هذا يجب أن ينحصر أهل الذكر بالأئمة الأربعة في قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا- 7 الأنبياء». و لا قائل بذلك حتى من أهل السنة.. و بعد حين من الدهر قال كثير من علماء السنة بمقالة الشيعة، و عما قريب تجتمع كلمتهم على فتح باب الاجتهاد، و على طول الزمن يحق الحق، و لا يبقى للاختلاف عين و لا أثر، ان شاء اللّه.. و ما ذلك عليه بعزيز.
(ما بالكم تفرحون- الى- تحرمونه). أ تكثرون الفرح و السرور بالتافه الفاني تنالونه من دنياكم، و لا تأسفون على الدائم الغالي يفوتكم من آخرتكم (و يقلقكم اليسير إلخ).. لما ذا تذهب نفوسكم أسى على ما فات من الحطام، فتتغير ألوانكم، و تفقدون الصبر من أجله، فهل الحزن يرجع ما قد فات.
قيل لبزرجمهر: ما رأيناك تأسف على ما فات، و لا تفرح بما هو آت. قال: لأن الفائت لا يتلافى بالعبرة، و الآتي لا يستدام بالحبرة.. اني لا أقول لشي ء لم يكن ليته كان، و لا لشي ء كان ليته لم يكن.
(و ما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه إلا مخافة أن يستقبله بمثله). أجل، و اللّه هذا هو دأبنا.. لا نجابة أحدا بعيوبه مخافة أن يجابهنا بالمثل، لأن فينا ما فيه و زيادة، و لو وقف الأمر عند هذا لهان بعض الشي ء، بل نثني عليه في وجهه، و نشجعه على أسوائه، ثم ننهشه في غيبته (قد تصافيتم على رفض الآجل، و حب العاجل). هذا و ما قبله شرح و بيان للعديد من آيات القرآن الكريم، قال تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا- 27 الانسان». و قال: وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا- 20 الفجر». و قلنا مرات: لا بأس بحب المال كتابا و سنة اذا جمع من حل، و أنفق في حل، و المذموم منه ما يطغى على الدين و الضمير، و اليه يومئ قول الإمام (ع): (و صار دين أحدكم لعقة على لسانه) أي أصبح الدين عندكم مجرد شعارات تماما كما هو في زماننا.. انه أذان في المآذن، و تلاوة القرآن في الاذاعة، و إقامة الحفلات للثرثرة و عرض المقدرة على الكلام، و قال سيد الشهداء الإمام الحسين (ع): «الناس عبيد الدنيا، و الدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون. أما قول الإمام (ع): (صنيع قد فرغ من عمله، و أحرز رضا سيده) فمعناه ما لكم لا تفكرون في آخرتكم حتى كأنكم غير مسئولين عن شي ء، و لا تحاسبون على شي ء، لأنكم أديتم الى اللّه جميع حقوقه، و ما بقي له عليكم حجة و لا سلطان.
|