أوصيكم عباد اللَّه بتقوى اللَّه الّتي هي الزّاد، و بها المعاد، زاد مبلّغ، و معاد منجح، دعا إليها أسمع داع، و وعيها خير واع فأسمع داعيها، و فاز واعيها، عباد اللَّه، إنّ تقوى اللَّه حمت أولياء اللَّه محارمه، و ألزمت قلوبهم مخافته، حتّى أسهرت لياليهم، و أظمأت هو اجرهم، فأخذوا الرّاحة بالنّصب، و الرّيّ بالظّمآء، و استقربوا الأجل فبادروا العمل، و كذّبوا الأمل، فلا حظوا الأجل.
اللغة
(أسمع واع) بناء أفعل ههنا من الرباعي أى أشدّ اسماعا، مثل قولهم ما أعطاه للمال و ما أولاه للمعروف و هذا المكان أقفر من غيره، أى أشدّ اقفارا، و في بعض الرّوايات: و احسن واع، بدله و (الظماء) محرّكة العطش أو شدّته و (الهواجر) جمع الهاجرة و هو كالهجر و الهجيرة نصف النهار أو من عند زوال الشمس إلى العصر، لأنّ الناس يستكنون في بيوتهم كأنهم قد تهاجروا، و شدّة الحرّ.
و (الرّى) بالكسر اسم من روى من الماء و اللبن ريّا
الاعراب
داعيها فاعل اسمع، و واعيها فاعل فاز، و الباء في قوله بالنصب و بالظماء للمقابلة
المعنى
ثمّ وصّى عليه السّلام العباد بما لا يزال يوصي به فقال: (اوصيكم عباد اللَّه بتقوى اللَّه التي هي) الذّخيرة و (الزاد و بها) المرجع و (المعاد زاد) يتقوّى به إلى طيّ منازل الآخرة و سلوك سبيل الجنان (مبلّغ) إلى غاية الرّضوان (و معاد منجح) يصادف عنده الفوز و النجاح و ينال به منتهى الارباح (دعا اليها) أى إلى التقوى (أسمع داع و وعاها) أى حفظها (خير واع) يحتمل أن يكون المراد بأسمع داع هو اللَّه سبحانه، لأنّه أشدّ المسمعين اسماعا، و قد دعى إليها كثيرا و ندب إليها في غير واحد من الكتب السّماويّة و غير آية من الآيات القرآنيّة و من جملتها قوله سبحانه: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى .
و بخير واع هو الأنبياء و المرسلون أو الاعمّ منهم و من ساير المسارعين إلى داعى اللَّه الّذين هم أفضل القوابل الانسانيّة، و أن يكون المراد بأسمع داع رسول اللَّه و بخير واع نفسه عليه السّلام.
و يؤيّده قوله تعالى: اذن واعية، بما روى في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: هي اذنك يا علي.
(فاسمع داعيها) أى لم يبق أحد من المكلّفين إلّا أسمعه تلك الدّعوة (و فاز واعيها) المتدبّر فيها الآخذ بها.
ثمّ نبّه على آثار التقوى و خواصّها في الأولياء فقال (عباد اللَّه إنّ تقوى اللَّه حمت) أى منعت (أولياء اللَّه) من حماه سبحانه و هو (محارمه) كما قال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ألا و إنّ لكلّ ملك حمى و انّ حمى اللَّه محارمه فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه، أى قرب أن يدخله (و الزمت قلوبهم مخافته) و خشيته (حتى اسهرت لياليهم و اظمأت هو اجرهم) نسبة السّهر إلى اللّيالي و الظماء إلى الهواجر من باب التوسّع و المجاز على حدّ قولهم: نهاره صائم و ليله قائم، و المراد أنّ التقوى و شدّة الخوف أوجبت سهرهم في اللّيالي للقيام إلى الصّلاة و الدّوام على المناجاة و عطشهم في الهواجر لملازمتهم بالصّيام و الكفّ عن الشراب و الطعام، فهم عمش العيون من البكاء ذبل الشفاه من الدعاء حدب الظهور من القيام خمص البطون من الصّيام، صفر الوجوه من السهر، عليهم غبرة الخاشعين.
(فأخذوا الراحة) في الاخرى (بالنصب) و التعب في الدّنيا (و الرّى) من عين سلسبيل (بالظّماء) و العطش في زمان قليل (و استقربوا الأجل فبادروا العمل و كذبوا الأمل فلاحظوا الأجل) يعني أنهم عدوّا الآجال أى مدّة الأعمار قريبا، فسارعوا إلى الأعمال الصّالحة و تهيّأوا زاد الآخرة، و أنهم كذّبوا الآمال الباطلة و لم يغترّوا بالامنيّات العاطلة فلاحظوا الموت.
و بما ذكرنا ظهر أنّ الأجل في الفقرة الاولى بمعنى مدّة العمر، و في الثانية بمعنى الموت، فلا تكرار كما ظهر أنّ الفاء في قوله: فبادروا، للسّببية مفيدة لسببيّة ما قبلها لما بعدها، و أمّا في قوله فلاحظوا فيحتمل أن تكون كذلك أى لا فادة سببيّة ما قبلها لما بعدها، و يحتمل العكس فيكون مفادها مفاد لام التعليل كما في قولك أكرم زيدا فانّه فاضل، يعنى أكرمه لكونه فاضلا، فيدلّ على أنّ فضله علّة لاكرامه.
و الاحتمالان مبنيّان على أنّ الدّنيا و الآخرة ضرّتان متضادّتان فبقدر التّوجّه إلى إحداهما يغفل عن الاخرى و طول الأمل انّما ينشأ من حبّ الدّنيا و الميل إليها، فلحاظ الآخرة أعنى الاجل و ما بعده و الالتفات إليها و التوجّه لها يستلزم الاعراض عن الدّنيا و عن الآمال الباطلة المتعلّقة بها لا محالة، و هو معني تكذيبها كما أنّ انتزاع محبّة الدّنيا عن القلب و عدم الاغترار بآمالها يستلزم ملاحظة الآخرة، فبين الأمرين ملازمة في الحقيقة يكون تكذيب الآمال سببا لملاحظة الآخرة و باعتبار آخر يكون ملاحظة الآخرة علّة لتكذيب الآمال و أعني بالعلية و السّببيّة الارتباط و الملازمة و ان لم تكن تامة فافهم جيدا.
و يمكن أن يراد بالأجل في الفقرة الاولى الموت، و في الثانية مدّة العمر عكس ما قدّمنا و يحتاج حينئذ إلى نوع تكلّف، بأن يراد بملاحظة الأجل ملاحظة قصر مدّة العمر و قلّتها حتّى يستفهم العلية المستفادة من الفاء فتدبّر.
|