إِنَّهُمْ لَنْ يَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ دُونَ طَعْنٍ دِرَاكٍ يَخْرُجُ مِنْهُ النَّسِيمُ وَ ضَرْبٍ يَفْلِقُ الْهَامَ وَ يُطِيحُ الْعِظَامَ وَ يُنْدِرُ السَّوَاعِدَ وَ الْأَقْدَامَ وَ حَتَّى يُرْمَوْا بِالْمَنَاسِرِ تَتْبَعُهَا الْمَنَاسِرُ وَ يُرْجَمُوا بِالْكَتَائِبِ تَقْفُوهَا الْحَلَائِبُ وَ حَتَّى يُجَرَّ بِبِلَادِهِمُ الْخَمِيسُ يَتْلُوهُ الْخَمِيسُ وَ حَتَّى تَدْعَقَ الْخُيُولُ فِي نَوَاحِرِ أَرْضِهِمْ وَ بِأَعْنَانِ مَسَارِبِهِمْ وَ مَسَارِحِهِمْ قال الشريف الرضي رحمه الله تعالى الدعق الدق أي تدق الخيول بحوافرها أرضهم و نواحر أرضهم متقابلاتها و يقال منازل بني فلان تتناحر أي تتقابل طعن دراك أي متتابع يتلو بعضه بعضا و يخرج منه النسيم أي لسعته و من هذا النحو قول الشاعر
- طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر لها نفذ لو لا الشعاع أضاءها
- ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
فهذا وصف الطعنة بأنها لاتساعها يرى الإنسان المقابل لها ببصره ما وراءها و أنه لو لا شعاع الدم و هو ما تفرق منه لبان منها الضوء و أمير المؤمنين ع أراد من أصحابه طعنات يخرج النسيم و هو الريح اللينة منهن و فلقت الشي ء أفلقه بكسر اللام فلقا أي شققته و يطيح العظام يسقطها طاح الشي ء أي سقط أو هلك أو تاه في الأرض و أطاحه غيره و طوحه و يندر السواعد يسقطها أيضا ندر الشي ء يندر ندرا أي سقط و منه النوادر و أندره غيره و الساعد من الكوع إلى المرفق و هو الذراع و المناسر جمع منسر و هو قطعة من الجيش تكون أمام الجيش الأعظم بكسر السين و فتح الميم و يجوز منسر بكسر الميم و فتح السين و قيل إنها اللغة الفصحى و يرجموا أي يغزوا بالكتائب جمع كتيبة و هي طائفة من الجيش تقفوها الحلائب أي تتبعها طوائف لنصرها و المحاماة عنها يقال قد أحلبوا إذا جاءوا من كل أوب للنصرة و رجل محلب أي ناصر و حالبت الرجل إذا نصرته و أعنته و قال الشاعر
- أ لهفا بقرى سحبل حين أحلبت علينا الولايا و العدو المباسل
أي أعانت و نصرت و الخميس الجيش و الدعق قد فسره الرضي رحمه الله و يجوز أن يفسر بأمر آخر و هو الهيج و التنفير دعق القوم يدعقهم دعقا أي هاج منهم و نفرهم و نواحر أرضهم قد فسره رحمه الله أيضا و يمكن أن يفسر بأمر آخر و هو أن يراد به أقصى أرضهم و آخرها من قولهم لآخر ليلة في الشهر ناحرة و أعنان مساربهم و مسارحهم جوانبها و المسارب ما يسرب فيه المال الراعي و المسارح ما يسرح فيه و الفرق بين سرح و سرب أن السروح إنما يكون في أول النهار و ليس ذلك بشرط في السروب
عود إلى أخبار صفين
و اعلم أن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين ع لأصحابه في صفين يحرضهم به و قد ذكرنا من حديث صفين فيما تقدم أكثره و نحن نذكر هاهنا تتمة القصة ليكون من وقف على ما تقدم و على هذا المذكور آنفا هنا قد وقف على قصة صفين بأسرها اتفق الناس كلهم أن عمارا رضي الله عنه أصيب مع علي ع بصفين و قال كثير منهم بل الأكثر أن أويسا القرني أصيب أيضا مع علي ع بصفين و ذكر ذلك نصر بن مزاحم في كتاب صفين رواه عن حفص بن عمران البرجمي عن عطاء بن السائب عن أبي البختري و قد قال رسول الله ص في أويس ما قال و قال الناس كلهم
إن رسول الله ص قال إن الجنة لتشتاق إلى عمار
و رووا عنه ص أن عمارا جاء يستأذن عليه فقال ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب
و روى سلمة بن كهيل عن مجاهد أن النبي ص رأى عمارا و هو يحمل أحجار المسجد فقال ما لهم و لعمار يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار
و روى الناس كافة أن رسول الله ص قال له تقتلك الفئة الباغية
و روى نصر بن مزاحم في كتاب صفين عن عمرو بن شمر عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب الجهني أن عمار بن ياسر نادى في صفين يوما قبل مقتله بيوم أو يومين أين من يبغي رضوان الله عز و جل و لا يئوب إلى مال و لا ولد فأتته عصابة من الناس فقال أيها الناس اقصدوا بنا قصد هؤلاء القوم الذين يتبعون دم عثمان و يزعمون أنه قتل مظلوما و الله إن كان إلا ظالما لنفسه الحاكم بغير ما أنزل الله و دفع علي ع الراية إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص و كان عليه ذلك اليوم درعان فقال له علي ع كهيئة المازح أيا هاشم أ ما تخشى على نفسك أن تكون أعور جبانا قال ستعلم يا أمير المؤمنين و الله لألفن بين جماجم العرب لف رجل ينوي الآخرة فأخذ رمحا فهزه فانكسر ثم أخذ آخر فوجده جاسيا فألقاه ثم دعا برمح لين فشد به اللواء قال نصر و حدثنا عمرو قال لما دفع علي ع الراية إلى هاشم بن عتبة قال له رجل من أصحابه من بكر بن وائل أقدم هاشم يكررها ثم قال ما لك يا هاشم قد انتفخ سحرك أعورا و جبنا قال من هذا قالوا فلان قال أهلها و خير منها إذا رأيتني قد صرعت فخذها ثم قال لأصحابه شدوا شسوع نعالكم و شدوا أزركم فإذا رأيتموني قد هززت الراية ثلاثا فاعلموا أن أحدا منكم لا يسبقني إلى الحملة ثم نظر إلى عسكر معاوية فرأى جمعا عظيما فقال من أولئك قيل أصحاب ذي الكلاع ثم نظر فرأى جندا فقال من أولئك قيل قريش و قوم من أهل المدينة فقال قومي لا حاجة لي في قتالهم من عند هذه القبة البيضاء قيل معاوية و جنده قال فإني أرى دونهم أسودة قيل ذاك عمرو بن العاص و ابناه و مواليه فأخذ الراية فهزها فقال رجل من أصحابه البث قليلا و لا تعجل فقال هاشم
- قد أكثرا لومي و ما أقلا إني شريت النفس لن أعتلا
- أعور يبغي أهله محلا قد عالج الحياة حتى ملا
- لا بد أن يفل أو يفلا أشلهم بذي الكعوب شلا
- مع ابن عم أحمد المعلى أول من صدقه و صلى
قال نصر و حدثنا عبد العزيز بن سياه عن حبيب بن أبي ثابت قال لما تناول هاشم الراية جعل عمار بن ياسر يحرضه على الحرب و يقرعه بالرمح و يقول أقدم يا أعور
لا خير في أعور لا يأتي الفزع
فيستحيي من عمار و يتقدم و يركز الراية فإذا ركزها عاوده عمار بالقول فيتقدم أيضا فقال عمرو بن العاص إني لأرى لصاحب الراية السوداء عملا لئن دام على هذا لتفنين العرب اليوم فاقتتلوا قتالا شديدا و عمار ينادي صبرا و الله إن الجنة تحت ظلال البيض فكان بإزاء هاشم و عمار أبو الأعور السلمي و لم يزل عمار بهاشم ينخسه و هو يزحف بالراية حتى اشتد القتال و عظم و التقى الزحفان و اقتتلا قتالا لم يسمع السامعون بمثله و كثرت القتلى في الفريقين جميعا و روى نصر عن عمرو بن شمر قال حدثني من أثق به من أهل العراق قال لما التقينا بالقوم في ذلك اليوم وجدناهم خمسة صفوف قد قيدوا أنفسهم بالعمائم فقتلنا صفا ثم صفا ثم خلصنا إلى الرابع ما على الأرض شامي و لا عراقي يولي دبره و أبو الأعور يقول
- إذا ما فررنا كان أسوأ فرارنا صدود الخدود و ازورار المناكب
- صدود الخدود و القنا متشاجر و لا تبرح الأقدام عند التضارب
قال نصر و التقت في هذا اليوم همدان العراق بعك الشام فقال قائلهم
- همدان همدان و عك عك ستعلم اليوم من الأرك
و كانت على عك الدروع و ليس عليهم رايات فقالت همدان خدموا القوم أي اضربوا سوقهم فقالت عك ابركوا برك الكمل فبركوا كما يبرك الجمل ثم رموا الحجر و قالوا لا نفر حتى يفر الحكر قال نصر و اقتتل الناس من لدن اعتدال النهار إلى صلاة المغرب ما كان صلاة القوم إلا التكبير عند مواقيت الصلاة ثم إن أهل العراق كشفوا ميمنة أهل الشام فطاروا في سواد الليل و كشف أهل الشام ميسرة أهل العراق فاختلطوا في سواد الليل و تبدلت الرايات بعضها ببعض فلما أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم و ليس حوله إلا ألف رجل فاقتلعوه و ركزوه من وراء موضعه الأول و أحاطوا به و وجد أهل العراق لواءهم مركوزا و ليس حوله إلا ربيعة و علي ع بينها و هم محيطون به و هو لا يعلم من هم و يظنهم غيرهم فلما أذن مؤذن علي ع الفجر قال علي ع
- يا مرحبا بالقائلين عدلا و بالصلاة مرحبا و أهلا
ثم وقف و صلى الفجر فلما انفتل أبصر وجوها ليست بوجوه أصحابه بالأمس و إذا مكانه الذي هو فيه ما بين الميسرة إلى القلب فقال من القوم قالوا ربيعة و إنك يا أمير المؤمنين لعندنا منذ الليلة فقال
فخر طويل لك يا ربيعة
ثم قال لهاشم بن عتبة خذ اللواء فو الله ما رأيت مثل هذه الليلة فخرج هاشم باللواء حتى ركزه في القلب قال نصر حدثنا عمرو بن شمر عن الشعبي قال عبى معاوية تلك الليلة أربعة آلاف و ثلاثمائة من فارس و راجل معلمين بالخضرة و أمرهم أن يأتوا عليا ع من ورائه ففطنت لهم همدان فواجهوهم و صمدوا إليهم فباتوا تلك الليلة يتحارسون و علي ع قد أفضى به ذهابه و مجيئه إلى رايات ربيعة فوقف بينها و هو لا يعلم و يظن أنه في العسكر الأشعث فلما أصبح لم ير الأشعث و لا أصحابه و رأى سعيد بن قيس الهمداني على مركزه فجاء إلى سعيد رجل من ربيعة يقال له زفر فقال له أ لست القائل بالأمس لئن لم تنته ربيعة لتكونن ربيعة ربيعة و همدان همدان فما أغنت همدان البارحة فنظر إليه علي ع نظر منكر و نادى منادي علي ع أن اتعدوا للقتال و اغدوا عليه و انهدوا إلى عدوكم فكلهم تحرك إلا ربيعة لم تتحرك فبعث إليهم علي ع أن انهدوا إلى عدوكم فبعث إليهم أبا ثروان فقال إن أمير المؤمنين ع يقرئكم السلام و يقول لكم يا معشر ربيعة ما لكم لا تنهدون إلى عدوكم و قد نهد الناس قالوا كيف ننهد و هذه الخيل من وراء ظهرنا قل لأمير المؤمنين فليأمر همدان أو غيرها بمناجزتهم لننهد فرجع أبو ثروان إلى علي ع فأخبره فبعث إليهم الأشتر فقال يا معشر ربيعة ما منعكم أن تنهدوا و قد نهد الناس و كان جهير الصوت و أنتم أصحاب كذا و أصحاب كذا فجعل يعدد أيامهم فقالوا لسنا نفعل حتى ننظر ما تصنع هذه الخيل التي خلف ظهورنا و هي أربعة آلاف قل لأمير المؤمنين فليبعث إليهم من يكفيه أمرهم و راية ربيعة يومئذ مع الحضين بن المنذر فقال لهم الأشتر فإن أمير المؤمنين يقول لكم اكفونيها إنكم لو بعثتم إليهم طائفة منكم لتركوكم في هذه الفلاة و فروا كاليعافير فوجهت حينئذ ربيعة إليهم تيم الله و النمر بن قاسط و عنزة قالوا فمشينا إليهم مستلئمين مقنعين في الحديد و كان عامة قتال صفين مشيا قال فلما أتيناهم هربوا و انتشروا انتشار الجراد فذكرت قوله و فروا كاليعافير ثم رجعنا إلى أصحابنا و قد نشب القتال بينهم و بين أهل الشام و قد اقتطع أهل الشام طائفة من أهل العراق بعضها من ربيعة فأحاطوا بها فلم نصل إليها حتى حملنا على أهل الشام فعلوناهم بالأسياف حتى انفرجوا لنا فأفضينا إلى أصحابنا فاستنقذناهم و عرفناهم تحت النقع بسيماهم و علامتهم و كانت علامة أهل العراق بصفين الصوف الأبيض قد جعلوه في رءوسهم و على أكتافهم و شعارهم يا الله يا الله يا أحد يا صمد يا رب محمد يا رحمان يا رحيم و كانت علامة أهل الشام خرقا صفرا قد جعلوها على رءوسهم و أكتافهم و شعارهم
نحن عباد الله حقا حقا
يا لثارات عثمان قال نصر فاجتلدوا بالسيوف و عمد الحديد فلم يتحاجزوا حتى حجز بينهم الليل و ما يرى رجل من هؤلاء و من هؤلاء موليا قال نصر حدثنا عمر بن سعد قال كانوا عربا يعرف بعضهم بعضا في الجاهلية و إنهم لحديثو عهد بها فالتقوا في الإسلام و فيهم بقايا تلك الحمية و عند بعضهم بصيرة الدين و الإسلام فتضاربوا و استحيوا من الفرار حتى كادت الحرب تبيدهم و كانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء عسكر هؤلاء فيستخرجون قتلاهم فيدفنونهم قال نصر فحدثنا عمر بن سعد قال فبينا علي ع واقفا بين جماعة من همدان و حمير و غيرهم من أفناء قحطان إذ نادى رجل من أهل الشام من دل على أبي نوح الحميري فقيل له قد وجدته فما ذا تريد قال فحسر عن لثامة فإذا هو ذو الكلاع الحميري و معه جماعة من أهله و رهطه فقال لأبي نوح سر معي قال إلى أين قال إلى أن نخرج عن الصف قال و ما شأنك قال إن لي إليك لحاجة فقال أبو نوح معاذ الله أن أسير إليك إلا في كتيبة قال ذو الكلاع بلى فسر فلك ذمة الله و ذمة رسوله و ذمة ذي الكلاع حتى ترجع إلى خيلك فإنما أريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه فسار أبو نوح و سار ذو الكلاع فقال له إنما دعوتك أحدثك حديثا حدثناه عمرو بن العاص قديما في خلافة عمر بن الخطاب ثم أذكرناه الآن به فأعاده أنه يزعم أنه سمع رسول الله ص قال يلتقي أهل الشام و أهل العراق و في إحدى الكتيبتين الحق و إمام الهدى و معه عمار بن ياسر فقال أبو نوح نعم و الله إنه لفينا قال نشدتك الله أ جاد هو على قتالنا قال أبو نوح نعم و رب الكعبة لهو أشد على قتالكم مني و لوددت أنكم خلق واحد فذبحته و بدأت بك قبلهم و أنت ابن عمي قال ذو الكلاع ويلك علام تمنى ذلك منا فو الله ما قطعتك فيما بيني و بينك قط و إن رحمك لقريبة و ما يسرني أن أقتلك قال أبو نوح إن الله قطع بالإسلام أرحاما قريبة و وصل به أرحاما متباعدة و إني قاتلك و أصحابك لأنا على الحق و أنتم على الباطل قال ذو الكلاع فهل تستطيع أن تأتي معي صف أهل الشام فأنا لك جار منهم حتى تلقى عمرو بن العاص فتخبره بحال عمار و جده في قتالنا لعله أن يكون صلح بين هذين الجندين قلت وا عجباه من قوم يعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمار و لا يعتريهم الشك لمكان علي ع و يستدلون على أن الحق مع أهل العراق بكون عمار بين أظهرهم و لا يعبئون بمكان علي ع و يحذرون من
قول النبي ص تقتلك الفئة الباغية
و يرتاعون لذلك و لا يرتاعون
لقوله ص في علي ع اللهم وال من والاه و عاد من عاداه
و لا
لقوله لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق
و هذا يدلك على أن عليا ع اجتهدت قريش كلها من مبدإ الأمر في إخمال ذكره و ستر فضائله و تغطية خصائصه حتى محي فضله و مرتبته من صدور الناس كافة إلا قليلا منهم قال نصر فقال له أبو نوح إنك رجل غادر و أنت في قوم غدر و إن لم يرد الغدر أغدروك و إني أن أموت أحب إلى من أن أدخل مع معاوية فقال ذو الكلاع أنا جار لك من ذلك ألا تقتل و لا تسلب و لا تكره على بيعة و لا تحبس عن جندك و إنما هي كلمة تبلغها عمرو بن العاص لعل الله أن يصلح بذلك بين هذين الجندين و يضع عنهم الحرب فقال أبو نوح إني أخاف غدراتك و غدرات أصحابك قال ذو الكلاع أنا لك بما قلت زعيم قال أبو نوح اللهم إنك ترى ما أعطاني ذو الكلاع و أنت تعلم ما في نفسي فاعصمني و اختر لي و انصرني و ادفع عني ثم سار مع ذي الكلاع حتى أتى عمرو بن العاص و هو عند معاوية و حوله الناس و عبد الله بن عمر يحرض الناس على الحرب فلما وقفا على القوم قال ذو الكلاع لعمرو يا أبا عبد الله هل لك في رجل ناصح لبيب مشفق يخبرك عن عمار بن ياسر فلا يكذبك قال و من هو قال هو ابن عمي هذا و هو من أهل الكوفة فقال عمرو أرى عليك سيما أبي تراب فقال أبو نوح على سيما محمد و أصحابه و عليك سيما أبي جهل و سيما فرعون فقام أبو الأعور فسل سيفه و قال لا أرى هذا الكذاب اللئيم يسبنا بين أظهرنا و عليه سيما أبي تراب فقال ذو الكلاع أقسم بالله لئن بسطت يدك إليه لأحطمن أنفك بالسيف ابن عمي و جاري عقدت له ذمتي و جئت به إليكم ليخبركم عما تماريتم فيه فقال له عمرو بن العاص يا أبا نوح أذكرك بالله إلا ما صدقتنا و لم تكذبنا أ فيكم عمار بن ياسر قال أبو نوح ما أنا بمخبرك حتى تخبر لم تسأل عنه و معنا من أصحاب محمد ص عدة غيره و كلهم جاد على قتالكم
فقال عمرو سمعت رسول الله ص يقول إن عمارا تقتله الفئة الباغية و إنه ليس لعمار أن يفارق الحق و لن تأكل النار من عمار شيئا
فقال أبو نوح لا إله إلا الله و الله أكبر و الله إنه لفينا جاد على قتالكم فقال عمرو الله الذي لا إله إلا هو إنه لجاد على قتالنا قال نعم و الله الذي لا إله إلا هو و لقد حدثني يوم الجمل أنا سنظهر على أهل البصرة و لقد قال لي أمس إنكم لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق و أنكم على باطل و لكانت قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار قال عمرو فهل تستطيع أن تجمع بيني و بينه قال نعم فركب عمرو بن العاص و ابناه و عتبة بن أبي سفيان و ذو الكلاع و أبو الأعور السلمي و حوشب و الوليد بن عقبة و انطلقوا و سار أبو نوح و معه شرحبيل بن ذي الكلاع يحميه حتى انتهى إلى أصحابه فذهب أبو نوح إلى عمار فوجده قاعدا مع أصحاب له منهم الأشتر و هاشم و ابنا بديل و خالد بن معمر و عبد الله بن حجل و عبد الله بن العباس فقال لهم أبو نوح إنه دعاني ذو الكلاع و هو ذو رحم فقال أخبرني عن عمار بن ياسر أ فيكم هو فقلت لم تسأل
فقال أخبرني عمرو بن العاص في إمرة عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله ص يقول يلتقي أهل الشام و أهل العراق و عمار مع أهل الحق و تقتله الفئة الباغية
فقلت نعم إن عمارا فينا فسألني أ جاد هو على قتالنا فقلت نعم و الله إنه لأجد مني في ذلك و لوددت أنكم خلق واحد فذبحته و بدأت بك يا ذا الكلاع فضحك عمار و قال أ يسرك ذلك قال نعم
ثم قال أبو نوح أخبرني الساعة عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله ص يقول تقتل عمارا الفئة الباغية
قال عمار أ قررته بذلك قال نعم لقد قررته بذلك فأقر فقال عمار صدق و ليضرنه ما سمع و لا ينفعه قال أبو نوح فإنه يريد أن يلقاك فقال عمار لأصحابه اركبوا فركبوا و ساروا قال فبعثنا إليهم فارسا من عبد القيس يسمى عوف بن بشر فذهب حتى إذا كان قريبا منهم نادى أين عمرو بن العاص قالوا هاهنا فأخبره بمكان عمار و خيله قال عمرو قل له فليسر إلينا قال عوف إنه يخاف غدارتك و فجراتك قال عمرو ما أجرأك علي و أنت على هذه الحال قال عوف جرأني عليك بصري فيك و في أصحابك و إن شئت نابذتك الآن على سواء و إن شئت التقيت أنت و خصماؤك و أنت كنت غادرا فقال عمرو إنك لسفيه و إني باعث إليك رجلا من أصحابي يواقفك قال ابعث من شئت فلست بالمستوحش و إنك لا تبعث إلا شقيا فرجع عمرو و أنفذ إليه أبا الأعور فلما تواقفا تعارفا فقال عوف إني لأعرف الجسد و أنكر القلب و إني لا أراك مؤمنا و لا أراك إلا من أهل النار قال أبو الأعور يا هذا لقد أعطيت لسانا يكبك الله به على وجهك في النار قال عوف كلا و الله إني لأتكلم بالحق و تتكلم بالباطل و إني أدعوك إلى الهدى و أقاتلك على الضلال و أفر من النار و أنت بنعمة الله ضال تنطق بالكذب و تقاتل على ضلالة و تشتري العقاب بالمغفرة و الضلالة بالهدى انظر إلى وجوهنا و وجوهكم و سيمانا و سيماكم و اسمع دعوتنا و دعوتكم فليس أحد منا إلا و هو أولى بالحق و بمحمد و أقرب إليه منكم فقال أبو الأعور لقد أكثرت الكلام و ذهب النهار ويحك ادع أصحابك و أدعو أصحابي و ليأت أصحابك في قلة إن شاءوا أو كثرة فإني أجي ء من أصحابي بعدتهم فإن شاء أصحابك فليقلوا و إن شاءوا فليكثروا فسار عمار في اثني عشر فارسا حتى إذا كانوا بالمنصف سار عمرو بن العاص في اثني عشر فارسا حتى اختلفت أعناق الخيل خيل عمار و خيل عمرو و نزل القوم و احتبوا بحمائل سيوفهم فتشهد عمرو بن العاص فقال له عمار اسكت فلقد تركتها و أنا أحق بها منك فإن شئت كانت خصومة فيدفع حقنا باطلك و إن شئت كانت خطبة فنحن أعلم بفصل الخطاب منك و إن شئت أخبرتك بكلمة تفصل بيننا و بينك و تكفرك قبل القيام و تشهد بها على نفسك و لا تستطيع أن تكذبني فيها فقال عمرو يا أبا اليقظان ليس لهذا جئت إنما جئت لأني رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم أذكرك الله إلا كففت سلاحهم و حقنت دماءهم و حرصت على ذلك فعلام تقاتلوننا أ و لسنا نعبد إلها واحدا و نصلي إلى قبلتكم و ندعو دعوتكم و نقرأ كتابكم و نؤمن بنبيكم فقال عمار الحمد لله الذي أخرجها من فيك أنها لي و لأصحابي القبلة و الدين و عبادة الرحمن و النبي و الكتاب من دونك و دون أصحابك الحمد لله الذي قررك لنا بذلك و جعلك ضالا مضلا أعمى و سأخبرك على ما أقاتلك عليه و أصحابك إن رسول الله ص أمرني أن أقاتل الناكثين فقد فعلت و أمرني أن أقاتل القاسطين و أنتم هم و أما المارقون فلا أدري أدركهم أو لا أيها الأبتر أ لست تعلم
أن رسول الله ص قال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه
فأنا مولى الله و رسوله و علي مولاي بعدهما قال عمرو لم تشتمني يا أبا اليقظان و لست أشتمك قال عمار و بم تشتمني أ تستطيع أن تقول أني عصيت الله و رسوله يوما قط قال عمرو إن فيك لمساب سوى ذلك قال عمار إن الكريم من أكرمه الله كنت وضيعا فرفعني الله و مملوكا فأعتقني الله و ضعيفا فقواني الله و فقيرا فأغناني الله قال عمرو فما ترى في قتل عثمان قال فتح لكم باب كل سوء قال عمرو فعلي قتله قال عمار بل الله رب علي قتله و علي معه قال عمرو فكنت فيمن قتله قال كنت مع من قتله و أنا اليوم أقاتل معهم قال عمرو فلم قتلتموه قال عمار إنه أراد أن يغير ديننا فقتلناه فقال عمرو أ لا تسمعون قد اعترف بقتل إمامكم فقال عمار قد قالها فرعون قبلك لقومه أَ لا تَسْتَمِعُونَ فقام أهل الشام و لهم زجل فركبوا خيولهم و رجعوا و قام عمار و أصحابه فركبوا خيولهم و رجعوا و بلغ معاوية ما كان بينهم فقال هلكت العرب أن حركتهم خفة العبد الأسود يعني عمارا قال نصر فحدثنا عمرو بن شمر قال فخرجت الخيول إلى القتال و اصطفت بعضها لبعض و تزاحف الناس و على عمار درع بيضاء و هو يقول أيها الناس الرواح إلى الجنة فقاتل القوم قتالا شديدا لم يسمع السامعون بمثله و كثرت القتلى حتى أن كان الرجل ليشد طنب فسطاطه بيد الرجل أو برجله و حكى الأشعث بعد ذلك قال لقد رأيت أخبية صفين و أروقتها و ما فيها خباء و لا رواق و لا فسطاط إلا مربوطا بيد إنسان أو برجله قال نصر و جعل أبو السماك الأسدي يأخذ إداوة من ماء و شفرة حديدة فيطوف في القتلى فإذا رأى رجلا جريحا و به رمق أقعده فيقول له من أمير المؤمنين فإذا قال علي غسل الدم عنه و سقاه من الماء و إن سكت وجأه بالسكين حتى يموت و لا يسقيه قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال سمعت الشعبي يقول قال الأحنف بن قيس و الله إني إلى جانب عمار بن ياسر بيني و بينه رجل من بني الشعيراء فتقدمنا حتى دنونا من هاشم بن عتبة فقال له عمار احمل فداك أبي و أمي فقال له هاشم يرحمك الله يا أبا اليقظان إنك رجل تأخذك خفة في الحرب و إني إنما أزحف باللواء زحفا أرجو أن أنال بذلك حاجتي و إن خففت لم آمن الهلكة و قد كان قال معاوية لعمرو ويحك إن اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة و قد كان من قبل يرقل به إرقالا و إن زحف به اليوم زحفا إنه لليوم الأطول على أهل الشام فإن زحف في عنق من أصحابه إني لأطمع أن تقتطع فلم يزل به عمار حتى حمل فبصر به معاوية فوجه إليه حماة أصحابه و من يزن بالبأس و النجدة منهم في ناحية و كان في ذلك الجمع عبد الله بن عمرو بن العاص و معه يومئذ سيفان قد تقلد بأحدهما و هو يضرب بالآخر فأطافت به خيول علي ع و جعل عمرو يقول يا الله يا رحمان ابني ابني فيقول معاوية اصبر فلا بأس عليه فقال عمرو لو كان يزيد بن معاوية أ صبرت فلم يزل حماة أهل الشام تذب عن عبد الله حتى نجا هاربا على فرسه و من معه و أصيب هاشم في المعركة قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال و في هذا اليوم قتل عمار بن ياسر رضي الله عنه أصيب في المعركة و قد كان قال حين نظر إلى راية عمرو بن العاص و الله إنها لراية قد قاتلتها ثلاث عركات و ما هذه بأرشدهن ثم قال
- نحن ضربناكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله
- ضربا يزيل الهام عن مقيله و يذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق إلى سبيله
ثم استسقى و قد اشتد عطشه فأتته امرأة طويلة اليدين ما أدري أ عس معها أم إداوة فيها ضياح من لبن فقال حين شرب الجنة تحت الأسنة اليوم ألقي الأحبة محمدا و حزبه و الله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق و أنهم على الباطل ثم حمل و حمل عليه ابن حوى السكسكي و أبو العادية فأما أبو العادية فطعنه و أما ابن حوى فاحتز رأسه
و قد كان ذو الكلاع يسمع عمرو بن العاص يقول إن النبي ص يقول لعمار تقتلك الفئة الباغية و آخر شربك ضياح من لبن
فقال ذو الكلاع لعمرو ويحك ما هذا قال عمرو إنه سيرجع إلينا و يفارق أبا تراب و ذلك قبل أن يصاب عمار فلما أصيب عمار في هذا اليوم أصيب ذو الكلاع فقال عمرو لمعاوية و الله ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا و الله لو بقي ذو الكلاع حتى يقتل عمار لمال بعامة قومه إلى علي و لأفسد علينا أمرنا قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال كان لا يزال رجل يجي ء فيقول لمعاوية و عمرو أنا قتلت عمارا فيقول له عمرو فما سمعته يقول فيخلط حتى أقبل ابن حوى فقال أنا قتلته فقال عمرو فما كان آخر منطقه قال سمعته يقول اليوم ألقى الأحبة محمدا و حزبه فقال صدقت أنت صاحبه أما و الله ما ظفرت يداك و لقد أسخطت ربك قال نصر حدثنا عمرو بن شمر قال حدثني إسماعيل السدي عن عبد خير الهمداني قال نظرت إلى عمار بن ياسر يوما من أيام صفين قد رمي رمية فأغمي عليه فلم يصل الظهر و لا العصر و لا المغرب و لا العشاء و لا الفجر ثم أفاق فقضاهن جميعا يبدأ بأول شي ء فاته ثم بالتي تليها قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن السدي عن أبي حريث قال أقبل غلام لعمار بن ياسر اسمه راشد يحمل إليه يوم قتل بشربة من لبن
فقال عمار أما إني سمعت خليلي رسول الله ص يقول إن آخر زادك من الدنيا شربة لبن
قال نصر و روى عمرو بن شمر عن السدي أن رجلين بصفين اختصما في سلب عمار و في قتله فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص فقال ويحكما اخرجا عني
فإن رسول الله ص قال ما لقريش و لعمار يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار قاتله و سالبه في النار
قال السدي فبلغني أن معاوية قال لما سمع ذلك إنما قتله من أخرجه يخدع بذلك طغام أهل الشام قال نصر و حدثنا عمرو عن جابر عن أبي الزبير قال أتى حذيفة بن اليمان رهط من جهينة فقالوا له يا أبا عبد الله إن رسول الله ص استجار من أن تصطلم أمته فأجير من ذلك و استجار من أن يذيق أمته بعضها بأس بعض فمنع من ذلك
فقال حذيفة إني سمعت رسول الله ص يقول إن ابن سمية لم يخير بين أمرين قط إلا اختار أشدهما يعني عمارا فالزموا سمته
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر قال حمل عمار ذلك اليوم على صف أهل الشام و هو يرتجز
- كلا و رب البيت لا أبرح أجي حتى أموت أو أرى ما أشتهي
- لا أفتأ الدهر أحامي عن علي صهر الرسول ذي الأمانات الوفي
- ينصرنا رب السماوات العلي و يقطع الهام بحد المشرفي
- يمنحنا النصر على من يبتغي ظلما علينا جاهدا ما يأتلي
قال فضرب أهل الشام حتى اضطرهم إلى الفرار قال نصر و قد كان عبد الله بن سويد الحميري من آل ذي الكلاع قال لذي الكلاع ما حديث سمعته من ابن العاص في عمار فأخبره فلما قتل عمار خرج عبد الله ليلا يمشي فأصبح في عسكر علي ع و كان عبد الله من عباد الله زمانه و كاد أهل الشام أن يضطربوا لو لا أن معاوية قال لهم إن عليا قتل عمارا لأنه أخرجه إلى الفتنة ثم أرسل معاوية إلى عمرو لقد أفسدت على أهل الشام أ كل ما سمعت من رسول الله ص تقوله فقال عمرو قلتها و لست أعلم الغيب و لا أدري أن صفين تكون قلتها و عمار يومئذ لك ولي و قد رويت أنت فيه مثل ما رويت فغضب معاوية و تنمر لعمرو و عزم على منعه خيره فقال عمرو لابنه و أصحابه لا خير في جوار معاوية إن تجلت هذه الحرب عنه لأفارقنه و كان عمرو حمي الأنف قال
- تعاتبني أن قلت شيئا سمعته و قد قلت لو أنصفتني مثله قبلي
- أ نعلك فيما قلت نعل ثبيته و تزلق بي في مثل ما قلته نعلي
- و ما كان لي علم بصفين أنها تكون و عمار يحث على قتلي
- و لو كان لي بالغيب علم كتمتها و كايدت أقواما مراجلهم تغلي
- أبى الله إلا أن صدرك واغر علي بلا ذنب جنيت و لا ذحل
- سوى أنني و الراقصات عشية بنصرك مدخول الهوى ذاهل العقل
- فلا وضعت عني حصان قناعها و لا حملت وجناء ذعلبة رحلي
- و لا زلت أدعى في لؤي بن غالب قليلا غنائي لا أمر و لا أحلى
- إن الله أرخى من خناقك مرة و نلت الذي رجيت إن لم أزر أهلي
- و أترك لك الشام التي ضاق رحبها عليك و لم يهنك بها العيش من أجلي
فأجابه معاوية
- أ الآن لما ألقت الحرب بركها و قام بنا الأمر الجليل على رجل
- غمزت قناتي بعد ستين حجة تباعا كأني لا أمر و لا أحلى
- أتيت بأمر فيه للشام فتنة و في دون ما أظهرته زلة النعل
- فقلت لك القول الذي ليس ضائرا و لو ضر لم يضررك حملك لي ثقلي
- تعاتبني في كل يوم و ليلة كأن الذي أبليك ليس كما أبلي
- فيا قبح الله العتاب و أهله أ لم تر ما أصبحت فيه من الشغل
- فدع ذا و لكن هل لك اليوم حيلة ترد بها قوما مراجلهم تغلي
- دعاهم علي فاستجابوا لدعوة أحب إليهم من ثرى المال و الأهل
- إذا قلت هابوا حومة الموت أرقلوا إلى الموت إرقال الهلوك إلى الفحل
قال فلما أتى عمرا شعر معاوية أتاه فأعتبه و صار أمرهما واحدا قال نصر ثم إن عليا ع دعا في هذا اليوم هاشم بن عتبة و معه لواؤه و كان أعور فقال له يا هاشم حتى متى فقال هاشم لأجهدن ألا أرجع إليك أبدا فقال علي ع إن بإزائك ذا الكلاع و عنده الموت الأحمر فتقدم هاشم فلما أقبل قال معاوية من هذا المقبل فقيل هاشم المرقال فقال أعور بني زهرة قاتله الله فأقبل هاشم و هو يقول
- أعور يبغي نفسه خلاصا مثل الفنيق لابسا دلاصا
- لا دية يخشى و لا قصاصا كل امرئ و إن كبا و حاصا
ليس يرى من يومه مناصا
فحمل صاحب لواء ذي الكلاع و هو رجل من عذرة فقال
- يا أعور العين و ما بي من عور اثبت فإني لست من فرعي مضر
- نحن اليمانون و ما فينا خور كيف ترى وقع غلام من عذر
- ينعى ابن عفان و يلحى من عذر سيان عندي من سعى و من أمر
فاختلفا طعنتين فطعنه هاشم فقتله و كثرت القتلى حول هاشم و حمل ذو الكلاع و اختلط الناس و اجتلدوا فقتل هاشم و ذو الكلاع جميعا و أخذ عبد الله بن هاشم اللواء و ارتجز فقال
- يا هاشم بن عتبة بن مالك أعزز بشيخ من قريش هالك
- تحيطه الخيلان بالسنابك في أسود من نقعهن حالك
- أبشر بحور العين في الأرائك و الروح و الريحان عند ذلك
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال أخذ عبد الله بن هاشم بن عتبة راية أبيه ثم قال أيها الناس إن هاشما كان عبدا من عباد الله الذي قدر أرزاقهم و كتب آثارهم و أحصى أعمالهم و قضى آجالهم فدعاه الله ربه فاستجاب لأمره و سلم لأمره و جاهد في طاعة ابن عم رسوله أول من آمن به و أفقههم في دين الله الشديد على أعداء الله المستحلين حرم الله الذين عملوا في البلاد بالجور و الفساد و استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله و زين لهم الإثم و العدوان فحق عليكم جهاد من خالف الله و عطل حدوده و نابذ أولياءه جودوا بمهجكم في طاعة الله في هذه الدنيا تصيبوا الآخرة و المنزل الأعلى و الأبد الذي لا يفنى فو الله لو لم يكن ثواب و لا عقاب و لا جنة و لا نار لكان القتال مع علي أفضل من القتال مع معاوية فكيف و أنتم ترجون ما ترجون قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر قال لما انقضى أمر صفين و سلم الحسن ع الأمر إلى معاوية و وفدت عليه الوفود أشخص عبد الله بن هاشم إليه أسيرا فلما مثل بين يديه و عنده عمرو بن العاص قال يا أمير المؤمنين هذا المختال ابن المرقال فدونك الضب المضب المعر المفتون فاقتله فإن العصا من العصية و إنما تلد الحية حيية و جزاء السيئة سيئة مثلها فقال عبد الله إن تقتلني فما أنا بأول رجل خذله قومه و أسلمه يومه فقال عمرو يا أمير المؤمنين أمكني منه أشخب أوداجه على أثباجه فقال عبد الله فهلا كانت هذه الشجاعة منك يا ابن العاص في أيام صفين و نحن ندعوك إلى النزال و قد ابتلت أقدام الرجال من نقيع الجريال و قد تضايقت بك المسالك و أشرفت منها على المهالك و ايم الله لو لا مكانك منه لرميتك بأحد من وقع الأشافي فإنك لا تزال تكثر في هوسك و تخبط في دهسك و تنشب في مرسك تخبط العشواء في الليلة الحندس الظلماء فأمر معاوية به إلى الحبس فكتب عمرو إلى معاوية
- أمرتك أمرا حازما فعصيتني و كان من التوفيق قتل ابن هاشم
- و كان أبوه يا معاوية الذي رماك على حرب بحز الغلاصم
- فقتلنا حتى جرت من دمائنا بصفين أمثال البحور الخضارم
- و هذا ابنه و المرء يشبه أصله ستقرع إن أبقيته سن نادم
فبعث معاوية بالشعر إلى عبد الله بن هاشم فكتب في جوابه من السجن
- معاوي إن المرء عمرا أبت له ضغينة صدر ودها غير سالم
- يرى لك قتلي يا ابن حرب و إنما يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم
- على أنهم لا يقتلون أسيرهم إذا كان فيه منعة للمسالم
- و قد كان منا يوم صفين نفرة عليك جناها هاشم و ابن هاشم
- قضى الله فيها ما قضى ثمت انقضى و ما ما مضى إلا كأضغاث حالم
- فإن تعف عني تعف عن ذي قرابة و إن تر قتلي تستحل محارمي
هذه رواية نصر بن مزاحم و روى أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى بن عبيد الله المرزباني أن معاوية لما تم له الأمر بعد وفاة علي ع بعث زيادا على البصرة و ناد منادي معاوية أمن الأسود و الأحمر بأمان الله إلا عبد الله بن هاشم بن عتبة فمكث معاوية يطلبه أشد الطلب و لا يعرف له خبرا حتى قدم عليه رجل من أهل البصرة فقال له أنا أدلك على عبد الله بن هاشم بن عتبة اكتب إلى زياد فإنه عند فلانة المخزومية فدعا كاتبه فكتب من معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاعمد إلى حي بني مخزوم ففتشه دارا دارا حتى تأتي إلى دار فلانة المخزومية فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها فاحلق رأسه و ألبسه جبة شعر و قيده و غل يده إلى عنقه و احمله على قتب بعير بغير وطاء و لا غذاء و أنفذ به إلي قال المرزباني فأما الزبير بن بكار فإنه قال إن معاوية قال لزياد لما بعثه إلى البصرة إن عبد الله بن المرقال في بني ناجية بالبصرة عند امرأة منهم يقال لها فلانة و أنا أعزم عليك إلا حططت رحلك ببابها ثم اقتحمت الدار و استخرجته منها و حملته إلي فلما دخل زياد إلى البصرة سأل عن بني ناجية و عن منزل المرأة فاقتحم الدار و استخرج عبد الله منها فأنفذه إلى معاوية فوصل إليه يوم الجمعة و قد لاقى نصبا كثيرا و من الهجير ما غير جسمه و كان معاوية يأمر بطعام فيتخذ في كل جمعة لأشراف قريش و لأشراف الشام و وفود العراق فلم يشعر معاوية إلا و عبد الله بين يديه و قد ذبل و سهم وجهه فعرفه و لم يعرفه عمرو بن العاص فقال معاوية يا أبا عبد الله أ تعرف هذا الفتى قال لا قال هذا ابن الذي كان يقول في صفين
- أعور يبغي أهله محلا قد عالج الحياة حتى ملا
لا بد أن يفل أو يفلا
قال عمرو و إنه لهو دونك الضب المضب فاشخب أوداجه و لا ترجعه إلى أهل العراق فإنهم أهل فتنة و نفاق و له مع ذلك هوى يرديه و بطانة تغويه فو الذي نفسي بيده لئن أفلت من حبائلك ليجهزن إليك جيشا تكثر صواهله لشر يوم لك فقال عبد الله و هو في القيد يا ابن الأبتر هلا كانت هذه الحماسة عندك يوم صفين و نحن ندعوك إلى البراز و تلوذ بشمائل الخيل كالأمة السوداء و النعجة القوداء أما إنه إن قتلني قتل رجلا كريم المخبرة حميد المقدرة ليس بالجبس المنكوس و لا الثلب المركوس فقال عمرو دع كيت و كيت فقد وقعت بين لحيي لهزم فروس للأعداء يسعطك إسعاط الكودن الملجم قال عبد الله أكثر إكثارك فإني أعلمك بطرا في الرخاء جبانا في اللقاء هيابة عند كفاح الأعداء ترى أن تقي مهجتك بأن تبدي سوءتك أ نسيت يوم صفين و أنت تدعى إلى النزال فتحيد عن القتال خوفا أن يغمرك رجال لهم أبدان شداد و أسنة حداد ينهبون السرح و يذلون العزيز قال عمر لقد علم معاوية أني شهدت تلك المواطن فكنت فيها كمدرة الشوك و لقد رأيت أباك في بعض تلك المواطن تخفق أحشاؤه و تنق أمعاؤه قال أما و الله لو لقيك أبي في ذلك المقام لارتعدت منه فرائصك و لم تسلم منه مهجتك و لكنه قاتل غيرك فقتل دونك فقال معاوية أ لا تسكت لا أم لك فقال يا ابن هند أ تقول لي هذا و الله لئن شئت لأعرقن جبينك و لأقيمنك و بين عينيك وسم يلين له أخدعاك أ بأكثر من الموت تخوفني فقال معاوية أو تكف يا ابن أخي و أمر به إلى السجن فقال عمرو و ذكر الأبيات فقال عبد الله و ذكر الأبيات أيضا و زاد فأطرق معاوية طويلا حتى ظن أنه لن يتكلم ثم قال
- أرى العفو عن عليا قريش وسيلة إلى الله في اليوم العبوس القماطر
- و لست أرى قتلي فتى ذا قرابة له نسب في حي كعب و عامر
- بل العفو عنه بعد ما خاب قدحه و زلت به إحدى الجدود العواثر
- و كان أبوه يوم صفين محنقا علينا فأردته رماح يحابر
ثم قال له أ تراك فاعلا ما قال عمرو من الخروج علينا قال لا تسل عن عقيدات الضمائر لا سيما إذا أرادت جهادا في طاعة الله قال إذن يقتلك الله كما قتل أباك قال و من لي بالشهادة قال فأحسن معاوية جائزته و أخذ عليه موثقا ألا يساكنه بالشام فيفسد عليه أهله قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن السدي عن عبد خير الهمداني قال قال هاشم بن عتبة يوم مقتله أيها الناس إني رجل ضخم فلا يهولنكم مسقطي إذا سقطت فإنه لا يفرغ مني أقل من نحر جزور حتى يفرغ الجزار من جزرها ثم حمل فصرع فمر عليه رجل و هو صريع بين القتلى فناداه اقرأ على أمير المؤمنين السلام و قل له بركات الله و رحمته عليك يا أمير المؤمنين أنشدك الله إلا أصبحت و قد ربطت مقاود خيلك بأرجل القتلى فإن الدبرة تصبح غدا لمن غلب على القتلى فأخبر الرجل عليا ع بما قاله فسار في الليل بكتائبه حتى جعل القتلى خلف ظهره فأصبح و الدبرة له على أهل الشام قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن السدي عن عبد خير قال قاتل هاشم الحارث بن المنذر التنوخي حمل عليه بعد أن أعيا و كل و قتل بيده فطعنه بالرمح فشق بطنه فسقط و بعث إليه علي ع و هو لا يعلم أقدم بلوائك فقال للرسول انظر إلى بطني فإذا هو قد انشق فجاء علي ع حتى وقف عليه و حوله عصابة من أسلم قد صرعوا معه و قوم من القراء فجزع عليه و قال
- جزى الله خيرا عصبة أسلمية صباح الوجوه صرعوا حول هاشم
- يزيد و سعدان و بشر و معبد و سفيان و ابنا معبد ذي المكارم
- و عروة لا يبعد نثاه و ذكره إذا اخترطت يوما خفاف الصوارم
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي عن أبي سلمة أن هاشم بن عتبة استصرخ الناس عند المساء ألا من كان له إلى الله حاجة و من كان يريد الآخرة فليقبل فأقبل إليه ناس كثير شد بهم على أهل الشام مرارا ليس من وجه يحمل عليه إلا صبروا له فقاتل قتالا شديدا ثم قال لأصحابه لا يهولنكم ما ترون من صبرهم فو الله ما ترون منهم إلا حمية العرب و صبرها تحت راياتها و عند مراكزها و إنهم لعلى الضلال و إنكم لعلى الحق يا قوم اصبروا و صابروا و اجتمعوا و امشوا بنا إلى عدونا على تؤدة رويدا و اذكروا الله و لا يسلمن رجل أخاه و لا تكثروا الالتفات و اصمدوا صمدهم و جالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا و بينهم و هو خير الحاكمين قال أبو سلمة فبينا هو و عصابة من القراء يجالدون أهل الشام إذ طلع عليهم فتى شاب و هو يقول
- أنا ابن أرباب ملوك غسان و الدائن اليوم بدين عثمان
- أنبأنا قراؤنا بما كان أن عليا قتل ابن عفان
ثم شد لا ينثني حتى يضرب بسيفه ثم جعل يلعن عليا و يشتمه و يسهب في ذمه فقال له هاشم بن عتبة يا هذا إن الكلام بعده الخصام و إن لعنك سيد الأبرار بعده عقاب النار فاتق الله فإنك راجع إلى ربك فيسألك عن هذا الموقف و عن هذا المقال قال الفتى إذا سألني ربي قلت قاتلت أهل العراق لأن صاحبهم لا يصلي كما ذكر لي و إنهم لا يصلون و صاحبهم قتل خليفتنا و هم آزروه على قتله فقال له هاشم يا بني و ما أنت و عثمان إنما قتله أصحاب محمد الذين هم أولى بالنظر في أمور المسلمين و إن صاحبنا كان أبعد القوم عن دمه و أما قولك إنه لا يصلي فهو أول من صلى مع رسول الله و أول من آمن به و أما قولك إن أصحابه لا يصلون فكل من ترى معه قراء الكتاب لا ينامون الليل تهجدا فاتق الله و اخش عقابه و لا يغررك من نفسك الأشقياء الضالون فقال الفتى يا عبد الله لقد دخل قلبي وجل من كلامك و إني لأظنك صادقا صالحا و أظنني مخطئا آثما فهل لي من توبة قال نعم ارجع إلى ربك و تب إليه فإنه يقبل التوبة و يعفو عن السيئات و يحب التوابين و يحب المتطهرين فرجع الفتى إلى صفه منكسرا نادما فقال له قوم من أهل الشام خدعك العراقي قال لا و لكن نصحني العراقي قال نصر و في قتل هاشم و عمار تقول امرأة من أهل الشام
- لا تعدموا قوما أذاقوا ابن ياسر شعوبا و لم يعطوكم بالخزائم
- فنحن قتلنا اليثربي ابن محصن خطيبكم و ابني بديل و هاشم
قال نصر أما اليثربي فهو عمرو بن محصن الأنصاري و قد رثاه النجاشي شاعر أهل العراق فقال
- لنعم فتى الحيين عمرو بن محصن إذا صارخ الحي المصبح ثوبا
- إذا الخيل جالت بينها قصد القنا يثرن عجاجا ساطعا متنصبا
- لقد فجع الأنصار طرا بسيد أخي ثقة في الصالحات مجربا
- فيا رب خير قد أفدت و جفنة ملأت و قرن قد تركت مسلبا
- و يا رب خصم قد رددت بغيظه فآب ذليلا بعد أن كان مغضبا
- و راية مجد قد حملت و غزوة شهدت إذ النكس الجبان تهيبا
- حويطا على جل العشيرة ماجدا و ما كنت في الأنصار نكسا مؤنبا
- طويل عماد المجد رحبا فناؤه خصيبا إذا ما رائد الحي أجدبا
- عظيم رماد النار لم يك فاحشا و لا فشلا يوم النزال مغلبا
- و كنت ربيعا ينفع الناس سيبه و سيفا جرازا باتك الحد مقضبا
- فمن يك مسرورا بقتل ابن محصن فعاش شقيا ثم مات معذبا
- و غودر منكبا لفيه و وجهه يعالج رمحا ذا سنان و ثعلبا
- فإن يقتلوا الحر الكريم ابن محصن فنحن قتلنا ذا الكلاع و حوشبا
- و إن يقتلوا ابني بديل و هاشما فنحن تركنا منكم القرن أعضبا
- و نحن تركنا حميرا في صفوفكم لدى الحرب صرعى كالنخيل مشذبا
- و أفلتنا تحت الأسنة مرثد و كان قديما في الفرار مدربا
- و نحن تركنا عند مختلف القنا أخاكم عبيد الله لحما ملحبا
- بصفين لما ارفض عنه رجالكم و وجه ابن عتاب تركناه ملغبا
- و طلحة من بعد الزبير و لم ندع لضبة في الهيجا عريفا و منكبا
- و نحن أحطنا بالبعير و أهله و نحن سقيناكم سماما مقشبا
قال نصر و كان ابن محصن من أعلام أصحاب علي ع قتل في المعركة و جزع علي ع لقتله قال و في قتل هاشم بن عتبة يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني و هو من الصحابة و قيل إنه آخر من بقي من صحب رسول الله ص و شهد مع علي صفين و كان من مخلصي الشيعة
- يا هاشم الخير جزيت الجنه قاتلت في الله عدو السنه
- و التاركي الحق و أهل الظنه أعظم بما فزت به من منه
- صيرني الدهر كأني شنه و سوف تعلو حول قبري رنه
من زوجة و حوبة و كنه
قال نصر و الحوبة القرابة يقال لي في بني فلان حوبة أي قربى قال نصر و قال رجل من عذرة من أهل الشام
- لقد رأيت أمورا كلها عجب و ما رأيت كأيام بصفينا
- لما غدوا و غدونا كلنا حنق كما رأيت الجمال الجلة الجونا
- خيل تجول و أخرى في أعنتها و آخرون على غيظ يرامونا
- ثم ابتذلنا سيوفا في جماجمهم و ما نساقيهم من ذاك يجزونا
- كأنها في أكف القوم لامعة سلاسل البرق يجدعن العرانينا
- ثم انصرفنا كأشلاء مقطعة و كلهم عند قتلاهم يصلونا
قال نصر و قال رجل لعدي بن حاتم الطائي و كان من جملة أصحاب علي ع يا أبا طريف أ لم أسمعك تقول يوم الدار و الله لا تحبق فيها عناق حولية و قد رأيت ما كان فيها و قد كان فقئت عين عدي و قتل بنوه فقال أما و الله لقد حبقت في قتله العناق و التيس الأعظم قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر قال بعث علي ع خيلا ليحبسوا عن معاوية مادته فبعث معاوية الضحاك بن قيس الفهري في خيل إلى تلك الخيل فأزالوها و جاءت عيون علي ع فأخبروه بما كان فقال لأصحابه ما ترون فيما هاهنا فقال بعضهم نرى كذا و قال بعضهم نرى كذا فلما زاد الاختلاف قال علي ع اغدوا إلى القتال فغاداهم إلى القتال فانهزمت صفوف الشام من بين يديه ذلك اليوم حتى فر عتبة بن أبي سفيان عشرين فرسخا عن موضع المعركة فقال النجاشي فيه من قصيدة أولها
- لقد أمعنت يا عتب الفرارا و أورثك الوغى خزيا و عارا
- فلا يحمد خصاك سوى طمر إذا أجريته انهمر انهمارا
و قال كعب بن جعيل و هو شاعر أهل الشام بعد رفع المصاحف يذكر أيام صفين و يحرض معاوية
- معاوي لا تنهض بغير وثيقة فإنك بعد اليوم بالذل عارف
- تركتم عبيد الله بالقاع مسندا يمج نجيعا و العروق نوازف
- ألا إنما تبكي العيون لفارس بصفين أجلت خيله و هو واقف
- ينوء و تعلوه شآبيب من دم كما لاح في جيب القميص اللفائف
- تبدل من أسماء أسياف وائل و أي فتى لو أخطأته المتالف
- ألا إن شر الناس في الناس كلهم بنو أسد إني بما قلت عارف
- و فرت تميم سعدها و ربابها و خالفت الجعراء فيمن يخالف
- و قد صبرت حول ابن عم محمد على الموت شهباء المناكب شارف
- فما برحوا حتى رأى الله صبرهم و حتى أتيحت بالأكف المصاحف
و قد تقدم ذكر هذه الأبيات بزيادة على ما ذكرناه الآن قال نصر و هجا كعب بن جعيل عتبة بن أبي سفيان و عيره بالفرار و كان كعب من شيعة معاوية لكنه هجا عتبة تحريضا له فهجاه عتبة جوابا فقال له
- و سميت كعبا بشر العظام و كان أبوك يسمى الجعل
- و إن مكانك من وائل مكان القراد من است الجمل
قال نصر ثم كانت بين الفريقين الوقعة المعروفة بوقعة الخميس حدثنا بها عمر بن سعد عن سليمان الأعمش عن إبراهيم النخعي قال حدثنا القعقاع بن الأبرد الطهوي قال و الله إني لواقف قريبا من علي ع بصفين يوم وقعة الخميس و قد التقت مذحج و كانوا في ميمنة علي ع و عك لخم و جذام و الأشعريون و كانوا مستبصرين في قتال علي ع فلقد و الله رأيت ذلك اليوم من قتالهم و سمعت من وقع السيوف على الرءوس و خبط الخيول بحوافرها في الأرض و في القتلى ما الجبال تهد و لا الصواعق تصعق بأعظم من هؤلاء في الصدور من تلك الأصوات و نظرت إلى علي ع و هو قائم فدنوت منه فأسمعه يقول لا حول و لا قوة إلا بالله اللهم إليك الشكوى و أنت المستعان ثم نهض حين قام قائم الظهبرة و هو يقول ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين و حمل على الناس بنفسه و سيفه مجرد بيده فلا و الله ما حجز بين الناس ذلك اليوم إلا الله رب العالمين في قريب من ثلث الليل الأول و قتلت يومئذ أعلام العرب و كان في رأس علي ع ثلاث ضربات و في وجهه ضربتان قال نصر و قد قيل إن عليا ع لم يخرج قط و قتل في هذا اليوم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و قتل من أهل الشام عبد الله بن ذي الكلاع الحميري فقال معقل بن نهيك بن يساف الأنصاري
- يا لهف نفسي و من يشفي حزازتها إذ أفلت الفاسق الضليل منطلقا
- و أفلت الخيل عمرو و هي شاحبة تحت العجاج تحث الركض و العنقا
- وافت منية عبد الله إذ لحقت قب الخيول به أعجز بمن لحقا
- و أنساب مروان في الظلماء مستترا تحت الدجى كلما خاف الردى أرقا
و قال مالك الأشتر
- نحن قتلنا حوشبا لما غدا قد أعلما
- و ذا الكلاع قبله و معبدا إذ أقدما
- أن تقتلوا منا أبا اليقظان شيخا مسلما
- فقد قتلنا منكم سبعين كهلا مجرما
- أضحوا بصفين و قد لاقوا نكالا مؤثما
و قالت ضبيعة بنت خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ترثي أباها رحمه الله
عين جودي على خزيمة بالدمع قتيل الأحزاب يوم الفرات
قتلوا ذا الشهادتين عتوا أدرك الله منهم بالترات
قتلوه في فتية غير عزل يسرعون الركوب في الدعوات
نصروا السيد الموفق ذا العدل و دانوا بذاك حتى الممات
لعن الله معشرا قتلوه و رماهم بالخزي و الآفات
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الأعمش قال كتب معاوية إلى أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري صاحب منزل رسول الله ص و كان سيدا معظما من سادات الأنصار و كان من شيعة علي ع كتابا و كتب إلى زياد بن سمية و كان عاملا لعلي ع على بعض فارس كتابا ثانيا فأما كتابه إلى أبي أيوب فكان سطرا واحدا حاجيتك لا تنسى الشيباء أبا عذرها و لا قاتل بكرها فلم يدر أبو أيوب ما هو قال فأتى به عليا ع فقال يا أمير المؤمنين إن معاوية كهف المنافقين كتب إلي بكتاب لا أدري ما هو قال علي ع فأين الكتاب فدفعه إليه فقرأه و قال نعم هذا مثل ضربه لك يقول لا تنسى الشيباء أبا عذرها و الشيباء المرأة البكر ليلة افتضاضها لا تنسى بعلها الذي افترعها أبدا و لا تنسى قاتل بكرها و هو أول ولدها كذلك لا أنسى أنا قتل عثمان و أما الكتاب الذي كتبه إلى زياد فإنه كان وعيدا و تهددا فقال زياد ويلي على معاوية كهف المنافقين و بقية الأحزاب يتهددني و يتوعدني و بيني و بينه ابن عم محمد معه سبعون ألفا سيوفهم على عواتقهم يطيعونه في جميع ما يأمرهم به لا يلتفت رجل منهم وراءه حتى يموت أما و الله لو ظفر ثم خلص إلي ليجدنني أحمر ضرابا بالسيف قال نصر أحمر أي مولى فلما ادعاه معاوية عاد عربيا منافيا .
- قال نصر و روى عمرو بن شمر أن معاوية كتب في أسفل كتابه إلى أبي أيوب
- أبلغ لديك أبا أيوب مألكة أنا و قومك مثل الذئب و النقد
- إما قتلتم أمير المؤمنين فلا ترجوا الهوادة منا آخر الأبد
- إن الذي نلتموه ظالمين له أبقت حزازته صدعا على كبدي
- إني حلفت يمينا غير كاذبة لقد قتلتم إماما غير ذي أود
- لا تحسبوا إنني أنسى مصيبته و في البلاد من الأنصار من أحد
- قد أبدل الله منكم خير ذي كلع و اليحصبيين أهل الخوف و الجند
- إن العراق لنا فقع بقرقرة أو شحمة بزها شاو و لم يكد
- و الشام ينزلها الأبرار بلدتها أمن و بيضتها عريسة الأسد
فلما قرئ الكتاب على علي ع قال لشد ما شحذكم معاوية يا معشر الأنصار أجيبوا الرجل فقال أبو أيوب يا أمير المؤمنين إني ما أشاء أن أقول شيئا من الشعر يعيا به الرجال إلا قلته فقال فأنت إذا أنت فكتب أبو أيوب إلى معاوية أما بعد فإنك كتبت لا تنسى الشيباء أبا عذرها و لا قاتل بكرها فضربتها مثلا بقتل عثمان و ما نحن و قتل عثمان إن الذي تربص بعثمان و ثبط يزيد بن أسد و أهل الشام عن نصرته لأنت و إن الذين قتلوه لغير الأنصار و كتب في آخر كتابه
- لا توعدنا ابن حرب إننا نفر لا نبتغي ود ذي البغضاء من أحد
- و اسعوا جميعا بني الأحزاب كلكم لسنا نريد رضاكم آخر الأبد
- نحن الذين ضربنا الناس كلهم حتى استقاموا و كانوا عرضة الأود
- و العام قصرك منا أن ثبت لنا ضرب يزيل بين الروح و الجسد
- أما علي فأنا لا نفارقه ما رفرف الآل في الدوية الجرد
- إما تبدلت منا بعد نصرتنا دين الرسول أناسا ساكني الجند
- لا يعرفون أضل الله سعيهمإلا اتباعكم يا راعي النقد
- فقد بغى الحق هضما شر ذي كلع و اليحصبيون طرا بيضة البلد
قال فلما أتى معاوية كتاب أبي أيوب كسره قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر قال حدثني مجالد عن الشعبي عن زياد بن النضر الحارثي قال شهدت مع علي ع صفين فاقتتلنا مرة ثلاثة أيام و ثلاث ليال حتى تكسرت الرماح و نفدت السهام ثم صرنا إلى المسايفة فاجتلدنا بها إلى نصف الليل حتى صرنا نحن و أهل الشام في اليوم الثالث يعانق بعضنا بعضا و لقد قاتلت ليلتئذ بجميع السلاح فلم يبق شي ء من السلاح إلا قاتلت به حتى تحاثينا بالتراب و تكادمنا بالأفواه حتى صرنا قياما ينظر بعضنا إلى بعض ما يستطيع أحد من الفريقين أن ينهض إلى صاحبه و لا يقاتل فلما كان نصف الليل من الليلة الثالثة انحاز معاوية و خيله من الصف و غلب علي ع على القتلى فلما أصبح أقبل على أصحابه يدفهم و قد قتل كثير منهم و قتل من أصحاب معاوية أكثر و قتل فيهم تلك الليلة شمر بن أبرهة قال نصر و حدثنا عمرو عن جابن عن تميم قال و الله إني لمع علي ع إذ أتاه علقمة بن زهير الأنصاري فقال يا أمير المؤمنين إن عمرو بن العاص يرتجز في الصف بشعر أ فأسمعكه قال نعم قال إنه يقول
- إذا تخازرت و ما بي من خزر ثم كسرت العين من غير عور
- ألفيتني ألوى بعيد المستمر ذا صولة في المصمئلات الكبر
- أحمل ما حملت من خير و شر كالحية الصماء في أصل الحجر
فقال علي اللهم العنه فإن رسولك لعنه قال علقمة و إنه يا أمير المؤمنين يرتجز برجز آخر فأنشدك قال قل فقال
- أنا الغلام القرشي المؤتمن الماجد الأبلج ليث كالشطن
- ترضى بي الشام إلى أرض عدن يا قادة الكوفة يا أهل الفتن
- أضربكم و لا أرى أبا حسن كفى بهذا حزنا من الحزن
فضحك علي ع و قال إنه لكاذب و إنه بمكاني لعالم كما قال العربي غير الوهي ترقعين و أنت مبصرة ويحكم أروني مكانه لله أبوكم و خلاكم ذم و قال محمد بن عمرو بن العاص
- لو شهدت جمل مقامي و مشهدي بصفين يوما شاب منها الذوائب
- غداة غدا أهلي العراق كأنهم من البحر موج لجه متراكب
- و جئناهم نمشي صفوفا كأننا سحاب خريف صففته الجنائب
- فطارت إلينا بالرماح كماتهم و طرنا إليهم و السيوف 10 قواضب
- فدارت رحانا و استدارت رحاهم سراة نهار ما تولى المناكب
- إذا قلت يوما قد ونوا برزت لنا كتائب منهم و احجنت كتائب
- و قالوا نرى من رأينا أن تبايعوا عليا فقلنا بل نرى أن نضاربا
- فأبنا و قد أردوا سراة رجالنا و ليس لما لاقوا سوى الله حاسب
- فلم أر يوما كان أكثر باكيا و لا عارضا منهم كميا يكالب
- كأن تلألؤ البيض فينا و فيهم تلألؤ برق في تهامة ثاقب
و قال النجاشي يذكر عليا ع و جده في الأمر
- إني إخال عليا غير مرتدع حتى تقام حقوق الله و الحرم
- أ ما ترى النقع معصوبا بلمته كأنه الصقر في عرنينه شمم
- غضبان يحرق نابيه على حنق كما يغط الفنيق المصعب القطم
- حتى يزيل ابن حرب عن إمارته كما تنكب تيس الحبلة الحلم
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال بلغ النجاشي أن معاوية تهدده فقال
- يا أيها الرجل المبدي عداوته روئ لنفسك أي الأمر تأتمر
- لا تحسبني كأقوام ملكتهم طوع الأعنه لما ترشح الغدر
- و ما علمت بما أضمرت من حنق حتى أتتني به الركبان و النذر
- إذا نفست على الأنجاد مجدهم فابسط يديك فإن الخير مبتدر
- و اعلم بأن على الخير من نفر شم العرانين لا يعلوهم بشر
- لا يجحد الحاسد الغضبان فضلهم ما دام بالحزن من صمائها حجر
- نعم الفتى أنت إلا أن بينكما كما تفاضل ضوء الشمس و القمر
- و لا إخالك إلا لست منتهيا حتى يمسك من أظفاره ظفر
- لا تحمدن امرأ حتى تجربه و لا تذمن من لم يبله الخبر
- إني امرؤ قلما أثني على أحد حتى أرى بعض ما يأتي و ما يذر
- و إن طوى معشر عني عداوتهم في الصدر أو كان في أبصارهم خزر
- أجمعت عزما جراميزي بقافية لا يبرح الدهر منها فيهم أثر
قال فلما بلغ معاوية هذا الشعر قال ما أراه إلا قد قارب قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن محمد بن إسحاق أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كان يحمل على الخيل يوما فجاءه رجل فقال هل من فرس يا ابن ذي الجناحين قال تلك الخيل فخذ أيتها شئت فلما ولي قال ابن جعفر إن تصب أفضل الخيل تقتل فما عتم أن أخذ أفضل الخيل فركبه ثم حمل على فارس قد كان دعاه إلى البراز فقتله الشامي و حمل غلامان آخران من أهل العراق حتى انتهيا إلى سرادق معاوية فقتلا عنده و أقبلت الكتائب بعضها نحو بعض فاقتتلت قياما في الركب لا يسمع السامع إلا وقع السيوف على البيض و الدرق و قال عمرو بن العاص
- أ جئتم إلينا تسفكون دماءنا و ما رمتم وعر من الأمر أعسر
- لعمري لما فيه يكون حجاجنا إلى الله أدهى لو عقلتم و أنكر
- تعاورتم ضربا بكل مهند إذا شد وردان تقدم قنبر
- كتائبكم طورا تشد و تارة كتائبنا فيها القنا و السنور
- إذا ما التقوا يوما تدارك بينهم طعان و موت في المعارك أحمر
و قال رجل من كلب مع معاوية يهجو أهل العراق و يوبخهم
- لقد ضلت معاشر من نزار إذا انقادوا لمثل أبي تراب
- و إنهم و بيعتهم عليا كواشمة التغضن بالخضاب
- تزين من سفاهتها يديها و تحسر باليدين عن النقاب
- فإياكم و داهية نئودا تسير إليكم تحت العقاب
- إذا ساروا سمعت لحافتيهم دويا مثل تصفيق السحاب
- يجيبون الصريخ إذا دعاهم و قد طعن الفوارس بالحراب
- عليهم كل سابغة دلاص و أبيض صارم مثل الشهاب
و قال أبو حية بن غزية الأنصاري و هو الذي عقر الجمل يوم البصرة و اسمه عمرو
- سائل حليلة معبد عن بعلها و حليلة اللخمي و ابن كلاع
- و اسأل عبيد الله عن فرساننا لما ثوى متجدلا بالقاع
- و اسأل معاوية المولى هاربا و الخليل تمعج و هي جد سراع
- ما ذا يخبرك المخبر منهم عنهم و عنا عند كل وقاع
- إن يصدقوك يخبروك بأننا أهل الندى قدما مجيبو الداعي
- إن يصدقوك يخبروك بأننا نحمي الحقيقة كل يوم مصاع
- ندعو إلى التقوى و نرعى أهلها برعاية المأمون لا المضياع
- و نسن للأعداء كل مثقف لدن و كل مشطب قطاع
و قال عدي بن حاتم الطائي
- أقول لما أن رأيت المعمعه و اجتمع الجندان وسط البلقعه
- هذا علي و الهدى حقا معه يا رب فاحفظه و لا تضيعه
- فإنه يخشاك رب فارفعه و من أراد عيبه فضعضعه
أو كاده بالبغي منك فاقمعه
و قال النعمان بن جعلان الأنصاري
- سائل بصفين عنا عند غدوتنا أم كيف كنا إلى العلياء نبتدر
- و سل غداة لفينا الأزد قاطبة يوم البصيرة لما استجمعت مضر
- لو لا الإله و عفو من أبي حسن عنهم و ما زال منه العفو ينتظر
- لما تداعت لهم بالمصر داعية إلا الكلاب و إلا الشاء و الحمر
- كم مقعص قد تركناه بمقفرة تعوي السباع عليه و هو منعفر
- ما إن يئوب و لا ترجوه أسرته إلى القيامة حتى ينفخ الصور
قال عمرو بن الحمق الخزاعي
- تقول عرسي لما أن رأت أرقي ما ذا يهيجك من أصحاب صفينا
- أ لست في عصبة يهدي الإله بهم لا يظلمون و لا بغيا يريدونا
- فقلت إني على ما كان من رشد أخشى عواقب أمر سوف يأتينا
- إدالة القوم في أمر يراد بنا فأقني حياء و كفى ما تقولينا
و قال حجر بن عدي الكندي
- يا ربنا سلم لنا عليا سلم لنا المهذب التقيا
- المؤمن المسترشد الرضيا و اجعله هادي أمة مهديا
- و احفظه رب حفظك النبيا لا خطل الرأي و لا غبيا
- فإنه كان لنا وليا ثم ارتضيه بعده وصيا
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال قال الأحنف بن قيس في صفين لأصحابه هلكت العرب قالوا له و إن غلبنا يا أبا بحر قال نعم قالوا و إن غلبنا قال نعم قالوا و الله ما جعلت لنا مخرجا فقال الأحنف إنا إن غلبناهم لم نترك بالشام رئيسا إلا ضربنا عنقه و إن غلبونا لم يعرج بعدها رئيس عن معصية الله أبدا قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال ذكر معاوية يوما صفين بعد عام الجماعة و تسليم الحسن ع الأمر إليه فقال للوليد بن عقبة أي بني عمك كان أفضل يوم صفين يا وليد عند وقدان الحرب و استشاطة لظاها حين قاتلت الرجال على الأحساب قال كلهم قد وصل كنفيها عند انتشار وقعتها حتى ابتلت أثباج الرجال من الجريال بكل لدن عسال و بكل عضب قصال فقال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد أما و الله لقد رأيتنا يوما من الأيام و قد غشينا ثعبان في مثل الطود الأرعن قد أثار قسطلا حال بيننا و بين الأفق و هو على أدهم شائل الغرة يعني عليا ع يضربهم بسيفه ضرب غرائب الإبل كاشرا عن نابه كشر المخدر الحرب فقال معاوية نعم إنه كان يقاتل عن ترة له و عليه قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال أرسل علي ع إلى معاوية أن ابرز إلي و اعف الفريقين من القتال فأينا قتل صاحبه كان الأمر له فقال عمرو لقد أنصفك الرجل فقال معاوية أنا أبارز الشجاع الأخرق أظنك يا عمرو طمعت فيها فلما لم يجب قال علي ع وا نفساه أ يطاع معاوية و أعصى ما قاتلت أمة قط أهل بيت نبيها و هي مقرة بنبيها غير هذه الأمة ثم إن عليا ع أمر الناس أن يحملوا على أهل الشام فحملوا فنقضوا صفوف الشام فقال عمرو على من هذا الرهج الساطع قالوا على ابنيك عبد الله و محمد فقال عمرو يا وردان قدم لوائي فأرسل إليه معاوية أنه ليس على ابنيك بأس فلا تنقض الصف و الزم موقفك فقال عمرو هيهات هيهات
- الليث يحمي شبليه ما خيره بعد ابنيه
ثم تقدم باللواء فأدركه رسول معاوية فقال إنه ليس على ابنيك بأس فلا تحملن فقال قل له إنك لم تلدهما و إني أنا ولدتهما و بلغ مقدم الصفوف فقال له الناس مكانك إنه لا بأس على ابنيك إنهما في مكان حريز فقال أسمعوني أصواتهما حتى أعلم أ حيان هما أم قتيلان و نادى يا وردان قدم لواءك قيد قوس فقدم لواءه فأرسل علي ع إلى أهل الكوفة أن احملوا و إلى أهل البصرة أن احملوا فحمل الناس من كل جانب فاقتتلوا قتالا شديدا و خرج رجل من أهل الشام فقال من يبارز فبرز إليه رجل من أهل العراق فاقتتلا ساعة و ضرب العراقي الشامي على رجله فاسقط قدمه فقاتل و لم يسقط إلى الأرض فضربه العراقي أخرى فاسقط يده فرمى الشامي سيفه إلى أهل الشام و قال دونكم سيفي هذا فاستعينوا به على قتال عدوكم فاشتراه معاوية من أوليائه بعشرة آلاف درهم قال نصر و حدثنا مالك الجهني عن زيد بن وهب أن عليا ع مر على جماعة من أهل الشام بصفين منهم الوليد بن عقبة و هم يشتمونه و يقصبونه فأخبر بذلك فوقف على ناس من أصحابه و قال انهدوا إليهم و عليكم السكينة و الوقار و سيما الصالحين أقرب بقوم من الجهل قائدهم و مؤدبهم معاوية و ابن النابغة و أبو الأعور السلمي و ابن أبي معيط شارب الحرام و المحدود في الإسلام و هم أولاء يقصبونني و يشتمونني و قبل اليوم ما قاتلوني و شتموني و أنا إذ ذاك ادعوهم إلى الإسلام و هم يدعونني إلى عبادة الأصنام فالحمد لله و لا إله إلا الله لقديما ما عاداني الفاسقون إن هذا لهو الخطب الجلل إن فساقا كانوا عندنا غير مرضيين و على الإسلام و أهله متخوفين أصبحوا و قد خدعوا شطر هذه الأمة و أشربوا في قلوبهم حب الفتنة و استمالوا أهواءهم بالإفك و البهتان و نصبوا لنا الحرب و جدوا في إطفاء نور الله و الله متم نوره و لو كره الكافرون اللهم فإنهم قد ردوا الحق فافضض جمعهم و شتت كلمتهم و أبلسهم بخطاياهم فإنه لا يذل من واليت و لا يعز من عاديت قال نصر و كان علي ع إذا أراد الحملة هلل و كبر ثم قال
- من أي يومي من الموت أفر أ يوم لم يقدر أو يوم قدر
فجعل معاوية لواءه الأعظم مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فأمر علي ع جارية بن قدامة السعدي أن يلقاه بأصحابه و أقبل عمرو بن العاص بعده في خيل و معه لواء ثان فتقدم حتى خالط صفوف العراق فقال علي ع لابنه محمد امش نحو هذا اللواء رويدا حتى إذا أشرعت الرماح في صدورهم فأمسك يدك حتى يأتيك أمري ففعل و قد كان أعد علي ع مثلهم مع الأشتر فلما أشرع محمد الرماح في صدور القوم أمر علي ع الأشتر أن يحمل فحمل فأزالهم عن مواقفهم و أصاب منهم رجالا و اقتتل الناس قتالا شديدا فما صلى من أراد الصلاة إلا إيماء فقال النجاشي في ذلك اليوم يذكر الأشتر
- و لما رأينا اللواء العقاب يقحمه الشانئ الأخزر
- كليث العرين خلال العجاج و أقبل في خيله الأبتر
- دعونا لها الكبش كبش العراق و قد أضمر الفشل العسكر
- فرد اللواء على عقبه و فاز بحظوتها الأشتر
- كما كان يفعل في مثلها إذا ناب معصوصب منكر
- فإن يدفع الله عن نفسه فحظ العراق به الأوفر
- إذا الأشتر الخير خلى العراق فقد ذهب العرف و المنكر
- و تلك العراق و من عرفت كفقع تضمنه القرقر
قال نصر و حدثنا محمد بن عتبة الكندي قال حدثني شيخ من حضرموت شهد مع علي ع صفين قال كان منا رجل يعرف بهانئ بن فهد و كان شجاعا فخرج رجل من أهل الشام يدعو إلى البراز فلم يخرج إليه أحد فقال هانئ سبحان الله ما يمنعكم أن يخرج منكم رجل إلى هذا فو الله لو لا أني موعوك و أني أجد ضعفا شديدا لخرجت إليه فما رد أحد عليه فقام و شد عليه سلاحه ليخرج فقال له أصحابه يا سبحان الله أنت موعوك وعكة شديدة فكيف تخرج قال و الله لأخرجن و لو قتلني فخرج فلما رآه عرفه و إذا الرجل من قومه من حضرموت يقال له يعمر بن أسد الحضرمي فقال يا هانئ ارجع فإنه إن يخرج إلى رجل غيرك أحب إلي فإني لا أحب قتلك قال هانئ سبحان الله ارجع و قد خرجت لا و الله لأقاتلن اليوم حتى أقتل و لا أبالي قتلتني أنت أو غيرك ثم مشى نحوه و قال اللهم في سبيلك و نصرا لابن عم رسولك و اختلفا ضربتين فقتله هانئ و شد أصحاب يعمر بن أسد على هانئ فشد أصحاب هانئ عليهم فاقتتلوا و انفرجوا عن اثنين و ثلاثين قتيلا ثم إن عليا ع أرسل إلى جميع العسكر أن احملوا فحمل الناس كلهم على راياتهم كل منهم يحمل على من بإزائه فتجالدوا بالسيوف و عمد الحديد لا يسمع إلا صوت ضرب الهامات كوقع المطارق على السنادين و مرت الصلوات كلها فلم يصل أحد إلا تكبيرا عند مواقيت الصلاة حتى تفانوا و رق الناس و خرج رجل من بين الصفين لا يعلم من هو فقال أيها الناس أ خرج فيكم المحلقون فقيل لا فقال إنهم سيخرجون ألسنتهم أحلى من العسل و قلوبهم أمر من الصبر لهم حمة كحمة الحيات ثم غاب الرجل فلم يعلم من هو قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن السدي قال اختلط أمر الناس تلك الليلة و زال أهل الرايات عن مراكزهم و تفرق أصحاب علي ع عنه فأتى ربيعة ليلا فكان فيهم و تعاظم الأمر جدا و أقبل عدي بن حاتم يطلب عليا ع في موضعه الذي تركه فيه فلم يجده فطاف يطلبه فأصابه بين رماح ربيعة فقال يا أمير المؤمنين أما إذ كنت حيا فالأمر أمم ما مشيت إليك إلا على قتيل و ما أبقت هذه الوقعة لهم عميدا فقاتل حتى يفتح الله عليك فإن في الناس بقية بعد و أقبل الأشعث يلهث جزعا فلما رأى عليا ع هلل فكبر و قال يا أمير المؤمنين خيل كخيل و رجال كرجال و لنا الفضل عليهم إلى ساعتنا هذه فعد إلى مكانك الذي كنت فيه فإن الناس إنما يظنونك حيث تركوك و أرسل سعيد بن قيس الهمداني إلى علي ع إنا مشتغلون بأمرنا مع القوم و فينا فضل فإن أردت أن نمد أحدا أمددناه فأقبل علي ع على ربيعة فقال أنتم درعي و رمحي قال فربيعة تفخر بهذا الكلام إلى اليوم فقال عدي بن حاتم يا أمير المؤمنين إن قوما أنست بهم و كنت في هذه الجولة فيهم لعظيم حقهم و الله إنهم لصبر عند الموت أشداء عند القتال فدعا علي ع بفرس رسول الله ص الذي كان يقال له المرتجز فركبه ثم تقدم أمام الصفوف ثم قال بل البغلة بل البغلة فقدمت له بغلة رسول الله ص و كانت الشهباء فركبها ثم تعصب بعمامة رسول الله ص و كانت سوداء ثم نادى أيها الناس من يشر نفسه الله يربح إن هذا ليوم له ما بعده إن عدوكم قد مسه القرح كما مسكم فانتدبوا لنصرة دين الله فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفا قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم فشد بهم على أهل الشام و هو يقول
- دبوا دبيب النمل لا تفوتوا و أصبحوا في حربكم و بيتوا
- حتى تنالوا الثأر أو تموتوا أو لا فإني طالما عصيت
- قد قلتموا لو جئتنا فجيت ليس لكم ما شئتم و شيت
بل ما يريد المحيي المميت
و تبعه عدي بن حاتم بلوائه و هو يقول
- أ بعد عمار و بعد هاشم و ابن بديل فارس الملاحم
- نرجو البقاء ضل حلم الحالم لقد عضضنا أمس بالأباهم
- فاليوم لا نقرع سن نادم ليس امرؤ من حتفه بسالم
و حمل و حمل الأشتر بعدهما في أهل العراق كافة فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض و أهمد أهل العراق ما أتوا عليه حتى أفضى الأمر إلى مضرب معاوية و علي ع يضرب الناس بسيفه قدما قدما و يقول
- أضربهم و لا أرى معاوية الأخزر العين العظيم الحاوية
هوت به النار أم هاوية
فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه فلما وضع رجله في الركاب توقف و تلوم قليلا ثم أنشد قول عمرو بن الأطنابة
- أبت لي عفتي و أبى بلائي و أخذ الحمد بالثمن الربيح
- و إقدامي على المكروه نفسي و ضربي هامة البطل المشيح
- و قولي كلما جشأت و جاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
- لأدفع عن مآثر صالحات و أحمي بعد عن عرض صحيح
- بذي شطب كلون الملح صاف و نفس ما تقر على القبيح
ثم قال يا عمرو بن العاص اليوم صبر و غدا فخر قال صدقت إنك و ما أنت فيه كقول القائل
- ما علتي و أنا جلد نابل و القوس فيها وتر عنابل
- تزل عن صفحتها المعابل الموت حق و الحياة باطل
فثنى معاوية رجله من الركاب و نزل و استصرخ بعك و الأشعريين فوقفوا دونه و جالدوا عنه حتى كره كل من الفريقين صاحبه و تحاجز الناس قال نصر جاء رجل إلى معاوية بعد انقضاء صفين و خلوص الأمر له فقال يا أمير المؤمنين إن لي عليك حقا قال و ما هو قال حق عظيم قال ويحك ما هو قال أ تذكر يوما قدمت فرسك لتفر و قد غشيك أبو تراب و الأشتر فلما أردت أن تستوثبه و أنت على ظهره أمسكت بعنانك و قلت لك أين تذهب أنه للؤم بك أن تسمح العرب بنفوسها لك شهرين و لا تسمح لها بنفسك ساعة و أنت ابن ستين و كم عسى أن تعيش في الدنيا بعد هذه السن إذا نجوت فتلومت في نفسك ساعة ثم أنشدت شعرا لا أحفظه ثم نزلت فقال ويحك فإنك لأنت هو و الله ما أحلني هذا المحل إلا أنت و أمر له بثلاثين ألف درهم قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن النخعي عن ابن عباس قال تعرض عمرو بن العاص لعلي ع يوما من أيام صفين و ظن أنه يطمع منه في غرة فيصيبه فحمل عليه علي ع فلما كاد أن يخالطه أذرى نفسه عن فرسه و رفع ثوبه و شغر برجله فبدت عورته فصرف ع وجهه عنه و ارتث و قام معفرا بالتراب هاربا على رجليه معتصما بصفوفه فقال أهل العراق يا أمير المؤمنين أفلت الرجل فقال أ تدرون من هو قالوا لا قال فإنه عمرو بن العاص تلقاني بسوءته فصرفت وجهي عنه و رجع عمرو إلى معاوية فقال ما صنعت يا أبا عبد الله فقال لقيني علي فصرعني قال احمد الله و عورتك و الله إني لأظنك لو عرفته لما أقحمت عليه و قال معاوية في ذلك
- ألا لله من هفوات عمرو يعاتبني على تركي برازي
- فقد لاقى أبا حسن عليا فآب الوائلي مآب خازي
- فلو لم يبد عورته لطارت بمهجته قوادم أي بازي
- فإن تكن المنية أخطأته فقد غنى بها أهل الحجاز
فغضب عمرو و قال ما أشد تعظيمك عليا أبا تراب في أمري هل أنا إلا رجل لقيه ابن عمه فصرعه أ فترى السماء لذلك دما قال لا و لكنها معقبة لك خزيا قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال لما اشتد الأمر و عظم على أهل الشام قال معاوية لأخيه عتبة بن أبي سفيان الق الأشعث فإنه إن رضي رضيت العامة و كان عتبة فصيحا فخرج فنادى الأشعث فقال الأشعث سلوا من هو المنادي قالوا عتبة بن أبي سفيان قال غلام مترف و لا بد من لقائه فخرج إليه فقال ما عندك يا عتبة فقال أيها الرجل إن معاوية لو كان لاقيا رجلا غير علي للقيك إنك رأس أهل العراق و سيد أهل اليمن و قد سلف من عثمان إليك ما سلف من الصهر و العمل و لست كأصحابك أما الأشتر فقتل عثمان و أما عدي فحرض عليه و أما سعيد بن قيس فقلد عليا ديته و أما شريح و زحر بن قيس فلا يعرفان غير الهوى و إنك حاميت عن أهل العراق تكرما و حاربت أهل الشام حمية و قد بلغنا منك و بلغت منا ما أردت و إنا لا ندعوك إلى ترك علي و نصرة معاوية و لكنا ندعوك إلى البقية التي فيها صلاحك و صلاحنا فتكلم الأشعث فقال يا عتبة أما قولك إن معاوية لا يلقى إلا عليا فلو لقيني و الله لما عظم عني و لا صغرت عنه و إن أحب أن أجمع بينه و بين علي فعلت و أما قولك إني رأس أهل العراق و سيد أهل اليمن فإن الرأس المتبع و السيد المطاع هو علي بن أبي طالب و أما ما سلف من عثمان إلي فو الله ما زادني صهره شرفا و لا عمله عزا و أما عيبك أصحابي فإنه لا يقربك مني و لا يباعدني عنهم و أما محاماتي عن أهل العراق فمن نزل بيتا حماه و أما البقية فلستم بأحوج إليها منا و سترى رأينا فيها فلما عاد عتبة إلى معاوية و أبلغه قوله قال له لا تلقه بعدها فإن الرجل عظيم عند نفسه و إن كان قد جنح للسلم و شاع في أهل العراق ما قاله عتبة للأشعث و ما رده الأشعث عليه فقال النجاشي يمدحه
- يا ابن قيس و حارث و يزيد أنت و الله رأس أهل العراق
- أنت و الله حية تنفث السم قليل منها غناء الراقي
- أنت كالشمس و الرجال نجوم لا يرى ضوءها مع الإشراق
- قد حميت العراق بالأسل السمر و بالبيض كالبروق الرقاق
- و سعرت القتال في الشام بالبيض المواضي و بالرماح الدقاق
- لا ترى غير أذرع و أكف و رءوس بهامها أفلاق
- كلما قلت قد تصرمت الهيجا سقيتهم بكأس دهاق
- قد قضيت الذي عليك من الحق و سارت به القلاس المناقي
- أنت حلو لمن تقرب بالود و للشانئين مر المذاق
- بئسما ظنه ابن هند و من مثلك في الناس عند ضيق الخناق
قال نصر فقال معاوية لما يئس من جهة الأشعث لعمرو بن العاص إن رأس الناس بعد علي هو عبد الله بن العباس فلو كتبت إليه كتابا لعلك ترققه و لعله لو قال شيئا لم يخرج علي منه و قد أكلتنا الحرب و لا أرانا نصل إلى العراق إلا بهلاك أهل الشام فقال عمرو إن ابن عباس لا يخدع و لو طمعت فيه لطمعت في علي قال معاوية على ذلك فاكتب فكتب عمرو إليه أما بعد فإن الذي نحن فيه و أنتم ليس بأول أمر قاده البلاء و أنت رأس هذا الجمع بعد علي فانظر فيما بقي و دع ما مضى فو الله ما أبقت هذه الحرب لنا و لا لكم حياة و لا صبرا فاعلم أن الشام لا تهلك إلا بهلاك العراق و أن العراق لا تهلك إلا بهلاك الشام فما خيرنا بعد هلاك أعدادنا منكم و ما خيركم بعد هلاك أعدادكم منا و لسنا نقول ليت الحرب عادت و لكنا نقول ليتها لم تكن و إن فينا من يكره اللقاء كما أن فيكم من يكرهه و إنما هو أمير مطاع و مأمور مطيع أو مؤتمن مشاور و هو أنت فأما الأشتر الغليظ الطبع القاسي القلب فليس بأهل أن يدعى في الشورى و لا في خواص أهل النجوى و كتب في أسفل الكتاب
- طال البلاء و ما يرجى له آسي بعد الإله سوى رفق ابن عباس
- قولا له قول من يرجو مودته لا تنس حظك إن الخاسر الناسي
- انظر فدى لك نفسي قبل قاصمة للظهر ليس لها راق و لا آس
- إن العراق و أهل الشام لن يجدوا طعم الحياة مع المستغلق القاسي
- يا ابن الذي زمزم سقيا الحجيج له أعظم بذلك من فخر على الناس
- إني أرى الخير في سلم الشام لكم و الله يعلم ما بالسلم من بأس
- فيها التقى و أمور ليس يجهلها إلا الجهول و ما نوكى كأكياس
فلما وصل الكتاب إلى ابن عباس عرضه على أمير المؤمنين ع فضحك و قال قاتل الله ابن العاص ما أغراه بك يا عبد الله أجبه و ليرد إليه شعره الفضل بن العباس فإنه شاعر فكتب ابن عباس إلى عمرو أما بعد فإني لا أعلم أحدا من العرب أقل حياء منك إنه مال بك معاوية إلى الهوى فبعته دينك بالثمن اليسير ثم خبطت الناس في عشوة طمعا في الدنيا فأعظمتها إعظام أهل الدنيا ثم تزعم أنك تتنزه عنها تنزه أهل الورع فإن كنت صادقا فارجع إلى بيتك و دع الطمع في مصر و الركون إلى الدنيا الفانية و اعلم أن هذه الحرب ما معاوية فيها كعلي بدأها علي بالحق و انتهى فيها إلى العذر و بدأها معاوية بالبغي و انتهى فيها إلى السرف و ليس أهل العراق فيها كأهل الشام بايع أهل العراق عليا و هو خير منهم و بايع أهل الشام معاوية و هم خير منه و لست أنا و أنت فيها سواء أردت الله و أردت مصر و قد عرفت الشي ء الذي باعدك مني و لا أعرف الشي ء الذي قربك من معاوية فإن ترد شرا لا نسبقك به و إن ترد خيرا لا تسبقنا إليه و السلام ثم دعا أخاه الفضل فقال يا ابن أم أجب عمرا فقال الفضل
- يا عمرو حسبك من مكر و وسواس فاذهب فليس لداء الجهل من آس
- إلا تواتر طعن في نحوركم يشجي النفوس و يشفي نخوة الرأس
- أما علي فإن الله فضله بفضل ذي شرف عال على الناس
- إن تعقلوا الحرب نعقلها مخيسة أو تبعثوها فإنا غير إنكاس
- قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبة هذا بهذا و ما بالحق من بأس
ثم عرض الشعر و الكتاب على علي ع فقال لا أراه يجيبك بعدها أبدا بشي ء إن كان يعقل و إن عاد عدت عليه فلما انتهى الكتاب إلى عمرو بن العاص عرضه على معاوية فقال إن قلب ابن عباس و قلب علي قلب واحد و كلاهما ولد عبد المطلب و إن كان قد خشن فلقد لان و إن كان قد تعظم أو عظم صاحبه فلقد قارب و جنح إلى السلم قال نصر و قال معاوية لأكتبن إلى ابن عباس كتابا أستعرض فيه عقله و أنظر ما في نفسه فكتب إليه أما بعد فإنكم معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع بالمساءة منكم إلى أنصار ابن عفان حتى أنكم قتلتم طلحة و الزبير لطلبهما دمه و استعظامهما ما نيل منه فإن كان ذلك منافسة لبني أمية في السلطان فقد وليها عدي و تيم فلم تنافسوهم و أظهرتم لهم الطاعة و قد وقع من الأمر ما ترى و أكلت هذه الحروب بعضها بعضا حتى استوينا فيها فما يطمعكم فينا يطمعنا فيكم و ما يؤيسنا منكم يؤيسكم منا و لقد رجونا غير ما كان و خشينا دون ما وقع و لست ملاقينا اليوم بأحد من حد أمس و لا غدا بأحد من حد اليوم و قد قنعنا بما في أيدينا من ملك الشام فاقنعوا بما في أيديكم من ملك العراق و أبقوا على قريش فإنما بقي من رجالها ستة رجلان بالشام و رجلان بالعراق و رجلان بالحجاز فأما اللذان بالشام فأنا و عمرو و أما اللذان بالعراق فأنت و علي و أما اللذان بالحجاز فسعد و ابن عمر فاثنان من الستة ناصبان لك و اثنان واقفان فيك و أنت رأس هذا الجمع و لو بايع لك الناس بعد عثمان كنا إليك أسرع منا إلى علي
فلما وصل الكتاب إلى ابن عباس أسخطه و قال حتى متى يخطب ابن هند إلى عقلي و حتى متى أجمجم على ما في نفسي و كتب إليه أما بعد فقد أتاني كتابك و قرأته فأما ما ذكرت من سرعتنا إليك بالمساءة إلى أنصار ابن عفان و كراهتنا لسلطان بني أمية فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره حتى صرت إلى ما صرت إليه و بيني و بينك في ذلك ابن عمك و أخو عثمان و هو الوليد بن عقبة و أما طلحة و الزبير فإنهما أجلبا عليه و ضيقا خناقه ثم خرجا ينقضان البيعة و يطلبان الملك فقاتلناهما على النكث كما قاتلناك على البغي و أما قولك إنه لم يبق من قريش غير ستة فما أكثر رجالها و أحسن بقيتها و قد قاتلك من خيارها من قاتلك و لم يخذلنا إلا من خذلك و أما إغراؤك إيانا بعدي و تيم فإن أبا بكر و عمر خير من عثمان كما أن عثمان خير منك و قد بقي لك منا ما ينسيك ما قبله و تخاف ما بعده و أما قولك لو بايع الناس لي لاستقاموا فقد بايع الناس عليا و هو خير مني فلم يستقيموا له و ما أنت و الخلافة يا معاوية و إنما أنت طليق و ابن طليق و الخلافة للمهاجرين الأولين و ليس الطلقاء منها في شي ء و السلام فلما وصل الكتاب إلى معاوية قال هذا عملي بنفسي لا أكتب و الله إليه كتابا سنة كاملة و قال
- دعوت ابن عباس إلى جل حظه و كان امرأ أهدي إليه رسائلي
- فأخلف ظني و الحوادث جمة و ما زاد أن أغلى عليه مراجلي
- فقل لابن عباس أراك مخوفا بجهلك حلمي إنني غير غافل
- فأبرق و أرعد ما استطعت فإنني إليك بما يشجيك سبط الأنامل
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال عقد معاوية يوما من أيام صفين الرئاسة على اليمن من قريش قصد بذلك إكرامهم و رفع منازلهم منهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب و محمد و عتبة ابنا أبي سفيان و بسر بن أبي أرطاة و عبد الرحمن بن خالد بن الوليد و ذلك في الوقعات الأولى من صفين فغم ذلك أهل اليمن و أرادوا ألا يتأمر عليهم أحد إلا منهم فقام إليه رجل من كندة يقال له عبد الله بن الحارث السكوني فقال أيها الأمير إني قد قلت شيئا فاسمعه و ضعه مني على النصيحة قال هات فأنشده
- معاوي أحييت فينا الإحن و أحدثت بالشام ما لم يكن
- عقدت لبسر و أصحابه و ما الناس حولك إلا اليمن
- فلا تخلطن بنا غيرنا كما شيب بالماء صفو اللبن
- و إلا فدعنا على حالنا فإنا و إنا إذا لم نهن
- ستعلم أن جاش بحر العراق و أبدى نواجذه في الفتن
- و شد علي بأصحابه و نفسك إذ ذاك عند الذقن
- بأنا شعارك دون الدثار و أنا الرماح و أنا الجنن
- و أنا السيوف و أنا الحتوف و أنا الدروع و أنا المجن
قال فبكى لها معاوية و نظر إلى وجوه أهل اليمن فقال أ عن رضاكم يقول ما قال قالوا لا مرحبا بما قال إنما الأمر إليك فاصنع ما أحببت فقال معاوية إنما خلطت بكم أهل ثقتي و من كان لي فهو لكم و من كان لكم فهو لي فرضي القوم و سكتوا فلما بلغ أهل الكوفة مقال عبد الله بن الحارث لمعاوية فيمن عقد له من رءوس أهل الشام قام الأعور الشني إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إنا لا نقول لك كما قال صاحب أهل الشام لمعاوية و لكن نقول زاد الله في سرورك و هداك نظرت بنور الله فقدمت رجالا و أخرت رجالا عليك أن تقول و علينا أن نفعل أنت الإمام فإن هلكت فهذان من بعدك يعني حسنا و حسينا ع و قد قلت شيئا فاسمعه قال هات فأنشده
- أبا حسن أنت شمس النهار و هذان في الحادثات القمر
- و أنت و هذان حتى الممات بمنزلة السمع بعد البصر
- و أنتم أناس لكم سورة تقصر عنها أكف البشر
- يخبرنا الناس عن فضلكم و فضلكم اليوم فوق الخبر
- عقدت لقوم أولي نجدة من أهل الحياء و أهل الخطر
- مساميح بالموت عند اللقاء منا و إخواننا من مضر
- و من حي ذي يمن جلة يقيمون في النائبات الصعر
- فكل يسرك في قومه و من قال لا فبفيه الحجر
- و نحن الفوارس يوم الزبير و طلحة إذ قيل أودى غدر
- ضربناهم قبل نصف النهار إلى الليل حتى قضينا الوطر
- و لم يأخذ الضرب إلا الرءوس و لم يأخذ الطعن إلا الثغر
- فنحن أولئك في أمسنا و نحن كذلك فيما غبر
قال فلم يبق أحد من الرؤساء إلا و أهدى إلى الشني أو أتحفه قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال لما تعاظمت الأمور على معاوية قبل قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب دعا عمرو بن العاص و بسر بن أبي أرطاة و عبيد الله بن عمر بن الخطاب و عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فقال لهم إنه قد غمني مقام رجال من أصحاب علي منهم سعيد بن قيس الهمداني في قومه و الأشتر في قومه و المرقال و عدي بن حاتم و قيس بن سعد في الأنصار و قد علمتم أن يمانيتكم وقتكم بأنفسها أياما كثيرة حتى لقد استحييت لكم و أنتم عدتهم من قريش و أنا أحب أن يعلم الناس أنكم أهل غناء و قد عبأت لكل رجل منهم رجلا منكم فاجعلوا ذلك إلي قالوا ذاك إليك قال فأنا أكفيكم غدا سعيد بن قيس و قومه و أنت يا عمرو للمرقال أعور بني زهرة و أنت يا بسر لقيس بن سعيد و أنت يا عبيد الله للأشتر و أنت يا عبد الرحمن لأعور طي ء يعني عدي بن حاتم و قد جعلتها نوبا في خمسة أيام لكل رجل منكم يوم فكونوا على أعنة الخيل قالوا نعم فأصبح معاوية في غده فلم يدع فارسا إلا حشده ثم قصد لهمدان بنفسه و ارتجز فقال
- لن تمنع الحرمة بعد العام بين قتيل و جريح دام
- سأملك العراق بالشآم أنعى ابن عفان مدى الأيام
فطعن في أعرض الخيل مليا ثم إن همدان تنادت بشعارها و أقحم سعيد بن قيس فرسه على معاوية و اشتد القتال حتى حجز بينهم الليل فهمدان تذكر أن سعيدا كاد يقتنصه إلا أنه فاته ركضا و قال سعيد في ذلك
- يا لهف نفسي فاتني معاوية فوق طمر كالعقاب هاوية
و الراقصات لا يعود ثانية
قال نصر و انصرف معاوية ذلك اليوم و لم يصنع شيئا و غدا عمرو بن العاص في اليوم الثاني في حماة الخيل فقصد المرقال و مع المرقال لواء علي ع الأعظم في حماة الناس و كان عمرو من فرسان قريش فارتجز عمرو فقال
- لا عيش إن لم ألق يوما هاشما ذاك الذي جشمني المجاشما
- ذاك الذي يشتم عرضي ظالما ذاك الذي إن ينج مني سالما
يكن شجى حتى الممات لازما
فطعن في أعراض الخيل مزبدا و حمل المرقال عليه و ارتجز فقال
- لا عيش إن لم ألق يوما عمرا ذاك الذي أحدث فينا الغدرا
- أو يبدل الله بأمر أمرا لا تجزعي يا نفس صبرا صبرا
- ضربا هذا ذيك و طعنا شزرا يا ليت ما تجني يكون القبرا
فطاعن عمرا حتى رجع و انصرف الفريقان بعد شدة القتال و لم يسر معاوية ذلك و غدا بسر بن أبي أرطاة في اليوم الثالث في حماة الخيل فلقي قيس بن سعد بن عبادة في كمأة الأنصار فاشتدت الحرب بينهما و برز قيس كأنه فنيق مقرم و هو يقول
- أنا ابن سعد زانه عباده و الخزرجيون كمأة ساده
- ليس فراري في الوغى بعاده إن الفرار للفتى قلاده
- يا رب أنت لقني الشهاده فالقتل خير من عناق غاده
حتى متى تثنى لي الوساده
و طاعن خيل بسر و برز بسر فارتجز و قال
- أنا ابن أرطاة العظيم القدر مردد في غالب و فهر
- ليس الفرار من طباع بسر إن أرجع اليوم بغير وتر
- و قد قضيت في العدو نذري يا ليت شعري كم بقي من عمري
و يطعن بسر قيسا و يضربه قيس بالسيف فرده على عقبيه و رجع القوم جميعا و لقيس الفضل و تقدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب في اليوم الرابع لم يترك فارسا مذكورا إلا جمعه و استكثر ما استطاع فقال له معاوية إنك اليوم تلقى أفعى أهل العراق فارفق و اتئد فلقيه الأشتر أمام الخيل مزبدا و كان الأشتر إذا أراد القتال أزبد و هو يقول
- يا رب قيض لي سيوف الكفره و اجعل وفاتي بأكف الفجره
- فالقتل خير من ثياب الحبره لا تعدل الدنيا جميعا وبره
و لا بعوضا في ثواب البرره
و شد على الخيل خيل الشام فردها فاستحيا عبيد الله و برز أمام الخيل و كان فارسا شجاعا و قال
- أنعى ابن عفان و أرجو ربي ذاك الذي يخرجني من ذنبي
- ذاك الذي يكشف عني كربي أن ابن عفان عظيم الخطب
- يأبى له حبي بكل قلبي إلا طعاني دونه و ضربي
حسبي الذي أنويه حسبي حسبي
فحمل عليه الأشتر و طعنه و اشتد الأمر و انصرف القوم و للأشتر الفضل فغم ذلك معاوية و غدا عبد الرحمن بن خالد في اليوم الخامس و كان رجاء معاوية أن ينال حاجته فقواه بالخيل و السلاح و كان معاوية يعده ولدا فلقيه عدي بن حاتم في كمأة مذحج و قضاعة فبرز عبد الرحمن أمام الخيل و قال
- قل لعدي ذهب الوعيد أنا ابن سيف الله لا مزيد
- و خالد يزينه الوليد ذاك الذي قيل له الوحيد
- ثم حمل فطعن الناس فقصده عدي بن حاتم و سدد إليه الرمح و قال
- أرجو إلهي و أخاف ذنبي و لست أرجو غير عفو ربي
- يا ابن الوليد بغضكم في قلبي كالهضب بل فوق قنان الهضب
فلما كاد أن يخالطه بالرمح توارى عبد الرحمن في العجاج و استتر بأسنة أصحابه و اختلط القوم ثم تحاجزوا و رجع عبد الرحمن مقهورا و انكسر معاوية و بلغ أيمن بن خزيم ما لقي معاوية و أصحابه فشمت بهم و كان ناسكا من أنسك أهل الشام و كان معتزلا للحرب في ناحية عنها فقال
- معاوي إن الأمر لله وحده و إنك لا تسطيع ضرا و لا نفعا
- عبأت رجالا من قريش لعصبة يمانية لا تستطيع لها دفعا
- فكيف رأيت الأمر إذ جد جده لقد زادك الأمر الذي جئته جدعا
- تعبي لقيس أو عدي بن حاتم و الأشتر يا للناس أغمارك الجدعا
- و تجعل للمرقال عمرا و إنه لليث لقي من دون غايته ضبعا
- و إن سعيدا إذ برزت لرمحه لفارس همدان الذي يشعب الصدعا
- ملي بضرب الدارعين بسيفه إذا الخيل أبدت من سنابكها نقعا
- رجعت فلم تظفر بشي ء تريده سوى فرس أعيت و أبت بها ظلعا
- فدعهم فلا و الله لا تستطيعهم مجاهرة فاعمل لقهرهم خدعا
قال و إن معاوية أظهر لعمرو شماتة و جعل يقرعه و يوبخه و قال لقد أنصفتكم إذ لقيت سعيد بن قيس في همدان و فررتم و إنك لجبان يا عمرو فغضب عمرو و قال فهلا برزت إلى علي إذ دعاك إن كنت شجاعا كما تزعم و قال
- تسير إلى ابن ذي يزن سعيد و تترك في العجاجة من دعاكا
- فهل لك في أبي حسن علي لعل الله يمكن من قفاكا
- دعاك إلى البراز فلم تجبه و لو نازلته تربت يداكا
- و كنت أصم إذ ناداك عنها و كان سكوته عنها مناكا
- فآب الكبش قد طحنت رحاه بنجدته و ما طحنت رحاكا
- فما أنصفت صحبك يا ابن هند أ تفرقه و تغضب من كفاكا
- فلا و الله ما أضمرت خيرا و لا أظهرت لي إلا هواكا
قال و إن القرشيين استحيوا ما صنعوا و شمت بهم اليمانية من أهل الشام فقال معاوية يا معشر قريش و الله لقد قربكم لقاء القوم إلى الفتح و لكن لا مرد لأمر الله و مم تستحيون إنما لقيتم كباش العراق فقتلتم منهم و قتلوا منكم و ما لكم علي من حجة لقد عبأت نفسي لسيدهم و شجاعهم سعيد بن قيس فانقطعوا عن معاوية أياما فقال معاوية في ذلك
- لعمري لقد أنصفت و النصف عادتي و عاين طعنا في العجاج المعاين
- و لو لا رجائي أن تئوبوا بنهزة و أن تغسلوا عارا وعته الكنائن
- لناديت للهيجا رجالا سواكم و لكنما تحمى الملوك البطائن
- أ تدرون من لاقيتم فل جيشكم لقيتم ليوثا أصحرتها العرائن
- لقيتم صناديد العراق و من بهم إذا جاشت الهيجاء تحمى الظعائن
- و ما كان منكم فارس دون فارس و لكنه ما قدر الله كائن
فلما سمع القوم ما قاله معاوية أتوه فاعتذروا إليه و استقاموا إليه على ما يحب قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر قال لما اشتد القتال و عظم الخطب أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص إن قدم عكا و الأشعريين إلى من بإزائهم فبعث عمرو إليه أن بإزاء عك همدان فبعث إليه معاوية أن قدم عكا فأتاهم عمرو فقال يا معشر عك إن عليا قد عرف أنكم حي أهل الشام فعبأ لكم حي أهل العراق همدان فاصبروا و هبوا إلي جماجمكم ساعة من النهار فقد بلغ الحق مقطعه فقال ابن مسروق العكي أمهلني حتى آتي معاوية فأتاه فقال يا معاوية اجعل لنا فريضة ألفي رجل في ألفين ألفين و من هلك فابن عمه مكانه لنقر اليوم عينك فقال لك ذلك فرجع ابن مسروق إلى أصحابه فأخبرهم الخبر فقالت عك نحن لهمدان ثم تقدمت عك و نادى سعيد بن قيس يا همدان إن تقدموا فشدت همدان على عك رجالة فأخذت السيوف أرجل عك فنادى ابن مسروق
يا لعك بركا كبرك الكمل
فبركوا تحت الحجف فشجرتهم همدان بالرماح و تقدم شيخ من همدان و هو يقول
- يا لبكيل لخمها و حاشد نفسي فداكم طاعنوا و جالدوا
- حتى تخر منكم القماحد و أرجل يتبعها سواعد
بذاك أوصى جدكم و الوالد
و قام رجل من عك فارتجز فقال
- تدعون همدان و ندعو عكا بكوا الرجال يا لعك بكا
- إن خدم القوم فبركا بركا لا تدخلوا اليوم عليكم شكا
قد محك القوم فزيدوا محكا
قال فالتقى القوم جميعا بالرماح و صاروا إلى السيوف و تجالدوا حتى أدركهم الليل فقالت همدان يا معشر عك نحن نقسم بالله أننا لا ننصرف حتى تنصرفوا و قالت عك مثل ذلك فأرسل معاوية إلى عك أن أبروا قسم إخوتكم و هلموا فانصرفت عك فلما انصرفت انصرفت همدان فقال عمرو يا معاوية و الله لقد لقيت أسد أسدا لم أر و الله كهذا اليوم قط لو أن معك حيا كعك أو مع علي حي كهمدان لكان الفناء و قال عمرو في ذلك
- إن عكا و حاشدا و بكيلا كأسود الضراء لاقت أسودا
- و جثا القوم بالقنا و تساقوا بظباة السيوف موتا عتيدا
- ازورار المناكب الغلب بالشم و ضرب المسومين الخدودا
- ليس يدرون ما الفرار و لو كان فرارا لكان ذاك سديدا
- يعلم الله ما رأيت من القوم ازورارا و لا رأيت صدودا
- غير ضرب فوق الطلى و على الهام و قرع الحديد يعلو الحديدا
- و لقد قال قائل خدموا السوق فخرت هناك عك قعودا
- كبروك الجمال أثقلها الحمل فما تستقل إلا وئيدا
قال و لما اشترطت علك و الأشعريون على معاوية ما اشترطوا من الفريضة و العطاء فأعطاهم لم يبق من أهل العراق أحد في قلبه مرض إلا طمع في معاوية و شخص ببصره إليه حتى فشا ذلك في الناس و بلغ عليا ع فساءه قال نصر و جاء عدي بن حاتم يلتمس عليا ع ما يطأ إلا على قتيل أو قدم أو ساعد فوجده تحت رايات بكر بن وائل فقال يا أمير المؤمنين أ لا تقوم حتى نقاتل إلى أن نموت فقال له علي ع ادن فدنا حتى وضع أذنه عند أنفه فقال ويحك إن عامة من معي اليوم يعصيني و إن معاوية فيمن يطيعه و لا يعصيه قال نصر و جاء المنذر بن أبي حميصة الوادعي و كان شاعر همدان و فارسها عليا ع فقال يا أمير المؤمنين إن عكا و الأشعريين طلبوا إلى معاوية الفرائض و العطاء فأعطاهم فباعوا الدين بالدنيا و إنا قد رضينا بالآخرة من الدنيا و بالعراق من الشام و بك من معاوية و الله لآخرتنا خير من دنياهم و لعراقنا خير من شامهم و لإمامنا أهدى من إمامهم فاستفتحنا بالحرب و ثق منا بالنصر و احملنا على الموت و أنشده
- إن عكا سألوا الفرائض و الأشعر سألوا جوائزا بثنيه
- تركوا الدين للعطاء و للفرض فكانوا بذاك شر البريه
- و سألنا حسن الثواب من الله و صبرا على الجهاد و نيه
- فلكل ما سأله و نواه كلنا يحسب الخلاف خطيه
- و لأهل العراق أحسن في الحرب إذا ما تدانت السمهريه
- و لأهل العراق أحمل للثقل إذا عمت البلاد بليه
- ليس منا من لم يكن في الله وليا يا ذا الولاء و الوصية
فقال علي ع حسبك الله يرحمك الله و أثنى عليه و على قومه خيرا و انتهى شعره إلى معاوية فقال و الله لأستميلن بالدنيا ثقات علي و لأقسمن فيهم الأموال حتى تغلب دنياي آخرته قال نصر فلما أصبح الناس غدوا على مصافهم و أصبح معاوية يدور في أحياء اليمن و قال عبوا إلى كل فارس مذكور فيكم أتقوى به على هذا الحي من همدان فخرجت خيل عظيمة فلما رآها علي ع و عرف أنها عيون الرجال فنادى يا لهمدان فأجابه سعيد بن قيس فقال له علي ع احمل فحمل حتى خالط الخيل بالخيل و اشتد القتال و حطمتهم همدان حتى ألحقتهم بمعاوية فقال معاوية ما لقيت من همدان و جزع جزعا شديدا و أسرع القتل في فرسان الشام و جمع علي ع همدان فقال لهم يا معشر همدان أنتم درعي و رمحي و مجني يا همدان ما نصرتم إلا الله و لا أجبتم غيره فقال سعيد بن قيس أجبنا الله و أجبناك و نصرنا رسول الله في قبره و قاتلنا معك من ليس مثلك فارمنا حيث شئت
قال نصر و في هذا اليوم قال علي ع
- و لو كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان ادخلي بسلام
فقال علي ع لصاحب لواء همدان اكفني أهل حمص فإني لم ألق من أحد ما لقيت منهم
فتقدم و تقدمت همدان و شدوا شدة واحدة على أهل حمص فضربوهم ضربا شديدا متداركا بالسيوف و عمد الحديد حتى ألجئوهم إلى قبة معاوية و ارتجز من همدان رجل عداده في أرحب فقال
- قد قتل الله رجال حمص غروا بقول كذب و خرص
- حرصا على المال و أي حرص قد نكص القوم و أي نكص
عن طاعة الله و فحوى النص
قال نصر فحدثنا عمر بن سعد قال لما ردت خيول معاوية أسف فجرد سيفه و حمل في كماة أصحابه فحملت عليه فوارس همدان ففاز منها ركضا و انكسرت كماته و رجعت همدان إلى مراكزها فقال حجر بن قحطان الهمداني يخاطب سعيد بن قيس
- ألا ابن قيس قرت العين إذا رأت فوارس همدان بن زيد بن مالك
- على عارفات للقاء عوابس طوال الهوادي مشرفات الحوارك
- معودة للطعن في ثغراتها يجلن فيحطمن الحصى بالسنابك
- عباها علي لابن هند و خيله فلو لم يفتها كان أول هالك
- و كانت له في يومه عند ظنه و في كل يوم كاسف الشمس حالك
- و كانت بحمد الله في كل كربة حصونا و عزا للرجال الصعالك
- فقل لأمير المؤمنين أن ادعنا متى شئت إنا عرضة للمهالك
- و نحن حطمنا السمر في حي حمير و كندة و الحي الخفاف السكاسك
- و عك و لخم شائلين سياطهم حذار العوالي كالإماء العوارك
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن رجاله أن معاوية دعا يوما بصفين مروان بن الحكم فقال له إن الأشتر قد غمني و أقلقني فاخرج بهذه الخيل في يحصب و الكلاعيين فالقه فقال مروان ادعا لهما عمرا فإنه شعارك دون دثارك قال فأنت نفسي دون وريدي قال لو كنت كذلك ألحقتني به في العطاء و ألحقته بي في الحرمان و لكنك أعطيته ما في يدك و منيته ما في يد غيرك فإن غلبت طاب له المقام و إن غلبت خف عليه الهرب فقال معاوية سيغني الله عنك قال أما إلى اليوم فلم يغن فدعا معاوية عمرا فأمره بالخروج إلى الأشتر فقال أما إني لا أقول لك ما قال مروان قال و كيف نقوله و قد قدمتك و أخرته و أدخلتك و أخرجته قال أما و الله إن كنت فعلت لقد قدمتني كافيا و أدخلتني ناصحا و قد أكثر القوم عليك في أمر مصر و إن كان لا يرضيهم إلا رجوعك فيما وثقت لي به منها فارجع فيه ثم قام فخرج في تلك الخيل فلقيه الأشتر أمام القوم و قد علم أنه سيلقاه و هو يرتجز و يقول
- يا ليت شعري كيف لي بعمرو ذاك الذي أوجبت فيه نذري
- ذاك الذي أطلبه بوتري ذاك الذي فيه شفاء صدري
- من بائعي يوما بكل عمري يعلي به عند اللقاء قدري
- أجعله فيه طعام النسر أو لا فربي عاذري بعذري
فلما سمع عمرو هذا الرجز فشل و جبن و استحيا أن يرجع و أقبل نحو الصوت و قال
- يا ليت شعري كيف لي بمالك كم كاهل جببته و حارك
- و فارس قتلته و فاتك و مقدم آب بوجه حالك
ما زلت دهري عرضة المهالك
فغشيه الأشتر بالرمح فراغ عمرو عنه فلم يصنع الرمح شيئا و لوى عمرو عنان فرسه و جعل يده على وجهه و جعل يرجع راكضا نحو عسكره فنادى غلام من يحصب يا عمرو عليك العفاء ما هبت الصبا يا آل حمير إنا لكم ما كان معكم هاتوا اللواء فأخذه و تقدم و كان غلاما حدثا فقال
- إن يك عمرو قد علاه الأشتر بأسمر فيه سنان أزهر
- فذاك و الله لعمري مفخر يا عمرو تكفيك الطعان حمير
- و اليحصبي بالطعان أمهر دون اللواء اليوم موت أحمر
فنادى الأشتر ابنه إبراهيم خذ اللواء فغلام لغلام و تقدم فأخذ إبراهيم اللواء و قال
- يا أيها السائل عني لا ترع أقدم فإني من عرانين النخع
- كيف ترى طعن العراقي الجذع أطير في يوم الوغى و لا أفع
- ما ساءكم سر و ما ضر نفع أعددت ذا اليوم لهول المطلع
و يحمل على الحميري فالتقاه الحميري بلوائه و رمحه فلم يبرحا يطعن كل واحد منهما صاحبه حتى سقط الحميري قتيلا و شمت مروان بعمرو و غضب القحطانيون على معاوية و قالوا تولى علينا من لا يقاتل معنا ول رجلا منا و إلا فلا حاجة لنا فيك و قال شاعرهم
- معاوي إما تدعنا لعظيمة يلبس من نكرائها الغرض بالحقب
- فول علينا من يحوط ذمارنا من الحميريين الملوك على العرب
- و لا تأمرنا بالتي لا نريدها و لا تجعلنا بالهوى موضع الذنب
- و لا تغضبنا و الحوادث جمة عليك فيفشو اليوم في يحصب الغضب
- فإن لنا حقا عظيما و طاعة و حبا دخيلا في المشاش و في العصب
فقال لهم معاوية و الله لا أولى عليكم بعد هذا اليوم إلا رجلا منكم قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال لما أسرع أهل العراق في أهل الشام قال لهم معاوية هذا يوم تمحيص و إن لهذا اليوم ما بعده و قد أسرعتم في القوم كما أسرعوا فيكم فاصبروا و موتوا كراما و حرض علي ع أصحابه فقام إليه الأصبغ بن نباتة و قال يا أمير المؤمنين قدمني في البقية من الناس فإنك لا تفقد لي اليوم صبرا و لا نصرا أما أهل الشام فقد أصبنا و أما نحن ففينا بعض البقية ائذن لي فأتقدم فقال له تقدم على اسم الله و البركة فتقدم و أخذ الراية و مضى بها و هو يقول
- إن الرجاء بالقنوط يدمغ حتى متى يرجو البقاء الأصبغ
- أ ما ترى أحداث دهر تنبغ فادبغ هواك و الأديم يدبغ
- و الرفق فيما قد تريد أبلغ اليوم شغل و غدا لا تفرغ
فما رجع إلى علي ع حتى خضب سيفه دما و رمحه و كان شيخا ناسكا عابدا و كان إذا لقي القوم بعضهم بعضا يغمد سيفه و كان من ذخائر علي ع ممن قد بايعه على الموت و كان علي ع يضن به عن الحرب و القتال قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال نادى الأشتر يوما أصحابه فقال أ ما من رجل يشري نفسه لله فخرج أثال بن حجل بن عامر المذحجي فنادى بين العسكرين هل من مبارز فدعا معاوية و هو لا يعرفه أباه حجل بن عامر المذحجي فقال دونك الرجل قال و كان مستبصرين في رأيهما فبرز كل واحد منهما إلى صاحبه فبدره بطعنة و طعنه الغلام و انتسبا فإذا هو ابنه فنزلا فاعتنق كل واحد منهما صاحبه و بكيا فقال له الأب يا بني هلم إلى الدنيا فقال له الغلام يا أبي هلم إلى الآخرة ثم قال يا أبت و الله لو كان من رأيي الانصراف إلى أهل الشام لوجب عليك أن يكون من رأيك لي أن تنهاني وا سوأتاه فما ذا أقول لعلي و للمؤمنين الصالحين كن على ما أنت عليه و أنا على ما أنا عليه فانصرف حجل إلى صف الشام و انصرف ابنه أثال إلى أهل العراق فخبر كل واحد منهما أصحابه و قال في ذلك حجل
- إن حجل بن عامر و أثالا أصبحا يضربان في الأمثال
- أقبل الفارس المدجج في النقع أثال يدعو يريد نزالي
- دون أهل العراق يخطر كالفحل على ظهر هيكل ذيال
- فدعاني له ابن هند و ما زال قليلا في صحبة أمثالي
- فتناولته ببادرة الرمح و أهوى بأسمر عسال
- فأطعنا و ذاك من حدث الدهر عظيم فتى لشيخ بجال
- شاجرا بالقناة صدر أبيه و عزيز علي طعن أثال
- لا أبالي حين اعترضت أثالا و أثال كذاك ليس يبالي
- فافترقنا على السلامة و النفس يقيها مؤخر الآجال
- لا يراني على الهدى و أراه من هداي على سبيل ضلال
فلما انتهى شعره إلى أهل العراق قال أثال ابنه مجيبا له
- إن طعني وسط العجاجة حجلا لم يكن في الذي نويت عقوقا
- كنت أرجو به الثواب من الله و كوني مع النبي رفيقا
- لم أزل أنصر العراق على الشام أراني بفعل ذاك حقيقا
- قال أهل العراق إذ عظم الخطب و نق المبارزون نقيقا
- من فتى يسلك الطريق إلى الله فكنت الذي سلكت الطريقا
- حاسر الرأس لا أريد سوى الموت أرى الأعظم الجليل دقيقا
- فإذا فارس تقحم في الروع خدبا مثل السحوق عتيقا
- فبداني حجل ببادرة الطعن و ما كنت قبلها مسبوقا
- فتلقيته بعالية الرمح كلانا يطاول العيوقا
- أحمد الله ذا الجلالة و القدرة حمدا يزيدني توفيقا
- إذ كففت السنان عنه و لم أدن قتيلا منه و لا ثغروقا
- قلت للشيخ لست أكفر نعماك لطيف الغذاء و التفنيقا
- غير أني أخاف أن تدخل النار فلا تعصني و كن لي رفيقا
- و كذا قال لي فغرب تغريبا و شرقت راجعا تشريقا
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر بالإسناد المذكور أن معاوية دعا النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري و مسلمة بن مخلد الأنصاري و لم يكن معه من الأنصار غيرهما فقال يا هذان لقد غمني ما لقيت من الأوس و الخزرج واضعي سيوفهم على عواتقهم يدعون إلى النزال حتى لقد جبنوا أصحابي الشجاع منهم و الجبان و حتى و الله ما أسأل عن فارس من أهل الشام إلا قيل قتله الأنصار أما و الله لألقينهم بحدي و حديدي و لأعبين لكل فارس منهم فارسا ينشب في حلقه و لأرمينهم بأعدادهم من قريش رجال لم يغذهم التمر و الطفيشل يقولون نحن الأنصار قد و الله آووا و نصروا و لكن أفسدوا حقهم بباطلهم فغضب النعمان و قال يا معاوية لا تلومن الأنصار في حب الحرب و السرعة نحوها فإنهم كذلك كانوا في الجاهلية و أما دعاؤهم إلى النزال فقد رأيتهم مع رسول الله ص يفعلون ذلك كثيرا و أما لقاؤك إياهم في أعدادهم من قريش فقد علمت ما لقيت قريش منهم قديما فإن أحببت أن ترى فيهم مثل ذلك آنفا فافعل و أما التمر و الطفيشل فإن التمر كان لنا فلما ذقتموه شاركتمونا فيه و أما الطفيشل فكان لليهود فلما أكلناه غلبناهم عليه كما غلبت قريش على السخينة ثم تكلم مسلمة بن مخلد فقال يا معاوية إن الأنصار لا تعاب أحسابها و لا نجداتها و أما غمهم إياك فقد و الله غمونا و لو رضينا ما فارقونا و لا فارقنا جماعتهم و إن في ذلك ما فيه من مباينة العشيرة و لكنا حملنا ذلك لك و رجونا منك عوضه و أما التمر و الطفيشل فإنهما يجران عليك السخينة و الخرنوب قال و انتهى هذا الكلام إلى الأنصار فجمع قيس بن سعد الأنصار ثم قام فيهم خطيبا فقال إن معاوية قال ما بلغكم و أجابه عنكم صاحباكم و لعمري إن غظتم معاوية اليوم لقد غظتموه أمس و إن وترتموه في الإسلام فلقد وترتموه في الشرك و ما لكم إليه من ذنب أعظم من نصر هذا الدين فجدوا اليوم جدا تنسونه به ما كان أمس و جدوا غدا جدا تنسونه به ما كان اليوم فأنتم مع هذا اللواء الذي كان يقاتل عن يمينه جبريل و عن يساره ميكائيل و القوم مع لواء أبي جهل و الأحزاب فأما التمر فإنا لم نغرسه و لكن غلبنا عليه من غرسه و أما الطفيشل فلو كان طعامنا لسمينا به كما سميت قريش بسخينة ثم قال سعد في ذلك
- يا ابن هند دع التوثب في الحرب إذا نحن بالجياد سرينا
- نحن من قد علمت فادن إذا شئت بمن شئت في العجاج إلينا
- إن تشأ فارس له فارس منا و إن شئت باللفيف التقينا
- أي هذين ما أردت فخذه ليس منا و ليس منك الهوينى
- ثم لا نسلخ العجاجة حتى تنجلي حربنا لنا أو علينا
- ليت ما تطلب الغداة أتانا أنعم الله بالشهادة عينا
فلما أتى شعره و كلامه معاوية دعا عمرو بن العاص فقال ما ترى في شتم الأنصار قال أرى أن توعدهم و لا تشتمهم ما عسى أن تقول لهم إذا أردت ذمهم فذم أبدانهم و لا تذم أحسابهم فقال إن قيس بن سعد يقوم كل يوم خطيبا و أظنه و الله يفنينا غدا إن لم يحبسه عنا حابس الفيل فما الرأي قال الصبر و التوكل و أرسل إلى رءوس الأنصار مع علي فعاتبهم و أمرهم أن يعاتبوه فأرسل معاوية إلى أبي مسعود و البراء بن عازب و خزيمة بن ثابت و الحجاج بن غزية و أبي أيوب فعاتبهم فمشوا إلى قيس بن سعد و قالوا له إن معاوية لا يحب الشتم فكف عن شتمه فقال إن مثلي لا يشتم و لكني لا أكف عن حربه حتى ألقى الله قال و تحركت الخيل غدوة فظن قيس أن فيها معاوية فحمل على رجل يشبهه فضربه بالسيف فإذا هو ليس به ثم حمل على آخر يشبهه أيضا فقنعه بالسيف فلما تحاجز الفريقان شتمه معاوية شتما قبيحا و شتم الأنصار فغضب النعمان و مسلمة فأرضاهما بعد أن هما أن ينصرفا إلى قومهما ثم إن معاوية سأل النعمان أن يخرج إلى قيس فيعاتبه و يسأله السلم فخرج النعمان فوقف بين الصفين و نادى يا قيس بن سعد أنا النعمان بن بشير فخرج إليه و قال هيه يا نعمان ما حاجتك قال يا قيس إنه قد أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه يا معشر الأنصار إنكم أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار و قتلتم أنصاره يوم الجمل و أقحمتم خيولكم على أهل الشام بصفين فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليا لكانت واحدة بواحدة و لكنكم لم ترضوا أن تكونوا كالناس حتى أعلمتم في الحرب و دعوتم إلى البراز ثم لم ينزل بعلي حطب قط إلا هونتم عليه المصيبة و وعدتموه الظفر و قد أخذت الحرب منا و منكم ما قد رأيتم فاتقوا الله في البقية فضحك قيس و قال ما كنت أظنك يا نعمان محتويا على هذه المقالة إنه لا ينصح أخاه من غش نفسه و أنت الغاش الضال المضل أما ذكرك عثمان فإن كانت الأخبار تكفيك فخذ مني واحدة قتل عثمان من لست خيرا منه و خذله من هو خير منك و أما أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث و أما معاوية فو الله لو اجتمعت عليه العرب قاطبة لقاتلته الأنصار و أما قولك إنا لسنا كالناس فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله نتقي السيوف بوجوهنا و الرماح بنحورنا حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم كارهون و لكن انظر يا نعمان هل ترى مع معاوية إلا طليقا أو أعرابيا أو يمانيا مستدرجا بغرور انظر أين المهاجرون و الأنصار و التابعون لهم بإحسان الذين رضي الله عنهم و رضوا عنه ثم انظر هل ترى مع معاوية أنصاريا غيرك و غير صويحبك و لستما و الله ببدريين و لا عقبيين و لا أحديين و لا لكما سابقة في الإسلام و لا آية في القرآن و لعمري لئن شغبت علينا لقد شغب علينا أبوك قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب قال كان فارس أهل الشام الذي لا ينازع عوف بن مجزأة المرادي المكنى أبا أحمر و كان فارس أهل الكوفة العكبر بن جدير الأسدي فقام العكبر إلى علي ع و كان منطيقا فقال يا أمير المؤمنين إن في أيدينا عهدا من الله لا نحتاج فيه إلى الناس قد ظننا بأهل الشام الصبر و ظنوا بنا فصبرنا و صبروا و قد عجبت من صبر أهل الدنيا لأهل الآخرة و صبر أهل الحق على أهل الباطل و رغبة أهل الدنيا ثم قرأت آية من كتاب الله فعلمت أنهم مفتونون الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ فقال له ع خيرا و خرج الناس إلى مصافهم و خرج عوف بن مجزأة المرادي نادرا من الناس و كذا كان يصنع و قد كان قتل نفرا من أهل العراق مبارزة فنادى يا أهل العراق هل من رجل عصاه سيفه يبارزني و لا أغركم من نفسي أنا عوف بن مجزأة فنادى الناس بالعكبر فخرج إليه منقطعا عن أصحابه ليبارزه فقال عوف
- بالشام أمن ليس فيه خوف بالشام عدل ليس فيه حيف
- بالشام جود ليس فيه سوف أنا ابن مجزاة و اسمي عوف
- هل من عراقي عصاه سيف يبرز لي و كيف لي و كيف
فقال له العكبر
- الشام محل و العراق ممطر بها إمام طاهر مطهر
- و الشام فيها أعور و معور أنا العراقي و اسمي عكبر
- ابن جدير و أبوه المنذر ادن فإني في البراز قسور
فاطعنا فصرعه العكبر و قتله و معاوية على التل في وجوه قريش و نفر قليل من الناس فوجه العكبر فرسه يملأ فروجه ركضا و يضربه بالسوط مسرعا نحو التل فنظر معاوية إليه فقال هذا الرجل مغلوب على عقله أو مستأمن فاسألوه فأتاه رجل و هو في حمو فرسه فناداه فلم يجبه و مضى مبادرا حتى انتهى إلى معاوية فجعل يطعن في أعراض الخيل و رجا أن ينفرد بمعاوية فيقتله فاستقبله رجال قتل منهم قوما و حال الباقون بينه و بين معاوية بسيوفهم و رماحهم فلما لم يصل إليه قال أولى لك يا ابن هند أنا الغلام الأسدي و رجع إلى صف العراق و لم يكلم فقال له علي ع ما دعاك إلى ما صنعت لا تلق نفسك إلى التهلكة قال يا أمير المؤمنين أردت غرة ابن هند فحيل بيني و بينه و كان العكبر شاعرا فقال
- قتلت المرادي الذي كان باغيا ينادي و قد ثار العجاج نزال
- يقول أنا عوف بن مجزاة و المنى لقاء ابن مجزاة بيوم قتال
- فقلت له لما علا القوم صوته منيت بمشبوح اليدين طوال
- فأوجرته في ملتقى الحرب صعدة ملأت بها رعبا صدور رجال
- فغادرته يكبو صريعا لوجهه ينوء مرارا في مكر مجال
- و قدمت مهري راكضا نحو صفهم أصرفه في جريه بشمالي
- أريد به التل الذي فوق رأسه معاوية الجاني لكل خبال
- فقام رجال دونه بسيوفهم و قام رجال دونه بعوالي
- فلو نلته نلت التي ليس بعدها و فزت بذكر صالح و فعال
- و لو مت في نيل المنى ألف موتة لقلت إذا ما مت لست أبالي
قال فانكسر أهل الشام لقتل عوف المرادي و هدر معاوية دم العكبر فقال العكبر يد الله فوق يده فأين الله جل جلاله و دفاعه عن المؤمنين قال نصر و روى عمر بن سعد عن الحارث بن حصين عن أبي الكنود قال جزع أهل الشام على قتلاهم جزعا شديدا و قال معاوية بن خديج قبح الله ملكا يملكه المرء بعد حوشب و ذي الكلاع و الله لو ظفرنا بأهل الدنيا بعد قتلهما بغير مئونة ما كان ظفرا و قال يزيد بن أسد لمعاوية لا خير في أمر لا يشبه آخره أوله لا يدمى جريح و لا يبكى قتيل حتى تنجلي هذه الفتنة فإن يكن الأمر لك أدميت و بكيت على قرار و إن يكن لغيرك فما أصبت به أعظم فقال معاوية يا أهل الشام ما جعلكم أحق بالجزع على قتلاكم من أهل العراق على قتلاهم و الله ما ذو الكلاع فيكم بأعظم من عمار بن ياسر فيهم و لا حوشب فيكم بأعظم من هاشم فيهم و ما عبيد الله بن عمر فيكم بأعظم من ابن بديل فيهم و ما الرجال إلا أشباه و ما التمحيص إلا من عند الله فأبشروا فإن الله قد قتل من القوم ثلاثة قتل عمارا و كان فتاهم و قتل هاشما و كان حمزتهم و قتل ابن بديل و هو الذي فعل الأفاعيل و بقي الأشتر و الأشعث و عدي بن حاتم فأما الأشعث فإنما حمى عنه مصره و أما الأشتر و عدي فغضبا و الله للفتنة أقاتلهما غدا إن شاء الله تعالى فقال معاوية بن خديج إن يكن الرجال عندك أشباها فليست عندنا كذلك و غضب و قال شاعر اليمن يرثي ذا الكلاع و حوشبا
- معاوي قد نلنا و نيلت سراتنا و جدع أحياء الكلاع و يحصب
- فذو كلع لا يبعد الله داره و كل يمان قد أصيب بحوشب
- هما ما هما كانا معاوي عصمة متى قلت كانا عصمة لا أكذب
- و لو قبلت في هالك بذل فدية فديتهما بالنفس و الأم و الأب
و روى نصر عن عمر بن سعد عن عبيد الرحمن بن كعب قال لما قتل عبد الله بن بديل يوم صفين مر به الأسود بن طهمان الخزاعي و هو بآخر رمق فقال له عز علي و الله مصرعك أما و الله لو شهدتك لآسيتك و لدافعت عنك و لو رأيت الذي أشعرك لأحببت ألا أزايله و لا يزايلني حتى أقتله أو يلحقني بك ثم نزل إليه فقال رحمك الله يا عبد الله و الله إن كان جارك ليأمن بوائقك و إن كنت لمن الذاكرين الله كثيرا أوصني رحمك الله قال أوصيك بتقوى الله و أن تناصح أمير المؤمنين و تقاتل معه حتى يظهر الحق أو تلحق بالله و أبلغ أمير المؤمنين عني السلام و قل له قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك فإنه من أصبح و المعركة خلف ظهره كان الغالب ثم لم يلبث أن مات فأقبل أبو الأسود إلى علي ع فأخبره فقال رحمه الله جاهد معنا عدونا في الحياة و نصح لنا في الوفاة قال نصر و قد روي نحو هذا عن عبد الرحمن بن كلدة حدثني محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بحر عن عبد الرحمن بن حاطب قال خرجت التمس أخي سويدا في قتلى صفين فإذا رجل صريع في القتلى قد أخذ بثوبي فالتفت فإذا هو عبد الرحمن بن كلدة فقلت إنا لله و إنا إليه راجعون هل لك في الماء و معي إداوة فقال لا حاجة لي فيه قد أنفذ في السلاح و خرقني فلست أقدر على الشراب هل أنت مبلغ عني أمير المؤمنين رسالة أرسلك بها قلت نعم قال إذا رأيته فاقرأ عليه السلام و قل له يا أمير المؤمنين احمل جرحاك إلى عسكرك حتى تجعلهم من وراء ظهرك فإن الغلبة لمن فعل ذلك ثم لم أبرح حتى مات فخرجت حتى أتيت أمير المؤمنين ع فقلت له إن عبد الرحمن بن كلدة يقرأ عليك السلام قال و أين هو قلت وجدته و قد أنفذه السلاح و خرقه فلم يستطع شرب الماء و لم أبرح حتى مات فاسترجع ع فقلت قد أرسلني إليك برسالة قال و ما هي قلت إنه يقول احمل جرحاك إلى عسكرك و اجعلهم وراء ظهرك فإن الغلبة لمن فعل ذلك فقال صدق فنادى مناديه في العسكر أن احملوا جرحاكم من بين القتلى إلى معسكركم ففعلوا قال نصر و حدثني عمرو بن شمر عن جابر عن عامر عن صعصعة بن صوحان أن أبرهة بن الصباح الحميري قام بصفين فقال ويحكم يا معشر أهل اليمن إني لأظن الله قد أذن بفنائكم ويحكم خلوا بين الرجلين فليقتتلا فأيهما قتل صاحبه ملنا معه جميعا و كان أبرهة من رؤساء أصحاب معاوية فبلغ قوله عليا ع فقال صدق أبرهة و الله ما سمعت بخطبة منذ وردت الشام أنا بها أشد سرورا مني بهذه الخطبة قال و بلغ معاوية كلام أبرهة فتأخر آخر الصفوف و قال لمن حوله إني لأظن أبرهة مصابا في عقله فأقبل أهل الشام يقولون و الله إن أبرهة لأكملنا دينا و عقلا و رأيا و بأسا و لكن الأمير كره مبارزة علي و سمع ما دار من الكلام أبو داود عروة بن داود العامري و كان من فرسان معاوية فقال إن كان معاوية كره مبارزة أبي حسن فأنا أبارزه ثم خرج بين الصفين فنادى أنا أبو داود فابرز إلي يا أبا حسن فتقدم علي ع نحوه فناداه الناس ارجع يا أمير المؤمنين عن هذا الكلب فليس لك بخطر فقال و الله ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه دعوني و إياه ثم حمل عليه فضربه فقطعه قطعتين سقطت إحداهما يمنية و الأخرى شامية فارتج العسكران لهول الضربة و صرخ ابن عم لأبي داود وا سوء صباحاه و قبح الله البقاء بعد أبي داود و حمل على علي ع فطعنه فضرب الرمح فبرأه ثم قنعه ضربة فألحقه بأبي داود و معاوية واقف على التل يبصر و يشاهد فقال تبا لهذه الرجال و قبحا أ ما فيهم من يقتل هذا مبارزة أو غيلة أو في اختلاط الفيلق و ثوران النقع فقال الوليد بن عقبة ابرز إليه أنت فإنك أولى الناس بمبارزته فقال و الله لقد دعاني إلى البراز حتى لقد استحييت من قريش و إني و الله لا أبرز إليه ما جعل العسكر بين يدي الرئيس إلا وقاية له فقال عتبة بن أبي سفيان الهوا عن هذا كأنكم لم تسمعوا نداءه فقد علمتم أنه قتل حريثا و فضح عمرا و لا أرى أحدا يتحكك به إلا قتله فقال معاوية لبسر بن أرطاة أ تقوم لمبارزته فقال ما أحد أحق بها منك أما إذ بيتموه فأنا له قال معاوية إنك ستلقاه غدا في أول الخيل و كان عند بسر ابن عم له قدم من الحجاز يخطب ابنته فأتى بسرا فقال له إني سمعت أنك وعدت من نفسك أن تبارز عليا أ ما تعلم أن الوالي من بعد معاوية عتبة ثم بعده محمد أخوه و كل من هؤلاء قرن علي فما يدعوك إلى ما أرى قال الحياء خرج مني كلام فأنا أستحيي أن أرجع عنه فضحك الغلام و قال
- تنازله يا بسر إن كنت مثله و إلا فإن الليث للشاء آكل
- كأنك يا بسر بن أرطاة جاهل بآثاره في الحرب أو متجاهل
- معاوية الوالي و صنواه بعده و ليس سواء مستعار و ثاكل
- أولئك هم أولى به منك إنه علي فلا تقربه أمك هابل
- متى تلقه فالموت في رأس رمحه و في سيفه شغل لنفسك شاغل
- و ما بعده في آخر الخيل عاطف و لا قبله في أول الخيل حامل
فقال بسر هل هو إلا الموت لا بد من لقاء الله فغدا علي ع منقطعا من خيله و يده في يد الأشتر و هما يتسايران رويدا يطلبان التل ليقفا عليه إذ برز له بسر مقنعا في الحديد لا يعرف فناداه أبرز إلي أبا حسن فانحدر إليه على تؤدة غير مكترث به حتى إذا قاربه طعنه و هو دارع فألقاه إلى الأرض و منع الدرع السنان أن يصل إليه فاتقاه بسر بعورته و قصد أن يكشفها يستدفع بأسه فانصرف عنه ع مستدبرا له فعرفه الأشتر حين سقط فقال يا أمير المؤمنين هذا بسر بن أرطاة هذا عدو الله و عدوك فقال دعه عليه لعنة الله أ بعد أن فعلها فحمل ابن عم بسر من أهل الشام شاب على علي ع و قال
- أرديت بسرا و الغلام ثائره أرديت شيخا غاب عنه ناصره
و كلنا حام لبسر واتره
- فلم يلتفت إليه علي ع و تلقاه الأشتر فقال له
- في كل يوم رجل شيخ شاغره و عورة وسط العجاج ظاهره
- تبرزها طعنة كف واتره عمرو و بسر منيا بالفاقره
فطعنه الأشتر فكسر صلبه و قام بسر من طعنة علي ع موليا و فرت خيله و ناداه علي ع يا بسر معاوية كان أحق بها منك فرجع بسر إلى معاوية فقال له معاوية ارفع طرفك فقد أدال الله عمرا منك قال الشاعر في ذلك
- أ في كل يوم فارس تندبونه له عورة تحت العجاجة باديه
- يكف بها عنه علي سنانه و يضحك منها في الخلاء معاويه
- بدت أمس من عمرو فقنع رأسه و عورة بسر مثلها حذو حاذيه
- فقولا لعمرو و ابن أرطاة أبصرا سبيليكما لا تلقيا الليث ثانيه
- و لا تحمدا إلا الحيا و خصاكما هما كانتا للنفس و الله واقيه
- فلولاهما لم تنجوا من سنانه و تلك بما فيها عن العود ناهيه
- متى تلقيا الخيل المغيرة صبحة و فيها علي فاتركا الخيل ناحيه
- و كونا بعيدا حيث لا تبلغ القنا و نار الوغى إن التجارب كافيه
- و إن كان منه بعد للنفس حاجة فعودا إلى ما شئتما هي ما هيه
قال فكان بسر بعد ذلك اليوم إذا لقي الخيل التي فيها علي ينتحي ناحية و تحامى فرسان الشام بعدها عليا ع قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الأجلح بن عبد الله الكندي عن أبي جحيفة قال جمع معاوية كل قرشي بالشام و قال لهم العجب يا معشر قريش أنه ليس لأحد منكم في هذه الحرب فعال يطول بها لسانه غدا ما عدا عمرا فما بالكم أين حمية قريش فغضب الوليد بن عقبه و قال أي فعال تريد و الله ما نعرف في أكفائنا من قريش العراق من يغني غناءنا باللسان و لا باليد فقال معاوية بلى إن أولئك وقوا عليا بأنفسهم قال الوليد كلا بل وقاهم علي بنفسه قال ويحكم أ ما فيكم من يقوم لقرنه منهم مبارزة و مفاخرة فقال مروان أما البراز فإن عليا لا يأذن لحسن و لا لحسين و لا لمحمد بنيه فيه و لا لابن عباس و إخوته و يصلى بالحرب دونهم فلأيهم نبارز و أما المفاخرة فبما ذا نفاخرهم بالإسلام أم بالجاهلية فإن كان بالإسلام فالفخر لهم بالنبوة و إن كان بالجاهلية فالملك فيه لليمن فإن قلنا قريش قالوا لنا عبد المطلب فقال عتبة بن أبي سفيان الهوا عن هذا فإني لاق بالغداة جعدة بن هبيرة فقال معاوية بخ بخ قومه بنو مخزوم و أمه أم هانئ بنت أبي طالب كف ء كريم و كثر العتاب و الخصام بين القوم حتى أغلظوا لمروان و أغلظ لهم فقال مروان أما و الله لو لا ما كان مني إلى علي ع في أيام عثمان و مشهدي بالبصرة لكان لي في علي رأي يكفي امرأ ذا حسب و دين و لكن و لعل و نابذ معاوية الوليد بن عقبة دون القوم فأغلظ له الوليد فقال معاوية إنك إنما تجترئ علي بنسبك من عثمان و لقد ضربك الحد و عزلك عن الكوفة ثم إنهم ما أمسوا حتى اصطلحوا و أرضاهم معاوية من نفسه و وصلهم بأموال جليلة و بعث معاوية إلى عتبة فقال ما أنت صانع في جعدة قال ألقاه اليوم و أقاتله غدا و كان لجعدة في قريش شرف عظيم و كان له لسان و كان من أحب الناس إلى علي ع فغدا عليه عتبة فنادى أبا جعدة أبا جعدة فاستأذن عليا ع في الخروج إليه فأذن له و اجتمع الناس فقال عتبة يا جعدة و الله ما أخرجك علينا إلا حب خالك و عمك عامل البحرين و إنا و الله ما نزعم أن معاوية أحق بالخلافة من علي لو لا أمره في عثمان و لكن معاوية أحق بالشام لرضا أهلها به فاعفوا لنا عنها فو الله ما بالشام رجل به طرق إلا و هو أجد من معاوية في القتال و ليس بالعراق رجل له مثل جد علي في الحرب و نحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم و ما أقبح بعلي أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس بالناس حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب فقال جعدة أما حبي لخالي فلو كان لك خال مثله لنسيت أباك و أما ابن أبي سلمة فلم يصب أعظم من قدره و الجهاد أحب إلي من العمل و أما فضل علي على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه اثنان و أما رضاكم اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس فلم نقبل و أما قولك ليس بالشام أحد إلا و هو أجد من معاوية و ليس بالعراق رجل مثل جد علي فهكذا ينبغي أن يكون مضى بعلي يقينه و قصر بمعاوية شكه و قصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل و أما قولك نحن أطوع لمعاوية منكم لعلي فو الله ما نسأله إن سكت و لا نرد عليه إن قال و أما قتل العرب فإن الله كتب القتل و القتال فمن قتله الحق فإلى الله فغضب عتبة و فحش على جعدة فلم يجبه و أعرض عنه فلما انصرف عنه جمع خيله فلم يستبق منها شيئا و جل أصحابه السكون و الأزد و الصدف و تهيأ جعدة بما استطاع و التقوا فصبر القوم جميعا و باشر جعدة يومئذ القتال بنفسه و جزع عتبة فأسلم خيله و أسرع هاربا إلى معاوية فقال له فضحك جعدة و هزمتك لا تغسل رأسك منها أبدا فقال و الله لقد أعذرت و لكن أبى الله أن يديلنا منهم فما أصنع و حظي جعدة بعدها عند علي ع و قال النجاشي فيما كان من فحش عتبة على جعدة
- إن شتم الكريم يا عتب خطبفاعلمنه من الخطوب عظيم
- أمه أم هانئ و أبوهمن معد و من لؤي صميم
- ذاك منها هبيرة بن أبي وهبأقرت بفضا مخزوم
- كان في حربكم يعد بألفحين يلقى بها القروم القروم
- و ابنه جعدة الخليفة منههكذا تنبت الفروع الأروم
- كل شي ء تريده فهو فيهحسب ثاقب و دين قويم
- و خطيب إذا تمعرت الأوجهيشجى به الألد الخصيم
- و حليم إذا الحبي حلها الجهلو خفت من الرجال الحلوم
- و شكيم الحروب قد علم الناسإذا حل في الحروب الشكيم
- و صحيح الأديم من نغل العيبإذا كان لا يصح الأديم
- حامل للعظيم في طلب الحمدإذا عظم الصغير اللئيم
- ما عسى أن تقول للذهب الأحمرعيبا هيهات منك النجوم
- كل هذا بحمد ربك فيهو سوى ذاك كان و هو فطيم
- و قال الأعور الشني في ذلكيخاطب عتبة بن أبي سفيان
- ما زلت تظهر في عطفيك أبهةلا يرفع الطرف منك التيه و الصلف
- لا تحسب القوم إلا فقع قرقرةأو شحمة بزها شاو لها نطف
- حتى لقيت ابن مخزوم و أي فتىأحيا مآثر آباء له سلفوا
- إن كان رهط أبي وهب جحاجحةفي الأولين فهذا منهم خلف
- أشجاك جعدة إذ نادى فوارسهحاموا عن الدين و الدنيا فما وقفوا
- هلا عطفت على قوم بمصرعةفيها السكون و فيها الأزد و الصدف
قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال كان رجل من أهل الشام يقال له الأصبغ بن ضرار الأزدي من مسالح معاوية و طلائعه فندب له علي ع الأشتر فأخذه أسيرا من غير قتال فجاء به ليلا فشده وثاقا و ألقاه عند أصحابه ينتظر به الصباح و كان الأصبغ شاعرا مفوها فأيقن بالقتل و نام أصحابه فرفع صوته فأسمع الأشتر و قال
- ألا ليت هذا الليل أصبح سرمدا على الناس لا يأتيهم بنهار
- يكون كذا حتى القيامة إننيأحاذر في الإصباح يوم بواري
- فيا ليل أطبق إن في الليل راحةو في الصبح قتلي أو فكاك إساري
- و لو كنت تحت الأرض ستين واديالما رد عني ما أخاف حذاري
- فيا نفس مهلا إن للموت غاية فصبرا على ما ناب يا ابن ضرار
- أ أخشى و لي في القوم رحم قريبةأبى الله أن أخشى و مالك جاري
- و لو أنه كان الأسير ببلدةأطاع بها شمرت ذيل إزاري
- و لو كنت جار الأشعث الخير فكني و قل من الأمر المخوف فراري
- و جار سعيد أو عدي بن حاتم و جار شريح الخير قر قراري
- و جار المرادي الكريم و هانئ و زحر بن قيس ما كرهت نهاري
- و لو أنني كنت الأسير لبعضهمدعوت فتى منهم ففك إساري
- أولئك قومي لا عدمت حياتهم و عفوهم عني و ستر عواري
قال فغدا به الأشتر إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إن هذا رجل من مسالح معاوية أصبته أمس و بات عندنا الليل فحركنا بشعره و له رحم فإن كان فيه القتل فاقتله و إن ساغ لك العفو عنه فهبه لنا فقال هو لك يا مالك و إذا أصبت منهم أسيرا فلا تقتله فإن أسير أهل القبلة لا يقتل فرجع به الأشتر إلى منزله و خلى سبيله
|