و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الثالثة و الثلاثون من المختار في باب الخطب
و شرحها فى فصلين:
الفصل الاول
و انقادت له الدّنيا و الآخرة بأزمّتها، و قذفت إليه السّموات و الأرضون مقاليدها، و سجدت له بالغدوّ و الآصال الأشجار النّاضرة، و قدحت له من قضبانها النيران المضيئة، و آتت أكلها بكلماته الثّمار اليانعة.
اللغة
(المقاليد) جمع المقلاد و هو كالمقلد بكسر الميم المفتاح، و في المصباح المقاليد الخزائن و (قدح) بالزّند رام الايراء«» به و المقدح و المقداح و القداح حديدته و (القضبان) بالضمّ جمع القضيب و هو الغصن المقطوع و (النّيران) جمع النّار و (الاكل) بالضمّ و بضمّتين المأكول
الاعراب
الباء في قوله: بالغدوّ، بمعنى في، و في قوله: بكلماته، للسّببيّة، و الثمار اليانعة، بدل من أكلها، أو عطف بيان
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة يدور على فصول ثلاثة على سبيل التّقطيع و الالتقاط.
الفصل الاول في تمجيد اللّه سبحانه باعتبار عموم قدرته و نفاذ أمره و عظمة سلطانه
و هو قوله (و انقادت له) أى للّه تعالى السّابق ذكره في أوّل الخطبة أسقطه السيّد (ره) على عادته (الدّنيا و الآخرة بأزمّتها) أراد به نفوذ أمره سبحانه فيهما و كونه مالكا لأمرهما و دخولهما في ذلّ الامكان و الافتقار إليه تعالى على سبيل الاستعارة بالكناية، تشبيها لهما بالحيوان السّلس المنقاد لصاحبه الذي بيده زمامه المتمكّن من التّصرف فيه كيف شاء، و ذكر الأزمّة تخييل و الانقياد ترشيح.
(و قذفت) أى ألقت (إليه السّماوات و الأرضون مقاليدها) و هو كناية عن قدرته و حفظه لها و أنّه لا يملك أمرها و لا يتمكّن من التّصرف فيها غيره، و هو اقتباس من قوله سبحانه في سورة الزّمر: له مقاليد السّموات و الأرض، قال الزّمخشري: أي هو مالك أمرها و حافظها، و هى من باب الكناية«» لأنّ حافظ الخزائن و مدبّر أمرها هو الّذي يملك مقاليدها، و منه قولهم: فلان القيت إليه مقاليد الملك، و هى المفاتيح، و في مجمع البيان يريد مفاتيح السّموات و الأرض بالرّزق و الرّحمة عن ابن عبّاس و قتادة، و قيل خزائن السّموات و الأرض يفتح الرّزق على من يشاء و يغلقه عمّن يشاء عن الضّحاك، و قال في تفسير قوله: له مقاليد السّموات و الأرض يبسط الرّزق لمن يشاء و يقدر انّه بكلّ شي ء عليم في سورة الشورى: أى مفاتيح أرزاق السّماوات و الأرض و أسبابها فتمطر السّماء بأمره و تنبت الأرض باذنه عن مجاهد، و قيل معناه خزائن السّماوات و الأرض عن السّدي يوسّع الرّزق لمن يشاء و يضيق على من يشاء على ما يعلمه من المصالح.
قال الشّارح البحراني (ره) بعد ما حكى عن ابن عبّاس كون المقاليد بمعنى المفاتيح: و عن اللّيث كونه بمعنى الخزائن: أقول: لفظ القذف مجاز«» في تسليمها و انقيادها بزمام الحاجة و الامكان إلى قدرته مع جميع ما هى سبب في وجوده في هذا العالم ممّا هو رزق و رحمة للخلق و كذلك لفظ المفاتيح على رأى ابن عبّاس استعارة للأسباب المعدّة للأرزاق و الرّحمة، و تلك الأسباب كحركات السّماوات و اتّصالات بعض الكواكب ببعض و كاستعدادات الأرض للنّبات و غيره، و وجه الاستعارة أنّ هذه الأسباب باعدادها الموادّ الأرضية يفتح بها خزائن الجود الالهي كما يفتح الأبواب المحسوسة بمفاتيحها و كلّها مسلّمة إلى حكمه و جريانها بمشيّته، و على قول اللّيث فلفظ الخزائن استعارة في موادّها و استعداداتها، و وجه الاستعارة أنّ تلك الموادّ و الاستعدادات يكون فيها بالقوّة و الفعل جميع المحدثات من الأرزاق و غيرها كما يكون في الخزائن ما يحتاج إليه انتهى.
و هو تحقيق نفيس إلّا أنّ الأظهر أنّ المقاليد إن جعلت بمعنى المفاتيح يكون كلامه من باب الاستعارة بالكناية، حيث شبّه السّماوات و الأرضون بخزائن الملك بجامع أن فيها ما يحتاج إليه الخلق كما يكون في الخزائن ما يحتاج إليه، و يكون ذكر مقاليدها تخييلا، و ذكر القذف ترشيحا، و في نسبة القذف إليها نكتة خفيّة و هي الاشارة إلى أنّها لتمكينها التام لبارئها فكأنّها باختيارها ألقت و سلّمت مفاتيحها إليه سبحانه، و على هذا فالمقاليد بمعناها الأصلي و ليس استعارة كما زعمه الشارح و أمّا إن جعلت بمعنى الخزائن فهو كما قال الشّارح استعارة لما فيه من الموادّ و الاستعدادت فافهم جيّدا.
(و سجدت له بالغدوّ و الآصال الأشجار النّاضرة) أراد به خضوع التكوين و ذلّ الامكان كما قال سبحانه: أ لم تر أنّ اللّه يسجد له من في السّموات و من في الأرض و الشّمس و القمر و النجوم و الجبال و الشّجر و الدّواب.
(و قدحت له من قضبانها النّيران المضيئة) نسبة القدح إلى الأشجار من باب التوسّع و المجاز العقلي، لكون الأشجار سببا ماديّا، و المراد أنّ تلك الأشجار أورت النّار و استخرجتها من أمر اللّه سبحانه و اقتضاء مشيّته، و فيه إشارة إلى كمال القدرة لأنّ إخراج النّار من الشّجر الأخضر الذي يقطر منه الماء أعجب كما قال تعالى في سورة يس: الّذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فاذا أنتم منه توقدون، و في سورة الواقعة: أ فرأيتم النّار التي تورون ء أنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤن نحن جعلناها تذكرة و متاعا للمقوين.
قال الفخر الرّازي: في شجرة النار وجوه: أحدها أنّها الشّجرة التي تورى النّار منها بالزند و الزّندة كالمرخ.
و ثانيها الشجرة الّتي تصلح لا يقاد النّار فانها لو لم تكن لم يسهل إيقاد النار لأنّ النّار لا تتعلّق بكلّ شي ء كما تتعلّق بالحطب.
و ثالثها اصول شعلها و وقود شجرتها، و لو لا كونها ذات شعل لما صلحت لانضاج الأشياء، و في ذلك تذكرة و متاع للمقوين، أي للّذين يوقدونه فيقوونه و يزيدونه.
(و آتت اكلها بكلماته الثّمار اليانعة) النّاضجة، و المراد بكلماته قدرته و مشيته المعبّر عنهما بلفظ كن، قال الشّارح البحراني: و إطلاق الكلمات عليها استعارة وجهها نفوذ تلك الأحكام في المحكومات كنفوذ الأوامر القوليّة في المأمورات و أراد بايتاء الثّمار دخولها طوعا في الوجود المعبّر عنه بقوله تعالى فيكون.
|