و من كلام له عليه السّلام فيمعنى طلحة و الزبير و هو المأة و السابع و الثلاثون من المختار فى باب الخطب
و الأشبه انّه ملتقط من خطبة طويلة قدّمنا روايتها في شرح الخطبة الثانية و العشرين بطرق عديدة فليتذكّر و اللّه ما أنكروا علىّ منكرا، و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا، و إنّهم ليطلبون حقّا هم تركوه، و دما هم سفكوه، فإن كنت شريكهم فيه فإنّ لهم نصيبهم منه، و إن كانوا ولّوه دوني فما الطّلبة إلّا قبلهم و إنّ أوّل عدلهم للحكم على أنفسهم، و إنّ معى لبصيرتي ما لبّست و لا لبّس علىّ و إنّها للفئة الباغية فيها الحمأ و الحمة و الشّبهة المغدفة، و إنّ الأمر لواضح، و قد راح الباطل عن نصابه، و انقطع لسانه عن شغبه، و أيم اللّه لا فرطنّ لهم حوضا أنا ماتحه، لا يصدرون عنه برىّ، و لا يعبّون بعده في حسى.
اللغة
(النّصف) محرّكة اسم من الانصاف و هو العدل و (الطّلبة) بكسر الّلام المطلوب و (لبّست) بالبناء للفاعل و (لبّس) بالبناء للمفعول، قال الشّارح المعتزلي، و لبّست على فلان الأمر و لبس عليه الأمر كلاهما بالتخفيف و لكنّ الموجود في ما رأيته من النسخ بالتشديد قال الفيروزآبادي: لبس عليه الأمر يلبسه خلطه و ألبسه غطّاه، و أمر ملبس و ملتبس بالأمر مشتبه التّلبيس و التّخليط و التدليس، و قال بعض الشّارحين: التّشديد للتكثير.
و (الحماء) بالتّحريك كالحماة بالتاء الأسود المنتن، قال سبحانه: من صلصال من حماء مسنون، و يروى حما مقصورة، و (الحمة) بضمّ الحاء و فتح الميم و تخفيفها العقرب و كلّشى ء يلسع أو يلدغ و (المغدفة) بفتح الدّال الخفيفة من اغدفت المرأة قناعها أرسلته على وجهها، و عن بعض النّسخ بكسر الدال من أغدف اللّيل إذا أظلم و (النّصاب) الأصل و المرجع.
(و الشّغب) بسكون الغين المعجمة تهييج الشرّ من شغب الحقد شغبا من باب منع و في لغة ضعيفة بالتحريك و ماضيها شغب بالكسر كفرح و (افرطنّ) بضم الهمزة من باب الافعال من أفرطت المزادة أى ملاتها، و يروى بفتح الهمزة و ضمّ الرّاء من فرط زيد القوم أى سبقهم فهو فرط بالتحريك و (الماتح) المستقى من فوق و (العبّ) شرب الماء من غير مصّ أو تتابع الجرع.
(الحسى) في النّسخ بكسر الحاء و سكون السّين قال الشّارح المعتزلي: ماء كامن في رمل يحفر عنه فليستخرج و جمعه أحساء و في القاموس الحسى كالى سهل من الأرض يستنقع فيه الماء أو غلظ فوقه رمل يجمع ماء المطر و كلّما نزحت دلوا جمت اخرى جمعه احساء و حساء
الاعراب
قال الشّارح المعتزلي: نصفا على حذف المضاف أى ذا نصف أى حكما منصفا عادلا يحكم بيني و بينهم.
أقول: و الأولى أن يقدّر المضاف المحذوف لفظ الحكم أى حكم نصف و عدل إذ على ما ذكره الشّارح يحتاج إلى حذف موصوف ذا و هو تكلف مستغني عنه فتأمل و عن في قوله: عن نصابه، إمّا بمعناها الأصليّ أو بمعنى بعد كما في قوله تعالى: عمّا قليل لتصبحنّ نادمين، و قوله: و لأفرطنّ لهم حوضا، قد مضى اعرابه في شرح الخطبة العاشرة، و جملة أنا ماتحه، في محلّ النّصب صفة لحوضا، و جملة لا يصدرون عنه حال من الضمير في ماتحه
المعنى
اعلم أنّ هذا الكلام له عليه السّلام كما نبّه عليه السيّد (ره) وارد فيمعنى طلحة و الزّبير أى القصد فيه متوجّه إليهما و الغرض منه تقريعهما و توبيخهما و توبيخ سائر أصحاب الجمل و ابطال ما نقموه عليه و ردّ ما تشبّثوا به في خروجهم عن ربقة طاعته.
و أشار عليه السّلام إلى وجه البطلان بقوله (و اللّه ما أنكروا علىّ منكرا) قبيحا يعنى أنّ ما زعموه منكرا من قتل عثمان و التّسوية في العطاء فليس هو بمنكر في الواقع حتّى يرد علىّ إنكارهم، و إنّما حملهم على الانكار الحسد و حبّ الاستيثار بالدّنيا و التفضيل في العطاء (و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا) أى حكما عدلا (و انهم ليطلبون حقّا هم تركوه) قال الشّارح المعتزلي: أى يظهرون أنّهم يطلبون حقّا بخروجهم إلى البصرة و قد تركوا الحقّ بالمدينة، و قيل: المراد بالحقّ نصرة عثمان و إعانته أقول: و الظاهر أنه أراد بالحقّ حقّ القصاص، يعني أنّهم يطلبون حقّ القود من قاتلي عثمان و لكنّهم هم الذين تركوه حيث أمسكوا النكير على قاتليه، فتقديم المسند إليه للتّخصيص ردّا عليهم إلى زعمهم انفراد أمير المؤمنين عليه السّلام و أصحابه بترك الحقّ.
و مثله قوله (و دما هم سفكوه) أى لا غيرهم و أراد به دم عثمان، و يدلّ على سفكهم دمه و كونهم أشدّ النّاس تحريضا عليه ما قدّمناه في شرح الخطبة الثانية و العشرين و الكلام الثلاثين.
و يدلّ عليه أيضا ما رواه في شرح المعتزلي و غيره أنّ عثمان قال: ويلي على ابن الخضرميّة، يعني طلحة أعطينه كذا و كذا ذهبا و هو يروم دمي يحرض على نفسي اللّهم لا تمتّعه به.
قال الشّارح و روى النّاس الذين صنفوا في واقعة الدّار أنّ طلحة كان يوم قتل عثمان مقنّعا بثوب قد استتر به عن أعين النّاس يرمى الدّار«» السّهام، و أنّه لمّا امتنع على الّذين حصروه الدّخول من باب الدّار حملهم طلحة إلى دار لبعض الأنصار فأصعدهم إلى سطحها و تسوّروا منها على عثمان داره فقتلوه.
و رووا أيضا أنّ الزّبير كان يقول: اقتلوه فقد بدّل دينكم، فقالوا: إنّ ابنك يحامي عنه بالباب، فقال: ما أكره أن يقتل عثمان و لو بدء بابني إنّ عثمان لجيفة على الصّراط غدا، و قال مروان بن الحكم يوم الجمل: و اللّه لا أترك ثارى و أنا أراه و لأقتلنّ طلحة بعثمان فانّه قتله ثمّ رماه بسهم فأصاب مأبضه«» فنزف الدّم«» حتّى مات.
فقد ظهر من ذلك أنّه لا ريب في إغرائهم و تحريضهم و دخولهم في دم عثمان فلا يجوز لهم المطالبة بدمه منه، لأنّ دخولهم فيه إمّا أن يكون بالاشتراك، أو يكون بالاستقلال، و على التّقديرين فيبطل المطالبة.
أمّا على التّقدير الأول فلما أشار إليه بقوله (فان كنت شريكهم فيه فانّ لهم نصيبهم منه) و ليس لأحد الشّريكين أن يطالب الشّريك الآخر بل اللّازم له أن يبدء بنفسه و يسلّمها إلى أولياء المقتول ثمّ بالشريك الآخر.
و أمّا على التّقدير الثّاني فلما أشار إليه بقوله (و إن كانوا و لوّه) و باشروه (دونى فما الطّلبة) أى المطلوب (إلّا قبلهم) فاللّازم عليهم أن يخصّوا أنفسهم بالمطالبة وحدهم (و إنّ أوّل عدلهم) الّذى جعلوه عذرا في نقض البيعة و الخروج إلى البصرة حيث قالوا إنّما خرجنا للأمر بالمعروف و النّهى عن المنكر و إقامة العدل و إماتة الباطل و إحياء الحقّ (للحكم على أنفسهم) و الانكار للمنكر الذي أتوا به و اقتصاص الدّم الذي هجموا عليه قبل الانكار، و الحكم على غيرهم لأنّ النّهى عن المنكر إنّما هو بعد التّناهى (و انّ معى لبصيرتي) و عقلى (ما لبّست و لا لبّس علىّ) و قد مضى معنى هذه الفقرة في شرح الخطبة العاشرة.
و يحتمل احتمالا قويّا أن يكون المراد أنّه ما لبّست على نفسى و لا على النّاس أمرى و أمورهم و لم يلبس أيضا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الأمر علىّ بل ما أقدم عليه في أمرى و أمر النّاس و ما أخبرني به النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو الحقّ و بالاتباع أحقّ، و في هذا الكلام تعريض عليهم بأنّهم غابت عنهم عقولهم و تاهت حلومهم، و أنّ ما أقدموا عليه أمر ملتبس، و أنّ خروجهم إنّما هو بهوى النّفس و النّاس مدلّسون ملبّسون ثمّ قال: (و إنّها للفئة الباغية) يعنى أنّ هذه الفئة للفئة الّتي أخبرني رسول اللّه ببغيها و خروجها علىّ حيث قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تذهب اللّيالي و الأيام حتّى تتنابح كلاب ماء بالعراق يقال له الحوأب امرأة من نسائى في فئة باغية، على ما تقدّم في رواية الاحتجاج في التّنبيه الثاني من شرح الكلام الثّالث عشر، و قد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: له عليه السّلام غير مرّة أنّك ستقاتل النّاكثين و القاسطين و المارقين، أو ما هذا معناه.
و تقدّم في شرح الفصل الخامس من الخطبة الثّالثة في رواية غاية المرام أنّ امّ سلمة قالت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا رسول اللّه من النّاكثون قال: الذين يبايعونه بالمدينة و ينكثون بالبصرة، و لسبق عهد هذه الفئة أتى بها معرّفة بلام العهد.
و قوله: (فيها الحماء و الحمة) قال الشارح البحراني: استعارة للغلّ و الفساد الذي كان في صدور هذه الفئة، و وجه الاستعارة استلزامه لتكدير الاسلام و إثارة الفتنة بين المسلمين كما تكدّر الحماة الماء و تخبثه و استلزامه للأذى و القتل كما يستلزم ذلك سمّ العقرب.
و قال الشّارح المعتزلي: أى في هذه الفئة الفساد و الضّلال و الضّرر، و إذا أرادت العرب أن تعبّر عن الضّلال و الفساد قالت الحماء مثل الحماة بالتاء و يروى فيها الحما بألف مقصورة و هو كناية عن الزّبير لأنّ كلّ ما كان بسبب الرّجل فهم الأحماء واحدهم حما مثل قفا و أقفاء، و ما كان بسبب المرأة فهم الأحمات، و قد كان الزّبير من عمّة رسول اللّه و قد كان النّبي صلّى اللّه عليه و آله أعلم عليّا بأنّ فئة من المسلمين تبغى عليه أيّام خلافته فيها بعض زوجاته و بعض أحمائه فكنّى عليّ عليه السّلام عن الزّوجة بالحمة، و هي سمّ العقرب و ظهر أنّ الحماء الذي أخبر النّبي صلّى اللّه عليه و آله بخروجه مع هؤلاء البغاة هو الزّبير ابن عمّته.
أقول: و هذا ألطف ممّا ذكره البحراني، و يؤيد ما قاله من أنّه كنّى عن الزّوجة بالحمة ما يرويه السيّد (ره) عنه في أواخر الكتاب من قوله: المرأة عقرب حلوة اللّبسة، أى حلوة اللّسعة.
و قوله: (و الشبهة المغدفة) أى الشّبهة الخفية المستورة التي لبّسوا بها على أكثر النّاس من طلب دم عثمان و من روى بكسر الدّال فالمراد الشّبهة المظلمة اى الموقعة في ظلمة الجهالة التي لم يهتد فيها أكثر الخلق حتّى قتلوا بسببها كما لا يهتدى في ظلمة اللّيل.
ثمّ قال (و انّ الأمر لواضح) أى عند ذوى العقول لعلمهم بأنّى على الحقّ و أنّ الباغين علىّ على الباطل و أنّ خروجهم بعد بيعتهم إنّما هو لمحض الغلّ و الحسد و الاستيثار بالدّنيا عن اتّباع الهوى (و قد راح) أى تنحّى و بعد (الباطل) أى باطلهم (عن نصابه) و أصله يعني ما أتوا به من الباطل لا أصل له (و انقطع لسانه عن شغبه) استعارة بالكناية حيث شبّه الباطل بحيوان ذى لسان فأثبت له اللّسان تخييلا و ذكر الشّغب ترشيح.
و محصّل المراد أنّه بعد وضوح الأمر فيّ و في أنّي على الحقّ لم يبق للباطل أصل و قد خرس و اعتقل لسانه عن تهيّج شرّه، و يحتمل أن يكون المرد بالباطل الباطل الّذي كان له رواج في زمن المتخلّفين الثلاثة، أى قد زال الباطل بعد موتهم و بيعة النّاس إلىّ عن أصله و تزعزعت أركانه و انهدم بنيانه و انقطع لسانه بعد ما هيّج شرّه فلا اعتداد بنكث هؤلاء القوم و بغى هذه الباغية.
ثمّ هدّدهم بقوله (و أيم اللّه لأفرطنّ لهم حوضا أنا ماتحه) و قد سبق شرح هذه الفقرة في شرح الخطبة العاشرة و قوله (لا يصدرون عنه برىّ) يعني أنّ هذا الحوض ليس كسائر الحياض الحقيقية التي يردها الظّمان فيصدر عنها برىّ و يروى غلّته، بل الواردون إليه أن لا يعود (و لا يعبّون بعده في حسى) أى لا يشربون بعده بارد الماء ابدا لهلاكهم و غرقهم في ذلك الحوض.
|