ألّلهمّ إنّهما قطعاني، و ظلماني، و نكثا بيعتي، و ألبّا النّاس علىّ فاحلل ما عقدا، و لا تحكم لهما ما أبرما، و أرهما المسائة فيما أمّلا و عملا، و لقد استتبتهما قبل القتال، و استأنيت بهما قبل الوقاع، فغمطا النّعمة، و ردّ العافية.
اللغه
(التّأليب) النحريض و الافساد و (أحكم) الشي ء أتقنه و (أبرم) الحبل جعله طاقين ثمّ فتله و أبرم الأمر أحكمه. و (استتبتهما) في بعض النّسخ بالثاء المثلّثة من ثاب يثوب أى رجع و منه المثابة للمنزل، لأنّ النّاس يرجعون إليه في أسفارهم و في بعضها استتبتهما بالتاء المثناة من تاب يتوب أى طلبت منهما أن يتوبا و (استأنيت) من الاناة و استانى بفلان انتظر به و (غمط) فلان بالنّعمة إذا لم يشكرها و حقّرها من باب ضرب و سمع
المعنى
ثمّ شكا إلى اللّه سبحانه من طلحة و الزّبير بقوله (اللّهمّ إنّهما قطعاني) أى قطعا رحمى لأنّهما كانت لهما رحم ماسة به عليه السّلام لكونهم جميعا من قريش مضافا إلى ما للزّبير من القرابة القريبة فانّه كان ابن عمّة أمير المؤمنين و امّه صفية بنت عبد المطّلب عليه السّلام (و ظلماني) في خروجهما إلىّ و مطالبة ما ليس لهما بحقّ (و نكثا بيعتي) و نقضاها (و ألبّا النّاس) و أفسداهم (عليّ).
ثمّ دعا عليهما بقوله (فاحلل ما عقدا) من العزوم الفاسدة الّتي أضمراها في نفوسهم (و لا تحكم لهما ما أبرما) أى لا تجعل ما أبرماه و أحكماه في أمر الحرب محكما مبرما (و أرهما المسائة فيما أمّلا و عملا) أى أرهما المسائة في الدّنيا و الآخرة و لا تنلهما آمالهما و اجزهما السّوءى بأعمالهما و أفعالهما.
ثمّ اعتذر من قتاله معهما بانّه انّما قام بالقتال بعد اكمال النّصح و الموعظة و اتمام الحجّة قاصرا على البغى فيكون اللّائمة في ذلك راجعة اليهما لا إليه و الذّنب عليهما لا عليه و هو معنى قوله (و لقد استتبتهما قبل القتال) أى طلبت منهما أن يرجعا عن البغى أو يتوبا عن ذنبهما استعطافا لهما (و استأنيت بهما قبل الوقاع) أى تأنّيت و تثبّت بهما قبل وقاع الحرب لعلّهما يرجعا إلى الحقّ (ف) لم يقبلا نصحى و لم يسمعا قولى بل أصرّا على البغى و المخالفة و (غمطا النّعمة) اى استحقرا ما أنعم اللّه عليهما و هو قسمتهما من بيت المال و طلبا الزّيادة و التّوفير (و ردّا العافية) أى السّلامة في الدّنيا و الدّين فكان عاقبتهما أنّهما في النّار خالدين.
تنبيه
قال الشّارح المعتزلي في شرح قوله عليه السّلام: اللّهم إنّهما قطعاني إلى قوله و عملا امّا و صفهما بما وصف به من القطع و الظلم و النّكث و التأليب فقد صدق عليه السّلام فيه، و أمّا دعاؤه فاستجيبت له و المسائة التي دعا بهما مسائة الدّنيا لا مسائة الآخرة، فانّ اللّه قد وعدهما على لسان رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالجنّة و إنّما استوجبا بالتوبة التي ينقلها أصحابنا عنهما في كتبهم و لولاها لكانا من الهالكين. أقول: ظاهر قول الامام عليه السّلام و أرهما المسائة هو الاطلاق و تقييدها بمسائة الدنيا لا دليل عليه، و أمّا وعد اللّه لهما بالجنّة فغير ثابت و مدّعيه كاذب لأنّ المدّعى إنّما استند فيه إلى حديث العشرة الذي قدّمنا في التذييل الثّاني من شرح الكلام الثالث و الأربعين ضعفه و بطلانه و أنّه ممّا تفرّد المخالفون بروايته.
و نزيد على ما قدّمنا ما قاله الشّيخ (ره) في محكيّ كلامه من تلخيص الشافي عند الكلام على بطلان هذا الخبر إنّه لا يجوز أن يعلم اللّه مكلّفا ليس بمعصوم من الذّنوب بأنّ عاقبته الجنّة، لأنّ ذلك يغريه بالقبيح و ليس يمكن أحدا ادّعاء عصمة التّسعة و لو لم يكن إلّا ما وقع من طلحة و الزّبير من الكبيرة لكفى، و قد ذكرنا أنّ هذا الخبر لو كان صحيحا لاحتجّ به أبو بكر لنفسه و احتجّ به له في السقيفة و غيرها، و كذلك عمر و عثمان.
و ممّا يبيّن أيضا بطلانه إمساك طلحة و الزبير عن الاحتجاج به لما دعوا النّاس إلى نصرتهما و استنفارهم إلى الحرب معهما، و أىّ فضيلة أعظم و أفخم من الشّهادة لهما بالجنّة، و كيف يعدلان مع العلم و الحاجة عن ذكره إلّا لأنّه باطل، و يمكن أن يسلّم مسلّم هذا الخبر و يحمله على الاستحقاق في الحال لا العاقبة فكانّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أراد أنّهم يدخلون الجنّة إن وافوا بما هم عليه، و يكون الفائدة في الخبر إعلامنا بأنّهم يستحقّون الثواب في هذا الحال، هذا.
و أمّا قول الشّارح إنّهما استوجبا الجنّة بالتّوبة الّتي ينقلها أصحابنا عنهما ففيه إنّا قدّمنا في شرح الكلام الثامن بطلان توبة الزّبير، و في شرح الكلام الثاني عشر بطلان توبة طلحة، و أقول هنا: قال الشّيخ (ره) في محكيّ كلامه من تلخيص الشافي بعد كلام طويل له على بطلان توبتهما تركناه حذرا من الاطالة و الاطناب ما لفظه: و روى الشّعبي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: ألا إنّ أئمه الكفر في الاسلام خمسة: طلحة، و الزّبير، و معاوية، و عمرو بن العاص، و أبو موسى الأشعري، و قد روى مثل ذلك عن عبد اللّه بن مسعود.
و روى نوح بن درّاج عن محمّد بن مسلم عن حبّة العرني قال: سمعت عليّا عليه السّلام حين برز أهل الجمل يقول: و اللّه لقد علمت صاحبة الهودج أنّ أهل الجمل ملعونون على لسان النّبي الامّي و قد خاب من افترى، و قد روى هذا المعنى بهذا اللّفظة أو بقريب منه من طرق مختلفة.
و روى البلادرى في تاريخه باسناده عن جويرية بن أسماء أنّه قال: بلغني أنّ الزبير حين ولي و لم يكن بسط يده بسيفه اعترضه عمّار بن ياسر بالرّمح و قال أين يا أبا عبد اللّه و أنت ما كنت بجبان و لكني احسبك شككت قال: و هو ذاك و مضى حتّى نزل بوادى السّباع فقتله ابن جرموز، و اعترافه بالشكّ يدلّ على خلاف التوبة لأنّه لو كان تائبا لقال له في الجواب ما شككت بل تحقّقت انّك و صاحبك إلى الحقّ و أنا على الباطل و قد ندمت على ما كان منّي و أىّ توبة لشاكّ غير متحقّق.
فهذه الأخبار و ما شاكلها تعارض أخبارهم لو كان لها ظاهر يشهد بالتوبة، و إذا تعارضت الأخبار في التوبة و الاصرار سقط الجميع و تمسكنا بما كنّا عليه من أحكام فسقهم و عظيم ذنبهم، و ليس لهم أن يقولوا إنّ كلّ ما رويتموه من طريق الآحاد و ذلك إنّ جميع أخبارهم بهذه المثابة، و كثير ممّا رويناه أظهر ممّا رووه و أفشى و إن كان من طريق الآحاد فالأمر ان سيّان.
و أمّا توبة طلحة فالأمر فيها أضيق على المخالف من توبة الزّبير، لأنّ طلحة قتل بين الصّفين مباشرا للحرب مجتهدا فيها و لم يرجع عنها حتّى أصابه السّهم فأتى على نفسه، و ادّعاء توبة مثل هذا مكابرة، و ليس لأحد أن يقول إنّه قال بعد ما أصابه السهم:
- ندمت ندامة الكسعى لمّارأت عيناه ما صنعت يداه
لأنّ هذا بعيد عن الصّواب و البيت المروىّ بأن يدلّ على خلاف التّوبة أولى لأنّه جعل ندامته ندامة الكسعى و خبر الكسعى معروف لأنّه ندم بحيث لا ينفعه النّدم و حيث فاته الأمر و خرج عن يده، و لو كان ندم طلحة واقعا على وجه التوبة الصحيحة لم يكن مثل ندامة الكسعى، بل كان شبيها لندامة من تلافي ما فرط فيه على وجه ينتفع به.
و روى حسين الأشفر عن يوسف البزاز عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال أمير المؤمنين عليه السّلام لطلحة و هو صريع فقال: اقعدوه، فأقعد، فقال عليه السّلام: قد كان لك سابقة لكن دخل الشّيطان في منخريك فأدخلك النّار، انتهى كلامه رفع مقامه و قد ظهر بذلك بطلان توبتهما كما توهّمه الشّارح المعتزلي وفاقا لأصحابه المعتزلة و تبيّن أنّهما في النار خالدين ببغيهم على الامام المبين، هذا.
و ندامة الكسعى يضرب بها المثل فيقال: أندم من الكسعى، و هو محارب بن قيس من بني كسع حىّ من اليمن كان يرعى إبلا بواد معشب فرأى نبقة على صخرة فأعجبته فقطعها و اتّخذ منها قوسا، فمرّت به قطعان من حمر الوحش ليلا فرمى عشرا فأنفذها و أخرج السّهم فأصاب الجبل فارى نارا فظنّ أنّه أخطا، ثمّ مرّ قطيع آخر فرماه كالأوّل و فعل ذلك مرارا فعمد إلى قوسه فكسره من حنقه، فلما أصبح و أى الحمر قتلن مضرّجة بالدّم فندم و عضّ إبهامه فقطعها
|