انتفعوا ببيان اللّه، و اتّعظوا بمواعظ اللّه، و اقبلوا نصيحة اللّه. فإنّ اللّه قد أعذر إليكم بالجليّة. و اتّخذ عليكم الحجّة. و بيّن لكم محابّته من الأعمال و مكارهه منها لتتّبعوا هذه و تجتنبوا هذه، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقول «إنّ الجنّة حفّت بالمكاره و إنّ النّار حفّت بالشّهوات» و اعلموا أنّه ما من طاعة اللّه شي ء إلّا يأتي في كره. و ما من معصية اللّه شي ء إلّا يأتي في شهوة. فرحم اللّه رجلا نزع عن شهوته. و قمع هوى نفسه، فإنّ هذه النّفس أبعد شي ء منزعا. و إنّها لا تزال تنزع إلى معصية في هوى. و اعلموا عباد اللّه أنّ المؤمن لا يصبح و لا يمسي إلّا و نفسه ظنون عنده، فلا يزال زاريا عليها و مستزيدا لها. فكونوا كالسّابقين قبلكم و الماضين أمامكم قوّضوا من الدّنيا تقويض الرّاحل، و طووها طيّ المنازل.
اللغة:
أعذر اليكم: رفع عنه اللوم، أو لم يبق لكم من عذر. و جلية: واضحة.
و نزع عن كذا: رجع و أقلع عنه. و منزعا: رجوعا عن الباطل. و الظنون: من يسي ء الظن، و إذا أخبر بشي ء فلا يوثق بخبره. و زاريا: عائبا. و مستزيدا: طالبا المزيد. و المراد بقوضوا هنا ذهبوا و رحلوا.
الإعراب:
بالجلية صفة لموصوف محذوف أي بالأعذار الجلية، و منزعا تمييز.
المعنى:
(انتفعوا ببيان اللّه). المراد بالانتفاع هنا العمل، و كل ما يحكي و يعبر عن الحق و الواقع فهو حجة و بيان من اللّه حسا كان أم عقلا أم نقلا، و إذا قال قائل: النقل تقليد قلنا في جوابه: التقليد للحق عمل بالحق و الصواب، و لذا قلد العلماء الكبار في شتى العلوم، فأخذوا نظرية الجاذبية عن نيوتن، و النسبية عن اينشتين، و دوران الأرض عن جاليليو.. الى ما لا يبلغه الإحصاء.. حتى الفقهاء الذين حرموا التقليد يقلد بعضهم بعضا في كثير من الأحكام من حيث لا يشعرون، و كفى بقول اللّه شاهدا على جواز التقليد في الهدى و دين الحق: «أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ- 104 المائدة» و معنى هذا ان تقليدهم الآباء حق و صواب لو كانوا على الهدى و العلم.
(و اتعظوا بمواعظ اللّه، و اقبلوا نصيحة اللّه). الدنيا كلها مواعظ و نصائح من اللّه، و لكن لا نمد اليها البصر، أو نرى و لا نعتبر، و نسمع النصح و لا ننتصح (فإن اللّه قد أعذر اليكم- الى- و تجنبوا هذه). إن اللّه سبحانه منحنا العقل و القدرة و الإرادة، و بيّن لنا الأسباب و نتائجها، لكيلا يكون للناس عليه من حجة، و لا لديهم من عذر اذا أخذهم بما كانوا يعملون.
القرآن و فن الإعلان:
(إن الجنة حفت بالمكاره، و ان النار حفت بالشهوات). لو كانت الجنة بالصلاة و الصيام، و الحج الى بيت اللّه الحرام، لكان الطريق اليها سهلا يسيرا بخاصة في عصرنا هذا، فإن السفر فيه الى مكة المكرمة و المدينة المنورة رحلة للترفيه و النزهة بأقل التكاليف، ان الطريق الى الجنة أو ثمنها يحدده صاحب الجنة و خالقها تماما كما يحدد البائع بالذات ثمن سلعته و بضاعته.
أما فن الإعلان عن البضاعة، و بث الدعاية لها لإقناع الناس بها، و إقبالهم عليها- أما هذا الفن بأصوله و قواعده- فغير بعيد أن يكون مصدره الأول هو القرآن الكريم الذي شوّق و رغّب في جنة الخلد بما لا عين، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر.. و بهذه المناسبة قيل لمليونير من تجار أمريكا: لو خسرت كل ما تملك، و لم يبق لديك إلا ألف دولار، ما ذا تصنع بها قال: أستأنف التجارة من جديد، و أجعل مئة لرأس المال و تسعا للدعاية و الإعلان.
و قد أوضح سبحانه ثمن الجنة في العديد من آياته، منها الآية 111 من صورة التوبة: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ... فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ». و منها الآية 142 من سورة آل عمران: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ».. الى غير ذلك من الآيات التي أناطت الجنة بالجهاد و التضحية بالنفس و المال، و الصبر على المشاق و الآلام.. و هذا ما أراده الرسول (ص) بقوله: «الجنة حفت بالمكاره».
أما النار فطريقها الملذات و الأهواء، و الترف و الثراء قال، عز من قائل: «وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ- 35 التوبة». و قال سبحانه: «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ- 30 ابراهيم». و مثل ذلك كثيرا في كتاب اللّه.
(و اعلموا انه ما من طاعة اللّه شي ء إلا يأتي في كره). لأن طاعته تلزم بالحق، و الطريق اليه شائك و مرهق تكتنفه الصعوبات و الغراقيل، و قال بعض المفكرين: «الحق هو الانتصار على جاذبية الأرض، و التحرر من ثقل الجسد» أي من الأهواء و الشهوات (و ما من معصية اللّه شي ء إلا يأتي في شهوة) تتفق تماما مع الرذيلة على عكس الفضيلة و لو اتفقت الفضيلة مع الشهوة أيضا لما كان للقيم و الأخلاق و الشرائع عين و لا أثر، و كان الناس كلهم سواء لا خبيث فيهم و لا لئيم.
(و قمع هوى نفسه- الى معصية في هوى). الضمير في أنها يعود الى النفس، و هي تشاكس و تعاكس، و لا تقلع عن ملذاتها بالحسنى، لا بد من جهادها و إعداد العدة لكبحها. و قد يقال: ان هذا الكلام بظاهره يؤيد و يدعم أصحاب نظرية الخطيئة، و ان الانسان مجرم بالفطرة، و رجس بالطبيعة.. و لكن كلام الإمام بعيد عن التعريف بطبيعة الإنسان و تحديدها من حيث هي، و إنما يتكلم عن ميول الانسان و رغباته التي تدفعه الى الحركة بصرف النظر عن طبيعته و حقيقته، و هذه الميول و الرغبات قد تتولد من الخارج لا من الداخل، و من المحيط و البيئة لا من الفطرة و الطبيعة.
و الذي نراه أن الانسان يخلق صحيفة بيضاء لا طاهرا بطبعه و لا دنسا، و لكن فيه الاستعداد التام، و المؤهلات الوافية للوصفين معا، و المحيط هو الذي يقرر حياته و مصيره تماما كالصفحة البيضاء ترسم فيها ما شئت من صواب أو خطأ، و هذا ما عناه بعض الفلاسفة بقوله: «الانسان مشروع وجود». أجل، ان الانسان ناطق بطبعه أي عاقل و مدرك كما عرّفه الفلاسفة القدامى، و الهدف الأول من العقل أن يقيك من شر المخاطر، فمن استعمل عقله لهذه الغاية فهو إنسان شكلا و محتوى، و إلا فهو إنسان بالاسم و الجسم فقط.
(ان المؤمن لا يصبح و لا يمسي إلخ).. كل عاقل- مؤمنا كان أم غير مؤمن- يتهم نفسه، و يعيب عليها التقصير، و يطلب منها و لها المزيد من الكمال، و التحرر من الرذائل و العيوب. و من أكبر العيوب أن يبرّي ء الانسان نفسه من العيب و الخطأ.. و لا مصدر لهذا الغرور إلا الجهل المركب، فإن الانسان كلما ازداد علما ازداد توقعا للخطأ و قبولا للنقد (فكونوا كالسابقين قبلكم) من أهل الخير و الصلاح (و الماضين أمامكم) عطف تفسير (قوّضوا من الدنيا تقويض الراحل) الذي لا ينوي العودة الى مكانه الأول (و طووها) أي حياتهم في الدنيا (طي المنازل) و هي مراحل السفر و مسافاته.
|