أيّها النّاس سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السّماء أعلم منّي بطرق الأرض، قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ في خطامها، و تذهب بأحلام قومها.
اللغة
(شغر برجلها) رفعها و شغر الكلب شغرا من باب نفع رفع إحدى رجليه ليبول، و شغرت المرأة رفعت رجلها للنكاح و شغرتها فعلت بها ذلك يتعدّى و لا يتعدّي. و (الخطم) بالخاء المعجمة و الطاء المشالة و زان فلس من كلّ طائر منقاره و من كلّ دابة مقدّم أنفه، و خطام البعير معروف و هو ما يوضع في أنفه لينقاد به و جمعه خطم مثل كتاب و كتب سمّى بذلك لأنه يقع في خطمه.
الاعراب
و قوله: برجلها، الضمير راجع إلى فتنة لجواز الاضمار قبل الذكر لفظا فقط
المعنى
و لما فرغ عليه السّلام من قسمة الايمان إلى قسميه و ندب إلى المهاجرة و رغب في احتمال أحاديثهم و تحمّلها و حفظها، عقّب ذلك كلّه بالأمر بالسؤال و أرشدهم إلى المسألة عنه قبل الازداف و الانتقال فقال عليه السّلام: (أيّها النّاس سلوني قبل أن تفقدوني) و قد قدّمنا في شرح الفصل الأوّل من المختار الثاني و التسعين أنّ هذا كلام تفرّد عليه السّلام به و ليس لأحد أن يقول على المنبر سلوني إلّا هو و تقدّم هناك فصل واف فيما يترتّب على العنوان خطبه 189 نهج البلاغه بخش 4. و أقول هنا: إنّ أمره للمخاطبين بالمسألة في كلّ موقف و مكان و كلّ وقت و زمان مع عدم تقييد المسئول عنه بشي ء مخصوص يدلّ على غزارة علمه و أنه البحر الذى لا يساحل، و الحبر الّذي لا يطاول، و أنّه عالم بجميع العلوم و فارس ميدانها و سابق حلباتها و حائز قصبات رهانها و مبيّن غوامضها و صاحب بيانها، و الفارس المتقدّم عند احجام فرسانها و تأخر أقرانها، و أنّه فيها كلّها قد بلغ الغاية القصوى و فضل فيها جميع الورى، فاسمع به و أبصر فلا نسمع بمثله غيره و لا ترى، و اهتد إلى اعتقاد ذلك بناره فما كلّ نار اضرمت نار قرى و لنعم ما قيل:
- قال اسألونى قبل فقدى ذواابانة عن علمه الباهر
- لو شئت اخبرت عما قد مضى و ما بقى في الزمن الغابر
و يكفى في ايضاح ذلك قوله: علّمنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من العلم ألف باب فانفتح لى من كلّ باب ألف باب، فاذا كان المعلم المؤدب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو أكمل العالمين و أعلاهم فى درجات العرفان و اليقين و التلميذ المتعلّم أمير المؤمنين عليه السّلام و هو في الفطنة و الذكاء أفضل البارعين، فيحقّ له أن يبلغ أقصى غايات الكمال، و ينال نهايات معارج العلم و المعرفة، و يتمكّن من قول سلونى قبل أن تفقدونى.
(فلأنا بطرق السماء أعلم منّى بطرق الأرض) و قد ضمن بعض الشعر ذلك و قال:
- و من ذا يساميه بمجد و لم يزليقول سلونى ما يحلّ و يحرم
- سلونى ففى جنبى علم ورثته عن المصطفى ما فات منّى به الفم
- سلونى عن طرق السماوات إننىبها عن سلوك الطرق في الأرض أعلم
- و لو كشف اللّه الغطا لم أزد به يقينا على ما كنت أدرى و أفهم
قال الشارح المعتزلي: المراد بقوله ذلك ما اختصّ به من العلم بمستقبل الامور و لا سيّما فى الملاحم و الدّول قال: و قد تأوّله بعضهم على وجه آخر قالوا: أراد أنا بالأحكام الشرعية و الفتاوى الفقهيّة أعلم منى بالامور الدّنيويّة، فعبّر عن تلك بطرق السماء لأنها أحكام إلهية، و عبّر عن هذه بطرق الأرض لأنها الامور الأرضيّة، قال: و الأوّل أظهر، لأنّ فحوى الكلام و أدلته يدلّ على أنّه المراد.
و قال الشارح البحراني: أراد بطرق السماء وجوه الهداية إلى معرفة سكّان السماوات من الملاء الأعلى و مراتبهم من حضرة الربوبيّة و مقامات أنبياء اللّه و خلفائه من حظاير القدس و انتقاش نفسه القدسيّة عنهم بأحوال الفلك و مدبّراتها و الأمور الغيبيّة مما يتعلّق بالفتن و الوقايع المستقبلة إذ كان له الاتّصال التّام بتلك المبادى، فبالحرىّ أن يكون علمه بما هناك أتمّ و أكمل من علمه بطرق الأرض أى إلى منازلها.
ثمّ نقل عن الوبرى أنّه قال: أراد أنّ علمه بالدّين أوفر من علمه بالدّنيا.
أقول: لا يخفى على المتوقد الذّكى العارف بنكات العبارة و أساليب الكلام من أهل الجودة و الذكاء و الفطنة أنّ الشراح قصرت أفهامهم عن معرفة مراد الامام و عزب أذهانهم عن فهم مغزى الكلام، لأنّه عليه السّلام أمرهم بالسؤال قبل فقدانه، و قبل ظهور فتنة كما هو مفاد قوله الاتى قبل أن تشغر برجلها فتنة، و علّل ذلك بأنه أعلم بطرق السماء منه بطرق الأرض، و هذا ملخّص معنى كلامه عليه السّلام.
فعلى هذا فليس للمعنى الذى حكاه الشارح المعتزلي عن بعضهم، و كذا المعنى الّذى نقله البحراني عن الوبرى ربط بالمقام أصلا و لا شي ء منهما مرادا من الكلام قطعا.
و أمّا المعني الّذي قاله الشارح المعتزلي فليس بذلك البعد و لكنّه لم يتبيّن منه جهة التعبير عن العلم بمستقبل الامور بالعلم بطرق السماء كما لم يتبيّن وجه أعلميّته بها أى جهة التفضيل و كونه عليه السّلام أعلم بها من علمه بطرق الأرض.
و أمّا ما قاله الشارح البحراني من أنه أراد بطرق السماء وجوه الهداية آه، ففيه أنّ وجوه الهداية إلى معرفة منازل سكّان السماوات و مقامات الأنبياء و أحوال الفلك و مدبّراتها لا ربط لها بالمقام، فكيف يصحّ جعلها علّة لقوله: سلوني آه.
و أما وجه الهداية إلى الامور الغيبيّة فهو مناسب للمقام إلّا أنّه قاصر عن تأدية المعني المراد.
فان قلت: إذا زيفت جميع ما ذكروه فما ذا عندك فى هذا المقام و ما الّذى أراده بهذا الكلام و ما المعنى المناسب السليم من النقض و الابرام قلت: الّذى اهتديت اليه بنور التوفيق و أدّى إليه النظر الدقيق.
أنّه لما كان عالما بما يظهر بعده من الفتن و الملاحم أراد من باب اللطف أن يرشد المخاطبين إلى ما هو أصلح لهم عند ظهورها، و أوفق بانتظام امورهم عاجلا و آجلا، فأمرهم بأن يسألوه قبل أن يفقدوه و قبل أن يظهر تلك الفتن حتّى يهتدوا بسؤاله عليه السّلام إلى وجوه مصالحهم فيها، و علّل ذلك بكونه أكمل علما بطرق السماء من طرق الأرض.
و فهم معنى هذه العلّة وجهة ارتباطها بالمعلول يحتاج إلى تمهيد مقدّمة و هى: أنّ جميع ما يجرى فى عالم الملك و الشهادة من المقضيات و المقدرات فهو مثبت في عالم الأمر و الملكوت، مكتوب في امّ الكتاب بالقلم الربّاني كما قال جلّ و عزّ «وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» و قال «وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» و ظهورها في هذا العالم مسبوق بثبوتها في ذلك العالم، و إليه الاشارة في قوله سبحانه «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» فالخزائن عبارة عما كتبه القلم الأعلى أوّلا على الوجه الكلّى فى لوح القضاء المحفوظ عن التبديل الّذى يجري منه ثانيا على الوجه الجزئي فى لوح القدر الّذى فيه المحو و الاثبات مدرجا على التنزيل، فالى الأوّل أشير بقوله «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ» و بقوله «وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» و إلى الثاني بقوله «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا» و منه تنزل و تظهر في عالم الشهادة.
إذا عرفت ذلك فأقول: إنه عليه السّلام أراد بطرق السماء مجارى الأمورات المقدّرة و مسالكها نازلة من عالم الأمر بتوسّط المدبّرات من الملائكة المختلفين بقضائه و أمره إلى عالم الشهادة، و بطرق الأرض مجارى تلك الامور في ذلك العالم و محالّ بروزها منها، و الى نزولها أشار سبحانه بقوله «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» فان كلّ أمر لفظ عام لم يبق بعده شي ء كما في رواية أبي جعفر الثاني عليه السّلام، و المنزل إليه هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السّلام بعده و الأئمة القائمون مقامه.
كما روى في البحار من تفسير العياشي عن محمّد بن عذافر الصيرفي عمّن أخبره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ اللّه تعالى خلق روح القدس و لم يخلق خلقا أقرب إليه منها، و ليست«» بأكرم خلقه عليه، فإذا أراد أمرا ألقاه إليها فألقاه إلى النجوم فجرت به.
قال العلّامة المجلسي ره: و الظاهر أنّ المراد بالنجوم الأئمة عليهم السّلام، و جريانها به كناية عن علمهم بما يلقى اليهم و نشر ذلك بين الخلق.
و فى تفسير الصافي من تفسير القميّ قال: تنزّل الملائكة و الرّوح القدس على إمام الزمان و يدفعون إليه ما قد كتبوه.
و عن الصادق عليه السّلام إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة و الرّوح و الكتبة إلى السماء الدّنيا، فيكتبون ما يكون من قضاء اللّه تلك السّنة، فاذا أراد اللّه أنّ يقدّم شيئا أو يؤخّره أو ينقص شيئا أمر الملك أن يمحو ما يشاء ثمّ أثبت الّذي أراد.
و في الكافى عن أبي جعفر عليه السّلام قال اللّه عزّ و جل في ليلة القدر «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» يقول ينزّل فيها كلّ أمر حكيم «إلى أن قال» إنّه ينزل في ليلة القدر إلى اولى الأمر تفسير الامور سنة سنة يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا و كذا و في أمر النّاس بكذا و كذا، و أنّه ليحدث لولىّ الأمر سوى ذلك كلّ يوم علم اللّه عزّ و جلّ الخاص و المكنون العجيب المخزون مثل ما ينزل في تلك الليلة من الأمر ثمّ قرء «وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». ثمّ أقول: قد ظهر بدلالة هذه الرّوايات أنّ ما ينزل من عالم الأمر فانّما ينزل أوّلا إلى ولىّ الأمر، ثمّ يجرى بعده في الموادّ المقدّرة، و لازمه كون ولىّ الأمر عالما بها و بكيفيّة نزولها في مسالكها و مجاريها العلويّة و السفليّة.
و اوضح دلالة منها ما رواه في البحار من بصاير الدّرجات عن سماعة بن سعد الخثعمي أنه كان مع المفضل عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له المفضّل: جعلت فداك يفرض اللّه طاعة عبد على العباد ثمّ يحجب عنه خبر السماء قال: اللّه أكرم و أرءف بعباده من أن يفرض«» عليه طاعة عبد يحجب عنه خبر السماء صباحا أو مساء و فيه من البصاير عن الثمالي قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: لا و اللّه لا يكون عالم جاهلا أبدا عالم«» بشي ء جاهل بشي ء ثمّ قال: اللّه أجلّ و أعزّ و أعظم و أكرم من أن يفرض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه و أرضه، ثمّ قال: لا لا يحجب ذلك عنه.
بل قد يظهر من أخبار اخر علمهم عليهم السّلام بجميع ما في السماء مثل علمهم بما في الأرض و قد مرّ كثير من هذه الأخبار في تضاعيف الشرح و نورد هنا بعضها.
و هو ما في البحار من تفسير علىّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن مرار عن يونس عن هشام عن أبى عبد اللّه عليه السّلام فى قوله تعالى وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ قال كشط«» له عن الأرض و من عليها و عن السماء و ما فيها و الملك الّذي يحملها و العرش و من عليه، و فعل ذلك برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه.
و من بصائر الدرجات عن ابن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في هذه، قال: كشط لابراهيم السماوات السبع حتّى نظر إلى ما فوق العرش و كشط له الأرض حتّى رأى ما في الهواء و فعل بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثل ذلك، و إنى لأرى صاحبكم و الأئمة من بعده قد فعل بهم مثل ذلك.
و فيه من البصاير عن بريدة الأسلمي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا على إنّ اللّه أشهدك معى سبع مواطن حتّى ذكر الموطن الثاني أتاني جبرئيل فاسرى بى إلى السماء فقال أين أخوك فقلت: ودعته خلفى، قال: فقال: فادع اللّه يأتيك به، قال: فدعوت فاذا أنت معى، فكشط لى عن السماوات السبع و الأرضين السبع حتّى رأيت سكانها و عمّارها و موضع كلّ ملك منها فلم أر من ذلك شيئا إلّا و قد رأيته كما رأيته.
و فيه من البصاير عن عبد الأعلى و عبيدة بن بشير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام ابتداء منه: و اللّه إنّي لأعلم ما في السماوات و ما في الأرض و ما في الجنّة و ما في النّار و ما كان و ما يكون إلى أن تقوم الساعة، ثمّ قال: اعلمه من كتاب اللّه أنظر إليه هكذا، ثمّ بسط كفّيه ثمّ قال: إنّ اللّه يقول «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ».
و الأخبار في هذا المعنى أكثر من أن تحصى و لا حاجة إلى الاكثار من روايتها و كلّها متفق معنى في الدّلالة على علم أمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمة الطاهرين من ذريّته سلام اللّه عليهم بالسماوات و ما فيها و بطرقها و أبوابها و اخبارها غير محجوب عنهم عليهم السّلام شي ء من ذلك.
فان قلت: غاية ما ظهر من هذه الأخبار كون الامام عالما بالسماء و ما فيها كعلمه بالأرض و ما عليها، و لم يظهر منها وجه التفضيل المستفاد من قوله: فلأنا بطرق السماء أعلم منّى بطرق الأرض فاللّازم عليك بيان جهة التفضيل و معناه.
قلت: قوله عليه السّلام فلأنا بطرق السماء أعلم، يحتمل معنيين.
أحدهما أنّه عليه السّلام أسبق علما بها، و ذلك لما علمت أنّ الامورات المقدّرة في عالم الشهادة مباديها في السماء و منتهاها في الأرض، و المبدأ مقدّم على المنتهى و سابق عليه، فيكون العلم به أسبق من العلم بالمنتهى كما يؤدّى إليه النظر الدّقيق. و ثانيهما أنّه عليه السّلام أكمل و أتمّ علما بها، و ذلك لأنه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة من ذريتهما قد كانوا أنوارا مخلوقه قبل خلقة آدم و عالم بألفى عام أو أربعة عشر ألف عام أو خمسة عشر ألف عام أو أربعين ألف عام أو أربعمائة ألف سنة و أربعة و عشرين ألف سنة أو ألف ألف دهر على اختلاف الروايات الواردة في خلقتهم«».
و قد كان منزلهم و مأويهم في تلك المدّة المتطاولة في سرادقات العزّة و حجابات العظمة و ظلّ العرش و السماوات العاليات، ثمّ اهبطوا باقتضاء مصالح التكليف و إرشاد العباد إلى عالم الشهادة و اكتسوا جلباب البشريّة و لبثوا فى الأرض مدّة قليلة ثمّ رجعوا إلى أوطانهم الأصلية و مساكنهم النورانيّة، و قد دلّت على ذلك كلّه الأخبار الصحيحة.
فبطول مدّة الاقامة و المكث فيها و تمادى توطنهم و بقائهم في الملاء الأعلى يكون علمهم بعالم الملكوت البتّة أكمل و أتمّ من علمهم بعالم الناسوت كما لا يخفى.
و بقى الكلام بعد ذلك كلّه في جهة ارتباط العلّة بالمعلول أعنى ارتباط قوله: فلأنا بطرق السّماء أعلم، بقوله: سلوني قبل أن تفقدوني قبل أن تشغر فتنة اه.
و جهة الارتباط أنه لما أرشدهم إلى السؤال عن الفتن و الملاحم المستقبلة علّله بذلك، لأنّ الفتن الحادثة مثل ساير الامورات المقدورة مكتوبة في الألواح السّماوية قبل حدوثها و ظهورها، و ينزل علمها إلى الامام في ليلة القدر و غيرها كما قال عزّ من قائل «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» أى ما يحدث من مصيبة و قضيّة في الأرض و في أنفسكم إلّا و قد كتبناها و الحكم المتعلّق بها في كتاب من قبل أن نخلق المصيبة أو الأنفس.
روى القمّي «ره» عن الصّادق عليه السّلام في هذه الاية قال: صدق اللّه و بلغت رسله كتابه في السّماء علمه بها، و كتابه في الأرض علومنا في ليلة القدر و غيرها.
فعلم أمير المؤمنين عليه السّلام بالفتن و ما يتعلّق بها لما كان حاصلا من المبادى العالية و الطرق السّماويّة حسن تعليل الأمر بالسؤال عن الفتن بعلمه بطرق السّماء.
و أيضا قد أخبر اللّه سبحانه الفتن الحادثة في كتابه الكريم و هو حبل ممدود من السماء إلى الأرض لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعضها في ظواهر آياته و بعضها في بواطنها، و أعلمها النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمير المؤمنين عليه السّلام.
فمما أخبر بها في الظاهر قوله سبحانه الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ.
روى في المجمع عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه لما نزلت هذه الاية قال: لا بدّ من فتنة تبتلى به الامّة بعد نبيّها ليتعيّن الصادق من الكاذب، لأنّ الوحى قد انقطع و بقي السيّف و افتراق الكلمة إلى يوم القيامة.
و منه أيضا قوله تعالى «وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَ» الاية فانّه إخبار عن فتن بني اميّة و ملكهم كما ورد في غير واحد من الأخبار.
و ممّا يدلّ على أنّ الفتن الحادثة و غيرها من ساير الامورات مدرجة في مفاهيم الايات قوله تعالى وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أى من خصلة غايبة يعني جميع ما أخفاه عن خلقه و غيبه عنهم مبين في الكتاب.
روى في البحار من بصائر الدرجات عن محمّد بن الحسن عن حماد عن إبراهيم ابن عبد الحميد عن أبيه عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام في حديث و ان كان في كتاب اللّه لايات ما يراد بها أمر من الأمور التي أعطاها اللّه الماضين النّبيّين و المرسلين، و قد جعله اللّه ذلك كلّه لنا في امّ الكتاب، إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ثمّ قال عزّ و جلّ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا فنحن الذين اصطفانا اللّه، فقد ورثنا علم هذا القرآن الذي فيه تبيان كلّ شي ء.
هذا ما اهتديت إليه في شرح هذا المقام بالتمسك بولاية أمير المؤمنين و آله الطاهرين عليهم السّلام، و الحمد اللّه الذي هدانا لهذا و ما كنّا لنهتدى لو لا أن هدانا اللّه.
و بعد ما أسفر لك وجه المرام و اتّضح لك معنى الكلام فاستمع لما يتلى عليك في شرح قوله عليه السّلام: (قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ في خطامها) قال الشارح البحراني: أراد فتنة بني اميّة و أحكامهم العادلة عن العدل و ما يلحق النّاس في دولتهم من البلاء، و كنّى بشغر رجلها عن خلوّ تلك الفتنة عن مدبّر يدبّرها و يحفظ الامور و ينتظم الدّين حين وقوع الجور، انتهى.
و أقول: أمّا حمله الفتنة على فتنة بني اميّة فلا بأس به لأنّه نكرة في سياق الاثبات فلا تفيد العموم، فباقتضاء كونها أقرب الفتن إلى زمانه عليه السّلام و محلّا لابتلاء المخاطبين بها يكون حملها عليها أنسب و أولى ليسألوه عليه السّلام عنها و عما ينجيهم من ورطاتها و يعرفوا مناصهم منها و من هفواتها.
و أما جعله شغر رجلها كناية عن خلوّها عن المدبر ففيه أنه مبنىّ على ما زعمه من أنّ لفظ تشغر هنا مأخوذ من شغرة البلدة إذا خلت عن مدبرها كما صرّح به في بيان لغته، و هو زعم فاسد.
أما أوّلا فلأنّ قوله برجلها قرينة على أنه ليس هنا بمعنى الخلوّ من المدبّر فافهم.
و أما ثانيا فلأنه بعد الغضّ عن ذلك يتوجّه عليه أنّ فتنة بني امية لم تكن خالية عن مدبّر كيف و مثل معاوية بن أبي سفيان و عمرو بن العاص اللّعين و مروان ابن الحكم و ساير الخلفاء الامويين و أضرابهم من قادة الكفر و أولياء الضلال عليهم لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين كانوا مدبّرين لأمر تلك الفتن، و كانت أوقاتهم مستغرقة في تدبيرها و ترويجها و نظم أمورها و حفظها و ترتيبها.
نعم امور الدّين و أحكام الشرع المبين قد كانت يومئذ معطّلة مختلّة مضطربة ليس لها حافظ و لا مدبّر لغلبة التقية و كون أئمّة الحق في زاوية الخمول غير متمكنين من إقامة دعائم الشريعة و من حفظ مراسمها و إصلاح معالمها.
فان قلت: الظاهر أنّ مراد الشارح بقوله: عن مدبّر يدبرها، من يدبّر في رفع تلك الفتنة لا من يدبّر فى ترويجها و تقويتها، و القرينة على أنّ مراده ذلك قوله و يحفظ الامور و ينتظم الدّين كما هو غير خفى.
قلت: سلّمنا ظهور كلامه بقرينة الجملتين المعطوفتين في كون مراده ما ذكرت إلّا أنّ بقوله عليه السّلام قبل أن تشغر برجلها فتنة لا يدلّ على هذا المعنى أصلا كما هو واضح لا يخفى.
و الذي عندى في شرح هذه الفقرة أنه شبّه الفتنة على سبيل الاستعارة بالكناية بالبعير الشموس الذي يرفع رجله و يدوس من لقاه و يطأ في خطامه و يخبط من قاربه و دناه، لعدم قائد يقوده و لا ممسك يمسكه فأثبت لها الشغر بالرجل و الوطاء في الخطام تخييلا و ترشيحا للاستعارة.
و وجه الاستعارة أنّ البعير الموصوف بالأوصاف المذكورة كما أنه يكون عامّ الضرر ليس له من أذيه رافع و لا رادع، فكذلك هذه الفتنة عند بروزها و ظهورها لا يكون من مضارّها و مفاسدها رادّ و لا مانع.
و نظير هذا التشبيه ما مرّ فى المختار الثاني فى قوله: في فتن داستهم بأخفافها و وطأتهم بأظلافها و قامت بهم على سنابكها.
و قوله (و تذهب بأحلام قومها) نظير ما مرّ في المختار الثاني تلو العبارة المتقدّمة آنفا: فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون.
و المراد أنّ تلك الفتنة لشدّتها و قوّة الباطل فيها و ضعف الحقّ فيها و غلبة الضلال على أهلها يذهب بعقول ذوى العقول فيتردّدون في معرفة الحقّ و لا يهتدون إلى سبيل الرّشاد و طريق الصلاح و السداد إلّا من عصمه اللّه بفضله و هداه إلى قصد سبيله، و هو الهادي إلى النهج القويم و الصراط المستقيم
|