و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و التسعون من المختار فى باب الخطب
الحمد للّه الفاشي «في الخلق خ ل» حمده، و الغالب جنده، و المتعالي جدّه، أحمده على نعمه التّوام، و آلائه العظام، الّذي عظم حلمه فعفى، و عدل في كلّ ما قضى، و علم ما «بما خ» يمضى و ما مضى، مبتدع الخلايق بعلمه، و منشئهم بحكمه، بلا اقتداء و لا تعليم، و لا احتذاء لمثال صانع حكيم، و لا إصابة خطاء، و لا حضرة ملاء، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، ابتعثه و النّاس يضربون في غمرة، و يموجون في حيرة، قد قادتهم أزمّة الحين، و استغلقت على أفئدتهم أقفال الرّين.
اللغة
(فشا) الخبر يفشو فشوا أى ظهر و شاع و انتشر، و أفشيته و فشت امور النّاس افترقت و فشت الماشية مرحت و (الجدّ) العظمة و هو مصدر يقال منه جدّ في عيون النّاس من باب ضرب أى عظم و الجدّ أيضا الحظّ يقال وجدت بالشي ء من باب تعب أى حظظت به، و قيل الجد أصله القطع، و منه الجدّ العظمة لانقطاع كلّ عظمة عنها لعلوّها عليه و منه الجدّ أبوأب الأب لانقطاعه بعلوّ أبوّته و كلّ من فوقه لهذا الولد أجداد و الجدّ الحظ لانقطاعه بعلوّ شأنه، و الجدّ خلاف الهزل لانقطاعه عن السخف و منه الجديد لأنه حديث عهد بالقطع. و (التوام) جمع توأم و زان فوعل و هو أبو المقارن أخاه في بطن واحد و كلّ واحد من الولدين توأم و هذا توأم هذا و هذه توأمته، و الجمع توائم مثل جندل و جنادل، و يجمع أيضا على توام و زان فعال كما في هذه الخطبة. و (استغلقنى) بيعته و استغلق علىّ بيعته أى لم يجعل لى خيارا في ردّه و (الرّين) الدنس يقال: ران على قلبه ذنبه أى دنسه و وسخه
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة المشتملة على كثير من محاسن البلاغة و البديع من الانسجام و حسن السّبك و أنواع من الجناس و حسن الاسجاع و القوا في و الاشتقاق و نسبة الاشتقاق و غيرها مما يعرفها الناقد البصير مسوقة للترغيب إلى التقوى و الترهيب من الدّنيا، و قبل الشروع في المقصود ابتدأ بحمد اللّه سبحانه و ذكر جملة من نعوت جماله و صفات جلاله كما هو دأبه و ديدنه في مقام الخطابة فقال: (الحمد للّه الفاشى حمده) أى الشائع المنتشر ثناؤه في جميع مخلوقاته بعضها كالكفار بلسان الحال فقط و بعضها به و بلسان المقال أيضا.
قال تعالى في سورة الرّعد وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ و في سورة النمل أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ. وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ و في سورة بني إسرائيل تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً و في سورة النور أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ إلى غير هذه من الايات الدالة على تسبيح كلّ شي ء و تقديسه و حمده للّه سبحانه. و المراد بالتسبيح حسبما اشرنا إليه معنى منتظم لما ينطق به لسان الحال و لسان المقال بطريق عموم المجاز.
و ذهب بعض أهل العرفان إلى أنّ المراد به التسبيح بلسان المقال حيث قال: خلق اللّه الخلق ليسبّحوه فأنطقهم بالتسبيح له و الثناء عليه و السّجود له فقال أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ الاية و قال أيضا أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ الاية و خاطب بهاتين الايتين نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي أشهده ذلك و أراه فقال: ألم تر، و لم يقل: ألم تروا فانا ما رأيناه فهو لنا ايمان و لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عيان، فأشهده سجود كلّ شي ء و تواضعه للّه، و كلّ من أشهده اللّه ذلك و أراه دخل تحت هذا الخطاب، و هذا تسبيح فطرى و سجود ذاتي نشأ عن تجل تجلّى لهم فأحبوه فانبعثوا إلى الثناء عليه من غير تكليف بل اقتضاء ذاتيّ، و هذه هى العبادة الذاتيّة الّتي أقامهم اللّه فيها بحكم الاستحقاق الذي يستحقّه.
قال: و ليس هذا التسبيح بلسان الحال كما يقوله أهل النظر ممّن لا كشف له قال: و نحن زدنا مع الايمان بالاخبار الكشف، فقد سمعنا الأحجار تذكر اللّه رؤية عين بلسان تسمعه آذاننا منها، و تخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال اللّه ممّا ليس يدركه كلّ انسان، انتهى.
و فيه ما ذكره من الدّليل لا يفي باثبات مدّعاه إذ التسبيح الذاتي و السجود الفطرى الذي ذكره ليس أمرا وراء التسبيح بلسان الحال فما معنى قوله و ليس هذا التسبيح بلسان الحال كما يقوله أهل النظر.
و بعبارة اخرى التسبيح، إما قالىّ و هو التسبيح بالنطق و اللّسان مثل قول سبحان اللّه و نحوه، و إما حاليّ و هو دلالة المخلوق على ما لا يليق بذاته تعالى من لواحق الامكان و لواحق الحدوث و النقصان، إذ ما من موجود إلّا و هو بامكانه و حدوثه يدلّ دلالة واضحة على أنّ له صانعا قادرا عليما حكيما واجب الوجود قطعا للتسلسل. فأن أراد بالسجود الذاتي هذا المعنى فينا فيه قوله و ليس هذا التسبيح بلسان الحال.
و إن أراد المعنى الأوّل فدليله لا ينهض به إذ محصّل ما ذكره من الدليل أنّ الخطاب في الايتين متوجّه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بخصوصه، و لذلك قال: ألم تر و لم يقل: ألم تروا، و لو كان المراد التسبيح بلسان الحال لقال ألم تروا، لأنّ التسبيح الحالي يعرفه كلّ أحد بخلاف التسبيح القولي فانّه مختصّ رؤيته بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و يتوجّه عليه أنّا نمنع اختصاص الخطاب به صلّى اللّه عليه و آله بل متوجّه إلى كلّ من يتأتّي منه الرؤية و النظر لو قلنا بالقول الاخر، و يشهد بذلك قوله في سورة النحل أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ حيث أتى بصيغة الجمع فلا فرق بين هذه الاية و الايتين المتقدّمتين، غاية الأمر أنّ الاستفهام في الاوليين للتقرير و إن كان الخطاب مختصّا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و في هذه للتوبيخ و التقريع، و من المعلوم أنّ التوبيخ إنّما توجّه عليهم بسبب تمكّنهم من الرؤية، و الرؤية العيانية كما ذكره هذا القائل غير ممكنة، فلا بدّ من حمل السجود على السجود بلسان الحال، و الرؤية بالرّؤية بمعنى التفكر.
ثمّ ما ادّعاه أخيرا من الكشف و أنّه سمع باذنه ذكر الأحجار بعد الغضّ عن أنّه دعوى بلا برهان يناقض ما قرّره أولا من اختصاص الرؤية العيانية بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه على زعمه يكون شريك النبوّة في الرؤية العيانية مع ساير أرباب المكاشفة، و هذا يقتضى أن يؤتى الخطاب في الايتين بصيغة الجمع و يقال: ألم تروا.
اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له قوّة الرؤية لسجود جميع الأشياء، و هذا القائل ادّعى تسبيح البعض كالأحجار، و لما ذكر سبحانه في الايتين سجود الجميع و تسبيحهم لا جرم خصّ رؤيته بالنبيّ لكونه فقط متمكّنا من رؤية الكلّ، هذا و ربما استدلّ على ما قاله هذا القائل من أنّ الجماد و النبات و الحيوان كلّها ناطقة بالحمد و الثناء و التسبيح و التقديس قولا لقوله «و لكن لا تفقهون تسبيحهم» فانّ التسبيح الّذي لا نفقهه هو التسبيح المقالي، و أمّا التسبيح الحالي فيفقهه كلّ من له عقل و نظر.
و فيه أوّلا النقض بقوله أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ فانّه سبحانه وبّخهم على ترك رؤية سجود ما خلق اللّه، و لازم ذلك أن تكون الرّؤية ممكنة و إلّا لم يحسن التوبيخ، و السجود المقالي غير ممكنة الرؤية إذ لا نفقهه فلا بدّ أن يكون سجودهم بالحال حتّى يمكن رؤيته و يحسن التوبيخ على تركها.
و ثانيا بالحلّ و أنّه لا يثبت المدّعى، لأنّ قوله لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ كما يجوز أن يراد به التسبيح القولي و يكون عدم فهم المخاطبين له من أجل اختلاف اللغات و عدم معرفتهم بأصوات الحيوانات و الجمادات و ساير المخلوقات، كذلك يجوز أن يراد به التسبيح الحالي و يكون عدم فهم المخاطبين له لأجل التشاغل و الأغراض، أى لا تعلمون تسبيح هذه الأشياء حيث لم تنظروا فيها و لم تعرفوا كيفيّة دلالتها على صانعها.
و لذلك قال المفسّرون إنّ الخطاب فيها للمشركين أى لا تفقهون أيّها المشركون لاخلالكم بالنظر الصحيح الّذي به يفقه ذلك، و إلى هذا أشير في قوله سبحانه وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ.
و على ما قلنا فيكون مفاد هذه الاية موافقا لمفاد الاية السابقة أعني قوله أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ و لمفاد ساير الايات المتقدّمة، فيكون المراد بالتسبيح و السجود و الحمد في جميعها المعني الأعمّ مما كان بلسان المقال، و يكون المراد بالرؤية فيها هو الرّؤية بمعني التأمّل و التدبّر في ملكوت السماوات و الأرض و معرفته دلّهم للّه سبحانه قولا و حالا، هذا.
و لما كان هذا المقام من مطارح الأنظار و مسارح الأفكار أحببت أن اشبع فيه الكلام بتوفيق الملك العلّام و إعانة الأئمة الكرام عليهم السّلام. فأقول: إنّ التسبيح و الثناء للّه سبحانه على قسمين.
أحدهما حاليّ، و هو دلالة أحوال المخلوق على وجود خالقه و توحيده، و التسبيح، و الثناء بهذا المعني لا ريب في اتّصاف جميع المخلوقات به «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ» إذ كلّ موجود سوى القديم حادث يدعو إلى تعظيمه لافتقاره إلى صانع غير مصنوع صنعه، أو صنع من صنعه فهو يدعو الى تثبيت قديم غنيّ بنفسه عن كلّ شي ء سواه، و لا يجوز عليه ما يجوز على المحدثات.
و بعبارة اخرى نقصانات الخلايق دلائل كمالات الخالق، و كثراتها و اختلافاتها شواهد وحدانيّته، و انتفاء الشريك و الضّد و النّد عنه كما قال عليه السّلام في المختار المأة و الخمس و الثمانين: بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بمضادّته بين الأمور عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له.
و الثاني قاليّ، و هو في الانسان و الملك و الجنّ قول سبحان اللّه و الحمد للّه و نحو ذلك من الألفاظ المتضمّنة للتنزيه و التقديس الخارجة من اللّسان و المسموعة بالأسماع و الاذان.
و أما في أصناف الحيوان فكلّ صنف بما اختصّ به من النطق و امتاز به عن ساير أبناء جنسه كالفرس فى صهيله، و البعير في هديره، و الحمار في نهيقه، و الغراب في نعيقه و هكذا.
و أمّا في الجماد و النبات و الماء و الشجر و الأرض و الهواء فنحو آخر مثل الصرير في الأبواب، و الجرى في المياه، و الانقضاض في الجدران و الأخشاب، و نحو ذلك مما يعلمه اللّه سبحانه و تعالى.
إذا عرفت ذلك فأقول: أما ذوو العقول فلا كلام في تسبيحهم للّه سبحانه حالا و قالا، كما لا كلام في اتّصاف غير ذوى العقول حيوانا أو جمادا بالتسبيح الحالي، و إنما الكلام في اتّصافها بالتسبيح القالي، و الحقّ فيه أيضا الامكان بل الوقوع خلافا لعلم الهدى السيّد المرتضى في كتاب الغرر و الدّرر، و للفخر الرازي في التفسير الكبير. لنا على جوازه و وقوعه في الحيوان أنّ الأدلة من الكتاب و السّنّة قد دلّت على أنّ الأنواع على اختلافها منطقا مفهوما و ألفاظا تفيد أغراضها بمنزلة الأعجمي و العربي اللّذين لا يفهم أحدهما كلام صاحبه و إنما يفهمه المشارك له في هذه اللهجة فاذا جاز لها النطق في ساير أغراضها جاز لها النّطق في تسبيح خالقها أيضا.
و الشاهد على أنها ذوات نطق و ادراك و شعور، و أنها تنطق بتوحيده و تسبيحه تعالى قوله سبحانه حكاية عن نملة سليمان حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ. وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ و قوله تعالى حكاية عن سليمان يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ و قوله عزّ و جلّ حكاية عن الهدهد و تكلّمه مع سليمان وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ. كانَ مِنَ. الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ. لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ. أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ. سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ. وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ. لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ. اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ. فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا. لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ. وَ ما تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا. هُوَ. رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ.
و في هذه الاية وجوه من الدّلالة على المدّعى.
احدها دلالة هذه الايات بمجموعها على أنّ سليمان كان مع الهدهد في مقام الخطاب و السؤال و الجواب حتّى نزله في آخر مقاله منزلة العاقلين و جعل خبره محتملا للصدق و الكذب و قال قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ و ذلك كلّه يدلّ على أنّه كان عالما فهما شاعرا لما يقول و يجيب به.
الثاني قوله لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً فانّ التعذيب لا يجوز من النّبى المعصوم إلّا مع التقصير في التكليف، و الهدهد لما كان مأمورا بطاعته كساير الوحوش و الطيور استحقّ العقاب لغيبته بدون اذنه، و اعترف الرازى أيضا بذلك حيث قال قوله «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً» اه فهذا لا يجوز أن يقوله إلّا فيمن هو مكلّف أو فيمن قارب العقل فيصلح لأن يؤدّب.
الثالث قوله «احطت بما لم تحط به» فقد قال الرازي: فيه تنبيه لسليمان على أنّ في أدنى خلق اللّه من أحاط علما بما لم يحط به، فيكون ذلك لطفا له في ترك الاعجاب و الاحاطة بالشي ء أن يعلم من جميع جهاته.
الرابع ما دلّ عليه قوله «وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ» إلى قوله «لا يَهْتَدُونَ» من أنّ الهدهد كان له معرفة باللّه و بوجوب السجود له و أنه أنكر سجودهم للشمس و أضافه إلى الشيطان و تزيينه.
و ما قاله الجبائى من أنّ الهدهد لم يكن عارفا باللّه و إنما أخبر بذلك كما يخبر مرهقو صبياننا لأنه لا تكليف إلّا على الملائكة و الانس و الجنّ، فيرانا الصّبى على عبادة اللّه فيتصوّر أن ما خالفها باطل، فكذلك الهدهد تصوّر أنّ ما خالف فعل سليمان باطل.
فهو خلاف ظاهر القرآن لأنه لا يجوز أن يفرق بين الحقّ الذى هو سجود للّه و بين الباطل الذى هو السجود للشمس، و أنّ أحدهما حسن و الاخر قبيح إلّا العارف باللّه و بما يجوز عليه و بما لا يجوز عليه خصوصا مع نسبة تزيين أعمالهم و صدّهم عن طريق الحقّ إلى الشيطان، و هذا مقالة من يعرف العدل و أنّ القبيح غير جايز على اللّه سبحانه.
الخامس استنكاره عليهم في ترك السجود للّه بقوله «أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ» على القول بأنّ هذا الكلام إلى قوله «العظيم» من تمام الحكاية لمقال هدهد كما عليه اكثر المفسرين لا جملة معترضة و من كلامه سبحانه كما ذهب إليه بعضهم.
السادس قوله «أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ» إلى قوله «وَ ما يُعْلِنُونَ» نصّ في معرفة الهدهد بقدرة اللّه و بعلمه.
السابع قوله «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ» فانّه نصّ صريح في معرفته باللّه و توحيده و تنطّقه بكلمة التوحيد و تسبيحه له و تقديسه من الشريك و وصفه بالربوبيّة، هذا.
و من الأدلّة أيضا قوله سبحانه فى سورة النور أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ على أنّ الضمير في علم راجع إلى الطير كما عليه جملة من المفسّرين.
و من السنة الأخبار الكثيرة العامية و الخاصيّة الدالّة على أنّ لها تسبيحا و ذكرا، و أنها تعرف خالقهم و مصالحهم و مفاسدهم، و أنه لا يصاد صيد فى برّ أو بحر من طير أو وحش إلّا بتضييعه التسبيح.
فمنها ما رواه في البحار من قصص الأنبياء عن ابن عبّاس عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث طويل أجاب فيه عن مسائل قوم من أحبار اليهود قال: قالوا: فأخبرنا ما تقول هذه الحيوانات قال عليه السّلام: درّاج يقول: الرّحمن على العرش استوى، و الدّيك يقول: اذكروا اللّه يا غافلين، و الفرس يقول إذا مشى المؤمنون إلى الكافرين: اللّهم انصر عبادك المؤمنين على عبادك الكافرين، و الحمار يلعن العشّار و ينهق فى عين الشيطان، و الضّفدع يقول: سبحان ربّى المعبود و المسبّح في لجج البحار، و القنبر يقول: اللّهم العن مبغضى محمّد و آل محمّد.
و عن حيوة الحيوان: ذكر السرحان سبحان ربّى، و ذكر الدّراج: الرّحمن على العرش استوى، و العقاب: البعد عن الناس راحة، و الخطاف: الفاتحة إلى آخرها و تمدّ صوته بقوله و لا الضّالين، و البازى: سبحان ربّى و بحمده، و القمرى: سبحان ربّى الأعلى، و الغراب: يلعن العشار، و الحدئة: كلّ شي ء هالك إلّا اللّه، و القطاة: من سكت سلم، و العنقا: ويل لمن كانت الدّنيا همّه، و الزرزور: اللّهم أسألك رزق يوم بيوم يا رزّاق، و القبرة: اللّهم العن مبغضي محمّد و آل محمّد، و الدّيك: اذكروا اللّه يا غافلين، و النسر: يا ابن آدم عش ما شئت فانّ آخره الموت، و الفرس عند ملتقى الجمعين: سبّوح قدّوس ربّ الملائكة و الرّوح، و الحمار يلعن المكارى و كسبه، و الضّفدع: سبحان ربّى القدّوس.
و منها ما ورد في أخبار كثيرة في حديث المعراج و غيره من أنّ للّه ملكا في صورة الدّيك براثينه في الأرضين السابعة و عرفه تحت العرش و له جناحان يصفق بهما فاذا كان وقت السحر يسبّح اللّه سبحانه و يقول في تسبيحه: سبّوح قدّوس ربّ الملائكة و الرّوح، و في رواية سبحان الملك القدوس سبحان اللّه الكبير المتعال لا إله إلّا الحىّ القيّوم، فلا يبقى فى الأرض ديك إلّا أجابه و رفع صوته بالتسبيح، قال أمير المؤمنين عليه السّلام و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ.
و مثلها الأخبار الواردة في مدح أجناس الطير و البهايم كالحمام و البلبل و القنبر و الحجل و الدّراج و ما شاكل ذلك من فصيحات الطّير معلّلا بأنّها تنطق بالثناء على اللّه و على أوليائه و دعا لهم و دعا على أعدائهم، و ذم أجناس اخر كالفواخت و الرخم و العنقا و البوم و الجرّى و المار ماهى و الوزغ و نحوها لتنطقهم بذمّ أولياء اللّه و انكارهم للولاية.
و هذه الأخبار فوق حدّ الاحصاء فلا يبقى مجال لانكار تسبيحها القولى بمحض استبعاد الأوهام أو تقليدا للفلاسفة الّذين استبدّوا بالعقول و لم يؤمنوا بما جاءت به الأنبياء الكرام عليهم السّلام، و أىّ دليل على عدم شعورها و إدراكها للكلّيات و عدم تكلّمها و نطقها، فانا كثيرا ما نسمع بعض كلام النّاس مع غيرهم ممن لا نفهم لغاتهم بوجه، فنظنّ أنّ كلامهم كأصوت الحيوانات لا نميّز بين كلماتهم و نتعجب من فهم البعض كلام بعض و لا استبعاد في كونها مكلّفة ببعض التكاليف و تعذّب في الدّنيا بتركها بأن يصاد أو يذبح، أو في الاخرة أيضا كما روى في تأويل قوله تعالى وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ و إن لم يكن تكليفها عاما و عقابها أبديّا لضعف إدراكها.
قال السيّد المحدّث الجزايرى في كتاب زهر الرّبيع: تحقيق المقام أنّ النفس الناطقة إن كانت عبارة عن قوّة النطق و ابراز الكلام فالحيوانات لها كلام يفهمه بعضها عن بعض كما هو المشاهد منها خصوصا مع أولادها، و فسّر كلام بعضها الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام.
و إن كان المراد منها إدراك الكليات و العلوم كما هو الشائع في إطلاق النفس الناطقة، ففى الحيوانات من يدرك من جزئيات العلوم ما لا يدركه أعقل النّاس كادراك القرد من لطايف الحيل و دقايق الامور ما لا يخفى، و كذلك النحل. و إن كان المراد من النفس الناطقة فهم كتابى الشفاء و الاشارات و نحوهما، فانّ بعد كثير من النّاس عن هذا أبعد من الثرى إلى الثريّا.
قال و إلى هذا ذهب الشيخ شهاب الدّين، و قد صرّح ابن سينا في جواب أسئلة بهمنيار إنّ الفرق بين الانسان و الحيوانات في هذا الحكم مشكل.
و قال القيصرى في شرح فصوص الحكم ما قاله المتأخرّون من أنّ المراد بالنطق إدراك الكليات لا التكلّم مع كونه مخالفا بوضع اللغة لا يفيدهم لأنه موقوف على أنّ النفس الناطقة المجرّدة خاصّة بالانسان، و لا دليل لهم على ذلك و لا شعور لهم بأنّ الحيوانات ليس لها إدراك الكليّات، و الجهل بالشي ء لا ينافي وجوده و إمعان النّظر فيما يصدر عنها من العجايب يوجب أن يكون لها إدراك الكليّات انتهى.
و قال المحقق الدوانى في شرح هياكل النور: اعتقادنا أنّ جميع الحيوانات لها نفوس مجرّدة كما فى الانسان، و بعض القدماء على ذلك بل صرّح بعضهم بأنّ النبات لها نفوس ناطقة أيضا.
اذا عرفت ذلك فلنذكر ما ذكره الفخر الرازى في هذا المقام.
قال في تفسير قوله تعالى تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ: اعلم أنّ الحىّ المكلف يسبّح للّه بوجهين: الأوّل بالقول كقوله باللسان سبحان اللّه، و الثاني بدلالة أحواله على توحيد اللّه و تقديسه و عزّته، فأمّا الّذى لا يكون مكلّفا مثل البهايم و من لا يكون حيّا كالجمادات فهى إنّما تسبّح اللّه بالطريق الثاني، لأنّ التسبيح لا يحصل إلّا مع الفهم و العلم و الادراك و النطق و كلّ ذلك في الجماد محال فلم يبق حصول التسبيح في حقه إلّا بالطريق الثاني.
و انت بعد الخبرة بما ذكرنا تعرف فساد ما ادّعاه بما لا مزيد عليه، و العجب أنّه عمّم دعواه للبهائم و الجماد و خصّ دليله بالجماد فقط، فان كان مقصوده أنّ البهايم مثل الجماد في عدم العلم و الادراك و كان اكتفاؤه بالجماد من باب الاختصار فهو ممنوع لما ذكرناه من الايات الصّريحة في أنّ لها إدراكا و فهما و شعورا، و إلّا فدليله أخصّ من مدّعاه و ستعرف بطلان دليله في الجماد أيضا انشاء اللّه تعالى.
و اما علم الهدى فقد بالغ في إنكار تسبيح الحيوان، و شدّد النكير على من ادّعاه و أطال الكلام في تأويل الايات و الأخبار بما يشمئزّ منه الطباع و يأبي عنه الذّوق السليم و الطبع المستقيم، و صرفها عن ظواهرها بغير دليل.
و عمدة جهة مصيره إلى الخلاف هو عدم عمله بأخبار الاحاد، و قد أقام علماؤنا الاصوليّون أدلّة معتبرة من الكتاب و السنّة و الاجماع و العقل على حجيّتها، و بعد ثبوت الحجيّة فالأخبار الّتي يثبت المدعى و تبطل قول المرتضى فوق حدّ الاحصاء هذا تمام الكلام في التسبيح القالي للحيوان.
و اما في الجماد و النّبات و السّماء و الأرض و غيرها مما ليس لها حركات إرادية فالظاهر من أخبار الأئمة الأطهار عليهم السّلام ثبوته أيضا.
فقد روى في الصّافي من الكافي عن الصادق عليه السّلام تنقض الجدر تسبيحها.
و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل أ تسبّح الشجر اليابسة فقال: نعم أما سمعت خشب البيت كيف ينقض فذلك تسبيحه فسبحان اللّه على كلّ حال.
و في البحار من العيون عن الرضا عن آبائه عن الحسين بن علىّ و محمّد بن الحنفيّة عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم أجمعين قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: تختّموا بالعقيق فانّه أوّل جبل أقرّ للّه بالوحدانيّة ولي بالنّبوة و لك يا على بالوصيّة.
و الأخبار في هذا المعني كثيرة لا حاجة إلى الاطالة بروايتها.
و قد خالفنا فيه الرازى أيضا فانّه قال من لا يكون حيّا مثل الجمادات فهي إنّما تسبّح اللّه بالطريق الثاني، لأنّ التسبيح بالطريق الأوّل لا يحصل الّا مع الفهم و العلم و الادراك و كلّ ذلك في حقّ الجماد محال فلم يبق حصول التسبيح في حقّه إلّا بالطريق الثاني ثمّ قال: و اعلم أنا لو جوّزنا في الجماد أن يكون عالما متكلّما لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى عالما قادرا على كونه حيّا و حينئذ ينسدّ علينا باب العلم بكونه حيّا و ذلك كفر، فانّه يقال إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات اللّه تعالى و صفاته و تسبيحه مع أنّها ليست باحياء فحينئذ لا يلزم من كون الشي ء عالما قادرا متكلما كونه حيّا و ذلك جهل و كفر لأنّ من المعلوم بالضرورة أنّ من ليس بحىّ لم يكن عالما قادرا، انتهى و محصل دليله أمران احدهما أنّ التسبيح القالى مستلزم للعلم و الفهم و الادراك و هو في حقّ الجماد محال و ثانيهما أنه لو كان متكلّما لانسدّ باب الاستدلال على حياة اللّه سبحانه بالتقريب الّذى ذكره.
و يتوجه على دليله الاول أنه إن أراد الاستحالة العقلية فممنوعة و إن أراد الاستحالة العادية فلا تثبت المدّعى و لا تفيد الامتناع، و الشاهد على ذلك قوله سبحانه في سورة سبا وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ أى رجعي معه التسبيح قال عليّ بن إبراهيم القميّ أي سبّحي للّه و قال: كان داود إذا مرّ بالبراري يقرأ الزبور و تسبّح الطير معه و الوحوش، و قال الرازي قوله «يا جبال أوّ بى معه» قال الزمخشرى يا جبال بدل من قوله فضلا معناه و آتيناه فضلا قولنا يا جبال أو من آتينا و معناه قلنا يا جبال أوّبى، انتهى.
فنقول إذا جاز تعلّق خطابه سبحانه على الجبال بالتأويب تفضّلا منه على داود فيجوز تعلّق خطابه عليها في غير هذا المقام أيضا، و بعبارة اخرى إذا كان الجبال قابلة للخطاب هناك كانت قابلة له مطلقا غاية الأمر أنّ تأويبها مع داود عليه السّلام كان ظاهرا يسمعه كلّ من حضر لإعجاز داود عليه السّلام نظير تسبيح الحصى في يد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، و فى ساير المقامات كان خفيّا لا يسمعه الناس كما قال تعالى وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.
و أوضح من ذلك دلالة قوله تعالى في سورة ص اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ. ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ. يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ وَ الطَّيْرَ فانّ الاية السّابقة أفادت تعلّق خطابه سبحانه على الجبال بالتسبيح، و هذه الاية دلّت على قبولها لذلك الخطاب و نصّت بأنّها يسبّحن بالرواح و الصباح و أنّ الطير شاركتها في التسبيح و أنّ كلّا منها أوّاب له أى رجّاع إلى ما يريد مطيع له بالتسبيح.
و العجب أنّ الجبائي مع إنكاره لعرفان الهدهد باللّه حسبما حكينا عنه فى تفسير آية النّمل قال في تفسير هذه الاية: و لا يمتنع أن يكون اللّه خلق فى الطيور من المعارف ما يفهم به أمر داود و نهيه فتطيعه فيما يريده منها و إن لم تكن كاملة العقل مكلّفة.
و قال الفخر الرازى: قوله و «سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ» الاية إنّ اللّه سبحانه خلق فى جسم الجبال حياة و عقلا و قدرة و منطقا و حينئذ صار الجبل مسبّحا للّه و قوله «يسبّحن» يدلّ على حدوث التسبيح من الجبال شيئا فشيئا و حالا بعد حال، و كان السامع محاضر تلك الجبال يسمعها تسبّح و قوله «وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً» معطوفة على الجبال، و التقدير و سخّرنا الطير محشورة قال ابن عبّاس: كان داود إذا سبّح جاوبته الجبال و اجتمعت إليه الطير فسبّحت معه، و اجتماعها إليه هو حشرها فيكون حاشرها هو اللّه سبحانه.
ثم قال الرازي: فان قيل كيف يصدر تسبيح اللّه عن الطير مع أنّه لا عقل لها قلنا لا يبعد أن يقال: إنّ اللّه كان يخلق لها عقلا حتّى يعرف اللّه فيسبّحه حينئذ و كلّ ذلك كان معجزة لداود عليه السّلام و قوله «كلّ له أوّاب» معناه كلّ واحد من الجبال و الطير أوّاب أى رجّاع، أى كلّما رجع داود إلى التسبيح فهذه الأشياء أيضا كانت ترجع إلى تسبيحاتها، و الفرق بين هذه الصّفة و بين ما قبلها أن فيما سبق علمنا أن الجبال و الطير سبّحت مع تسبيح داود، و بهذا اللّفظ فهمنا دوام تلك الموافقة، انتهى كلامه هبط مقامه.
فقد ظهر بذلك أنّه معترف بتسبيح الجبال و الطيور مقرّ بأنه لا يبعد إفاضة اللّه إليها عقلا فتعرف اللّه و تسبّح غاية الأمر أنّه يقول إنّ ذلك كلّه كان معجزة لداود عليه السّلام.
و يتوجّه عليه أنّه إذا لم يستبعد أن يفيض اللّه إليها عقلا فيأمرها بالتسبيح لغرض الاعجاز فأىّ بعد في إفاضة العقل إليها و أمرها بالتسبيح لا لذلك الغرض بل لمصالح اخر اقتضت ذلك، و هذا يهدم مادّة الاستحالة الّتي ادّعاها، فافهم جيّدا و اغتنم و تدبّر، هذا.
و يتوجه على دليله الثاني أنّ إثبات الحياة للّه سبحانه لا ينحصر دليله في العقل بل الاجماع و الأدلّة النقليّة على اتّصافه بالحياة قائمة، و قد دللنا على جملة من صفاته بالسمع ككونه متكلّما سميعا بصيرا فليكن صفة الحياة مثلها.
قال صدر المتألهين في المبدأ و المعاد: الحياة في حقنا يتمّ بادراك هو الاحساس و فعل هو التحريك منبعثين عن قوّتين مختلفتين، و لما ورد الشريعة باطلاقها عليه تعالى فالحىّ فى حقه تعالى هو الدراك الفعال، فاذا كان علمه مبدء للوجود كله فهو حىّ اذ لم يزد علمه على ذاته و لا افتقار له في الفعل إلى قوّة محرّكة دالّة كمالنا بل ذاته يعلم و يفعل فذاته حياته، انتهى.
فقد انقدح مما ذكرنا أن انتقاض دليل العقل للحياة بتسبيح الجماد لا يستلزم انتفاء الدليل مطلقا حتّى من السمع، فلا يكون انتقاضه موجبا لانسداد باب الاستدلال رأسا و لا للكفر أصلا، فلا إله إلّا اللّه الحىّ القيّوم تعالى شأنه و عظم سلطانه.
هذا كلّه على أن نقول بأن تسبيح السّماء و الأرض و الجماد و النبات مثل تسبيح ذوى العقول و أنه بالذكر و البيان و النطق و اللسان.
و أما على القول بأنّ تسبيحها مغاير لتسبيحهم و أنّ تسبيح السماء بدورانها، و الماء بجريانها، و تسبيح ساير الأشياء على حسبما طلبه منها ربّها و بارؤها كما قال به أهل العرفان و المعقول، و نطق به أخبار آل الرسول فيرتفع الاشكال رأسا.
قال القميّ في تفسير قوله تعالى «يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ» الاية تحويل كلّ ظلّ خلقه اللّه هو سجود للّه، و قال بعض أهل المعرفة في تفسير هذه الاية إنّ أمثال هذه الايات تدلّ على أنّ العالم كلّه في مقام الشهود و العبادة إلّا مخلوق له قوّة التفكر و ليس إلّا النفوس الناطقة الانسانيّة و الحيوانية خاصة من حيث أعيان أنفسهم لا من حيث هياكلهم، فانّ هياكلهم كساير العالم في التسبيح له و السجود، فأعضاء البدن كلّها مسبّحة ناطقة ألا تراها تشهد على النفوس المسخرة لها يوم القيامة من الجلود و الأيدى و الأرجل و الألسنة و السمع و البصر و جميع القوى، فالحكم للّه العلى الكبير.
و قال صدر المتألّهين في كتاب المبدأ و المعاد: و مما يجب عليك أن تعتقد أنّ الواجب تعالى كما أنّه غاية الأشياء بالمعنى المذكور، فهو غاية بمعني أنّ جميع الأشياء طالبة لكمالاتها و متشبّهة به تعالى فى تحصيل ذلك بحسب ما يتصوّر في حقّها، و لكلّ منها شوق و عشق إليه إراديّا كان أو طبيعيّا، و الحكماء الالهيّون حكموا بسريان العشق و الشوق في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتهم، فلكلّ وجهة هو مولّيها يحسن اليها و يقتبس بنار الشوق نور الوصول لديها، و إليه اشير في قوله «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ».
و قد صرّح الشيخ الرّئيس في عدّة مواضع من التعليقات بأنّ القوى الأرضية كالعقول الفلكية في أنّ الغاية في أفاعيلها ما فوقها إذ هى لا تحرّك المادّة لتحصيل ما تحتها من المزاج و غيره، و ان كانت هذه من التوابع اللّازمة، بل الغاية في تحريكاتها كونها على أفضل ما يمكن لها ليحصل لها التشبه بما فوقها كما في تحريكات نفوس الأفلاك أجرامها بلا تفاوت، فقد ثبت أنّ غاية جميع المحرّكات من القوى العالية و السّافلة في تحريكها لما دونها استكمالها بما فوقها و تشبهها به إلى أن ينتهى سلسلة التشبهات و الاستكمالات إلى الغاية الأخيرة و الخير الأقصى الّذي يسكن عنده السلك و تطمئنّ به القلوب، و هو الواجب جلّ مجده، فيكون غاية بهذا المعنى أيضا، و بهذا نعلم حقيقة كلامهم: لو لا عشق العالي لا نطمس السّافل، ثم لا يخفى عليك إنّ فاعل التسكين كفاعل التحريك في أنّ مطلوبه ليس ما تحته كالأين مثلا، بل كونه على أفضل ما يمكن له كما قال المعلم الثّاني: صلت السّماء بدورانها و الأرض برجحانها و قيل في الشعر:
- و ذلك من عميم اللّطف شكرو هذا من رحيق الشوق شكر
هذا و قد ظهر بما ذكرنا كلّه أنّ حمده سبحانه و ثنائه و تسبيحه و تقديسه فاش في مخلوقاته حالا أو مقالا و علم أنّه لا حاجة إلى تكلّف حذف المضاف في قوله الفاشي حمده بأن يقال: المراد الفاشي سبب حمده و هو النعم التي لا يقدر قدرها كما تكلّفه الشارح المعتزلي.
(و الغالب جنده) كما قال سبحانه وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ و قوله وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ أى جنده، و المراد بجنده في السماء هو الملائكة قال تعالى وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ و قال أيضا إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ.
و المراد بجنده في الأرض الناصرون لدينه.
روى في الصافي من التوحيد عن الصادق عليه السّلام يجي ء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم القيامة آخذا بحجزة«» ربه و نحن آخذون بحجزة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و شيعتنا آخذون بحجزتنا فنحن و شيعتنا حزب اللّه و حزب اللّه هم الغالبون، و اللّه ما يزعم أنها حجزة الازار، و لكنها أعظم من ذلك يجي ء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آخذا بدين اللّه و نحن نجى ء آخذين بدين نبيّنا و يجي ء شيعتنا آخذين بديننا.
فان قيل: غلبة جنده السماوى فى كلّ وقت لا غبار عليه و لا اشكال فيه، و أما جند الأرض فربما يكون مغلوبا و كفى به شاهدا وقعة الطف و شهادة سيد الشهداء عليه السّلام مع أولاده و اخوانه و أتباعه و أنصاره مع كونهم حزب اللّه و أنصار دين اللّه فما معني قوله عليه السّلام: الغالب جنده و قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ.
قلت: يحتمل أن يكون غلبة جنده و حزبه محمولا على الغلبة بالحجّة أو على الأغلب لأنّه سبحانه أعزّ جنده و نصر أنصار دينه في أغلب الأوقات و أيّدهم بالجنود السماوية كما قال عزّ من قائل لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ.
و يجوز أن يقال: إنّ جنده و إن كان مغلوبا احيانا في أوّل الأمر و لكن الغلبة لهم في آخره كما قال تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
روى في الصافي من الاكمال عن الصادق عليه السّلام و قد ذكر شق فرعون بطون الحوامل في طلب موسى كذلك بني اميّة و بنو العبّاس لما أن وقفوا على أنّ زوال ملك الأمراء و الجبابرة منهم على يد القائم عليه السّلام ناصبونا العداوة و وضعوا سيوفهم في قتل أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إبادة نسله طمعا في الوصول إلى قتل القائم عليه السّلام فأبي اللّه أن يكشف أمره لواحد من الظلمة إلّا أن يتمّ نوره و لو كره المشركون.
و فيه من الاكمال عن الصادق عليه السّلام في قوله «ليظهره على الدّين كلّه» و اللّه ما نزل تأويلها بعد و لا نزل تأويلها حتى يخرج القائم فاذا خرج القائم عليه السّلام لم يبق كافر باللّه العظيم و لا مشرك بالامام إلا كره خروجه حتّى لو كان كافر أو مشرك في بطن صخرة لقالت يا مؤمن في بطني كافر فاكسرني و اقتله.
و عن الباقر عليه السّلام القائم منّا منصور بالرّعب مؤيّد بالنّصر، تطوى له الأرض و تظهر له الكنوز يبلغ سلطانه المشرق و المغرب و يظهر اللّه دينه على الدّين كلّه فلا يبقى في الأرض خراب إلّا عمر.
(و المتعالى جدّه) قال الطبرسيّ في قوله سبحانه تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً معناه تعالى جلال ربّنا و عظمته عن اتّخاذ الصّاحبة و الولد عن الحسن و مجاهد، و قيل: معناه تعالت صفات اللّه الّتي هي له خصوصا و هي الصفات العالية الّتي ليست للمخلوقين، و قيل: معناه تعالى جدّ ربّنا في صفاته فلا تجوز عليه صفات الأجسام و الأعراض، و قيل: تعالى قدرة ربّنا عن ابن عبّاس و قيل: تعالى ذكره، و قيل: فعله و أمره، و قيل: علا ملك ربّنا، و قيل: تعالى آلاؤه و نعمه على الخلق، قال الطبرسي: و الجميع يرجع إلى معنى واحد و هو العظمة و الجلال، انتهى.
و فى تفسير عليّ بن إبراهيم عن الصادق عليه السّلام في تفسير هذه الاية قال: هي شي ء قالته الجنّ بجهالته فلم يرضه اللّه منهم، و معنى جدّ ربّنا بخت ربّنا.
و في المجمع و عن التهذيب و الخصال عن الباقر عليه السّلام إنما هو شي ء قالته الجنّ جهالة فحكي اللّه عنهم، يعني ليس للّه جدّ و إنما قالته الجنّ جهالة.
فان قلت: لفظ الجدّ قد استعمله أمير المؤمنين عليه السّلام أيضا في كلامه و وصف اللّه سبحانه به فكيف التوفيق بينه و بين روايتي الباقر و الصادق عليهما السّلام.
قلت: الجدّ حسبما عرفت قد يطلق بمعني العظمة و الجلال، و قد يطلق بمعني البخت و الطالع، و لا بأس باستعماله فيه تعالى بالمعني الأوّل كما في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام و أما استعماله فيه سبحانه بالمعني الثاني فغير جايز، و لما عرف الأئمة عليهم السّلام انّ الجنّ يصفونه سبحانه به مريدين به المعني الثاني لا جرم نسبوهم إلى الجهالة.
و لما حمد اللّه سبحانه باعتبارات لا يليق إلّا له عقّبه بالاشارة إلى سبب الحمد فقال: (أحمده على نعمه التوام و آلائه العظام) أى على نعمه المترادفة المتواترة الّتي لا فترة بينها كالتوأمين من الأولاد يجي ء أحدهما على الاخر، و على آلائه العظيمة الّتي يعجز عن معرفتها العقول و يحصر عن إحصائها اللسان و يقصر عن وصفها المنطق و البيان، و ان شئت أن تعرف أنموذجا من نعم اللّه سبحانه عليك، فلنقتصر على نعمة الأكل الّتي بها قوام بدن الانسان و نشر إلى جملة من الأسباب الّتي بها تتم نعمة الأكل.
فنقول: إنّ الأكل فعل من الأفعال و كلّ فعل فهو حركة و الحركة لا بدّ لها من جسم متحرّك هو آلتها، و لا بدّ لها من قدرة على الحركة، و إرادة محرّكة له فلنذكر الأعضاء الّتي لها مدخلية في الأكل ليقاس عليها غيرها.
فنقول: إذا رأيت الطعام من بعد و اشتهيت أكله فلا بدّ لك من الحركة اليه، و حركتك لا تنفع ما لم تتمكن من أخذه فافتقرت إلى آلة باطشة فأنعم اللّه عليك بخلق اليدين و هما طويلتان مشتملتان على مفاصل كثيرة لتتحرّك في الجهات فتمتدّ و تثني اليك، فلا تكون كخشبة منصوبة ثمّ جعل رأس اليد عريضا يخلق الكفّ ثمّ قسّم رأس الكفّ بخمسة أقسام هي الأصابع، و جعلها في صفّين ليكون الابهام. في جانب و يدور على الأربعة الباقية، و لو كانت جميعها في صفّ واحد لم يحصل بها تمام الغرض، فوضعها بحيث إن بسطتها كانت لك مجرفة، و إن ضممتها كانت مغرفة، و إن جمعتها كانت آلة للضرب، و إن نشرتها ثمّ قبضتها كانت لك آلة في القبض.
ثمّ خلق لها أظفارا لتصون رءوس الأصابع من التفتّت، و لتلتقط بها الأشياء الدقيقة الّتي لا تحويها الأصابع فتأخذها برءوس أظفارك.
فاذا أخذت بها الطعام فلا ينفعك الأخذ إلّا إذا أمكنك ايصاله إلى المعدة، و هي في الباطن فلا بدّ و أن يكون في الظاهر دهليز إليها حتّى يدخل الطعام منه، فلا ينفعك منه.
فجعل الفم منفذا إلى المعدة مع ما فيه من الحكم الكثيرة وراء كونه منفذا للطعام إلى المعدة.
ثمّ إذا وضعت الطعام في الفم و هو قطعة فلا يتيسّر لك ابتلاعه حتّى تطحن فخلق لك اللّحيين من عظمين و ركّب فيهما الأسنان و طبق الأضراس من العليا على السفلي لتطحن بهما الطعام طحنا.
ثمّ الطعام تارة يحتاج إلى الكسر و تارة إلى القطع، ثمّ إلى الطحن بعد ذلك، فقسّم الأسنان إلى عريضة طواحن كالأضراس، و إلى حادّة قواطع كالرباعيات، و إلى ما يصلح للكسر كالأنياب.
ثمّ جعل مفصل اللّحيين متخلخلا بحيث يتقدّم و يتأخر حتىّ يدور على الفكّ الأعلى دوران الرّحى، و لو لا ذلك لما تيسّر إلّا ضرب أحدهما على الاخر مثل تصفيق اليدين و لا يتحصّل به الطحن، فجعل اللّحي الأسفل متحرّكا حركة دوريّة و اللّحى الأعلى ثابتا لا يتحرّك عكس الرّحى الذى يصنعه المخلوق، فانّ الحجر الأسفل منه يسكن و الأعلى يتحرّك.
ثمّ إنّك إذا وضعت الطعام في فضاء الفم فهو يحتاج إلى التصريف و التقليب و الحركة من جانب إلى جانب، و لا يمكن أن يكون حركته باليد و هو في داخل الفم، فأنعم اللّه سبحانه بخلق اللسان، فانّه يطوف في جوانب الفم و يردّ الطعام من الوسط إلى الاسنان بحسب الحاجة كالمجرفة التي تردّ الطعام إلى الرحى، هذا.
مضافا الى ما فيه من فائدة الذّوق و قوّة النطق و الحكم الّتي لا نطيل بذكرها.
ثمّ لما كان الطعام ربما يكون يابسا فلا يمكن ابتلاعه إلّا بأن ينزلق إلى الحلق بنوع رطوبة، خلق اللّه سبحانه تحت اللسان عينا يفيض منها اللعاب، و ينصبّ بقدر الحاجة حتّى يتعجن به الطعام.
و لما لم يمكن ايصاله إلى المعدة بدفعه باليد و لم تكن المعدة ممتدّة حتّى تجذبه من الفم إلى نفسها، هيّأ اللّه سبحانه المرى و الحنجرة و جعل على رأسها طبقات تنفتح لأخذ الطعام ثمّ تنطبق و تنضغط حتّى ينقلب الطعام بضغطه فيهوى إلى المعدة في دهليز المرى.
فاذا ورد الطعام على المعدة و هو خبز و فاكهة مقطعة فلا يصلح أن يصير لحما و عظما و دما على هذه الهيئة بل لا بدّ و أن يطبخ طبخا تامّا حتّى تتشابه أجزاؤه، فخلق اللّه تعالى المعدة على هيئة قدر فيقع فيها الطعام و تحتوى عليه و تغلق عليه الأبواب، فلا يزال يلبث فيها إلى أن يتمّ الهضم و ينضج بالحرارة الّتي تحيط بالمعدة من الأعضاء الباطنة، إذ من جانبها الأيمن الكبد، و من الأيسر الطحال، و من قدّام الترائب، و من خلف لحم الصّلب، فتتعدّى الحرارة إليها من تسخين هذه الأعضاء الّتي بها ينطبخ الطعام و يصير مائعا متشابها يصلح للنفوذ في تجاويف العروق، و عند ذلك يشبه ماء الشعير في تشابه أجزائه و رقّته، و هو بعد لا يصلح للتغذية، فخلق اللّه تعالى بينها و بين الكبد مجارى من العروق و جعل لها فوهات كثيرة حتّى ينصب الطعام فيها فينتهى إلى الكبد.
و الكبد معجون من طينة الدّم حتّى كأنّه دم، و فيه عروق كثيرة شعرية منتشرة في أجزاء الكبد، فيصبّ الطعام الرقيق النافذ فيها و ينتشر في أجزائها حتّى تستولي عليه قوّة الكبد، فتصبغه بلون الدّم فيستقرّ فيها ريثما يحصل له نضج آخر و يحصل له هيئة الدّم الصافي الصّالح لغذاء الأعضاء إلّا أنّ حرارة الكبد هي التي تنضج هذا الدّم. فيتولّد من هذا الدّم فضلتان كما يتولد في جميع ما يطبخ أحدهما شبيهة بالدّردى و العكر و هو الخلط السّوداوى، و الأخرى شبيهة بالرغوة و هي الصّفراء، و لو لم تفصل عنه فضلتان فسد مزاج الأعضاء.
فخلق اللّه المرارة و الطحال و جعل لكلّ منهما عنقا ممدودا إلى الكبد داخلا في تجويفه فتجذب المرارة الفضلة الصّفراوية، و يجذب الطحال العكر السّوداوي فيبقي الدّم صافيا ليس فيه إلّا زيادة رطوبة ورقة.
فخلق اللّه سبحانه الكليتين و أخرج من كلّ منهما عنقا طويلا إلى الكبد و من عجائب حكمة اللّه تعالى أنّ عنقها ليس داخلا في تجويف الكبد بل متصل بالعروق الطالعة من حدبة الكبد حتّى يجذب ما يليها بعد الطلوع من العروق الدّقيقة التي في الكبد، إذ لو اجتذب قبل ذلك لغلظ و لم يخرج من العروق، فاذا انفصلت منه المائية فقد صار الدّم صافيا من الفضلات الثلاث نقيّا من كلّ ما يفسد الغذاء.
ثمّ إنّ اللّه اطلع من الكبد عروقا، ثمّ قسّمها بعد الطلوع أقساما، و شعّب كلّ قسم بشعب، و انتشر ذلك في البدن كلّه من الفرق إلى القدم ظاهرا و باطنا فيجري الدّم الصافي فيها و يصل إلى أجزاء البدن تماما.
و لو حلّت بالمرارة آفة فلم تجذب الفضلة الصّفراويّة فسد الدّم و حصل منه الأمراض الصفراويّة كاليرقان و البثور و الحمرة.
و إن حلّت بالطحال آفة فلم يجذب الخلط السّوداوي حدثت الأمراض السّوداوية كالبهق و الجذام و الماليخوليا و غيرها.
و ان لم تندفع المائية نحو الكلى حدث منه الاستسقاء و غيره.
ثمّ انظر إلى بديع حكمته سبحانه كيف رتّب المنافع على هذه الفضلات الثلاث الخسيسة.
أمّا المرارة فانّها تجذب بأحد عنقيها و تقذف بالعنق الاخر إلى الأمعاء ليحصل له في ثفل الطعام رطوبة زلقة و يحصل في الأمعاء لذع يحرّكها للدّفع فتنضغط حتّى يندفع الثفل و ينزلق و يكون صفرته لذلك. و أمّا الطحال فانّه يحيل تلك الفضلة إحالة يحصل بها فيه حموضة و قبض ثمّ يرسل منها في كلّ يوم شيئا إلى فم المعدة فيحرّك الشهوة بحموضته و ينبّهها و يثيرها و يخرج الباقي مع الثفل.
و أمّا الكلية فانّها تغتذي ممّا في تلك المائية من دم و ترسل الباقي إلى المثانة.
و لنقتصر على هذا القدر من بيان نعم اللّه تعالى في الأسباب التي اعدّت للأكل، و قد مرّ في شرح الفصل الخامس من فصول الخطبة الثانية و الثمانين بعض الكلام في تشريح جملة من أعضاء الانسان و قد علم مما أوردناه هناك و ههنا أنّ اللّه سبحانه أسبغ علينا نعمه ظاهرة و باطنة، و هذا الّذي أوردناه قطرة من بحار نعم اللّه بل جملة ما عرفناه و عرفه الخلق من نعمه سبحانه بالاضافة إلى ما لم نعرفه و لم يعرفوه أقلّ من قطرة من بحر إلّا أنّ من علم شيئا من ذلك عرف شمة من معاني قوله تعالى «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» و نسأل اللّه سبحانه التوفيق لشكر نعمه، و الثّناء عليها.
و لما حمده سبحانه على نعمه المترادفة و آلائه العظيمة أردفه بالاشارة إلى أعظم نعمه سبحانه و هو نعمة العفو فقال: (الذي عظم حلمه فعفى) و الحلم في الانسان فضيلة يعسر معها انفعال النفس عن المكروهات المنافية للطبع، و أما في اللّه سبحانه فيعود إلى عدم تعجيله بالعقوبة و الحليم من أسمائه الحسنى.
قال أحمد بن فهد: الحليم هو ذو الصّفح و الاناة الذي لا يغيّره جهل جاهل و لا غضب مغضب و لا عصيان عاص.
و لما وصف حلمه تعالى بالعظمة فرّع عليه وصفه بالعفو، لأنّ عظم الحلم مستلزم للعفو و العفو من الأسماء الحسنى أيضا.
قال ابن فهد: هو المحّاء للذّنوب الموبقات و مبدلها بأضعافها من الحسنات، و العفو فعول من العفو و هو الصّفح عن الذّنب و ترك مجازاة المسى ء و قيل: مأخوذ من عفت الريح إذا درسته و محته.
و قوله (و عدل في كلّ ما قضى) يعني أنّ جميع مقتضياته و مقدّراته على حدّ الاعتدال و وجه الكمال مصون من التفريط و الافراط، لجريانها جميعا على مقتضى الحكمة و النظام الأصلح، و يحتمل أن يكون المراد بما قضاه ما حكم به، فالمعنى أنه سبحانه عادل في تكاليفه و أحكامه الشرعيّة و ما يترتّب عليها من المثوبات و العقوبات، لأنّ الظلم قبيح محال في حقه سبحانه و ما ربّك بظلّام للعبيد.
(و علم ما يمضى و ما مضى) لا يخفى ما في هذه القرينة من حسن الاشتقاق و تقديم يمضي على مضى لاقتضاء السجع و القافية مضافا إلى ما فيه من نكتة لطيفة، و هو الاشارة إلى أنّ علمه بالمستقبل كعلمه بالماضي.
و بعبارة اخرى علمه بالمستقبل و الماضي واحد بخلاف غيره فانّ علمهم بالماضى أسبق و أكمل من علمهم بالمضارع، فاذا اريد وصف غيره بالعلم يقال: فلان علم ما كان و ما يكون أو يقال: علم ما مضى و ما يأتي، فقدّم في وصفه سبحانه ما يأتي على ما سبق تنبيها على أنّ علمه ليس كعلم المخلوقين، و المقصود به الاشارة إلى إحاطته سبحانه بجميع الامور مستقبلها و ماضيها كلّيها و جزئيها، و قد مضى تحقيق ذلك في شرح الفصل السابع من المختار الأوّل و غيره أيضا فليتذكر.
(مبتدع الخلايق بعلمه) أى مبدعهم و مخترعهم بارادته التي هي العلم بالاصلح و النظام الخير فيكون علمه سببا و علة لما ابتدع من مخلوقاته مقدّما عليه، و على هذا فالباء في بعلمه سببيّة.
و المستفاد من الشارح المعتزلي أنها باء المصاحبة حيث قال: قوله: مبتدع الخلايق بعلمه، ليس يريد أنّ العلم علّة في الابداع كما يقال: هوى الحجر بثقله، بل المراد أبدع الخلق و هو عالم كما تقول خرج زيد بسلاحه أى خرج متسلّحا.
و الظّاهر أنّه وافق في ذلك المتكلمين حيث قالوا: إنّ العلم تابع للمعلوم و التابع يمتنع أن يكون سببا، فالباء على رأيهم أيضا للاستصحاب، و الحقّ ما ذكرناه لما مرّ من أمير المؤمنين عليه السّلام في المختار الأوّل من قوله: عالما بها قبل ابتدائها، فانه صريح في أنّ علمه سبحانه بالأشياء مقدّم على الأشياء و ليس تابعا لها، و شرحناه هنا بما لا مزيد عليه و قد تقدّم الكلام مستوفي فى أنّ إبداع الأشياء إنما هو بالارادة و العلم فى شرح الفصل الثالث من المختار التسعين، و لا حاجة هنا إلى الاطالة.
(و منشئهم بحكمه) أى موجدهم بحكمه الالزامى التكوينى الذي لا يمتنع منه شي ء هو و حكم قدرته النافذ في الأشياء كلّها بالوجود و إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
و يحتمل أن يكون المراد بالحكم الحكمة يعنى أنّه أوجد المخلوقات على وفق الحكمة و المصلحة و وضع كلّا منها موقعه اللّايق به، و لا أحكام و لا نظام فوق أن يكون الموجودات على كثرتها و تفصيلها متفاوته متعاضدة منتفعة بعضها ببعض مؤدّية بعضها إلى بعض، و يكون كثرتها ككثرة أعضاء شخص واحد و حركاتها المختلفة المتضادة كحركات صاحب الرقص المنتظم حيث يكون مع اختلاف هياتها سرعة و بطؤا و تعويجا و تقويما كهيئة واحدة، فأجزاؤها جميعا مشدودة في رباط واحد مع أنّ كلّا منها متوجّه نحو غاية مخصوصة تترتّب عليه، و الكلّ من حيث هو كلّ له غاية واحدة و هو التوجّه إلى مبدعه و منشئه.
و لما ذكر ايجاده سبحانه للأشياء على نحو الابداع و الانشاء و الاختراع لا بعنوان خطبه 191 نهج البلاغه بخش 1 الاستفادة من الغير أكدّ ذلك إيضاحا بقوله.
(بلا اقتداء و لا تعليم و لا احتذاء لمثال صانع حكيم) يعنى صنعه و ابداعه ليس باقتداء صانع صنع قبله فاتبعه و لا بتعليم ذلك الصانع له فيتعلمه لأنه سبحانه قبل القبل ليس شي ء قبله حتّى يستفيد منه و يتبعه و يحتذى حذوه، و قد مضى نظير هذه الفقرة فى الفصل الثاني من فصول المختار التسعين و ذكرنا هنا ما ينفعك فى هذا المقام.
(و لا اصابة خطاء) قال الشارح البحرانى أى لم يكن إنشاؤه للخلق أوّلا اتفاقا على سبيل الاضرار و الخطاء من غير علم منه ثمّ علمه بعد ذلك فاستدرك فعله و أحكمه فأصاب وجه المصلحة فيه، و الاضافة بمعنى اللّام لأنّ الاصابة من لواحق ذلك الخطاء، انتهى.
أقول: محصله أنّه سبحانه لم يخطى ء في شي ء من خلقه فيصيبه و يصلحه أى يجبر خطائه بالصواب و فساده بالصّلاح، و يحتمل أن يكون الاصابة بمعنى المصادفة و الوصول إلى الشي ء.
(و لا حضرة ملاء) أى لم يكن خلقه للأشياء بحضور جماعة من العقلاء و أصحاب الرأى بحيث يشير كلّ منهم عليه برأيه و يعينه بقوله في كيفية خلقه كما هو المعروف في الصّناع البشريّة إذا أرادوا صنعة شي ء معظم يجتمعون مع أبناء نوعهم و يشاورونهم و يستمدّون منهم فيشيرون عليهم و يعينونهم، لأنّ ذلك مستلزم للنقص و الافتقار و الحاجة و هو سبحانه منزّه عنه.
و أيضا فانّ الملاء من جملة مخلوقاته فكيف يتصوّر حضورهم في خلق أنفسهم قال سبحانه «ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» أى أعوانا و هذا كلّه تنزيه لفعله من أن يكون مثل أفعال العباد محتاجا إلى معاونة الغير.
و لما حمد اللّه سبحانه و أثنا عليه بما هو أهله اتبعه بالشهادة على رسالة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: (و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله ابتعثه) أى بعثه (و) الحال أنّ (النّاس) يوم بعثه (يضربون في غمرة) أى يسيرون في الانهماك في الضّلال و الباطل لأنّهم يومئذ كما قال عليه السّلام في الفصل السادس عشر من المختار الأوّل: ملل متفرّقة و أهواء منتشرة و طرائق متشتّتة بين مشبه للّه بخلقه أو ملحد في اسمه أو مشير به إلى غيره.
أو أنهم يسيرون في الشدّة و الزّحمة كما قال عليه السّلام في الفصل الأوّل من المختار السّادس و العشرين: إنّ اللّه بعث محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنتم معشر العرب على شرّ دين و في شرّ دار منيخون بين حجارة خشن و حيات صمّ تشربون الكدر و تأكلون الجشب و تسفكون دماءكم و تقطعون أرحامكم.
(و يموجون في حيرة) أى يضطربون و يختلفون في حيرة و جهالة لكثرة الفتن في أيام الفترة و زمان البعثة كما قال عليه السّلام في الفصل الثالث من المختار: و الناس في فتن تنجذم فيها حبل الدّين و تزعزعت سوارى اليقين و اختلف النجر و تشتّت الأمر و ضاق المصدر و عمى المخرج «إلى قوله» فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون.
(و قد قادتهم أزمّة الحين) أى أزمّة الهلاك كانت تجرّهم و تقودهم إلى الهلاك الدّائم و الخزى العظيم، فالمراد بالحين الهلاك الاخروى لا الهلاك الدّنيوي و الموت كما زعمه البحراني، و استعار لفظ الأزمة للمعاصي و الاثام و شبههم بالحيوان الذي يتبع قائده و يسير خلفه، يعني أنّهم يتبعون الشّهوات و يسيرون خلف السّيئات فتقودهم إلى هلاك الأبد.
(و استغلقت على أفئدتهم أقفال الرّين) شبّه رين الذنوب و هو وسخها و دنسها بالأقفال المغلقة و هو من تشبيه المعقول بالمحسوس و وجه الشبه أنّ الأقفال إذا اغلقت على الأبواب تمنع من الدّخول في البيت فكذلك رين الذّنوب إذا طبع على القلوب يمنع من دخول أنوار الحقّ فيها كما قال سبحانه «بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» و ذكر الاستغلاق ترشيح للتشبيه أى استحكمت في قلوبهم أو ساخ الذّنوب بحيث صارت مانعة من إفاضة أنوار الحقّ إليها كالبيوت المغلقة بالأقفال المانعة من الدخول عليها.
|