و من كلام له عليه السّلام في الخوارج
و هو الاربعون من المختار في باب الخطب لمّا سمع قولهم لا حكم إلّا للّه قال عليه السّلام: كلمة حقّ يراد بها الباطل نعم إنّه لا حكم إلّا للّه و لكن هؤلاء يقولون: لا إمرة و إنّه لا بدّ للنّاس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، و يستمتع فيها الكافر، و يبلّغ اللّه فيها الأجل، و يجمع به الفي ء، و يقاتل به العدوّ، و تأمن به السّبل، و يؤخذ به للضّعيف من القويّ حتّى يستريح برّ، و يستراح من فاجر. و في رواية أخرى أنّه لمّا سمع تحكيمهم قال: حكم اللّه أنتظر فيكم، و قال عليه السّلام: أمّا الامرة البرّة فيعمل فيها التّقيّ، و أمّا الامرة الفاجرة فيتمتّع فيها الشّقيّ، إلى أن تنقطع مدّته و تدركه منيّته.
اللغة
(نعم) بفتحتين حرف جواب لتصديق المخبر إذا وقعت بعد الخبر و (الامرة) بالكسر الولاية اسم مصدر من امر علينا مثلثة اذا ولى و (البرّ) بفتح الباء كالبارّ الكثير البرّ و الجمع أبرار و (الفى ء) الغنيمة و لفظ (التّحكيم) في قول الرّضى (ره) من المصادر المولّدة من قولهم لا حكم إلّا للّه مثل التسبيح و التهليل من قول سبحان اللّه و لا إله إلّا اللّه.
الاعراب
لكن مخففّة من الثقيلة و هي حرف ابتداء غير عاملة لدخولها على الجملتين و معناها الاستدراك و فسّر بأن ينسب لما بعدها حكما مخالفا لما قبلها، و لذلك لا بدّ أن يتقدّمها كلام مناقض لما بعدها، نحو ما هذا ساكنا و لكن متحرّك، أو ضدّ له نحو ما هذا أبيض و لكن أسود، قيل أو خلاف نحو ما زيد قائما و لكن شارب، و قيل لا يجوز ذلك و كلامه عليه السّلام دليل على الجواز.
و جملة و أنّه لا بدّ للنّاس اه حاليّة، و الضّمير في أنّه للشّأن: و جملة يعمل في امرته كالتّالية لها مجرورة المحلّ على الوصفيّة، و قوله حتّي يستريح كلمة حتّى إمّا بمعنى إلى على حدّ قوله سبحانه: حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى أو بمعني كي التعليليّة على حدّ قوله: وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ و قوله: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا.
المعنى
قد مضى في شرح الخطبة السادسة و الثّلاثين كيفيّة قتال الخوارج، و مرّ هناك أنّهم اتّخذوا قول لا حكم إلّا للّه شعارا لهم و أنّه عليه السّلام لمّا دخل الكوفة جاء اليه زرعة بن البرج الطائي و حرقوص بن زهير التّميمي ذو الثّدية فقال: لا حكم إلا للّه و مرّ أيضا أنّه خرج يخطب النّاس فصاحوا به من جوانب المسجد لا حكم إلّا للّه و صاح به رجل: وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ فقال عليه السّلام: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ و لما سمع قولهم لا حكم إلّا للّه قال عليه السّلام إنّها (كلمة حقّ يراد بها الباطل) أمّا انّها كلمة حقّ فلكونها مطابقة لنفس الأمر إذ هو سبحانه أحكم الحاكمين لارادّ لحكمه و لا دافع لقضائه كما قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ.
يعنى أنّه إذا أراد شيئا لا بدّ من وقوعه و يحتمل أن يكون الحكم لحقيّتها نظرا إلى كون جميع الأحكام مستندا إليه سبحانه بملاحظة أنّه سبحانه جاعلها و شارعها كما قال: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً.
و لأجل مطابقتها لنفس الأمر صدّقهم بقوله (نعم لا حكم إلّا للّه) و أما أنّهم أرادوا بها الباطل فلأنّ مقصودهم بذلك إنّما كان إبطال جعل الحكمين و إنكار صحّة تفويض الأمر إليهما بزعم أنّ الأحكام كلّها للّه سبحانه، و هو الحاكم لا غير، فلا يجوز لأحد الحكم في شي ء من الأشياء إلّا بنصّ به في القرآن، فلا يصح التّحكيم و إناطة الأمر برأى الحكمين، لعدم ورود نصّ فيه بصحّته، و هو معنى قولهم بعد ما سمعوا صحيفة الصّلح في صفّين على ما مرّ: الحكم للّه يا علىّ لا لك فلا نرضى بأن يحكم الرّجال في دين اللّه، و قولهم لابن عبّاس لما احتجّ معهم بأمره: و الرّابعة أنّه حكم الرجال في دين اللّه و لم يكن ذلك إليه.
و وجه بطلان ذلك أوّلا أنّ كون الأحكام للّه لا يستلزم كون جميع الأحكام منصوصا به في القرآن إذربّ حكم مستنبط من السنة و من ساير الأدلّة الشرعية، و هو لا يخرج بذلك عن كونه حكم اللّه و ثانيا منع عدم ورود النصّ بالتحكيم في القرآن و قد امر بالتّحكيم في شقاق بين الرّجل و امرئته فقال سبحانه: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها و حكم الرّجال في طاير فقال: وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فدماء المسلمين أعظم من دم طاير، و الشّقاق بينهم أشدّ من الشقاق بين الرّجل و المرأة.
و ثالثا أنّ مقتضى نفيهم الحكم لغير اللّه هو نفى الامارة للملازمة التي بينهما كما أشار إليه بقوله (و لكن هؤلاء يقولون لا امرة) إلّا أنّ التّالى باطل فالمقدّم مثله بيان الملازمة أنّ الأمير لا بدّ أن يكون حاكما و ناظرا إلى وجوه المصلحة فاذا لم يجر له حكم و لم ينفذ له امر و لم يمض له رأى فلا يكون له امارة البتة (و) أمّا بطلان التّالى فلأنّه (لا بدّ للنّاس من أمير برّ أو فاجر) و ذلك لأنّ النوع الانساني بمقتضى النّفس الأمّارة المودعة فيه مايل إلى الشّرور و المفاسد، فلا بدّ في بقاء نظامهم و انتظام أمر معاشهم و معادهم من مانع يمنعه من ظلمه، و رادع يردعه عن شرّه.
و العلّة المانعة عند الاستقراء مرجعها إلى أحد أمور أربعة إمّا عقل زاجر أو دين حاجز أو عجز مانع أو سلطان رادع، و السّلطان القاهر أبلغها نفعا لأنّ العقل و الدّين ربّما كانا مغلوبين بدواعي الهوى فيكون رهبة السّلطان أقوى ردعا و أعمّ نفعا و إن كان جائرا و لهذا اشتهر أنّ ما نزع السّلطان أكثر ممّا نزع القرآن، و ما يلتئم بالسّنان لا ينتظم بالبرهان.
و كفاك شاهدا ما يشاهد من استيلاء الفتن و الابتلاء بالمحن بمجرّد هلاك من يقوم بامارة الحوزة و رعاية البيضة و إن لم يكن على ما ينبغي من الصّلاح و السّداد، و لم يخل من شائبة شرّ و فساد و لهذا لا ينتظم أمر أدنى اجتماع كرفقة طريق بدون رئيس يصدرون عن رأيه و مقتضى أمره و نهيه.
بل ربّما يجرى مثل هذا فيما بين الحيوانات العجم كالنّحل لها يعسوب يقوم مقام الرئيس ينتظم أمرها ما دام فيها، فاذا هلك انتشر الأفراد انتشار الجراد و شاع فيما بينها الهلاك و الفساد.
و بالجملة فقد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ وجود السّلطان و إن كان جائرا خير من عدمه المستلزم لوجود الفتنة و وقوع الهرج و المرج بين الخلق إذ كان بوجوده صلاح بعض الامور، على أنّه و ان كان لا خير فيه أيضا من جهة جايريّته إلّا أنّ هيبته و وجوده بين الخلق ممّا يوجب الانزجار عن إثارة الفتن و يكون ذلك خيرا وقع في الوجود بوجوده لا يحصل مع عدمه، فوجوده مطلقا واجب.
و هذا معنى قوله و لا بدّ للنّاس من أمير برّ أو فاجر و قوله (يعمل في امرته المؤمن) روي في شرح المعتزلي عن بعض شارحي كلامه عليه السّلام أنّ النّظر فيه إلى أمارة الفاجر و هكذا الألفاظ التي بعد ذلك كلّها راجعة إليها و أنّ المقصود بذلك أنّ أمارة الفاجر ليست بمانعة للمؤمن من العمل لأنّه يمكنه أن يصلّي و يصوم و يتصدّق و إن كان الأمير فاجرا في نفسه و بقوله (و يستمتع فيها الكافر) أنّه يتمتّع بمدّته كما قال سبحانه للكافرين: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ.
و قال الشّارح البحراني: الضّمير في امرته راجع إلى الأمير، و لمّا كان لفظ الأمير محتملا للبرّ و الفاجر كان المراد بالامرة التي يعمل فيها المؤمن امرة الأمير من حيث هو برّ و بالتي يستمتع فيها الكافر امرته من حيث هو فاجر قال: و هذا أولى من قول بعض الشّارحين إنّ الضّمير يعود إلى الفاجر فانّ إمرة الفاجر ليست مظنة تمكن المؤمن من عمله.
و المراد بعمل المؤمن في امرة البرّ عمله على وفق أو امر اللّه و نواهيه إذ ذلك وقت تمكنه منه و المراد باستمتاع الكافر في إمرة الفاجر انهماكه في اللذات الحاضرة التي يخالف فيها أوامر اللّه و نواهيه و ذلك وقت تمكّنه من مخالفة الدّين.
أقول و يؤيّد هذا الوجه الرّواية الاخرى الآتية، و يمكن أن يكون المعنى أنّه لا بدّ من انتظام امور المعاش من أمير برّ أو فاجر ليعمل المؤمن بما يستوجب به جنّات النعيم، و يتمتّع فيها الكافر ليكون حجّة عليه (و يبلغ اللّه فيها الاجل) أى في أمارة الأمير برّا كان أو فاجرا و فايدة هذه الكلمة تذكير العصاة ببلوغ الأجل و تخويفهم به (و يجمع به) أى بالأمير مطلقا (الفي ء و يقاتل ب) وجود (ه العدوّ و تأمن ب) سطوت) ه السّبل و يؤخذ ب) عد ل (ه) الحقّ (للضّعيف من القويّ) و هذه الامور كلّها ممكنة الحصول في أمارة الفاجر كحصولها في أمارة البرّ.
ألا ترى أنّ امراء بني اميّة مع كونهم فسّاقا كان الفي ء يجمع بهم و البلاد تفتح في أيامهم، و الثغور الاسلامية محروسة و السّبل آمنة، و القويّ مأخوذ بالضّعيف، و لم يضرّ جورهم شيئا في تلك الامور.
و قوله (حتّى يستريح برّ و يستراح من فاجر) يعنى أنّ هذه الامور لا تزال تحصل بوجود الامير برّا كان أو فاجرا إلى أن يستريح البرّ من الامراء أو مطلق النّاس و يستريح النّاس من الأمير الفاجر أو مطلق الفاجر بالموت أو العزل، و فيهما راحة للبرّ لأنّ الآخرة خير من الاولى و لا يجري الامور غالبا على مراده و لا يستلذّ كالفاجر بالانهماك في الشّهوات، و راحة للناس من الفاجر لخلاصهم من جوره و إن انتظم به نظام الكلّ في المعاش.
و على كون حتّى مرادفة كي التّعليلية فالمعنى أنّ غاية صدور هذه الامور أن يستريح البرّ من النّاس في دولة البرّ من الامراء، و يستريح الناس مطلقا من بغى الفجار و من الشرور و المكاره في دولة الأمير مطلقا، و لا ينافي ذلك اصابة المكروه من فاجر احيانا هذا.
و قال السّيد ره (و فى رواية اخرى انّه) عليه السّلام (لما سمع تحكيمهم قال حكم اللّه انتظر فيكم) اى جريان القضاء بقتلهم و حلول وقت القتل و قد مرّت هذه الرّواية في شرح الخطبة الخامسة و الثلاثين عن ابن و يزيل في كتاب صفّين و لا حاجة إلى الاعادة.
و قال (أما الامرة البرّة فيعمل فيها التّقيّ) و يقوم بمقتضا تقواه (و أما الامرة الفاجرة فيتمتّع فيها الشّقىّ) بمقتضى شقاوته (إلى أن تنقطع مدّته) اي مدّة دولته أو حياته (و تدركه منيته)
تنبيه
قال الشّارح المعتزلي في شرح المقام: إنّ هذا الكلام نصّ صريح منه عليه السّلام بانّ الامامة واجبة، فأمّا طريق وجوب الامامة ماهي فانّ مشايخنا البصريّين يقولون طريق وجوبها الشّرع و ليس في العقل ما يدلّ على وجوبها، و قال البغداديّون و أبو عثمان الجاحظ من البصريّين و شيخنا أبو الحسين إنّ العقل يدلّ على وجوب الرّياسة و هو قول الاماميّة إلّا أنّ الوجه الذي يوجب أصحابنا الرّياسة غير الوجه الذّي توجب الاماميّة منه الرّياسة.
و ذاك إنّ أصحابنا يوجبون الرّياسة على المكلّفين من حيث كان في الرياسةمصالح دنيويّة و دفع مضار دنيويّة، و الاماميّة يوجبون الرّياسة على اللّه من حيث كان في الرّياسة لطفا به و بعدا للمكلّفين عن مواقعة القبايح العقليّة، و الظاهر من كلام أمير المؤمنين يطابق ما يقوله أصحابنا ألا تراه كيف علّل قوله: لا بدّ للنّاس من أمير فقال في تعليله يجمع بها الفي ء و يقاتل بها العدوّ و يؤمن به السّبل و يؤخذ الضّعيف من القوي، و هذه كلّها مصالح الدّنيا انتهى.
أقول: و أنت خبير بما فيه، لأنّ كلامه عليه السّلام نصّ صريح في وجوب الامارة، و الامارة غير الامامة، لامكان حصولها من البرّ و الفاجر كما هو صريح كلامه بل من الكافر أيضا، بخلاف الامامة فانّها نيابة عن الرّسول و الغرض العمدة فيها هو مصلحة الدّين و اللّطف في حقّ المكلّفين كما أنّ المقصود من بعث النّبيّ أيضا كان ذلك، فلا يمكن حصولها من الفاجر و إن كان يترتّب عليها مصلحة دنيويّة أيضا إلّا أنّ المصالح الدّنيوية زايدة في جنب المصالح الاخرويّة لا صلاحيّة فيها للعلّية للامامة و إنّما يصلح علّة لوجوب الامارة و يكتفى فيها بذي شوكة له الرّياسة العامة إماما كان أو غير إمام، فانّ انتظام الأمر يحصل بذلك كما في عهد فجّار بني اميّة حيثما ذكرنا سابقا، و لأجل كون نظره عليه السّلام إلى وجوب الامارة علّل الوجوب بامور راجعة إلى المصالح الدّنيويّة، و لو كان نظره إلى الامامة لعللها بامور راجعة إلى مصالح الدّين و الدّنيا.
و بالجملة فلا دلالة في كلامه عليه السّلام على مذهب الشّارع تبعا للبغداديّين من كون وجوب الامامة مستندا إلى أنّ فيها جلب منافع دنيويّة و دفع مضارّ دنيويّة، و ليس مقصوده الاشارة إلى وجوب الامامة فضلا عن كونه نصّا صريحا فيه، و إنّما كان مقصوده بذلك ردّ الخوارج المنكرين لوجوب الامارة، فأثبت وجوبها لاحتياج النّاس إليها فافهم جيّدا.
|