و من كلام له عليه السلام لما خوف من الغيلة
و هو الحادى و الستون من المختار في باب الخطاب و إنّ عليّ من اللّه جنّة حصينة، فإذا جاء يومي انفرجت عنّي و أسلمتني فحينئذ لا يطيش السّهم، و لا يبرء الكلم.
اللغة
(الغيلة) بالكسر فعلة من الاغتيال و هو القتل على غفلة و (الجنّة) بضّم الجيم ما يجنّ به اى يستتر من درع و ترس و نحوهما و (طاش) السّهم يطيش من باب ضرب صدف عن الغرض و انحرف عنه و (الكلم) بفتح الكاف و سكون اللّام الجرح.
الاعراب
علىّ خبر إنّ قدّم على الاسم توسّعا و على لاستعلاء المعنوى، و من اللّه متعلّق بمقدّر حال من فاعل حصينة و تقدّمه للتّوسع أيضا.
المعنى
روى أنّه عليه السّلام خوف من غيلة ابن ملجم لعنه اللّه مرارا و أنّ الأشعث لقاه متقلّدا سيفه فقال له، ما يقلّدك السّيف و ليس بأوان حرب فقال لعنه اللّه: أردت أن أنحربه جزور القرية، فأتى الأشعث إليه عليه السّلام فأخبره و قال قد عرفت ابن ملجم و فتكه فقال ما قتلني بعد.
و روى أنّه عليه السّلام: كان يخطب مرّة و يذكر أصحابه و ابن ملجم تلقاء المنبر فسمعه يقول: و اللّه لاريحنّهم منك، فلما انصرف عليه السّلام أتوابه ملبّبا فأشرف عليهم، و قال ما تريدون، فخبروه بما سمعوا عنه، فقال فما قتلنى بعد خلّوا عنه (و إنّ علىّ من اللّه جنّة حصينة) استعار الجنّة لعناية اللّه سبحانه بحفظ أسباب حياته في المدة الممكنة له في القضاء الالهي، و الجامع أنّ الجنّة كما أنّها حافظة للانسان عن آلام السّهام و نحوها، فكذلك بقاء أسباب الحياة و ثبات مادّتها حافظان له عن سهام الموت فحسن استعارتها لها و ذكر الحصينة ترشيح للاستعارة (فاذا جاء يومي) الذي قدّر فيه موتى (انفرجت) تلك الجنّة (عنّي و أسلمتني) للموت و كنّى بانفراجها عن انعدام بعض أسباب الحياة في حقّه، و هو ترشيح آخر للاستعارة المذكورة (فحينئذ لا يطيش السّهم) كما قال في الدّيوان المنسوب إليه.
- للموت فينا سهام غير خاطئةإن فاته اليوم سهم لم يفته غدا
(و لا يبرء الكلم) و في معنى هذا الكلام قال عليه الصّلاة و السّلام في الدّيوان:
- أىّ يومىّ من الموت أفرّيوم ما قدّر أو يوم قدر
- يوم ما قدّر لم أخش الرّدى و إذا قدّر لا يغنى الحذر
أقول: و في هذا الكلام إشعار بأنّ للانسان أجلا موقوتا و أمدا ممدودا إذا أدركه يبطل حياته، و إلى ذلك ذهب جماعة، و استدلّوا عليه بقوله سبحانه: وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا: و قال أيضا: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ.
و بأنّ المقدّرات في الأزل و المكتوبات في اللّوح المحفوظ لا تتغيّر بالزّيادة و النّقصان، لاستحالة خلاف معلوم اللّه، و قد سبق العلم بوجود كلّ ممكن أراد وجوده و بعدم كلّ ممكن أراد عدمه الأزلى أو إعدامه بعد ايجاده، فكيف يمكن الحكم بزيادة العمر أو نقصانه بسبب من الاسباب.
و ذهب آخرون إلى قبوله الزّيادة و النّقصان مستدلّين بقوله: «وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ» و بالأخبار الكثيرة الدّالّة على أنّ صلة الرّحم توجب الزّيادة في العمر و القطيعة توجب النّقصان، و كذلك البرّ و العقوق هذا.
و التّحقيق في المقام هو التّفصيل بما يجمع به بين الأدلّتين، و توضيحه يحتاج إلى تمهيد مقدّمة، و هو أنّ المستفاد من بعض الآيات و الأخبار هو أنّ الأجل على قسمين محتوم، و موقوف، قال سبحانه في سورة نوح: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ.
قال المفسّرون: الأجل المسمّى هو الأمد الأقصى الذي قدّر اللّه لهم بشرط الايمان و الطاعة و راء ما قدّره لهم على تقدير بقائهم على الكفر و العصيان، فانّ وصف الأجل بالمسمّى و تعليق تأخيرهم إليه بالايمان صريح في أنّ لهم أجلا آخر لا يجاوزونه إن لم يؤمنوا، و هو المراد بقوله: «إنّ أجل اللّه إذا جاء لا يؤخّر» أى ما قدّر لكم على تقدير بقائكم على الكفر إذا جاء و أنتم على ما أنتم عليه من الكفر و العصيان لا يؤخّر، فبادروا إلى الايمان و الطاعة قبل مجيئه حتّى لا يتحقّق شرطه الذي هو البقاء على الكفر، فلا يجي ء و يتحقّق شرط التّاخير إلى الأجل المسمّى فتأخّروا إليه.
و في الكافي باسناده عن حمران عن أبي جعفر عليه السّلام قال سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: قَضى أَجَلًا وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ.
قال هما أجلان: أجل محتوم، و أجل موقوف.
و عن عليّ بن إبراهيم باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في تفسير هذه الآية، قال: الأجل المقتضى هو المحتوم الذي قضاه و حتمه، و المسمّى هو الذي فيه البداء، و يقدّم ما يشاء و يؤخّر ما يشاء، و المحتوم ليس فيه تقديم و لا تأخير.
إذا عرفت هذه المقدّمة ظهر لك أنّ من الأجل قسما قابلا للتّغيير و قسما ليس قابلا له، و عليه فاللّازم حمل الأدلّة الاولة الدّالة على عدم التّغير في الآجال بالتقدّم و التّأخرّ على الأجل المحتوم، و حمل الأدلة الثّانية على الأجل الموقوف القابل للتغيّر بحصول شروط الزّيادة و أسبابها و عدمه، و على ذلك فان كان مراد القائلين بثبوت التّغير و القائلين بعدمه هو ما ذكرناه فلا مشاحة بيننا و بينهم و يصير نزاع أحدهما مع الآخر أيضا على ذلك لفظيّا، و إن أرادوا ثبوت التّغير في مطلق الآجال و عدمه كذلك فالمنع على القولين واضح.
ثمّ لا يذهب عليك أنّ وجود التّغير في الأجل الموقوف حسبما ذكرنا لا يوجب التّغيّر في علمه سبحانه حسبما يزعمه القائلون بالقول الأوّل، و ذلك لأنّه سبحانه كما علم كمّية العمر علم ارتباطه بسببه المخصوص، و كما علم من زيد دخول الجنّة علم ارتباطه بأسبابه المخصوصة من ايجاده، و خلق العقل له و بعث الأنبياء و نسب الألطاف و حسن الاختيار و العمل بموجب الشّرع، و علم أيضا حصول تلك الاسباب في الخارج المحصّلة لوجود المسبّب، و بالجملة جميع ما يحدث في العالم فهو معلوم للّه سبحانه على ما هو واقع عليه من شرط أو سبب.
توضيح ذلك أنّ اللّه سبحانه قد خلق لوحا و سمّاه لوح المحو و الاثبات قد كتب فيه الآجال و الأرزاق و جميع ما يكون في عالم الكون معلّقا على الأسباب و الشرائط و هو الذي يقع في المحو و الاثبات و التّغيير و البداء، مثلا كتب أنّ عمر زيد عشر سنين إن لم يصل رحمه، و عشرون إن وصل، و أنّه إن أدّى الزّكاة يحصل له البركة في ماله و إن لم يؤدّه لم يحصل، و كذلك جميع الكاينات فهذا اللّوح الذي ابدع فيه صور الموجودات على الوجه القابل للتّغيير، و خلق لوحا آخر أبدع فيه صور الموجودات و جميع الأشياء مفصّلة معقولة محفوظة عن التّغيّر و هو المسمّى بامّ الكتاب المشار إليه في قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ و قد كتب اللّه فيه الكاينات على ما علمه في الأزل و يسمّى ذلك بالعلم الملزم لا تغيّر فيه و لا تبدّل بوجه من الوجوه، لأنّ علمه بالاسباب و المسبّبات على نهج واحد، و قد علم وقوع الاسباب و عدم وقوعها و أنّ زيدا يصل رحمه فيكون عمره كذا، أو لا يصل رحمه فيكون كذا و قد علم في الازل أحد الطرفين فكتبه في اللوح المحفوظ، و هذا هو المشار إليه في الاخبار بقولهم: جفّ القلم بما هو كائن، يعنى أنّه كتب فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة فلن يكتب بعده أبدا إذ لم يبق شي ء حتّى يكتب.
نعم يبقى الكلام في فايدة لوح المحو و الاثبات و تغيير الكاينات و صفاتها فيه مع وجود اللّوح المحفوظ، و لا حاجة لنا إلى البحث في ذلك الآن و إنّما الواجب التّسليم و الاذعان بعد دلالة نصّ الأخبار عليهما و القرآن، و اللّه العالم الخبير بأسرار عالم الامكان.
|