و من كلام له عليه السّلام
و هو الخامس و الستون من المختار فى باب الخطب كان يقول لأصحابه في بعض أيّام صفين و هو اليوم الّذى كانت عشيّته ليلة الهرير على ما نسبه الشّارح المعتزلي إلى كثير من الرّوايات أو اليوم السّابع من الحرب، و كان يوم الخميس سابع شهر صفر على ما ستطلع عليه في رواية نصر بن مزاحم بسنده الآتي عن أبي عمر قال: إنّه خطب هذا اليوم فقال: معاشر النّاس استشعروا الخشية، و تجلببوا السّكينة، و عضّوا على النّواجذ، فإنّه أنبى للسّيوف عن الهام، و أكملوا الّلامة، و قلقلوا السّيوف في أغمادها قبل سلّها، و الحظوا الخزر، و اطعنوا الشّزر، و نافحوا بالظّبا، و صلوا السّيوف بالخطا، و اعلموا أنّكم بعين اللّه و مع ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فعاودوا الكرّ، و استحيوا من الفرّ، فإنّه عار فى الأعقاب، و نار يوم الحساب، و طيبوا عن أنفسكم نفسا، و امشوا إلى الموت مشيا سحجا، و عليكم بهذا السّواد الأعظم، و الرّواق المطنّب، فاضربوا ثبجه فإنّ الشيطان كامن في كسره، قد قدّم للوثبة يدا، و أخّر للنّكوص رجلا، فصمدا صمدا حتّى يتجلّي لكم عمود الحقّ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ.
اللغة
(المعشر) الجماعة و (الشّعار) من اللباس ما يلي شعر الجسد و (تجلببوا) مثل تدحرجوا مأخوذ من الجلباب بالكسر و هو القميص أو ثوب واسع للمرأة دون المخلقة أو المخلقة أو الخمار أو ثوب كالمقنعة تغطى به المرأة رأسها و ظهرها و صدرها، و في المصباح انّه ثوب أوسع من الخمار و دون الرّداء، و قال ابن فارس ما يغطى به من ثوب و غيره و الجمع الجلابيب و (السكينة) الوقار في الحركة و التأنّي في السّير و (عضعضت) اللقمة و بها و عليها أمسكتها بالانسان و (النّواجذ) جمع ناجذ و هى أواخر الأضراس تنبت بعد البلوغ و الحلم و كمال العقل، و قيل الاضراس كلّها نواجذ، و قيل هى الضواحك التي تبد و عند الضحك، و عن البارع النّواجذ للانسان و الحافر و هى من ذوات الخفّ الانياب و (نبا) السّيف عن الضّريبة بتقديم النّون على الباء نبوا من باب قتل رجع من غير قطع فهو ناب و نبا السّهم عن الهدف لم يصبه و (الهام) جمع هامة و هى رأس كلّشي ء.
و (اللأمة) باللّام و الهمزة السّاكنة على وزن تمرة الدّرع و قيل جمع آلات الحرب و (القلقلة) التحريك و (الغمد) بالكسر جفن السّيف و (سلّ) السّيف اخراجه من الغمد و (لحظته) بالعين و لحظت إليه لحظا من باب نفع راقبته، و يقال نظرت إليه بمؤخّر العين عن يمين و يسار و هو أشدّ التفاتا من الشّزر و (الخزر) بقتح الخاء و الزاء المعجمتين مصد خزرت العين خزرا من باب تعب صغرت و ضاقت، و الموجود في النّسخ الخزر بسكون الزّاء و لعلّه لملاحظة السجعة الثّانية و (اطعنوا) بضم العين من باب قتل و بالفتح من باب نفع.
و (الشّزر) بالفتح فالسكون الطعن عن اليمين و اليسار و لا يستعمل الطعن تجاه الانسان شزرا قيل أكثر ما يستعمل في الطعن عن اليمين خاصّة و (المنافحة) المضاربة و المدافعة و (الظبا) جمع ظبة بالتخفيف و بضمّ الظاء فيهما حدّ السيف و (صلوا) أمر من وصل الشي ء بالشي ء جعله متّصلا به و (الخطا) جمع خطوة بالضمّ فيهما و (الكرّ) الرّجوع و (الاعقاب) إمّا جمع عقب بالضمّ و بضمتين أى العاقبة أو جمع عقب ككتف أو عقب بالفتح أى الولد، و ولد الولد و (السّحج) بضمّتين السّهل و (سواد) النّاس عامتهم.
و (الرّواق) ككتاب الفسطاط و الفئة و قيل هو ما بين يدي البيت و (المطنب) المشدود بالأطناب و (ثبج) الشي ء بالتحريك وسطه و (كمن) من باب نصر و سمع استخفى و (كسر) الخباء بالكسر الشّقة السّفلى ترفع احيانا و ترخي اخرى و (الوثبة) الطفرة و (النكوص) الرجوع و (الصّمد) القصد و (انجلى) الشي ء و تجلّى أى انكشف و ظهر و (و ترت) زيدا حقه واتره من باب وعد نقصته
الاعراب
معاشر النّاس منصوب على النداء، و الخزر و الشّزر صفتان لمصدرين محذوفين اى الحظو الحظا خزر او اطعنوا طعنا شزرا، و اللام للعهد و طيبوا عن أنفسكم نفسا يقال طاب نفسى بالشي ء و طبت به نفسا إذا لم يكرهك عليه أحد و تعديته بعن لتضمين معنى التّجافي و التّجاوز، و نفسا منصوب على التّميز و لذلك وحّده لأنّ حقّ التّميز أن يكون مفردا مع الأمن من اللبس، قال البحراني: و المراد بالنّفس الاولى الزّايلة بالقتل و بالثّانية النفس المدبرة لهذا البدن، و صمدا صمدا منصوبان على المصدريّة و العامل محذوف و التّكرار للتّاكيد و التّحريص، و الواو في قوله: و أنتم الأعلون للحال
المعنى
اعلم أنّ المراد بهذه الخطبة تعليم رسوم الحرب و آدابها و الارشاد إلى كيفيّة المحاربة و القتال، إذ في مراعاتها و الملازمة عليها رجاء الفتح و الظفر من اللّه المتعال فقوله (معاشر النّاس استشعروا الخشية) أى اجعلوا الخوف و الخشية من اللّه سبحانه شعارا لكم لازما على أنفسكم لزوم الشّعار على الجسد (و تجلببوا السّكينة) أى اتّخذوا الوقار و الطمأنينة في السّير و الحركة غطاء لكم محيطا بكم إحاطة الجلباب بالبدن.
(و عضّوا على النّواجذ) و هذا الأمر إمّا محمول على الحقيقة لأنّ العضّ يورث تصلّب الأعضاء و العضلات فتكون على مقاومة السّيف أقدر و يكون تأثيره فيه أقلّ، و يشهد به ظاهر التّعليل بقوله (فانّه) أى العضّ (أنبا للسّيوف عن الهام) و إمّا كناية عن شدّة الاهتمام بأمر الحرب أو الصّبر و تسكين القلب و ترك الاضطراب فانّه أشدّ ابعادا لسيف العدوّ عن الرأس و أقرب إلى النّصر (و أكملوا اللأمة) و المراد باكمالها على التفسير الأوّل أعنى كونها بمعنى الدّرع هو أن يراد عليها البيضة و السّواعد و نحوهما، و على التفسير الثاني اتخاذها كاملة شاملة للجسد (و قلقلوا السّيوف في اغمادها قبل سلّها) ليسهل السّل وقت الحاجة، فانّ طول مكثها في الاغماد ربّما يوجب الصّداء فيصعب السّل وقت الاحتياج (و الحظوا الخزر) لأنّ النّظر بمؤخّر العين أمارة الغضب كما أنّ النّظر بتمام العين إلى العدوّ علامة الفشل (و اطعنوا الشّزر) لأنّ الطعن عن اليمين و الشّمال يوسع المجال على الطاعن و أكثر المناوشة للخصم في الحرب يكون عن يمينه و شماله، و يمكن أن تكون الفايدة أنّ احتراز العدوّ عن الطعن حذاء الوجه أسهل و الغفلة عنه أقلّ (و نافحوا بالظبا) قيل: المعنى قاتلوا بالسّيوف و أصله أن يقرب أحد المتقابلين إلى الآخر بحيث يصل نفح كلّ منهما أى ريحه و نفسه إلى صاحبه، و قيل: أى ضاربوا بأطراف السّيوف و فايدته أنّ مخالطة العدوّ و القرب الكثير منه يشغل عن التّمكّن من حربه، و أيضا لا يؤثّر الضّرب مع القرب المفرط كما ينبغي (و صلوا السّيوف بالخطا) يعنى إذا قصرت السّيوف عن الضّريبة فتقدّموا تلحقوا و لا تصبروا حتّى يلحقكم العدوّ، و هذا التّقدم يورث الرّعب في قلب العدوّ، و إلى ذلك ينظر قول حميد بن ثور الهلالى:
- و وصل الخطا بالسّيف و السّيف بالخطاإذا ظنّ أنّ المرء ذا السيف قاصر
و قال آخر:
- نصل السّيوف إذا قصرن بخطونايوما و نلحقها إذا لم تلحق
و قال آخر:
- و إذا السّيوف قصرن طوّلها لناحتّى تناول ما نريد خطانا
و قال رابع:
- إذا قصرت أسيافنا كان وصلهاخطانا إلى أعدائنا فتضارب
و روى عنه عليه السّلام أنّه قيل له في بعض الغزوات: ما أقصر سيفك قال عليه السّلام: اطوله بخطوة (و اعلموا أنّكم بعين اللّه) يراكم و يسمع كلامكم و يعلم أعمالكم و يشهد أفعالكم، و هذا تمهيد للنّهى عن الفرار و تنبيه على أنّ اللّه سبحانه ينصرهم و يحفظهم (و) أنّه يجب عليهم التّثبت و الثّبات (مع ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) الذي طاعته كطاعته و حربه كحربه (فعاودوا الكرّ) أى الحملة و الرّجوع عند التّحرف للقتال أو التّحيز إلى فئة أو عند الفرار جبنا لو اتّفق و المراد لا تقصروا على حملة واحدة لليأس عن حصول الغرض بل عاودوا و احملوا كرّة بعد اخرى (و استحيوا من الفرّ فانّه) أى الفرار قبيح من جهتين: إحداهما أنّه (عارفي الأعقاب) يعنى أنّه عار في عاقبة الأمر و يتحدّث النّاس به في مستقبل الزّمان، هذا على كون الاعقاب جمع عقب بالضّم، و أمّا على كونها جمع عقب بفتح العين فالمعنى أنّه عار في أولادكم يعيرون به بعدكم و من هنا روي أنّ أعرابيّا رأى رجلا من أولاد أبي موسى الأشعرى يمشي و يتبختر في مشيه، قال: ماله كان أباه غلب عمرو بن العاص في التّحكيم
(و) الجهة الثانية أنّه (نار يوم الحساب) أى يوجب استحقاق النّار لكونه من المعاصي الكبيرة كما يشير إليه قوله سبحانه: وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (و طيبوا عن أنفسكم نفسا) أى طيّبوا أنفسكم متجاوزين عن نفوسكم الزّايلة و وطنوا قلوبكم على بذلها في سبيل اللّه و ارضوا به للحياة الباقية و اللذات الدّائمة (و امشوا إلى الموت مشيا سحجا) سهلا بدون تكلّف.
(و عليكم بهذا السّواد الأعظم) أى معظم القوم المجتمعين على معاوية (و الرّواق المطنب) اراد به مضرب معاوية و كان في قبة عالية بأطناب عظيمة، و حوله من أهل الشّام و صناديدهم مأئة ألف كانوا تعاهدوا أن لا ينفرجوا عنه أو يقتلوا (فاضربوا ثبجه) أى وسطه (فانّ الشّيطان كامن في كسره) المراد بالشّيطان إمّا معاوية أو عمرو بن العاص، و إطلاق الشيطان عليهما لشباهتهما بالشيطان في الاضلال عن سبيل اللّه سبحانه، و الاظهر أنّ المراد به معناه الحقيقي لأنّ المعاوية كان بارزا في الصدر لا كامنا في الكسر إلّا أن يكون ذلك لبيان جبنه و لا ينافي إرادة الحقيقة قوله (قد قدّم للوثبة يدا و أخّر للنكوص رجلا) لأنّ إبليس كان من رفقاء معاوية و أصحابه كان يثب لوثوبهم و يرجع برجوعهم، و يمكن أن يراد بوثبته طمعه في غلبة أصحاب معاوية و تحريصه لهم على القتال، و بالنكوص ما يقابله (فصمدا صمدا حتى ينجلي لكم عمود الحقّ) أى اقصدوهم قصدا و اصبروا على الجهاد إلى أن يظهر لكم نور الحق.
قال المجلسي: عمود الحق لعلّه للتشبيه بالفجر الأوّل، و فيه اشعار بعدم الظهور لأكثر القوم كما ينبغي (و أنتم الأعلون) أى الغالبون على الأعداء بالظفر أو بأنكم على الحقّ (و اللّه معكم) لأنكم أنصاره (و لن يتركم أعمالكم) أى لا ينقصكم اللّه جزاء أعمالكم و هذه اللفظة اقتباس من الآية الشريفة في سورة محمّد و هو قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ َلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ.
تكملة
هذه الخطبة مروية في البحار من كتاب بشارة المصطفى عن إبراهيم بن الحسين البصري، عن محمّد بن الحسين بن عتبة، عن محمّد بن أحمد بن مخلد، عن أبي المفضل الشيباني، عن محمّد بن محمّد بن معقل، عن محمّد بن أبي الصحباني، عن البزنطي، عن أبان بن عثمان، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة مولى عبد اللّه بن العباس رضى اللّه عنه قال: عقم النساء أن يأتين بمثل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ما كشفت النساء ذيولهنّ عن مثله، لا و اللّه ما رأيت فارسا محدثا يوزن به لرأيته يوما و نحن معه بصفين و على رأسه عمامة سوداء و كأنّ عينيه سراجا سليط يتوقدان من تحتها يقف على شرذمة يخصمهم حتى انتهى إلى نفر أنا فيهم و طلعت خيل لمعاوية تدعى بالكتيبة الشهباء عشرة آلاف دارع على عشرة آلاف أشهب، فاقشعرّ النّاس لها لما رأوها و انحاز بعضهم إلى بعض فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: فيم النخع و الخنع يا أهل العراق هل هي إلّا أشخاص ماثلة فيها قلوب طائرة لو مسّها قلوب أهل الحقّ لرأيتموها كجراد بقيعة سفته الرّيح في يوم عاصف، ألا فاستشعروا الخشية فتجلببوا السّكينة و ادرعوا الصبر و خضوا الأصوات و قلقلوا الأسياف في الاغماد قبل السلّة و انظروا الشزر و اطعنوا الوجر و كافحوا بالظبا و صلوا السيوف بالخطا، و النبال بالرّماح، و عاودوا الكرّ و استحيوا من الفرّ فانه عار في الأعقاب، و نار يوم الحساب، و طيبوا عن أنفسكم نفسا، و امشوا إلى الموت مشية سحجا، فانكم بعين اللّه عزّ و جلّ و مع أخى رسول اللّه.
و عليكم بهذا السرادق الأولم، و الرواق المظلم، فاضربوا ثبجه فانّ الشيطان راقد في كسره نافش حضنيه مفترش ذراعيه، قد قدّم للوثبة يدا و أخّر للنكوص رجلا، فصمدا صمدا حتى ينجلي لكم عمود الحقّ و أنتم الأعلون و اللّه معكم و لن يتركم أعمالكم، ها أنا شاد فشدّوا بسم اللّه حم لا ينصرون.
ثمّ حمل عليهم أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و على ذرّيته حملة و تبعه خويلة لم تبلغ المأة فارس فأجالهم فيها جولان الرّحى المسرحة بثفالها، فارتفعت عجاجة منعتني النظر، ثمّ انجلت فأثبت النظر فلم نر إلّا رأسا نادرا و يدا طايحة، فما كان بأسرع أن ولوا مدبرين كأنهم حمر مستنفرة فرّت من قسورة، فاذا أمير المؤمنين عليه السّلام قد أقبل و سيفه ينطف و وجهه كشقّة القمر و هو يقول: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ.
و رواها في البحار أيضا من تفسير فرات بن إبراهيم بسنده عن ابن عباس نحوه، و لا بأس بتفسير بعض ألفاظها الغريبة فأقول «السليط» الزّيت «و النخع و الخنع» الذّلّ و الخضوع «و المائلة» القائمة أو المتمثلة بالمشبهة بالانسان و في بعض النسخ مائلة من الميل أى عادلة عن الحقّ فيها «قلوب طائرة» أى من الخوف و «سفت» الرّيح التراب بالتخفيف ذرته و «القيعة» الأرض المستوى و «الوجر» بالجيم و الرّاء المهملة قال في القاموس أو جره الرّمح طعنه به في فيه و «المكافحة» المضاربة و المدافعة تلقاء الوجه و «النبال بالرّماح» أى ارموهم بالنبال فاذا قربتم فاستعملوا الرّماح و العكس أظهر أى إذا لم تصلوا الرّماح فاستعملوا النبال كأنكم و صلتموها بها فيكون النسب بالفقرة السّابقة و «الاولم» الأسود صورة أو معنا كالمظلم «نافش» حضنيه في بعض النسخ نافج و هو الأظهر لأنّ الأوّل غير مناسب للمقام يقال نفجت الشي ء رفعته و كنى به عن التعظم و التكبر و «شدّ» فى الحرب يشدّ بالكسر حمل على العدوّ «و حم لا ينصرون» عن ابن الأثير في النهاية في حديث الجهاد إذ أبيتم فقولوا حم لا ينصرون، قيل معناه اللهمّ لا ينصرون و يريد به الخبر لا الدّعاء و إلّا لقال لا ينصروا مجزوما، فكأنه قال و اللّه لا ينصرون، و قيل إنّ السور التي أوّلها حم سور لها شأن فنبه أنّ ذكرها لشرف شأنها مما يستظهر به على استنزال النصر من اللّه، و قوله لا ينصرون كلام مستأنف كأنه حين قال قولوا حم قيل ما ذا يكون إذا قلناها قال لا ينصرون و «الخويلة» إما تصغير الخيل على غير قياس أو تصغير الخول بمعنى الخدم و الحشم و «الثّفال» جلده تبسط تحت رحى اليد ليقع عليها الدّقيق و يسمى الحجر الأسفل ثقالا بها و «العجاجة» الغبار و «ندر» الرّأس سقط و «طاح» يطوح و يطيح هلك و أشرف على الهلاك و ذهب و سقط و «القسورة» الاسد و «سيفه ينطف» أى يقطر دما و «الشقّة» بالكسر القطعة المشقوقة و نصف الشّي ء إذا شقّ.
تذييل
قد مضى طرف من وقايع صفين في شرح بعض الخطب السّابقة، فذكرنا في شرح الفصل الثالث من فصول الخطبة السّادسة و العشرين كيفية ارسال أمير المؤمنين جرير ابن عبد اللّه البجلي إلى معاوية بالرّسالة و كيفية بيعة عمرو بن العاص لمعاوية، و في شرح كلامه الثّالث و الأربعين تفصيل قصّة جرير و مكالماته مع معاوية و يأسه من بيعته حتّى رجع إلى العراق و انجرّ الأمر إلى حرب صفين، و في شرح الخطبة الثامنة و الأربعين كيفيّة خروج أمير المؤمنين عليه السّلام من كوفة متوّجها إلى صفّين، و في شرح الخطبة الاحدى و الخمسين نزوله عليه السّلام بصفّين و غلبة أصحاب معاوية على الشريعة و فتح الفرات، و في شرح الخطبة الخامسة و الثلاثين قصّة ليلة الهرير و كيفية التّحكيم إلى آخر الحرب.
فأحببت أن أورد هنا بقيّة تلك الواقعة و هي من فتح الشريعة إلى ليلة الهرير لاقتضاء المقام ذلك و ليكون شرحنا ذلك مشتملا على تمام تلك الوقعة و لو اجمالا و يستغنى الناظر به عن الرجوع الى غيره و لا يشذّ عنه جمل تلك الوقعة.
فأقول: روى المحدّث العلامة المجلسي في البحار و الشّارح المعتزلي جميعا من كتاب صفين لنصر بن مزاحم أنّه وصل أمير المؤمنين عليه السّلام إلى صفين لثمان بقين من المحرم من سنة سبع و ثلاثين.
قال نصر: و لمّا ملك أمير المؤمنين الماء بصفين ثمّ سمح لأهل الشّام بالمشاركة فيه و المساهمة رجاء أن يعطفوا إليه و استمالة لقلوبهم و إظهارا للمعدلة و حسن السيرة فيهم، مكث أيّا ما لا يرسل إلى معاوية و لا يأتيه من عند معاوية أحد و استبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال و قالوا: يا أمير المؤمنين خلّفنا ذرارينا و نسائنا بالكوفة و جئنا إلى أطراف الشّام لنتّخذها وطنا، ائذن لنا في القتال فانّ النّاس قد قالوا قال عليه السّلام ما قالوا فقال قائل منهم إنّ النّاس يظنّون أنّك تكره الحرب كراهيّة للموت و أنّ من النّاس من يظنّ أنّك في شكّ من قتال أهل الشّام.
أقول: فأجابهم بجواب مرّ ذكره فيما سبق و هو الكلام الرّابع و الخمسون.
قال نصر: فقال عليه السّلام و متى كنت كارها للحرب قط إنّ من العجب حبّى لها غلاما و يفعا و كراهتى لها شيخا بعد نفاد العمر و قرب الوقت و أمّا شكّي في القوم فلو شككت فيهم لشككت في أهل البصرة فو اللّه لقد ضربت هذا الامر ظهرا و بطنا فما وجدت أن يسعني إلّا القتال أو أن أعصى اللّه و رسوله و لكنى استأنى بالقوم عسى أن يهتدوا أو يهتدى فيهم طايفة فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لي يوم خيبر: لأن يهدى اللّه بك رجلا واحدا خير لك ممّا طلعت عليه الشّمس.
قال نصر: فبعث عليّ إلى معاوية بشر بن عمرو و سعيد بن قيس و شيث بن ربعى فقال ائتوا هذا الرّجل فادعوه إلى الطاعة و الجماعة و إلى اتباع أمر اللّه سبحانه، فقال شيث يا أمير المؤمنين ألانطمعه في سلطان توليه اياه و منزلة يكون له بها اثرة عندك إن هو بايعك قال: ائتوه الآن و القوه و احتجّوا عليه و انظروا ما رأيه في هذا، فدخلوا عليه فابتدأ بشر بن عمرو بن محصن فحمد اللّه و أثنى عليه و قال: أمّا بعد يا معاوية فانّ الدّنيا عنك زايلة و انك راجع إلى الآخرة و أنّ اللّه مجازيك لعملك و محاسبك بما قدمت يداك، و إنّنى انشدك اللّه أن تفرّق جماعة هذه الامة و أن تسفك دمائها بينها.
فقطع معاوية عليه الكلام فقال: فهلّا أوصيت صاحبك فقال: سبحان اللّه إنّ صاحبي ليس مثلك صاحبي أحقّ الناس بهذا الأمر في الفضل و الدّين و السّابقة في الاسلام و القرابة من الرّسول، قال معاوية فتقول ما ذا قال: أدعوك إلى تقوى ربك و إجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحقّ فانّه أسلم لك في دينك و خير لك في عاقبة أمرك قال و بطل دم عثمان لا و الرّحمن لا أفعل ذلك ابدا.
فذهب سعيد بن قيس ليتكلّم فبدره شبث بن ربعى فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: يا معاوية قد فهمت ما رددت على ابن محصن انّه لا يخفى علينا ما تطلب إنك لا تجد شيئا تستغوي به النّاس و لا شيئا تستميل به أهوائهم إلّا أن قلت لهم قتل امامكم مظلوما فهلمّوا نطلب بدمه فاستجاب لك سفلة طغام رذال، و قد علمنا أنّك بطأت عنه بالنّصر و أحببت له القتل لهذه المنزلة التي تطلب، و ربّ مبتغ أمرا و طالب له يحول اللّه دونه و ربّما أوتى المتمنّى امنيته و ربّما لم يؤتها، و و اللّه مالك في واحدة منهما خير، و اللّه إن أخطاك ما ترجو انّك لشرّ العرب حالا و لئن أصبت ما تتمّناه لا تصيبه حتّى تستحقّ صلى النّار، فاتّق اللّه يا معاوية ودع ما أنت عليه و لا تنازع الأمر أهله.
فحمد معاوية اللّه و أثنى عليه و قال: أمّا بعد، فانّ أوّل ما عرفت به سفهك و خفّة علمك قطعك على هذا الحسيب الشّريف سيّد قومه منطقه ثمّ عتبت بعد فيما لا علم لك به، و لقد كذبت و لؤمت أيّها الأعرابى الجلف الجافي في كلّ ما وصفت، انصرفوا من عندي فانّه ليس بيني و بينكم إلّا السّيف و عضب.
فخرج القوم و شبث يقول: أعلينا تهوّل بالسّيف أما و اللّه لنعجلنه إليك، قال نصر: خرج قرّاء أهل العراق و قرّاء أهل الشام فعسكروا في ناحية صفين في ثلاثين ألفا.
قال: و عسكر عليّ عليه السّلام على الماء و عسكر معاوية فوقه على الماء و مشت القراء بين عليّ و معاوية، منهم عبيدة السّلماني، و علقمة بن قيس النخعي، و عبد اللّه بن عتبة، و عمار بن عبد القيس فدخلوا على معاوية فقالوا: يا معاوية ما الذي تطلب قال: اطلب بدم عثمان، قالوا: ممّن تطلب بدم عثمان قال: أطلبه من علي، قالوا أو عليّ قتله قال: نعم هو قتله و آوى قتلته، فانصرفوا من عنده فدخلوا على علىّ و قالوا: إنّ معاوية زعم أنّك قتلت عثمان، قال: اللهمّ لكذب علىّ لم أقتله.
فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال: إن لم يكن قتله فقد أمر و مالا، فرجعوا إليه و قالوا: يزعم أنّك إن لم تكن قتلت بيدك فقد أمرت و ما لئت على قتل عثمان فقال: اللهمّ لكذب فيما قال، فرجعوا إلى معاوية فقالوا: إن عليّا يزعم أنّه لم يفعل، فقال معاوية: إن كان صادقا فليقدنا من قتلة عثمان فانّهم في عسكره و جنده و أصحابه و عضده فرجعوا إلى عليّ فقالوا: إنّ معاوية يقول لك إن كنت صادقا فادفع إلينا قتلة عثمان أو مكنّا منهم، فقال لهم: إنّ القوم تأوّلوا عليه القرآن و وقعت الفرقة و قتلوه في سلطانه و ليس على ضربهم قود فخصم على معاوية.
فقال لهم معاوية: إن كان الأمر كما تزعمون فلم ابتزّ الأمر دوننا على غير مشورة منّا و ممّن ههنا معنا، فقال: عليّ عليه السّلام إنّ النّاس تبع المهاجرين و الأنصار و هم شهود للمسلمين في البلاد على ولاتهم و امراء دينهم، فرضوا بي و بايعوني و لست استحلّ أن أدع ضرب معاوية يحكم على هذه الامة و يزكيهم و يشقّ عصاهم، فرجعوا إلى معاوية فأخبروه بذلك فقال: ليس كما يقول فما بال من هو منّا من المهاجرين و الأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر، فانصرفوا إليه عليه السّلام فأخبروه بقوله، فقال: و يحكم هذا للبدريّين دون الصّحابة و ليس في الأرض بدريّ إلّا و قد بايعنى و هو معى او قد أقام و رضى فلا يعرّكم من أنفسكم و دينكم قال نصر: فراسلوا بذلك ثلاثة أشهر ربيع الآخر و جماديين و هم مع ذلك يفرغون الفرغة فيما بينهما و يرجف بعضهم إلى بعض و يحجز القراء بينهم.
قال: فرغوا في ثلاثة أشهر خمسا و ثمانين فرغة كلّ فرغة يرجف بعضهم الى بعض و يحجز القراء بينهم لا يكون بينهم قتال.
قال نصر: خرج أبو امامة الباهلى و أبو الدّرداء فدخلا على معاوية فقالا: يا معاوية على م تقاتل هذا الرّجل فو اللّه لهو أقدم منك سلما و أحقّ منك بهذا الأمر و أقرب من رسول اللّه فعلى م تقاتله اقاتله على دم عثمان و أنّه آوى قتلته فقولوا له فليقدنا من قتلته و أنا أوّل من بايعه من أهل الشّام.
فانطلقوا إلى علي فأخبروه بقول معاوية فقال عليه السّلام: إنّما يطلب الذين ترون فخرج عشرون ألفا و أكثر متسربلين الحديد لا يرى منهم إلّا الحدق فقالوا: كلّنا قتله فان شاءوا فليروموا ذلك منّا، فرجع أبو امامة و أبو الدرداء فلم يشهدا شيئا في القتال حتّى إذا كان رجب و خشى معاوية أن يتابع القراء عليا أخذ في المكر و أخذ يحتال للقرّاء.
قال: فكتب في سهم من عبد اللّه النّاصح أنّي اخبركم أنّ معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات فيغرقكم فخذوا حذركم، ثمّ رمى بالسّهم في عسكر عليّ فوقع السّهم في يد رجل فقرأه ثمّ أقرئه صاحبه فلما قرأه و قرأه النّاس و قرأه من أقبل و أدبر قالوا: هذا أخ لنا ناصح كتب إليكم يخبركم بما أراد معاوية فلم يزل السهم يقرأ و يرتفع حتّى رفع إلى عليّ عليه السّلام.
و قد بعث معاوية مأتي رجل من العملة إلى عاقول من النهر بأيديهم المزور و الزمل يحفرون فيها بحيال عسكر عليّ، فقال عليّ: و يحكم إنّ الذي يعالج معاوية لا يستقيم له و لا عليه إنّما يريد أن يزيلكم عن مكانكم فانتهوا عن ذلك و دعوه، فقالوا له و اللّه يحفرون و اللّه لنرتحلن و إن شئت فأقم، فارتحلوا و صعدوا بعسكرهم مليّا و ارتحل عليّ في اخريات النّاس و هو يقول:
- فلو أنى أطعت عصمت قومىإلى ركن اليمامة أو شام
- و لكنّى متى ابرمت امرامنيت بخلف آراء الطغام
فقال: ألم تغلبني على رأيي أنت و الأشعث برأيكما، فقال الأشعث أنا أكفيك يا أمير المؤمنين سأداوى ما افسدت اليوم من ذلك، فجمع كندة فقال لهم: يا معشر كنده لا تفضحوني اليوم و لا تخزوني فانّما أنا قارع بكم أهل الشّام، فخرجوا معه رجالة يمشون و بيده رمح له يلقيه على الأرض و يقول، امشوا قيس رمحي هذا، فيمشون فلم يزل يقيس لهم الأرض برمحه و يمشون معه حتّى أتى معاوية وسط بني سليم واقفا على الماء، و قد جاءه أدانى عسكره.
فاقتتلوا قتالا شديدا على الماء ساعة و انتهى أوائل أهل العراق فنزلوا، و أقبل الأشتر في جنده من أهل العراق فحمل إلى معاوية و الأشعث يحارب في ناحية اخرى فانحاز معاوية في بني سليم فردّو اوجوه إبله قدر ثلاث فراسخ، ثمّ نزل و وضع أهل الشّام أثقالهم و الأشعث يهدر و يقول ارضيتك يا أمير المؤمنين و قال الأشتر يا أمير المؤمنين قد غلب اللّه لك على الماء.
قال نصر: و كان كلّ واحد من عليّ و معاوية يخرج الرّجل الشريف في جماعة و يقاتل مثله و كانوا يكرهون أن يزاحفوا بجميع الفيلق مخافة الاستيصال و الهلاك، فاقتتل الناس ذا الحجة كلّه فلما انقضى تداعوا إلى أن يكف بعضهم عن بعض إلى أن ينقضي المحرم لعل اللّه أن يجرى صلحا او اجتماعا، فكفّ الناس في المحرم بعضهم عن بعض.
قال نصر: حدّثنا عمر بن سعد عن أبي المجاهد عن المحل بن خليفة، قال: لما توادعوا في المحرّم اختلفت الرّسل فيما بين الرّجلين رجاء الصّلح، فأرسل عليّ إلى معاوية عدي بن حاتم، و شيث بن ربعي، و يزيد بن قيس، و زياد بن حفصة فلمّا دخلوا عليه حمد اللّه تعالى عديّ بن حاتم و أثنى عليه و قال أمّا بعد: فقد اتيناك لندعوك إلى أمر يجمع اللّه به كلمتنا و امّتنا و يحقن دماء المسلمين ندعوك إلى أفضل النّاس سابقة و أحسنهم في الاسلام آثارا، و قد اجتمع له النّاس و قد أرشدهم اللّه بالذي رأوا و اوتوا فلم يبق أحد غيرك و غير من معك، فانته يا معاوية من قبل أن يصيبك اللّه و أصحابك بمثل يوم الجمل.
فقال له معاوية: كأنّك إنّما جئت متهدّدا و لم تأت مصلحا هيهات يا عديّ انّي لابن حرب ما يقعقع لي بالشّنئآن، أما و اللّه إنّك من المجلبين على عثمان و إنّك لمن قتلته و إنّي لأرجو أن تكون ممّن يقتله اللّه فقال له شيث بن ربعي و زياد بن حفصة و تنازعا كلاما واحدا: أتيناك فيما يصلحنا و إيّاك فأقبلت تضرب لنا الأمثال، دع مالا ينفع من القول و الفعل و أجبنا فيما يعمّنا و إيّاك نفعه.
و تكلّم يزيد بن قيس فقال: إنّا لم نأتك إلّا لنبلّغك الذي بعثنا به إليك و لنؤدّي عنك ما سمعناه منك و لم ندع أن ننصح لك و أن نذكر ما ظننّا أنّ لنا فيه عليك حجّة أو أنّه راجع بك إلى الالفة و الجماعة، إنّ صاحبنا من قد عرفت و عرف المسلمون فضله و لا أظنّه يخفى عليك أنّ أهل الدّين و الفضل لا يعدلونك بعليّ و لا يساوون بينك و بينه، فاتّق اللّه يا معاوية و لا تخالف عليّا فانّا و اللّه ما رأينا رجلا قط أعلم بالتّقوى و لا أزهد في الدّنيا و لا أجمع لخصال الخير كلّها منه فحمد اللّه معاوية و أثنى عليه و قال: أمّا بعد فانّكم دعوتم إلى الجماعة و الطاعة فأمّا التي دعوتم إليها فنعمّاهي و أمّا الطاعة لصاحبكم فانّا لا ترضى به إنّ صاحبكم قتل خليفتنا و فرّق جماعتنا و آوى ثارنا و قتلتنا، و صاحبكم يزعم أنّه لم يقتله فنحن لا نردّ ذلك عليه أرأيتم قتلة صاحبنا ألستم تعلمون أنّهم أصحاب صاحبكم فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به و نحن نجيبكم إلى الطاعة و الجماعة فقال له شيث: ايسرك باللّه يا معاوية إن أمكنت من عمّار بن ياسر فقتلته قال: و ما يمنعني من ذلك، و اللّه لو أمكنني صاحبكم من ابن سمية ما أقتله بعثمان، و لكن كنت أقتله بنائلة مولى عثمان، فقال شيث: و إله السّماء ما عدلت معدلا و لا و الذي لا إله إلّا هو لا يصل إليك قتل ابن ياسر حتّى يندر الهام عن كواهل الرّجال، و تضيق الأرض الفضاء عليك بما رحبت.
فقال معاوية: إذا كان ذلك كانت عليك أضيق ثمّ رجع القوم عن معاوية فبعث معاوية إلى زياد بن حفصة من بينهم فأدخله عليه فحمد معاوية اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: أمّا بعد يا أخا ربيعة فانّ عليّا قطع أرحامنا و قتل إمامنا و آوى قتلته و إنّي أسألك النّصرة عليه باسرتك و عشيرتك، و لك على عهد اللّه و ميثاقه إذا ظهرت أن أوليّك أىّ المصرين أحببت.
قال زياد: فلمّا قضى معاوية كلامه حمدت اللّه و أثنيت عليه ثمّ قلت: أمّا بعد فانّي لعلى بيّنة من ربّي و بما أنعم اللّه علىّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين، ثمّ قمت فقال معاوية لعمرو بن العاص و كان إلى جانبه: مالهم غضبهم اللّه ما في قلوبهم ما قلبهم إلّا قلب رجل واحد قال نصر: و بعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهرى إلى عليّ و شرجيل بن السّمط و معن بن يزيد فدخلوا عليه، فتكلّم حبيب و حمد اللّه و أثنى عليه و قال أمّا بعد فانّ عثمان بن عفّان كان خليفة مهديّا يعمل بكتاب اللّه و ينيب إلى أمر اللّه فاستثقلتم حياته و استبطأتم وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه، فادفع إلينا قتلة عثمان لنقتلهم به، فان قلت إنّك لم تقتله فاعتزل أمر النّاس فيكون أمرهم هذا شورى بينهم يولّ النّاس أمرهم من أجمع رأيهم عليه.
فقال له عليّ عليه السّلام: و من أنت لا امّ لك و الولاية و العزل و الدّخول في هذا الأمر اسكت فانّك لست هناك و لا بأهل لذاك، فقام حبيب بن مسلمة و قال و اللّه لتراني حيث تكره، فقال عليّ و ما أنت و لو أجلبت بخيلك و رجلك اذهب فصوّب و صعّد ما بدا لك فلا أبقى اللّه لك إن أبقيت، فقال شرجيل بن السّمط إن كلّمتك فلعمرى ما كلامي لك إلّا نحو كلام صاحبي فهل عندك جواب غير الذي أجبته قال: نعم، قال فقله، فحمد علىّ اللّه و أثنى عليه ثمّ قال أمّا بعد فانّ اللّه سبحانه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فانقذ به من الضّلالة و نعش به من الهلكة و جمع به بعد الفرقة، ثمّ قبضه اللّه إليه و قد أدّى ما عليه فاستخلف النّاس ابا بكر ثمّ استخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السّيرة و عدلا في الامّة و قد وجدنا عليهما أن توليا الأمر دوننا و نحن آل الرّسول و أحقّ بالأمر فغفرنا ذلك لهما، ثمّ ولى أمر النّاس عثمان فعمل بأشياء عابها النّاس عليه فساء إليه ناس فقتلوه ثمّ أتانى النّاس و أنا معتزل أمرهم فقالوا لي: بايع فأبيت عليهم، فقالوا لي: بايع فانّ الامّة لا ترضى إلّا بك و إنّا نخاف إن لم تفعل تفرّق النّاس، فبايعتهم فلم يرعنى إلّا شقاق رجلين قد بايعا و خلاف معاوية إيّاى الذي لم يجعل اللّه له سابقة فى الدّين و لا سلف صدق في الاسلام، طليق بن طليق، و حزب من الأحزاب، لم يزل للّه و لرسوله عدوّا هو و أبوه حتّى دخلا في الاسلام كارهين مكرهين فيا عجبا لكم و لانقيادكم تدعون إلى «اهل» بيت نبيّكم الذين لا ينبغي شقاقهم و لا خلافهم و لا أن تعدلوا به أحدا من النّاس إنّي أدعوكم إلى كتاب اللّه عزّ و جلّ و سنّة نبيكم و إماتة الباطل و إحياء معالم الدّين، أقول قولي هذا و أستغفر اللّه لنا و لكلّ مؤمن و مؤمنة و مسلم و مسلمة.
فقال له شرجيل و معن بن يزيد: أشهد أنّ عثمان قتل مظلوما فقال: لا أقول ذلك، قالا: فمن لا يشهد أنّ عثمان قتل مظلوما فنحن منه براء، ثمّ قاما فانصرفا فقال عليّ: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ.
ثمّ أقبل على أصحابه فقال: لا يكن هؤلاء في ضلالتهم بأولى بالجدّ منكم في حقكم و طاعة إمامكم ثمّ مكث النّاس إلى انسلاخ المحرّم فلمّا انسلخ و استقبل النّاس صفرا من سنة سبع و ثلاثين بعث عليّ نفرا من أصحابه حتّى إذا كانوا في عسكر معاوية بحيث يسمعونهم الصّوت قام مرثدين الحرث (يزيد بن الحارث خ) الخثيمي فنادى عند غروب الشّمس: يا أهل الشّام إنّ أمير المؤمنين عليا و أصحاب رسول اللّه يقولون لكم: إنّا و اللّه لم نكفّ عنكم شكافي أمركم و لا إبقاء عليكم و إنّما كففنا عنكم لخروج المحرّم، و قد انسلخ، و إنا قد نبذنا إليكم على سواء فانّ اللّه لا يحبّ كيد الخائنين، قال فسار النّاس إلى رؤسائهم و امرائهم.
قال نصر: و أمّا رواية عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي الزّبير أنّ نداء ابن مرثد الخثعمي كانت صورته: يا أهل الشّام ألا إنّ أمير المؤمنين يقول لكم. إنّي قد استأنيت لكم لتراجعوا إلى الحقّ و تنيبوا إليه احتججت عليكم بكتاب اللّه و دعوتكم إليه، فلم تتناهوا عن طغيان، و لم تجيبوا إلى حقّ، فانّي قد نبذت إليكم على سواء إنّ اللّه لا يحبّ الخائنين قال: فسار النّاس إلى رؤسائهم و خرج معاوية و عمرو بن العاص يكتبان الكتائب و يعبآن العسكر، و أوقدوا النّيران و جاءوا بالشّموع و بات عليّ ليلته تلك كلّها يعبي النّاس و يكتب الكتائب و يدور في النّاس و يحرّضهم قال نصر: فخرجوا أوّل يوم من صفر سنة سبع و ثلاثين و هو يوم الأربعاء فاقتتلوا، و على من خرج يومئذ من أهل الكوفة الاشتر، و على أهل الشام حبيب بن مسلمة فاقتتلوا قتالا شديدا جلّ النهار، ثمّ تراجعوا و قد انتصف بعضهم من بعض ثمّ خرج في اليوم الثاني هاشم بن عتبة في خيل و رجال حسن عددها و عدتها، فخرج إليه من أهل الشام أبو الأعور السلمي، فاقتتلوا يومهم ذلك، تحمل الخيل على الخيل و الرجال على الرجال ثمّ انصرفوا و قد صبر القوم بعضهم لبعض و خرج في اليوم الثّالث عمّار بن ياسر و خرج إليه عمرو بن العاص فاقتتل النّاس كأشدّ قتال كان، و جعل عمّار يقول: يا أهل الاسلام أ تريدون أن تنظروا إلى من عاد اللّه و رسوله و جاهدهما و بغى على المسلمين و ظاهر المشركين فلمّا أراد اللّه أن يظهر دينه و ينصر رسوله أتى إلى النّبي فأسلم و هو و اللّه فيما يرى ذاهب غير راغب، ثم قبض اللّه رسوله، و إنا و اللّه لنعرفه بعداوة المسلم و مودّة المجرم، ألا و إنّه معاوية فقاتلوه و العنوه، فانّه ممن يطفى نور اللّه و يظاهر أعداء اللّه قال: و كان مع عمّار زياد بن النّضر على الخيل فأمره أن يحمل في الخيل فحمل فصبروا له، و شدّ عمار في الرّجالة فأزال عمرو بن العاص عن موقفه و رجع النّاس يومهم ذلك.
قال نصر: و حدّثني أبو عبد الرّحمن المسعودي، عن يونس الأرقم، عمّن حدّثه من شيوخ بكر بن وائل، قال: كنّا مع عليّ بصفين فرفع عمرو بن العاص شقة خميصة سوداء في رأس رمح فقال ناس: هذا لواء عقده له رسول اللّه، فلم يزالوا يتحدّثون حتّى وصل ذلك إلى عليّ فقال: أ تدرون ما هذا اللّواء إنّ عمرا أخرج له رسول اللّه هذه الشّقة فقال: من يأخذها بما فيها، فقال عمرو ما فيها يا رسول اللّه فقال: لا تقاتل بها مسلما و لا تقرّبها من كافر، فأخذها فقد و اللّه قربها من المشركين و قاتل بها اليوم المسلمين، و الذي فلق الحبّة و برء النّسمة ما أسلموا و لكنّهم استسلموا و أسرّوا الكفر، فلما وجدوا أعوانا أظهروه قال نصر: فامّا اليوم الرّابع فانّ محمّد بن الحنفية خرج في جمع من أهل العراق فاخرج إليه معاوية عبيد اللّه بن عمر بن الخطاب في جمع من أهل الشام، فاقتتلوا، ثمّ إنّ عبيد اللّه بن عمر أرسل إلى محمّد بن الحنفية أن اخرج إلىّ ابارزك، فقال: نعم ثمّ خرج إليه فبصر بهما عليّ عليه السّلام فقال: من هذان المتبارزان قيل: محمّد بن الحنفية و عبيد اللّه بن عمر فحرّك دابته ثمّ دعا محمدا إليه فجاءه فقال أمسك و ابى فأمسكها فمشى راجلا بيده سيفه نحو عبيد اللّه و قال له: ابارزك فهلمّ إليّ قال: لا ابارزك، ثمّ رجع إلى صفه فرجع عليّ عليه السّلام فقال ابن الحنفية: يا أبت لم تمنعني من مبارزته فو اللّه لو تركتني لرجوت أن أقتله، قال: يا بنيّ لو بارزته أنا لقتلته و لو بارزته أنت لرجوت لك أن تقتله و ما كنت آمن أن يقتلك، فقال: يا أبت أتبرز بنفسك إلى هذا الفاسق اللئيم عدوّ اللّه، و اللّه لو أبوه يسألك المبارزة لرغبت بك عنه قال نصر: و أما اليوم الخامس فانه خرج فيه عبيد اللّه بن العباس فخرج إليه الوليد بن عقبة فأكثر من سب بني عبد المطلب و قال: يا بن عباس قطعتم أرحامكم و قتلتم إمامكم فكيف رأيتم صنع اللّه بكم لم تعطوا ما طلبتم و لم تدركوا ما أملتم، فأرسل إليه ابن عباس ابرز إلىّ فأبى أن يفعل، و قاتل ابن عباس ذلك اليوم قتالا شديدا ثمّ انصرفوا و كلّ غير غالب و خرج ذلك اليوم سمرة بن أبرهة بن الصباح الحميرى فلحق بعليّ عليه السّلام في ناس من قراء أهل الشام ففتّ ذلك في عضد معاوية و عمرو بن العاص و قال عمرو: يا معاوية إنك تريد أن تقاتل بأهل الشام رجلاله من محمد صلّى اللّه عليه و آله قرابة قريبة و رحم ماسة و قدم في الاسلام ليس لأحد مثله و قد سار إليك بأصحاب محمّد المعد و دين و فرسانهم و قرائهم و أشرافهم و قدمائهم في الاسلام، و لهم في النفوس مهابة و مهما نسيت فلا تنس فانك على الباطل و إنّ عليا على الحقّ فبادر الأمر قبل اضطرا به عليك، فقام معاوية في أهل الشام خطيبا و حثهم على القتال فخطب عليّ عليه السّلام أصحابه.
قال نصر: قال أبو (ابن خ) سنان الأسلمي كأني أنظر إليه متكئا على قوسه و قد جمع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هم يلونه كانه أحبّ أن يعلم الناس أنّ الصحابة متوافرون معه فقال بعد حمد اللّه و الثناء عليه أما بعد: فانّ الخيلاء من التجبّر و إنّ النخوة من التكبر و إنّ الشيطان عدوّ حاضر يعدكم الباطل، الا إنّ المسلم أخ المسلم فلا تنابذوا و لا تجادلوا ألا إنّ شرايع الدين واحدة و سبله قاصدة، من أخذ بها لحق و من فارقها محق و من تركها مرق، ليس المسلم بالخائن إذا او من، و لا بالمخلف إذا وعد، و لا الكاذب إذا نطق، نحن أهل بيت الرّحمة، و قولنا الصدق، و فعلنا القصد، و منا خاتم النبيين، و فينا قادة الاسلام، و فينا حملة الكتاب، أدعوكم إلى اللّه و إلى رسوله و إلى جهاد عدوّه و الشدّة في أمره و ابتغاء مرضاته و إقام الصلاة، و ايتاء الزّكاة، و حجّ البيت و صيام شهر رمضان، و توفير الفي ء على أهله ألا و إنّ من أعجب العجايب ان معاوية بن أبي سفيان الاموي و عمرو بن العاص السّهمي أصبحا يحرّضان على طلب الدّين بزعمهما، و لقد علمتم أنّى لم أخالف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قط، و لم أعصه في أمر قط، أقيه بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، و ترعد منها الفرائض بنجدة أكرمنى اللّه سبحانه بها و له الحمد.
و لقد قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إنّ رأسه لفى حجري، و لقد و ليت غسله بيدي و حدي يقبله الملائكة المقرّبون معي، و أيم اللّه ما اختلف أمّة بعد نبيّها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقّها إلّا ما شاء اللّه.
قال أبو سنان. فاشهد لقد سمعت عمّار بن ياسر يقول: أما أمير المؤمنين فقد أعلمكم إنّ الامة لم تستقم عليه أوّلا، و لن تستقيم عليه آخرا.
قال نصر: قال زيد بن وهب: إنّ عليّا عليه السّلام قال في هذه اللّيلة: حتّى متى لا نناهض القوم بأجمعنا، فقام في النّاس عشيّة الثلثاء بعد العصر فقال: الحمد للّه الذي لا يبرم ما نقض، و لا ينقض ما أبرم، و لو شاء ما اختلف اثنان من هذه الامة، و لا من خلقه، و لا تنازع البشر في شي ء من أمره، و لا جحد المفضول ذا الفضل فضله، و لقد ساقتنا و هولاء القوم الأقدار حتّى لفّت بيننا في هذا الموضع و نحن من ربّنا بمرئى و مسمع، و لو شاء لعجل النقمة و لكان منه التّغير حتّى يكذب اللّه الظالم و يعلم الحقّ أين مصيره، و لكنّه جعل الدّنيا دار الأعمال، و جعل الآخرة دار الجزاء و القرار، ليجزى الذين أساؤا بما عملوا و يجزى الذين أحسنوا بالحسنى.
ألّا إنّكم لاقوا العدّو غدا إنشاء اللّه فأطيلوا اللّيلة القيام، و أكثروا تلاوة القرآن، و اسألوا اللّه الصّبر و النّصر، و القوهم بالجدّ و الحزم، و كونوا صادقين.
قال: فوثب النّاس إلى رماحهم و سيوفهم و نبالهم يصلحونها، و خرج عليه السّلام فعبى النّاس ليلته تلك كلها حتّى أصبح، و عقد الألوية و أمر الامراء و بعث إلى أهل الشّام مناديا ينادى اغدوا على مصافكم، فضجّ أهل الشّام في معسكرهم و اجتمعوا إلى معاوية فعبى خيله و عقد ألويته و أمر امرائه و كتب كتائبه، و كان أهل الشّام ثمّ تناهض القوم سادس صفروا قتلوا إلى آخر نهارهم و انصرفوا عند المساء و كلّ غير غالب، فأما اليوم السّابع فكان القتال فيه شديدا و الخطب عظيما، و كان عبد اللّه بن بديل الخزاعي على ميمنة العراق، فزحف نحو حبيب بن مسلمة و هو على مسيرة أهل الشّام حتّى اضطرهم إلى قبّة معاوية وقت الظهر.
قال نصر: و حدّثنا عمر بن سعد عن عبد الرّحمن بن أبي عمرو عن أبيه أنّ عليّا خطب هذا اليوم فقال: معاشر النّاس استشعروا الخشية و تجلببوا السّكينة إلى آخر ما مر في المتن.
و روى نصر باسناده المذكور أيضا أنّه خطب ذا اليوم و قال: أيّها الناس إنّ اللّه تعالى ذكره قد دلكم على تجارة تنجيكم من العذاب، و تشفى بكم على الخير، ايمان باللّه و رسوله و جهاد في سبيله، و جعل ثوابه مغفرة الذّنوب و مساكن طيّبة في جنات و رضوان من اللّه أكبر و أخبركم بالذي يحبّ فقال: إنّ اللّه يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفّا كأنهم بنيان مرصوص فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص و قدموا الدراع و أخروا الحاسر و عضّوا على الأضراس فانّه أنبا للسّيوف عن الهام، و أربط للجاش و أسكن للقلوب و أميتوا الأصوات فانّه أطرد للفشل و اولى بالوقار و التووا في أطراف الرّماح فانّه امور للاسنّة و رايتكم فلا تميلوها و لا تزيلوها و لا تجعلوها إلّا بأيدى شجعانكم المانعي الذّمار و الصّبر عند نزول الحقائق أهل الحفاظ الذين يحفون برايتكم و يكتنفونها، يضربون خلفها و أمامها و لا تضيّعوها.
و هلّا أجزء كلّ أمره مسلم منكم قرنه و واسا أخاه بنفسه، و لم يكل قرنه إلى أخيه فيجمع عليه قرنه و قرن أخيه فكسب بذلك اللائمة و يأتي به دنائة أنّى هذا و كيف يكون هكذا، هذا يقابل اثنين، و هذا ممسك يده قد خلّى قرنه إلى أخيه هاربا منه أو قائما ينظر إليه، من يفعل هذا مقته اللّه فلا تعرضوا لمقت اللّه فانّما مردّكم إلى اللّه قال اللّه تعالى لقوم عابهم: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا.
و أيم اللّه إن فررتم من سيف «اللّه خ ل» العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة فاستعينوا بالصّدق و الصّبر فانّه بعد الصّبر ينزل النصر.
قال نصر: ثمّ قام قيس بن سعد و خطب خطبة بليغة حث النّاس فيها على الجهاد، ثمّ قام الاشتر رضى اللّه عنه بمثل ذلك، و كذا يزيد بن قيس الأرحبى و غيرهم.
و روى عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام، و زيد بن الحسن قالا طلب معاوية إلى عمرو بن العاص أن يسوي صفوف أهل الشّام، فقال: يا معشر أهل الشّام سوّوا صفوفكم قص الشّارب، و أعيرونا جماجمكم ساعة، فانه قد بلغ الحقّ مقطعه فلم يبق إلّا ظالم أو مظلوم.
قال نصر: و أقبل أبو الهثيم بن التّيهان و كان من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله بدريّا عقبيّا يسوّى صفوف أهل العراق و هو يقول: يا معشر أهل العراق إنّه ليس بينكم و بين الفتح العاجل إلا ساعة من النّهار، فارسوا أقدامكم و سوّوا صفوفكم و أعيروا ربّكم جماجمكم و استعينوا باللّه ربّكم، و اصبروا إنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين.
قال نصر: و حدّثنا عمرو بن شمر، عن جابر، عن الشعبي أنّ أوّل فارسين التقيا في هذا اليوم و هو اليوم السّابع و كان من الأيام العظيمة ذا أهوال شديدة حجر بن عديّ من أصحاب عليّ عليه السّلام و ابن عمّ حجر المسمّى بحجر أيضا من أصحاب معاوية كليهما من كندة، فأطعنا برمحههما، و خرج خزيمة الأسدى من عسكر معاوية فضرب حجر ابن عدي ضربة برمحه فحمل أصحاب عليّ عليه السّلام فقتلوا خزيمة و نجى ابن عمّ حجر هاربا فالتحق بصف معاوية، ثمّ برز ثانية فبرز إليه الحكم بن أزهر من أهل العراق فقتله.
ثمّ إنّ عليّا دعا أصحابه إلى أن يذهب واحد منهم بمصحف كان في يده إلى أهل الشّام، فقال عليه السّلام: من يذهب إليهم فيدعوهم إلى ما في هذا المصحف فسكت النّاس و أقبل فتى اسمه سعيد فقال: أنا صاحبه، و قال ثانيا: فلم يجبه إلّا الفتى، فسلّمه إليه، ثمّ أتاهم و ناشدهم و دعاهم إلى ما فيه فقتلوه.
فقال أمير المؤمنين عليه السّلام لعبد اللّه بن بديل: احمل عليهم الآن فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة و عليه يومئذ سيفان و درعان، فجعل يضرب قدما و يرتجز فلم يزل يحمل حتّى انتهى إلى معاوية و الذين بايعوه على الموت فأمرهم أن يصمد و العبد اللّه بن بديل، و بعث إلى حبيب بن مسلمة الفهري و هو في الميسرة أن يحمل عليه بجميع أصحابه و اختلط النّاس و اصطدم الصّفان ميمنة أهل العراق و ميسرة أهل الشّام.
و أقبل ابن بديل يضرب النّاس بسيفه حتّى أزال معاوية عن موقفه، و جعل ينادي يا ثارات عثمان و إنّما يعنى اخا له قتل و ظنّ معاوية و أصحابه أنّه يعني عثمان بن عفّان و تراجع معاوية عن مكانه القهقرى كثيرا و أشفق على نفسه و أرسل إلى حبيب بن مسلمة ثانية و ثالثة يستنجده و يستصرخه و يحمل حبيب حملة شديدة بميسرة معاوية على ميمنة عراق، فكشفها حتّى لم يبق مع ابن بديل إلا نحو مأئة انسان من القراء فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم.
و لجج ابن بديل في النّاس و صمّم على قتل معاوية و جعل يطلب موقفه حتّى انتهى إليه فنادى معاوية في الناس و يلكم الصّخرة و الحجارة إذا عجزتم عن السّلاح، فرضخه النّاس بالحجارة حتّى أثخنوه، فسقط فأقبلوا عليه بسيوفهم فقتلوه فجاء معاوية و عبد اللّه بن عامر حتّى وقفا عليه فالقى عبد اللّه عمامته على وجهه و ترحّم عليه و كان له أخا و صديقا من قبل، فقال معاوية: اكشف عن وجهه فقال: لا و اللّه لا يمثل به و فيّ روح، فقال معاوية: قد وهبناه لك فكشف عن وجهه فقال معاوية: هذا كبش القويم و ربّ الكعبة اللهمّ أظفرني بالاشتر النخعي و الأشعث الكندى.
قال نصر فاستعلا أهل الشّام عند قتل ابن بديل على أهل العراق يومئذ و انكشف أهل العراق من قبل الميمنة و اجفلوا اجفالا شديدا فأمر عليّ عليه السّلام سهل بن حنيف فاستقدم ممن كان معه ليرفد الميمنة و يعضدها، فاستقبلهم جموع أهل الشام في خيل عظيمة فحملت عليهم فالحقتهم بالميمنة، و كانت ميمنة أهل العراق متّصلة بموقف عليّ في القلب في أهل اليمن، فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى عليّ فانصرف يمشي نحو الميسرة.
روى نصر عن زيد بن وهب قال: لقد مرّ عليّ عليه السّلام يومئذ و معه بنوه و إنّي لأرى النبل يمرّ بين عاتقه و منكبه و ما من بنيه إلّا من يقيه بنفسه فيكره عليّ ذلك فيتقدّم عليه و يحول بينه و بين أهل الشّام و يأخذ بيده إذا فعل ذلك فيلقيه من ورائه، و بصربه أحمر مولى بني أمية و كان شجاعا، فقال علي «لعلي ظ» و ربّ الكعبة قتلني اللّه إن لم اقتلك، فاقبل نحوه فخرج إليه كيسان مولى عليّ فاختلفا ضربتين فقتله أحمر و خالط عليّا ليضربه بالسّيف فمدّيده عليه السّلام إلى جيب درعه فجذبه عن فرسه، و حمله على عاتفه و اللّه لكأنى أنظر إلى رجلى أحمر يختلفان على عنق عليّ عليه السّلام ثمّ ضرب به الأرض فكسر منكبه و عضديه و شدّ ابنا عليّ عليه السّلام حسين و محمّد، فضرباه بأسيافهما حتّى برد فكأنّي أنظر إلى عليّ قائما و شبلاه يضربان الرّجل حتى إذا أتيا عليه أقبلا على أبيهما و الحسن قائم معه فقال له عليّ: يا بنيّ ما منعك أن تفعل كما فعل أخوك فقال كفيانى يا أمير المؤمنين.
قال ثمّ إنّ أهل الشّام دنوا منه يريدونه و اللّه ما يزيده قربهم منه و دنوّهم سرعة في مشيه، فقال له الحسن: ما أضرّك لو أسرعت حتّى تنتهى إلى الذين صبروا لعدوك من أصحابك، قال يعنى ربيعة الميسرة فقال عليّ: يا بنيّ إنّ لأبيك يوما لا يبطى ء به عنه السّعى و لا يقربه إليه الوقوف إنّ أباك لا يبالى وقع على الموت أو وقع الموت عليه.
قال نصر: و روى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي إسحاق قال: خرج عليّ يوما من ايّام صفين و في يده عنزة، فمرّ على سعيد بن قيس الهمداني فقال له سعيد: أما تخشى يا أمير المؤمنين أن يغتا لك أحد و أنت قريب عدوّك، فقال عليّ عليه السّلام إنه ليس من أحد إلّا و عليه حفظة من اللّه يحفظونه من أن يتردّى في قليب أو يخرب عليه حايط أو تصيبه آفة، فاذا جاء القدر خلّوا بينه و بينه.
قال: و حدّثنا عمرو، عن فضيل بن خديج، قال لما انهزمت ميمنة العراق يومئذ أقبل عليّ نحو الميسرة يركض ليستلب النّاس و يسوقهم و يأمرهم بالرّجوع نحو الفرغ، فمرّ بالأشتر فقال: يا مالك قال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: ائت هؤلاء القوم فقل لهم أين فراركم عن الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقى لكم، فمضى الأشتر فاستقبل النّاس منهزمين فقال لهم: الكلمات، فناداهم أيّها الناس أنا مالك بن الحرث، فلم يلتفت أحد منهم إليه فقال: أيّها النّاس أنا الأشتر، فأقبلت إليه طائفة و ذهبت عنه طائفة فقال: عضضتم بهن أبيكم، ما أقبح ما قاتلتم اليوم.
أيّها النّاس غضّوا الأبصار و عضّوا على النّواجذ، فاستقبلوا النّاس بهامكم و شدّوا عليهم شدّة قوم موتورين بآبائهم و أبنائهم و إخوانهم حنفاء على عدوهم، قد و طنوا على الموت أنفسهم كيلا يسبقوا بثار إنّ هؤلاء القوم و اللّه لن يقاتلوكم إلّا عن دينكم ليطفؤوا السّنة و يحيوا البدعة و يدخلوكم في أمركم قد أخرجكم اللّه منه بحسن البصيرة، فطيبوا عباد اللّه نفسا بدمائكم دون دينكم، فانّ الفرار فيه سلب العزّ و الغلبة على الفي ء، و ذلّ المحيا و الممات و عار الدّنيا و الآخرة و سخط اللّه و أليم عقابه ثمّ قال: أيّها النّاس اخلصوا إلىّ مذحجا فاجتمعت إليه مذحج فقال عضضتم بصمّ الجندل و اللّه ما أرضيتم اليوم ربّكم و لا نصحتم له في عدوّه و كيف و أنتم أبناء الحرب و أصحاب الغارات و فرسان الطراد و حتوف الأقران، و مذحج الطعان الذين لم يكونوا سبقوا بثارهم، و لم تطل دماؤهم و لم يعرفوا في موطن من المواطن لحين و أنتم سادة مصركم و اعرجىّ في قومكم، و ما تفعلوا في هذا اليوم فهو ماثور بعد اليوم فابقوا ماثور الحديث في غد، و اصدقوا عدوّكم اللقاء فانّ اللّه مع الصّابرين.
و الذي نفسي بيده ما من هؤلاء و أشار بيده إلى أهل الشّام رجل في مثل جناح البعوضة من دين اللّه أنتم ما أحسنتم اليوم القراع أجلوا سواد وجهى يرجع في وجهي ذمى «احبسوا سواد وجهى رجع فيه دمى خ ل» عليكم بهذا السواد الأعظم فانّ اللّه لو قد فضه تبعه من بجانبيه كما يتبع السّيل مقدمه، فقالوا: خذ بنا حيث احببت فصمد بهم نحو عظمهم و استقبله سنام من همدان و هم نحو ثمانمائة مقاتل قد انهزموا آخر النّاس و كانوا قد صبروا في ميمنة عليّ حتّى قتل مأئة و ثمانون رجلا و اصيب منهم أحد عشر رئيسا كلما قتل منهم رئيس أخذ الرّاية آخروهم بنو شريح الهمدانيون و غيرهم من رؤساء العشيرة.
فقال لهم الأشتر إنّى احالفكم و اعاقدكم على أن لا نرجع أبدا حتّى نظفر أو نهلك، فوقفوا معه على هذه النية و العزيمة و زحف نحو الميمنة و ناب إليه اناس تراجعوا من أهل الصّبر و الوفاء و الحياء فأخذ لا يصمد لكتيبة إلّا كشفها، و لا بجمع الا جازه و ردّه.
قال نصر و حدّثنا عمرو، عن الحرث بن الصّباح، قال: كان بيد الأشتر يومئذ صحيفة له يمانية إذا طأطأها خلت فيها ما ينصب، و إذا رفعها يكاد يغشى البصر شعاعها، و هو يضرب بها النّاس قد ما و يقول: الغمرات ثمّ ينجلينا.
قال: فبصر به الحرث بن جمهان الجعفي و الأشتر مقنّع في الحديد فلم يعرفه فدنا منه، و قال له: جزاك اللّه منذ اليوم عن أمير المؤمنين و جماعة المسلمين خيرا، فعرفه الأشتر فقال: يابن جمهان أمثلك يتخلّف اليوم عن مثل موطني هذا فتأمله ابن جمهان فعرفه و كان الأشتر من أطول الرّجال و أعظمهم إلّا أنّ في لحمه خفة قليلة، فقال له جعلت فداك، و اللّه ما علمت مكانك حتّى السّاعة لا افارقك حتّى أموت.
قال نصر: و حدّثنا عمر عن فضيل بن خديج، قال: لمّا اجتمع إلى الأشتر معظم من كان انهزم من الميمنة حمل على صفوف أهل الشّام حتّى كشفهم فألحقهم بمضارب معاوية، و ذلك بين العصر و المغرب.
و عن زيد بن وهب أنّ عليّا لما رأى ميمنته قد عادت إلى موقفها و مصافها و كشف من بازائها حتّى ضاربوهم في مواقفهم و مراكزهم، أقبل حتّى انتهى اليهم فقال إنّى قد رأيت جولتكم و انحيازكم من صفوفكم يحوزكم الجفاة الطغاة «الطعام خ ل» و اعراب أهل الشّام و أنتم لهاميم العرب و السّنام الأعظم و اعمار الليل بتلاوة القرآن و أهل دعوة الحقّ إذ ضل الخاطئون فلو لا إقبالكم بعد إدباركم و كرّكم بعد انحيازكم وجب عليكم ما وجب على المولى يوم الزّحف دبره و كنتم فيما أرى من الهالكين.
و لقد هون عليّ بعض و جدي و شفا بعض وجع نفسى أنى رأيتكم باخره حزتموه كما حازوكم و أزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم تحسّونهم بالسّيف يركب أوّلهم و آخرهم كالابل المطرودة الهيم فالآن فاصبروا نزلت عليكم السّكينة و ثبتكم اللّه باليقين و ليعلم المنهزم أنّه يسخط ربّه و يوبق نفسه و في الفرار موجدة اللّه عليه و الذّل اللّازم له و فساد العيش، و أنّ الفار لا يزيد الفرار في عمره و لا يرضى ربّه، فموت الرّجل محقّا قبل اتيان هذه الخصال خير من الرّضا بالتّلبس بها و الاصرار عليها.
قال نصر: فحمل أبو الكعب الخثعمي رأس خثعم العراق على خثعم الشّام و اقتتلوا قتالا شديدا، فجعل أبو كعب يقول لأصحابه يا معشر خثعم خدموا أى اضربوا موضع الخدمة و هي الخلخال، يعنى اضربوهم في سوقهم فناداه عبد اللّه بن حنش رأس خثعم الشّام يا با كعب الكلّ قومك فانصف، قال أي و اللّه و أعظم و اشتدّ قتالهم فحمل شمر «شمس خ ل» بن عبد اللّه الخثعمى على أبى كعب فطعنه فقتله.
ثمّ انصرف يبكى و يقول: يرحمك اللّه أبا كعب لقد قتلتك في طاعة قوم أنت أمس بى رحما منهم و أحبّ إلى منهم نفسا و لكني و اللّه ما أدرى ما أقول و لا أرى الشيطان إلّا قد فتننا، و لا أرى قريشا إلّا و قد لعبت بنا، فوثب كعب بن ابى كعب إلى راية أبيه فأخذها ففقئت عينه و صرع، ثمّ أخذها شريح بن مالك الخثعمى فقاتل القوم تحتها حتّى صرع منهم حول رايتهم ثمانون رجلا و اصيب من خثعم الشّام مثلهم ثمّ ردّها شريح بن مالك إلى كعب بن أبى كعب.
قال نصر: إنّ راية بحيلة فى صفين مع أهل العراق كانت في أخمس مع ابي شداد قيس بن المكسوخ، قالت البحيلة لأبى شدّاد: خذ رايتنا، فقال: غيري خير لكم منّي قالوا: لا نريد غيرك، قال: فو اللّه لئن اعطيتمونيها لانتهى بكم دون صاحب التّرس المذهب.
قالوا: و كان على رأس معاوية رجل قائم معه ترس مذهّب يستره من الشّمس فقالوا اصنع ما شئت فأخذها ثمّ زحف بها و هم حوله يضربون النّاس بأسياف حتى انتهى إلى صاحب التّرس المذهب و هو في خيل عظيمة من أصحاب معاوية، و كان عبد الرّحمن بن خالد بن الوليد، فاقتتل النّاس هناك قتالا شديدا و شدّ أبو شدّاد بسيفه نحو صاحب التّرس فعرض له رومي من دونه لمعاوية فضرب قدم أبى شدّاد فقطعها، و ضرب أبو شدّاد ذلك الرّومي فقتله، و أسرعت إليه الأسنة، فقتل، فاخذ الرّاية عبد اللّه بن قلع الأخمس و قاتل حتّى قتل، فأخذها بعده أخوه عبد الرّحمن بن قلع فقاتل حتّى قتل، ثمّ أخذها عفيف بن أياس الأخمس، فلم تزل بيده حتّى تحاجز النّاس.
قال نصر: و قال رجل من أصحاب علىّ أما و اللّه لأحملن على معاوية حتّى أقتله. فركب فرسا ثمّ ضربه حتّى قام على سنابكه، ثمّ دفعه فلم ينهنهه شي ء عن الوقوف حتّى وقف على رأس معاوية، فهرب معاوية و دخل خبائه فنزل الرّجل عن فرسه و دخل عليه فخرج معاوية من جانب الخباء الآخر فخرج الرّجل في اثره فاستصرخ معاوية بالنّاس فأحاطوا به و حالوا بينهما فقال معاوية و يحكم انّ السيوف لم يؤذن لها في هذا و لو لا ذلك لم تصل إليكم فعليكم بالحجارة فرضخوه بالحجارة حتّى همد ثمّ عاد معاوية إلى مجلسه.
قال: و حمل رجل من أصحاب عليّ عليه السّلام يدعى أبا أيوب، و ليس بأبى أيوب الأنصاري على صفّ أهل الشّام، ثمّ رجع فوافق رجلا من أهل الشّام صادرا قد حمل على أهل العراق، ثمّ رجع فاختلفا ضربتين فنفحه أبو أيوب بالسّيف فأبان عنقه فثبت رأسه على جسده كما هو، و كذّب النّاس أن يكون هو ضربه فارى بهم ذلك حتى إذا أدخلته فرسه في صف اهل الشّام بدر راسه فوقع ميّتا.
فقال عليّ عليه السّلام و اللّه لأنا من ثبات رأس الرّجل أشدّ تعجبا من الضّربة و ان كان إليها ينتهي وصف الواصفين، و جاء أبو أيوب فوقف بين يدي عليّ عليه السّلام فقال له أنت و اللّه كما قال الشّاعر:
- و علّمنا الضرب آباؤناو نحن نعلّم أيضا بنينا
قال نصر: فلما انقضى هذا اليوم بما فيه أصبحوا في اليوم الثامن من صفر و الفيلقان متقابلان، فخرج رجل من أهل الشام فسأل المبارزة فخرج اليه رجل من أهل العراق فاقتتلا بين الصفين قتالا شديدا، ثمّ إن العراقي اعتنقه فوقعا جميعا و غار الفرسان ثمّ إن العراقى قهره فجلس صدره و كشف المغفر عنه يريد ذبحه فاذا هو أخوه لابيه و امّه، فصاح به أصحاب علىّ و يحك اجهز عليه، قال انه أخى، قالوا: فاتركه، قال: لا و اللّه حتّى يأذن أمير المؤمنين، فاخبر عليّ بذلك فأرسل إليه أن دعه فتركه فقام فعاد إلى صفّ معاوية.
قال نصر: و حدّثنا محمّد بن عبيد اللّه عن الجرجاني قال: كان فارس معاوية الذي يعدّه لكلّ مبارز و لكلّ عظيم حريث مولاه، و كان يلبس سلاح معاوية متشبّها به فاذا قاتل قال النّاس ذاك معاوية و إنّ معاوية دعاه فقال له: يا حريث اتّق عليّا وضع رمحك حيث شئت، فأتاه عمرو بن العاص فقال: يا حريث و اللّه لو كنت قرشيا لأحبّ لك معاوية أن تقتل عليّا، و لكن كره أن يكون لك حظها فان رأيت فرصة فاقتحم و خرج عليّ فى هذا اليوم أمام الخيل فحمل عليه حريث.
قال نصر: فحدّثنى عمرو بن شمر عن جابر قال: بل برز حريث هذا اليوم و كان شديدا ايدا ذا بأس لا يرام فصاح يا علي هل لك في المبارزة فاقدم أبا حسن ان شئت، فأقبل عليّ عليه السّلام و هو يقول:
- أنا علىّ و ابن عبد المطلبنحن لعمر اللّه اولى بالكتب
- منّا النّبي المصطفى غير كذب اهل اللواء و المقام و الحجب
- نحن نصرناه على كلّ العرب
ثمّ خالطه فما أمهله أن ضربه ضربة فقطعه نصفين فجزع معاوية عليه جزعا شديدا و عاتب عمرا في إغرائه إيّاه بعليّ و قال في ذلك شعرا:
- حريث أ لم تعلم و جهلك ضايربأنّ عليّا للفوارس قاهر
- و انّ عليا لم يبارزه فارس من النّاس الّا أقصدته الأظافر
- أمرتك أمرا حازما فعصيتنىفحدّك اذ لم تقبل النّصح حائر
- و ولّاك عمرو و الحوادث جمةغرورا و ما جرّت عليك المقادر
- و ظنّ حريث أنّ عمرا نصيحهو قد يهلك الانسان من لا يحاذر
قال نصر فلما قتل حريث برز عمرو بن الحصين السكسكي فنادى يا أبا حسن هلمّ إلى المبارزة فأومأ عليّ إلى سعيد بن قيس الهمدانى فبارزة فضربه بالسّيف فقتله.
قال نصر: و كان لهمدان بلاء عظيم في نصرة عليّ عليه السّلام في صفين و من الشّعر الذي لا يشكّ انّه قاله لكثرة الرّواة له:
- دعوت فلبّانى من القوم عصبةفوارس من همدان غير لئام
- فوارس من همدان ليسوا بمعزل غداة الوغا من يشكر و شبام
- بكل روينى و عضب تخالهاذا اختلف الاقوام شعل ضرام
- لهمدان اخلاق كرام تزينهم و باس اذا لاقوا و حدّ خضام
- و جدّ و صدق في الحروب و نجدةو قول اذا قالوا بغير اثام
- متى تاتهم في دارهم تستضيفهم تبت ناعما في خدمة و طعام
- جزى اللّه همدان الجنان فانّهاسهام العدى في كلّ يوم زحام
- و لو كنت بوابا على باب جنّةلقلت لهمدان ادخلوا بسلام
قال نصر: فحدّثنى عمرو بن شمر قال: ثمّ قام عليّ بين الصّفين و نادى يا معاوية يكرّرها، فقال معاوية اسألوه ما شأنه، قال: أحبّ أن يظهر لي فأكلّمه كلمة واحدة، فبرز معاوية و معه عمرو بن العاص فلمّا قارباه لم يلتفت إلى عمرو و قال لمعاوية: و يحك على م تقتل النّاس بيني و بينك و يضرب بعضهم بعضا ابرز إلىّ فأيّنا قتل صاحبه فالأمر له فالتفت معاوية إلى عمرو فقال: ما ترى يا أبا عبد اللّه قال: قد أنصفك الرّجل و اعلم أنّك إن نكلت عنه لم تزل مسبته عليك و على عقبك ما بقى على ظهر الأرض عربيّ فقال معاوية: يا بن العاص ليس مثلي يخدع عن نفسه و اللّه ما بارز ابن أبي طالب شجاع قط إلّا و سقى الارض من دمه، ثمّ انصرف معاوية راجعا حتى انتهى إلى آخر الصّفوف و عمرو معه، فلمّا رأى عليّ ذلك ضحك و أعاد إلى موقفه قال نصر: و في حديث الجرجاني انّ معاوية قال لعمرو: و يحك ما أحمقك تدعوني إلى مبارزته و دوني عكّ و خدّام و الأشعرون، قال: و حقدها معاوية على عمرو باطنا و قال له ظاهرا ما أظنّك يا أبا عبد اللّه قلت ما قلته إلّا مازحا، فلمّا جلس معاوية عليه اللعنة و العذاب مجلسه أقبل عمرو يمشي حتّى جلس إلى جانبه، فقال معاوية:
- و لقد ظننتك قلت مزحة مازحو الهزل يحمله مقال الهازي
- ما ذا الذي منتك نفسك خالياقتلي جزيت بما نويت الجازى
فقال: عمرو: ايّها أيّها الرّجل أتجبن عن خصمك و تتّهم نصيحك و قال مجيبا له:
- معاوى ما اجترمت عليك ذنباو لا أنا في الذي حدّثت خازي
- و ما ذنبي بأن نادى علىّ و كبش القوم يدعى للبراز
- و لو بارزته بارزت ليثاحديد النّاب يخطب كلّ باز
- و تزعم أنّني أضمرت غشّاجزاني بالذي أضمرت جازي
و في البحار من تفسير العياشي عن أبي الأعزّ التّميمي قال: بينا أنا واقف بصفّين إذ مرّ بي العبّاس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب شاك في السّلاح على رأسه مغفر و بيده صحيفة يمانيّة يقلّبها و هو على فرس له أدهم و كان عينيه عينا أفعي، فبينا هو يروض فرسه و يلين عريكته إذ هتف به هاتف من أهل الشّام يقال له عرار بن أدهم: يا عبّاس هلمّ إلى البراز، قال: فالنّزول اذن فانّه اياس من الغفول، قال فنزل الشّامي و وجد و هو يقول:
- إن تركبوا فركوب الخيل عادتناأو تنزلون فانّا معشر نزل
قال و ثنى عباس رجله و هو يقول:
- و يصدّ عنك مخيلة الرّجلالعرّيض موضحة عن العظم
- بحسام سيفك أو لسانك و الكلم الاصيل كارعب الكلم
ثمّ عصب فضلات درعه في حجزته و دفع فرسه إلى غلام له اسلم كانّي انظر إلى قلاقل شعره و دلف كلّ واحد منهما إلى صاحبه قال فذكرت قول أبي ذويب:
- فتنازلا و توافقت خيلاهماو كلاهما بطل اللقاء مجدع
قال ثمّ تكافحا بسيفهما مليّا من نهارهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لامته إلى أن لحظ العبّاس و هنا في درع الشّامي فأهوى إليه بالسّيف فانتظم في درع الشّامي فاهوى إليه بيده فهتكه إلى ثندوته ثمّ عاد لمجادلته و قد اصحر له مفتق الدّرع فضربه العبّاس ضربة انتظم به جوانح صدره و خرّ الشّامي صريعا بخدّه و سمى العبّاس في النّاس و كبّر النّاس تكبيرة ارتجّت لها الأرض فسمعت قائلا يقول من ورائي. قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ فالتفت فاذا هو أمير المؤمنين عليّ فقال: يا أبا الأعزّ من المبارز لعدوّنا قلت: هذا ابن (شيخكم خ ل) العبّاس بن ربيعة فقال و إنّه لهو يا عبّاس، قال: لبّيك قال: ألم انهك و حسنا و حسينا و عبد اللّه بن جعفر أن تخلوا بمركز أو تباشروا حدثا قال: إنّ ذلك لكذلك قال: فما عدا ممّا بدا، قال: أ فأدعى إلى البراز يا أمير المؤمنين فلا أجيب جعلت فداك قال: نعم طاعة إمامك أولى من اجابة عدوّك، ودّ معاوية أنّه ما بقى من بني هاشم نافخ ضرمة إلّا طعن في نيطته إطفاء لنور اللّه وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
أما و اللّه ليهلكنّهم منّا رجال و رجال يسومونهم الخسف حتّى يكفّفوا بأيديهم و يحفروا الّا بار إن عادوا لك فعدلى، قال: و نمى الخبر إلى معاوية فقال: اللّه دم عرار ألا رجل يطلب بدم العرار قال: فانتدب له رجلان من لخم فقالا نحن له قال: اذهبا فايّكما قتل العبّاس برازا فله كذا و كذا، فأتياه فدعواه إلى البراز فقال: إنّ لي سيّدا اوامره قال: فاتى أمير المؤمنين عليه السّلام فأخبره فقال: ناقلني سلاحك بسلاحي، فناقله قال: و ركب أمير المؤمنين عليه السّلام على فرس العبّاس، و دفع فرسه إلى العبّاس و برز إلى الشّاميين فلم يشكّا أنّه العبّاس، فقالا له: أذن لك سيّدك فتحرّج أن يقول نعم فقال «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
قال: فبرز إليه أحدهما فكانّما اختطفه، ثمّ برز إليه الثّاني فألحقه بالأوّل و انصرف و هو يقول: «الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ».
ثمّ قال: يا عبّاس خذ سلاحك و هات سلاحي قال: و نمى الخبر إلى معاوية فقال: قبّح اللّه اللجاج إنّه لقعود ما ركبته قط إلّا خذلت، فقال عمرو بن العاص، المخذول و اللّه اللخميان لا أنت، قال: اسكت أيّها الشّيخ فليس هذه من ساعاتك قال: فان لم يكن فرحم اللّه اللخميّين و ما أراه يفعل قال: ذلك و اللّه أضيق لحجرك و أخسر لصفقتك قال: أجل و لو لا مصر لقد كانت المنجاة منها، فقال: هي و اللّه أعمتك لولاها لا ألفيت نصيرا.
و رواه في شرح المعتزلي من كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة بأدنى تغيير قال نصر: ثمّ التقى النّاس فاقتتلوا قتالا شديدا و حاربت طىّ مع أمير المؤمنين حربا عظيما و تداعت و ارتجزت فقتل منها أبطال كثيرون، و قاتلت النّخع معه أيضا ذلك اليوم قتالا شديدا و قطعت رجل علقمة بن قيس النّخعي و قتل اخوه ابىّ بن قيس فكان علقمة يقول بعد ما احبّ انّ رجلي أصحّ ما كانت لما أرجو بها من حسن الثّواب و كان يقول أحبّ أن ا بصراخي في نومي فرأيته فقلت له: يا أخى ما الذي قدمتم عليه فقال: التقينا و أهل الشّام بين يدي اللّه سبحانه فاحتججنا عنده فحججناهم، فما سررت بشي ء منذ عقلت سرورى بتلك الرّؤيا و روى نصر عن الحصين بن المنذر الرّقاشي قال: لمّا تصاف النّاس في هذا اليوم و حمل بعضهم على بعض تضعضعت ميمنة أهل العراق فجاءنا عليّ و معه بنوه حتّى انتهى الينا، فنادى بصوت عال جهير لمن هذه الرّايات فقلنا: رايات ربيعة، و قال: بل هى رايات اللّه عصم اللّه أهلها و صبّرهم و ثبّت أقدامهم، ثمّ قال لي و أنا حامل راية ربيعة يومئذ: يافتى ألا تدني رايتك هذه ذراعا فقلت بلى: و اللّه و عشرة أذرع فأدنيتها فقال لي: حسبك مكانك قال نصر: و حدّثنا عمرو بن شمر قال: لما أقبل الحصين بن المنذر يومئذ و هو غلام يزحف براية ربيعة و كانت حمراء فأعجب عليّا زحفه و ثباته فقال:
- لمن راية حمراء يخفق ظلّهاإذا قيل قدّمها حصين تقدّما
- و يدنو بها في الصّفّ حتّى يديرهاجمام المنايا تقطر الموت و الدّما
- تراه إذا ما كان يوم عظيمةأبى فيه إلّا عزّة و تكرّما
- جزى اللّه قوما صابروا في لقائهم لدى النّاس خيرا ما أعزّ و أكرما
- و أحزم صبرا يوم يدعى إلى الوغاإذا كان أصوات الكماة تغمغما
- ربيعة أعني أنّهم أهل نجدةو بأس اذا لا قوا خميسا غرمرما
- و قد صبرت عكّ و لخم و حميرلمذحج حتّى لم يفارق دم دما
- و نادت جذام يا لمذحج ويحكم جزى اللّه شرّا أيّنا كان أظلما
- أما تتّقون اللّه في حرماتكمو ما قرّب الرّحمن منها و عظّما
- أذقنا ابن حرب طعننا و ضرابنابأسيافنا حتّى تولّى و أحجما
- و فرّ ينادى زبرقان بن أظلمو نادى كلاعا و الكريث و الغما
- و عمرا و سفيانا وجهما و مالكاو حوشب و الغازى شريحا و اظلما
- و كرز بن تيهان و عمرو بن جحددو صبّاحا القيني يدعو و أسلما
قال نصر: و أقبل ذو الكلاع في حمير و من لف لفها و معهم عبيد اللّه بن عمر بن الخطاب في أربعة آلاف من قرّاء أهل الشّام ذو الكلاع في حمير في الميمنة، و عبيد اللّه في القرّاء في الميسرة، فحملوا على ربيعة و هم في ميسرة أهل العراق و فيهم عبد اللّه ابن العبّاس حملة شديدة فتضعضعت رايات ربيعة ثمّ إنّ أهل الشّام انصرفوا فلم يمكثوا إلّا قليلا حتّى كرّوا ثانية و عبيد اللّه بن عمر في أوائلهم يقول: يا أهل الشّام هذا الحىّ من العراق قتلة عثمان و أنصار عليّ فان هزمتم هذه القبيلة أدركتم ثاركم في عثمان فشدّوا على النّاس شدّة عظيمة فثبتت لهم ربيعة و صبرت صبرا حسنا الّا قليلا من الضّعفاء و اشتدّ القتال بين ربيعة و حمير و عبيد اللّه بن عمرو كثرت القتلى ثمّ خرج خمسمائة فارس أو أكثر من أصحاب علىّ على رءوسهم البيض، و هم غائصون في الحديد لا يرى منهم إلّا الحدق، و خرج اليهم من أهل الشّام نحوهم في العدّة فاقتتلوا بين الصفين و النّاس وقوف تحت راياتهم، فلم يرجع من هؤلاء مخبر لا عراقيّ و لا شاميّ قتلوا جميعا بين الصفّين، و كان بصفّين تلّ يلقى عليه الجماجم من الرّجال يدعى تلّ الجماجم قال نصر: ثمّ ذهب هذا اليوم بما فيه فأصبحوا من اليوم التّاسع من صفر، و قد خطب معاوية أهل الشّام و حرّضهم فقال: إنّه قد نزل من الأمر ما ترون و حضركم ما حضركم فاذا نهدتم اليهم انشاء اللّه فقدّموا الدّارع و أخّروا الحاسر و صفّوا الخيل و أجنبوها و كونوا كقصّ الشّارب و أعيرونا جماجمكم ساعة فانّما هو ظالم أو مظلوم و قد بلغ الحقّ مقطعه قال: و كانت التّعبية في هذا اليوم كالتّعبية في الذي قبله، فحمل عبيد اللّه بن عمر في قرّاء أهل الشّام و معه ذو الكلاع في حمير على ربيعة و هي ميسرة عليّ عليه السّلام فقاتلوا قتالا شديدا فاتى زياد بن حفصة الى عبد القيس فقال لهم: لا يكوننّ وائل بعد اليوم انّ ذا الكلاع و عبيد اللّه أباد ربيعة فانهضوا لهم و الّا هلكوا، فركبت عبد القيس و جاءت كانّها غمامة سوداء فشدّت ازار الميسرة فعظم القتال فقتل ذو الكلاع الحميرى قتله رجل من بكر بن وائل اسمه خندف، و تضعضعت أركان حمير و ثبتت بعد قتل ذي الكلاع تحارب مع عبيد اللّه بن عمر و أرسل عبيد اللّه إلى الحسن بن عليّ عليه السّلام أنّ لى إليك حاجة فألقنى فلقاه الحسن عليه السّلام فقال عبيد اللّه: إنّ أباك قد وتر قريشا أوّلا و آخرا و قد شنئه النّاس فهل لك في خلعه و ان تتولى أنت هذا الأمر: فقال: كلّا و اللّه لا يكون ذلك، ثمّ قال.
يابن الخطاب و اللّه لكانّى أنظر إليك مقتولا في يومك أو غدك أما إنّ الشيطان قد زيّن لك و خدعك حتّى أخرجك مخلقا بالخلوق ترى نساء أهل الشّام موقفك و سيصرعك اللّه و يبطحك لوجهك قتيلا.
قال نصر: فو اللّه ما كان إلّا بياض ذلك اليوم حتّى قتل عبيد اللّه و هو في كتيبة رقطاء و كانت تدعى الخضرية و كانوا أربعة الف عليهم ثياب خضر، فمرّ الحسن فاذا رجل متوسد رجل قتيل قد ركز رمحه فى عينه و ربط فرسه برجله فقال الحسن لمن معه: انظروا من هذا فاذا رجل من همدان و إذا القتيل عبيد اللّه بن عمر قد قتله الهمدانى في أوّل الليل و بات عليه حتّى أصبح.
قال نصر: و قد اختلفت الرّواة في قاتل عبيد اللّه فقالت الهمدان: نحن قتلناه قتله هاني بن الخطاب الهمدانى، و قالت حضر موت: نحن قتلناه قتله محرز بن الصّحصح، و روي أنّ قاتله حريث بن جابر الحنفي و كان رئيس بنى حنيفة يوم صفين.
قال نصر: فأتى ذا الكلاع فقد ذكرنا مقتله و أنّ قاتله خندف البكرى، و روى عمرو بن شمر عن جابر قال حمل ذا الكلاع ذلك اليوم بالفيلق العظيم من حمير على صفوف العراق، ناداهم أبو شجاع الحميري و كان من ذوي البصاير مع عليّ عليه السّلام فقال: يا معشر حمير تبّت أيديكم أ ترون معاوية خيرا من عليّ أضلّ اللّه سعيكم، ثمّ أنت يا ذا الكلاع قد كنّا نرى لانّ لك نيّة في الدّين فقال ذا الكلاع ايها يابا شجاع و اللّه إنّى لأعلم ما معاوية بأفضل من عليّ، و لكنّي اقاتل على دم عثمان، قال فاصيب ذو الكلاع حينئذ قتله خندف في المعركة. قال معاوية لما قتل ذو الكلاع: لانا أشدّ فرحا بقتل ذي الكلاع منّى بفتح مصر لو فتحها، لأنّ ذا الكلاع كان يحجز على معاوية في أشياء كان يأمر بها.
قال نصر: فلما قتل ذو الكلاع اشتدّت الحرب و شدّعكّ و لخم و خدام «جذام» و الأشعريون من أهل الشّام على مذحج من أهل العراق جعلهم معاوية بازائهم فنادى منادى مذحج بالمذحج خدموا أى اضربوا مواضع الخدمة و هي السّوق فاعترضت مذحج سوق القوم فكان فيه بوار عامتهم.
قال نصر: حدّثنى عمرو بن الزبير قال: سمعت الحصين المنذر يقول أعطانى علىّ ذلك اليوم راية ربيعة و قال: بسم اللّه سريا حصين و اعلم أنّك لا تخفق على رأسك راية مثلها أبدا، هذه راية رسول اللّه فجاء أبو عرفا. جبلة بن عطية الذّهلي إلى الحصين و قال: هل لك أن تعطيني الرّاية أحملها لك ذكرها ولى أجرها فقال الحصين: و ما غنا يا عم مع ذكرها. عن أجرها قال: إنّه لا غنى بك عن ذلك و لكن أعرها ساعة فما أسرع ما ترجع إليك، قال الحصين: فقلت انّه قد استقبل و انّه يريد أن يموت مجاهدا فقلت له: خذها فأخذها ثمّ قال لأصحابه: إنّ عمل الجنّة كره كلّه و ثقيل، و إنّ عمل النّار خفّ كلّه و خبيث إنّ الجنّة لا يدخلها إلّا الصابرون الذين صبروا أنفسهم على فرائض اللّه و أو امره و ليس شي ء ممّا فرض اللّه على العباد أشدّ من الجهاد هو أفضل الأعمال ثوابا عند اللّه، فاذا رأيتموني قد شددت فشدّوا ويحكم أما تشتاقون إلى الجنّة أما تحبون أن يغفر اللّه لكم فشدّوا معه و قاتلوا قتالا شديدا فقتل أبو عرفاء و شدّت ربيعة بعده شدّة عظيمة على صفوف أهل الشّام فنقضها.
قال نصر: فاضطرب النّاس يومئذ بالسّيوف حتّى تقطعت و تكسّرت و صارت كالمناجل و تطاعنوا بالرّماح حتّى تقصفت و تناثرت أنابيبها، ثمّ جثوا على الرّكب فتحاثوا بالتّراب يحثو بعضهم التّراب في وجه بعض ثمّ تعانقوا و تكاوموا بالأفواه ثمّ تراموا بالصّخر و الحجارة ثمّ تحاجزوا فكان الرّجل من أهل العراق يمرّ على أهل الشّام فيقول كيف اجز إلى رايات بنى فلان فيقولون ههنا لاهداك اللّه و يمرّ الرّجل من أهل الشّام على أهل العراق فيقول كيف أمضى إلى رايات بنى فلان فيقولون ههنا لا هداك اللّه و لا عافاك.
قال نصر: و قال معاوية لعمرو بن العاص أما ترى يا أبا عبد اللّه إلى ما قد وقعنا كيف ترى أهل الشّام غدا صانعين إنّا لبمعرض خطر عظيم فقال له إن أصبحت غدا ربيعة و هم متعطفّون حول عليّ تعطف الابل حول فحلها لقيت منهم جلادا صادقا و باسا شديدا و كانت التي لا سوى لها فقال معاوية أ يجوز إنّك تخوفنا يا با عبد اللّه، قال: إنّك سألتني فأجبتك فلمّا أصبحوا في اليوم العاشر أصبحوا و ربيعة محدقة بعليّ إحداق بياض العين بسوادها. قال نصر: حدّثنى عمرو بن شمر قال لمّا أصبح عليّ هذا اليوم جاء فوقف بين رايات ربيعة فقال عتاب بن لقيط البكرى من بنى قيس بن ثعلبة: يا معشر ربيعة حاموا من عليّ منذ اليوم فان اصيب فيكم افتضحتم ألا ترونه قائما تحت راياتكم و قال لهم شقيق بن ثور: يا معشر ربيعة ليس لكم عذر عند العرب إن وصل إلى علىّ و فيكم رجل حىّ، فامنعوه اليوم و اصدقوا عدوّكم اللقاء فانّه حمد الحياة تكسبونه فتعاهدت ربيعة و تحالفت بالايمان العظيمة و تبايع منهم سبعة آلاف على أن لا ينظر رجل خلفه حتّى يردوا سرادق معاوية، فقاتلوا ذلك اليوم قتالا شديدا لم يكن قبله مثله و أقبلوا نحو سرادق معاوية فلمّا نظر إليهم قد اقبلوا قال:
- اذا قلت قد ولّت ربيعة اقبلتكتائب منها كالجبال تجالد
ثمّ قال لعمرو: يا عمرو ما ترى قال: أرى أن لا تحنث اخو الى اليوم، فقام معاوية و خلّا لهم سرادقه و رحله و خرج فارّا عنه لائذا ببعض مضارب العسكر في اخريات النّاس، و انتهبت ربيعة سرادقه و رحله و بعث إلى خالد بن المعمر أنّك قد ظفرت و لك أمارة خراسان إن لم تتمّ، فقطع خالد القتال، و لم يتمّه، و قال لربيعة: قد برت أيمانكم فحسبكم، فلما كان عام الجماعة و بايع النّاس معاوية أمّره معاوية على خراسان و بعثه اليها فمات قبل أن يبلغها.
قال نصر في حديث عمر بن سعد: إنّ عليّا صلّى بهم يومئذ صلاة الغداة ثمّ زحف بهم، فلمّا بصروه قد خرج استقبلوه بزحوفهم فاقتتلوا قتالا شديدا، ثمّ إنّ خيل أهل الشام حملت على خيل أهل العراق فاقتطعوا من أصحاب علىّ ألف رجل أو أكثر، فأحاطوا بهم و حالوا بينهم و بين أصحابهم فلم يروهم، فنادى عليّ ألا رجل يشرى نفسه للّه و يبيع دنيا بآخرته فأتاه رجل من جعف يقال له عبد العزيز بن الحرث على فرس أدهم كانّه غراب مقنّع في الحديد لا يرى منه إلّا عيناه فقال: يا أمير المؤمنين مرني بأمرك فو اللّه لا تأمرني بشي ء إلّا صنعته فقال عليّ عليه السّلام:
- سمحت بأمر لا يطاق حفيظةو صدقا و اخوان الوفاء قليل
- جزاك إله الناس خيرا فانّه لعمرك فضل ما هناك جزيل
أبا الحرث شد اللّه ركنك احمل على أهل الشّام حتّى تأتى أصحابك فتقول لهم إنّ أمير المؤمنين يقرأ عليكم السّلام و يقول لكم هلّلوا و كبّروا من ناحيتكم، و نهلّل و نكبّر من ههنا و احملوا من جانبكم و نحمل من جانبنا على أهل الشّام فضرب الجعفي فرسه حتّى اذا أقامه على أطراف سنابكه حمل على أهل الشّام المحيطين بأصحاب عليّ عليه السّلام فطاعنهم ساعة و قاتلهم فافرجوا له حتّى خلص إلى أصحابه.
فلمّا رأوه استبشروا به و فرحوا و قالوا: ما فعل أمير المؤمنين عليه السّلام قال صالح يقرئكم السّلام و يقول لكم: هلّلوا و كبّروا و احملوا حملة رجل واحد من جانبكم و نهلّل نحن من جانبنا ففعلوا ما أمرهم به و هلّلوا و كبّروا و هلّل عليّ و كبّر هو و أصحابه و حمل على أهل الشّام و حملوهم من وسط أهل الشّام فانفرج عنهم و خرجوا و ما اصيب منهم رجل واحد، و لقد قتل من فرسان الشّام يومئذ زهاء سبعمائة إنسان و قال عليّ عليه السّلام من أعظم النّاس اليوم عناء فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين فقال: كلّا و لكنه الجعفي.
قال نصر: و كان عليّ عليه السّلام لا يعدل بربيعة أحدا من النّاس، فشقّ ذلك على مضر و أظهر والهم «له خ ل» القبيح و أبدوا ذات أنفسهم، فقام أبو الطفيل عامر بن وائلة الكناني و عمير بن عطارد التميمي و قبيصة بن جابر الأسدي و عبد اللّه بن الطفيل العامري في وجوه قبائلهم، فأتوا عليّا فتكلّم أبو الطفيل فقال: يا أمير المؤمنين انا و اللّه ما نحسدقو ما خصّهم اللّه منك بخير و إنّ هذا الحىّ من ربيعة قد ظنوا أنهم أولى بك منك فاعفهم عن القتال أيّاما و اجعل لكلّ امرء منّا يوما نقاتل فيه فانا إذا اجتمعنا اشتبه عليك بلاؤنا، فقال عليّ عليه السّلام: نعم اعطيكم ما طلبتم، و أمر ربيعة أن تكفّ عن القتال و كانت بازاء اليمن من صفوف أهل الشّام.
فغدا أبو الطفيل عامر بن وائلة في قومه من كنانة و هم جماعة عظيمة فتقدّم أمام الخيل و اقتتلوا قتالا شديدا ثمّ انصرف إلى عليّ فأثنى عليه السّلام عليه خيرا.
ثمّ غدا في اليوم الثّاني عمير بن عطارد بجماعة من بنى تميم و هو يومئذ سيد مضر الكوفة فقال: يا قوم إنّي اتبع آثار أبى الطفيل فاتبعوا آثار كنانة و قاتل أصحابه قتالا شديدا حتّى امسوا و انصرف عمير إلى عليّ عليه السّلام و عليه سلاحه.
ثمّ غدا في اليوم الثّالث قبيصة بن جابر الأسدى في بنى أسد و قال لأصحابه: يا بنى أسد اما أنا فلا أقصر دون صاحبى و أمّا أنتم فذاك اليكم، ثمّ تقدّم فقاتل القوم إلى أن دخل الليل.
ثمّ غدا في اليوم الرّابع عبد اللّه بن الطفيل العامري في جماعة هوازن فحارب بهم حتى الليل ثمّ انصرفوا.
قال نصر: كتب عقبة بن مسعود عامل عليّ عليه السّلام على الكوفة إلى سليمان بن صرد الخزاعي و هو مع عليّ: أمّا بعد فانّهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا، فعليك بالجهاد و الصّبر مع أمير المؤمنين و السّلام.
قال و حدّثنا عمر بن سعد و عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قام عليّ عليه السّلام فخطب النّاس بصفين فقال: الحمد للّه على نعمه الفاضلة على جميع من خلق من البرّ و الفاجر، و على حججه البالغة على خلقه من أطاعه فيهم و من عصاه، إن يرحم فبفضله و منّه، و إن عذب فبما كسبت أيديهم و أنّ اللّه ليس بظلّام للعبيد، أحمده على حسن البلاء و تظاهر النّعماء، و أستعينه على مانا بنا من أمر الدّنيا و الآخرة، و أتوكّل عليه و كفى باللّه وكيلا.
ثمّ إنّى اشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله ارسله بالهدى و دين الحقّ و ارتضاه لذلك، و كان أهله و اصطفاه لتبليغ رسالته و جعله رحمة منه على خلقه، فكان لعلمه منه «كعلمه فيه خ ل»، رءوفا رحيما و أفضلهم علما و أثقلهم حلما و أوفاهم بعهد و آمنهم على عقد، لم يتعلّق عليه مسلم و لا كافر بمظلمة قط، بل كان يظلم فيغفر و يقدر فيصفح حتّى مضى مطيعا للّه صابرا على ما اصابه مجاهدا في اللّه حق جهاده حتّى أتاه اليقين، فكان ذهابه أعظم المصيبة على أهل الأرض البرّ و الفاجر.
ثمّ ترك فيكم كتاب اللّه يأمركم بطاعة اللّه و ينهاكم عن معصيته، و قد عهد إلىّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عهدا فلست أحيد عنه و قد حضرتم عدوّكم و علمتم أن رئيسهم منافق ابن منافق يدعوهم إلى النّار، و ابن عمّ نبيّكم معكم و بين أظهركم و يدعوكم إلى الجنّة و إلى طاعة ربّكم و العمل بسنّة نبيكم، و لا سوى من صلّى قبل كلّ ذكر لا يسبقني بصلاة مع رسول اللّه أحد و أنا من أهل بدر و معاوية طليق ابن طليق، و اللّه إنّا على الحقّ و إنّهم على الباطل فلا تجتمعن عليه و تتفرّقوا عن حقّكم حتّى يغلب باطلهم على حقّكم، قاتلوهم يعذّبهم اللّه بأيديكم، فان لم تفعلوا يعذّبهم بأيدي غيركم.
فقام أصحابه فقالوا: يا أمير المؤمنين انهض بنا إلى عدوّنا و عدوّك إذا شئت فو اللّه لا نريد بك بدلا بل نموت معك و نحيا معك، فقال لهم: و الذي نفسي بيده لنظر إلىّ النّبي أضرب بين يديه بسيفى هذا فقال: لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلّا عليّ، فقال لي: يا عليّ أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي و موتك و حياتك يا عليّ معي، و اللّه ما كذب و لا كذبت و لا ضللت و لا نسيت ما عهد إلىّ و إنّى على بيّنة من ربّي و على الطريق الواضح ألفظه لفظا ثمّ نهض إلى القوم فاقتتلوا من حين طلعت الشّمس حتّى غاب الشّفق الأحمر و ما كانت صلاة القوم في ذلك اليوم إلّا تكبيرا.
قال نصر: و حدّثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الشّعبي عن صعصعة بن صوحان قال برز في أيّام صفّين رجل اشتهر بالبأس و النّجدة اسمه كريث بن الوضاح، فنادى من يبارز، فخرج إليه المرتفع بن وضاح الزّبيدي فقتله، ثمّ- نادى من يبارز فخرج اليه الحارث بن الحلّاج فقتله، ثمّ نادى من يبارز فخرج إليه عائذ بن مسروق الهمداني فقتله، ثمّ رمى بأجسادهم بعضها فوق بعض و نادى من يبارز.
فخرج إليه عليّ عليه السّلام و ناداه ويحك يا كريث إنّي احذّرك اللّه و بأسه و نقمته و أدعوك إلى سنّة اللّه و سنّة رسوله ويحك لا يدخلنك معاوية النّار، فكان جوابه أن قال: أكثر ما قد سمعت منك هذه المقالة و لا حاجة لنا فيها، اقدم إذا شئت من يشترى سيفي و هذا أثره فقال عليّ عليه السّلام لا حول و لا قوّة إلّا باللّه، ثمّ مشى إليه فلم يمهله أن ضربه ضربة خرّ منها قتيلا يشحط في دمه ثمّ نادى من يبرز فبرز إليه الحرث بن وداعة (الحارث بن وادعة خ ل) الحميري فقتله، ثمّ نادى من يبرز فبرز إليه المطاع بن المطلب القيني فقتل مطاعا، ثمّ نادى من يبرز فلم يبرز إليه أحد فنادى «الشّهر الحرام بالشّهر الحرام و الحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم و اتّقوا اللّه و اعلموا أنّ اللّه مع المتّقين» يا معاوية هلم إلىّ فبارزني و لا يقتلن النّاس فيما بيننا، فقال عمرو بن العاص اغتنمه متهزءا قد قتل ثلاثة أبطال العرب و إنّي أطمع أن يظفرك اللّه به، فقال معاوية و اللّه لن تريد إلّا أن اقتل فتصيب الخلافة بعدي اذهب إليه فليس مثلي يخدع قال نصر: و خطب عبد اللّه بن العبّاس يومئذ فقال: الحمد للّه ربّ العالمين الذى دحى تحتنا سبعا و سمك فوقنا سبعا و خلق فيما بينهنّ خلقا و أنزل لنا منهنّ رزقا، جعل كلّ شي ء يبلى و يفنى غير وجهه الحىّ القيوم الذي يحيى و يبقى، إنّ اللّه تعالى بعث أنبياء و رسلا فجعلهم حججا على عباده عذرا و نذرا لا يطاع إلّا بعلمه و اذنه بالطاعة على من يشاء من عباده، ثمّ يثيب عليها و يعصى فيعفو و يغفر بحلمه لا يقدر قدره و لا يبلغ شي ء مكانه، أحصى كلّ شي ء عددا و أحاط بكلّ شي ء علما.
و أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله امام الهدى و النبيّ المصطفى، و قد ساقنا قدر اللّه إلى ما ترون حتّى كان ممّا اضطرب من جعل هذه الامة و انتشر من امرها انّ معاوية بن أبي سفيان وجد من طغام النّاس أعوانا على ابن عمّ رسول اللّه و صهره و أوّل ذكر صلّى معه بدرى، قد شهد مع رسول اللّه كلّ مشاهده التي فيها الفضل و معاوية مشرك يعبد الاصنام و الذي ملك الملك وحده و بان به لقد قاتل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام مع رسول اللّه و هو يقول: صدق اللّه و رسوله و معاوية يقول كذب اللّه و رسوله، فعليكم بتقوى اللّه و الجدّ و الحزم و الصّبر و اللّه إنّكم لعلى حقّ، و إنّ القوم لعلى باطل، فلا يكونن أولى بالجدّ على باطلهم منكم في حقّكم، و إنّا لنعلم أنّ اللّه سيعذّبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم، اللهمّ أعنّا و لا تخذلنا و انصرنا على عدوّنا و لا تحل عنّا، و افتح بيننا و بين قومنا بالحقّ و أنت خير الفاتحين.
قال نصر: و حدّثنا عمرو عن عبد الرّحمن بن جندب عن جندب بن عبد اللّه قال: قام عمّار يوم صفّين فقال: انهضوا معي عباد اللّه إلى قوم يزعمون أنّهم يطلبون بدم الظالم لنفسه الحاكم على عباد اللّه بغير ما في كتاب اللّه إنّما قتله الصّالحون المنكرون للعدوان الآمرون بالعدل و الاحسان، فقالوا هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم لو درس هذا الدّين: لم قتلتموه فقلنا: لاحداثه، فقالوا: إنّه لم يحدث شيئا و ذلك لانّه مكنهم من الدّنيا فهم يأكلونها و يرعونها و لا يبالون لو انهدمت الجبال، و اللّه ما أظنّهم يطلبون بدم إنّهم ليعلمون أنّه لظالم و لكنّ القوم و افوا للدّنيا فاستحبّوها و استمروها و علموا أنّ صاحب الحقّ لو ولاهم لحال بينهم و بين ما يأكلون و يرعون منها إنّ القوم لم تكن لهم سابقة في الاسلام يستحقّون بها الطاعة و الولاية فخدعوا أتباعهم بأن قالوا: قتل امامنا مظلوما ليكونوا بذلك جبابرة و ملوكا، تلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون، و لولاها ما بايعهم من النّاس رجل اللهمّ ان تنصرنا فطال ما نصرت و ان تجعل لهم الأمر فادّخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الاليم ثمّ مضى و مضى معه أصحابه، فدنا من عمرو بن العاص فقال: يا عمرو بعت دينك بمصر فتبّا لك فطال ما بغيت للاسلام عوجا، ثمّ نادى عبيد اللّه بن عمر و ذلك قبل مقتله و قال: يا بن عمر صرعك اللّه بعت دينك بالدّنيا من عدوّ اللّه و عدوّ الاسلام، قال: كلّا و لكنّي اطلب بدم عثمان الشّهيد المظلوم، قال: كلّا اشهد على علمي فيك أنّك أصبحت لا تطلب في شي ء من فعلك وجه اللّه و أنّك ان لم تقتل اليوم فستموت فانظر اذا أعطى اللّه على نيّاتهم مانيّتك ثمّ قال: اللهمّ إنّك تعلم أنّي لو أعلم أنّ رضاك في ان اقذف بنفسي هذا البحر لفعلت اللهمّ إنّك تعلم أنّي لو أعلم أنّ رضاك أن أضع ظبية سيفي في بطني ثمّ أنحني عليه حتّى يخرج من ظهرى لفعلت، اللهمّ إنّي أعلم ممّا علمتني أنّي لا أعمل عملا اليوم هذا هو أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين، و لو أعلم اليوم عملا هو أرضى لك منه لفعلت و في البحار روى نصر عن عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن زيد الجهني انّ عمّار بن ياسر نادى يومئذ أين من يبغى رضوان ربّه و لا يؤب إلى مال و لا ولد قال: فأتته عصابة من النّاس فقال: يا أيّها النّاس اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يبغون دم عثمان و يزعمون أنّه قتل مظلوما، و اللّه إن كان إلّا ظالما لنفسه الحاكم بغير ما أنزل اللّه.
فدفع عليّ عليه السّلام الرّاية الى هاشم بن عتبة و كان عليه درعان فقال له عليّ كهيئة المازح: أبا هاشم أما تخشى على نفسك أن تكون أعورا جبانا قال: ستعلم يا أمير المؤمنين و اللّه لا لفنّ بين جماجم القوم لفّ رجل ينوى الآخرة، فأخذ محا فهزه فانكسر، ثمّ أخذ آخر فوجده جاسيا فألقاه، ثمّ دعا برمح ليّن فشدّ به لوائه و لمّا دفع عليّ عليه السّلام الرّاية إلى هاشم قال له رجل من بكر بن وائل من أصحاب هاشم: اقدم مالك يا هاشم قد انتفخ سحرك عورا وجبنا، قال: من هذا قالوا: فلان قال: أهلها و خير منها إذا رأيتني صرعت فخذها ثمّ قال لأصحابه شدوا شسوع نعالكم و شدّوا ازركم فاذا رأيتموني قد هزرت الرّاية ثلاثا فاعلموا أنّ أحدا منكم لا يسبقني إلى الحملة.
ثمّ نظر هاشم إلى عسكر معاوية فرأى جمعا عظيما، فقال: من أولئك قالوا أصحاب ذى الكلاع ثمّ نظر فرأى جندا آخر فقال: من أولئك قالوا: جند أهل المدينة قريش، قال: قومي لا حاجة لي في قتالهم، قال من عند هذه القبّة البيضاء قيل معاوية و جنده، فحمل حينئذ يرقل ارقالا و عن عبد العزيز بن سيّاح عن حبيب بن أبي ثابت قال: لمّا كان قتال صفّين و الرّاية مع هاشم بن عتبة جعل عمّار بن ياسر يتناوله بالرّمح و يقول: اقدم يا أعور لا خير في أعور لا يأتي الفزع قال: فجعل يستحيي من عمّار و كان عالما بالحرب فيتقدّم فيركز الراية فاذا سامت إليه الصّفوف قال عمّار: اقدم يا اعور لا خير في أعور لا يأتي الفزع فجعل عمرو بن العاص يقول: إنّي لأرى لصاحب الرّاية السّوداء عملا لئن دام ليفنينّ العرب اليوم، فاقتتلوا قتالا شديدا و جعل عمّار يقول صبرا عباد اللّه، الجنّة في ظلال البيض قال: و كانت علامة أهل العراق بصفين الصّوف الأبيض قد جعلوه في رؤوسهم و على اكتافهم، و شعارهم يا اللّه يا أحد يا صمد يا رحيم، و كانت علامة أهل الشّام خرقا بيضا قد جعلوه على رؤوسهم و اكتافهم، و كان شعارهم نحن عباد اللّه حقّا يا لثارات عثمان.
قال: فاجتلدوا بالسّيوف و عمد الحديد، فما تحاجزنا حتّى حجز بيننا سواد الليل و لا يرى رجل منّا و لا منهم موليا، فلمّا أصبحوا و ذلك يوم الثلثاء خرج النّاس إلى مصافهم.
فقال أبو نوح، فكنت في خيل عليّ عليه السّلام فاذا أنا برجل من أهل الشّام يقول من يدلّني على الحميرى إلى نوح، قال: قلت فقد وجدته فمن أنت قال: أنا ذو الكلاع سر الىّ، فقال أبو نوح: معاذ اللّه أن أسير إليك إلّا في كتيبة، قال ذو الكلاع سرفلك ذمّة اللّه و ذمّة رسوله و ذمّة ذى الكلاع حتّى ترجع إلى خيلك فانّما اريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه فسار حتّى التقيا، فقال ذو الكلاع إنّما دعوتك احدّثك حديثا حدّثنا عمرو بن العاص في أمارة عمر بن الخطاب قال أبو نوح: و ما هو قال: حدّثنا عمرو بن العاص أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: يلتقى أهل الشّام و أهل العراق و في إحدى الكتيبتين الحقّ و امام الهدى و معه عمّار بن ياسر، قال أبو نوح: لعمر اللّه إنّه لفينا، قال: أجادّ هو على قتالنا قال أبو نوح: نعم و ربّ الكعبة فهو أشدّ على قتالكم منّي فقال ذو الكلاع: هل تستطيع أن تأتي معي صف أهل الشّام فأنالك جار منهم حتّى تلقى عمرو بن العاص فتخبره عن عمّار و عن جدّه في قتالنا لعلّه يكون صلحا بين هذين الجندين، فقال له أبو نوح إنّك رجل غادر و أنت في قوم غدر و إن لم تكن تريد الغدر أغدروك و إنّي إن أموت أحبّ إلىّ أن أدخل مع معاوية و أدخل في دينه و أمره.
فقال ذو الكلاع: أنا جار لك من ذلك أن لا تقتل و لا تسلب و لا تكره على بيعة و لا تحبس عن جندك، و إنّما هي كلمة تبلغها عمرا لعلّ اللّه يصلح بين هذين الجندين و يضع عنهم الحرب و السّلاح، فسار معه حتّى أتى عمرو بن العاص و هو عند معاوية و حوله النّاس و عبيد اللّه بن عمر يحرّض النّاس فلما وقفا على القوم قال ذو الكلاع لعمرو: يا با عبد اللّه هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق يخبرك عن عمّار بن ياسر و لا يكذّبك قال عمرو: و من هذا معك قال هذا ابن عمّي و هو من أهل الكوفة، فقال له عمرو: إنّي لأرى عليك سيما أبي تراب قال: سيماء محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه، و عليك سيماء أبي جهل و هو سيماء فرعون.
فقام أبو الاعور فسلّ سيفه ثمّ قال: أرى هذا الكذّاب يشاتمنا بين أظهرنا و عليه سيماء أبى تراب فقال ذو الكلاع اقسم باللّه لئن بسطت يدك إليه لأحطمنّ أنفك بالسّيف ابن عمي و جاري عقدت له ذمّتي و جئت به إليكم ليخبركم عمّا تماريتم فيه.
فقال له عمرو: اذكرك باللّه يا با نوح إلّا ما صدقت أ فيكم عمّار بن ياسر فقال له أبو نوح: ما أنا بمخبرك عنه حتّى تخبرنى لم تسأل عنه فانّ معنا من أصحاب رسول اللّه غيره و كلّهم جادّ على قتالكم.
قال عمرو: سمعت رسول اللّه يقول: إنّ عمّارا تقتله الفئة الباغية، و إنّه ليس ينبغي لعمّار أن يفارق الحقّ و لن تأكل النّار منه شيئا، فقال أبو نوح: لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر إنّه لفينا جادّ على قتالكم. فقال عمرو: و اللّه إنّه لجادّ على قتالنا قال: نعم و اللّه الذي لا إله إلّا هو لقد حدّثني يوم الجمل إنا سنظهر عليهم و لقد حدّثنى أمس أن لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ و أنهم على باطل، و لكانت قتلانا في الجنّة و قتلاهم في النار فقال له عمرو: هل تستطيع أن تجمع بيني و بينه قال: نعم.
فلمّا أراد أن يبلغه أصحابه ركب عمرو بن العاص و ابناه و عتبة بن أبى سفيان و ذو الكلاع و أبو الأعور السلمى و حوشب و الوليد بن أبى معيط فانطلقوا حتّى أتوا خيولهم و سار أبو نوح و معه شرجيل بن ذي الكلاع حتّى انتهى إلى أصحابه فذهب أبو نوح إلى عمّار فوجده قاعدا مع أصحابه مع ابنى بديل و الهاشم و الأشتر و جارية بن المثنّى و خالد بن المعتمر و عبد اللّه بن حجل و عبد اللّه بن العبّاس.
فقال ابو نوح: إنّه دعاني ذو الكلاع و هو ذو رحم فذكر ما جرى بينه و بينهم و قال: أخبرنى عمرو بن العاص أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: عمّار تقتله الفئة الباغية، فقال عمّار صدق و ليضرّ به ما سمع و لا ينفعه، فقال أبو نوح: إنّه يريد أن يلقاك فقال عمّار لأصحابه: اركبوا.
قال و نحن اثنا عشر رجلا بعمار فسرنا حتّى لقيناهم ثمّ بعثنا إليهم فارسا من عبد القيس يسمّى عوف بن بشر، فذهب حتّى كان قريبا من القوم، ثمّ نادى أين عمرو بن العاص قالوا: ههنا فأخبرهم بمكان عمّار و خيله، فقال عمرو فليسر الينا: فقال له عوف: إنّي أخاف غدر انك، ثمّ جرى بينهما كلمات تركتها إلى أن قال: أقبل عمّار مع أصحابه و عمرو مع أصحابه فتوافقا فقال عمرو: يا أبا اليقظان اذكرك اللّه إلّا كففت سلاح أهل هذا العسكر و حقنت دمائهم فعلى م تقاتلنا أو لسنا نعبد إلها واحدا و نصلّي قبلتكم و ندعو دعوتكم و نقرأ كتابكم و نؤمن برسولكم فقال عمار: الحمد للّه الذي أخرجها من فيك، إنّها لى و لأصحابى القبلة و الدّين و عبادة الرّحمن و النّبىّ و الكتاب من دونك و دون أصحابك و جعلك ضالا مضّلا و لا تعلم هاد أنت أم ضالّ، و جعلك أعمى و سأخبرك على ما قاتلتك عليه أنت و أصحابك أمرنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن أقاتل النّاكثين ففعلت، و أمرنى أن أقاتل القاسطين فأنتم هم و أما المارقون فما أرى ادركهم أم لا.
ايّها الابتر تعلم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعليّ عليه السّلام من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و أنا مولا اللّه و رسوله و عليّ بعده و ليس لك مولى.
فقال له عمرو: فما ترى في قتل عثمان قال: فتح لكم باب سوء، قال عمرو فعليّ قتله قال عمّار: بل اللّه ربّ علىّ قتله و عليّ معه، قال عمرو: أ كنت فيمن قتله قال: أنا مع من قتله و أنا اليوم أقاتل معه، قال: فلم قتلتموه قال: أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه، قال عمرو: ألا تسمعون قد اعترف بقتل إمامكم قال عمّار: و قد قالها فرعون قبلك: ألا تسمعون.
فقام أهل الشّام و لهم زجل فركبوا خيولهم و رجعوا فبلغ معاوية ما كان بينهم فقال له: هلكت العرب إن أخذتهم خفّة العبد الأسود يعنى عمارا، و خرج إلى القتال و صفت الخيول بعضها لبعض و زحف النّاس، و على عمّار درع و هو يقول أيّها النّاس الرّواح إلى الجنّة، فاقتتل الناس قتالا شديدا لم يسمع النّاس بمثله، و كثرت القتلى حتّى أن كان الرّجل ليشدّ طنب فسطاطه بيد الرّجل أو برجله.
فقال الأشعث: لقد رأيت أخبية صفّين و أروقتهم و ما منها خباء و لا رواق و لا بناء و لا فسطاط إلّا مربوطا بيد رجل أو رجله و جعل أبو سماك الأسدى يأخذ اداوة من ماء و شفرة حديد فيطوف في القتلى فاذا رأى رجلا جريحا و به رمق قام و سأل أمير المؤمنين عليه السّلام فان قال: علي غسل عنه الدّم و سقاه من الماء و إن سكت و جاه بسكين حتّى يموت، قال: فكان يسمّى المخضخض و عن عمرو بن شمر عن جابر عن الشّعبى عن الأحنف بن قيس قال: و اللّه إنى إلى جانب عمّار فتقدّمنا حتّى إذا دنونا من هاشم بن عتبة قال له عمار. احمل فداك ابي و امّي و نظر عمّار إلى رقة في الميمنة فقال له هاشم، رحمك اللّه يا عمار إنّك رجل تأخذك خفة في الحرب و إنّي إنّما أزحف باللواء زحفا و أرجو أن أنال بذلك حاجتى، و إنّي إن خففت لم آمن الهلكة.
و قد قال معاوية لعمرو ويحك يا عمرو إنّ اللواء مع هاشم كانّه يرقل به إرقالا و إنّه إن زحف به زحفا إنّه ليوم أطول لأهل الشّام، فلم يزل به عمّار حتّى حمل فبصر به معاوية فوجه إليه جملة أصحابه و من برز بالنّاس منهم في ناحية و كان في ذلك الجمع عبد اللّه بن عمرو و معه سفيان قد تقلد بواحد و هو يضرب بالآخر و أطاقت به خيل عليّ عليه السّلام فقال عمرو: يا اللّه يا رحمن ابنى ابنى، و كان يقول معاوية: اصبر اصبر فانّه لا بأس عليه قال عمرو لو كان يزيد اذا لصبرت.
و لم يزل حماة أهل الشّام يذبّون عنه حتّى نجا هاربا على فرسه و اصيب هاشم في المعركة، قال و قال عمار حين نظر الى راية عمرو بن العاص: إنّ هذه الرّاية قد قاتلتها ثلاث عركات و ما هي بأرشد هنّ ثمّ حمل و هو يقول:
- نحن ضربناكم على تنزيلهفاليوم نضربكم على تأويله
- ضربا يزيل الهام عن مقيله و يذهل الخليل عن خليله
- أو يرجع الحقّ الى سبيلهيا ربّ انّي مؤمن بقيله
ثمّ استسقى و اشتدّ ظماؤه، فأتته امرئة طويلة اليدين ما ادرى اعسّ معها أم اداوة فيها ضياح من لبن و قال الجنّة تحت الاسنة اليوم ألقى الأحبّة محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و حزبه، و اللّه لو ان لبونا حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقّ و أنهم على الباطل.
و حمل عليه ابن جوين السّكسكي و ابو العادية الفزاري، فأما أبو العادية فطعنه و أمّا ابن حوين فاجتز رأسه عليهما لعنة اللّه.
فقال ذو الكلاع لعمرو: و يحك ما هذا قال عمرو: إنّه سيرجع إلينا و ذلك قبل أن يصاب عمّار، فاصيب عمّار مع عليّ و اصيب ذو الكلاع مع معاوية فقال عمرو: و اللّه يا معاوية ما أدرى بقتل أيّهما أنّا أشدّ فرحا، و اللّه لو بقى ذو الكلاع حتّى يقتل عمّار لمال بعامة قومه و لأفسد علينا جندنا.
قال: فكان لا يزال رجل يجي ء فيقول: أنا قتلت عمّارا فيقول عمرو فما سمعتموه يقول فيخلطون حتّى أقبل ابن جوين فقال: أنا قتلت عمارا فقال له عمرو: فما كان آخر منطقه قال: سمعته يقول اليوم ألقى الأحبة محمّدا و حزبه، قال عمرو: صدقت أنت أما و اللّه ما ظفرت بذلك و لكن اسخطت ربك.
و في الاحتجاج روى عن الصادق عليه السّلام أنّه لمّا قتل عمار ارتعدت فرايص خلق كثير و قالوا: قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله عمار تقتله الفئة الباغية، فدخل عمرو بن العاص على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين قد هاج النّاس و اضطربوا، قال: لما ذا قال: قتل عمار، قال: فما ذا قال: أليس قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله تقتله الفئة الباغية فقال له معاوية دحضت في قولك أنحن قتلناه إنّما قتله عليّ بن أبي طالب لما ألقاه بين رماحنا، فاتّصل ذلك بعليّ بن أبي طالب، فقال: فاذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الذي قتل حمزة و ألقاه بين رماح المشركين.
و في البحار من كتاب الكشّى باسناده عن اسماعيل بن أبى خالد قال: سمعت قيس بن أبي حازم قال: قال عمّار بن ياسر: ادفنونى في ثيابي فانّي مخاصم.
و من كشف الغمة قال: و نقلت من مناقب الخوارزمي قال: شهد خزيمة بن ثابت الأنصارى الجمل و هو لا يسلّ سيفا و شهد صفّين و قال: لا اصلّى ابدا خلف إمام حتّى يقتل عمار فأنظر من يقتله فانّى سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله يقول: يقتله الفئة الباغية، فلمّا قتل عمار قال خزيمة: قد حانت لي الصّلاة ثمّ اقترب و قاتل حتّى قتل.
و كان الذي قتل عمار أبو عادية المرّي طعنه برمح فسقط و كان يومئذ يقاتل و هو ابن أربع و تسعين سنة، فلمّا وقع أكبّ عليه رجل فاجتزّ رأسه فأقبلا يختصمان كلاهما يقول أنا قتلته.
فقال عمرو بن العاص: و اللّه ان يختصمان إلّا في النّار، فسمعها معاوية فقال لعمرو، ما رأيت مثل ما صنعت قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما: إنكما تختصمان في النّار، فقال عمرو: هو و اللّه ذلك و أنّك لتعلمه و لوددت أنّي متّ قبل هذا بعشرين سنة.
و بالاسناد عن أبى سعيد الخدري قال: كنّا نعمّر مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كنّا نحمل لبنة لبنة و عمار لبنتين لبنتين، فرآه النبيّ صلّى اللّه عليه و اله فجعل ينفض التراب عن رأس عمار و يقول: يا عمار ألا تحمل كما يحمل أصحابك قال: إني اريد الأجر من اللّه تعالى، قال: فجعل ينفض التّراب عنه و يقول: و يحك تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة و يدعونك إلى النّار، قال عمار: أعوذ بالرّحمن أظنه قال من الفتن.
و من كتاب الكفاية عن أبى المفضل الشيباني في حديث طويل مسندا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: يا عمّار ستكون بعدي فتنة فاذا كان ذلك فاتّبع عليّا و حزبه فانّه مع الحقّ و الحقّ معه، يا عمار إنّك ستقاتل بعدي مع عليّ صنفين: النّاكثين و القاسطين، ثمّ يقتلك الفئة الباغية، قلت: يا رسول اللّه أ ليس ذلك على رضا اللّه و رضاك قال: نعم، على رضا اللّه و رضاى و يكون آخر ذلك «زادك» شربة من لبن تشربه.
فلما كان يوم صفين خرج عمار بن ياسر إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال له: يا أخا رسول اللّه أ تأذن لي في القتال قال: مهلا رحمك اللّه، فلمّا كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام فأجابه بمثله، فأعاده ثالثا فبكى أمير المؤمنين عليه السّلام فنظر إليه عمّار فقال: يا أمير المؤمنين إنّه اليوم الذي وصف لي رسول اللّه.
فنزل أمير المؤمنين عليه السّلام عن بغلته و عانق عمارا و ودعه ثمّ قال: يا أبا اليقظان جزاك اللّه عن اللّه و عن نبيك خيرا فنعم الأخ كنت و نعم الصّاحب كنت ثمّ قال: و اللّه يا أمير المؤمنين ما تبعتك إلّا ببصيرة فانّى سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يا عمار ستكون بعدي فتنة فاذا كان ذلك فاتبع عليّا و حزبه فانّه مع الحقّ و الحقّ معه، و ستقاتل بعدى الناكثين و القاسطين، فجزاك اللّه يا أمير المؤمنين عن الاسلام أفضل الجزاء، فلقد أدّيت و بلغت و نصحت ثمّ ركب و ركب أمير المؤمنين عليه السّلام، ثمّ برز إلى القتال ثمّ دعا بشربة من ماء فقيل ما معنا ماء فقام إليه رجل من الأنصار فاسقاه شربة من لبن، ثمّ قال: هكذا عهد إلىّ رسول اللّه أن يكون آخر زادى من الدّنيا شربة من اللبن.
ثمّ حمل على القوم فقتل ثمانية عشر نفسا فخرج إليه رجلان من أهل الشّام فطعنا فقتل رحمه اللّه، فلما كان الليل طاف أمير المؤمنين عليه السّلام في القتلى فوجد عمارا ملقى، فجعل رأسه على فخذه ثمّ بكى عليه السّلام و أنشأ يقول:
- ايا موت كم هذا التفرق عنوةفلست تبقى لى خليل خليل
- اراك بصيرا بالذين احبّهم كأنك تمضى نحوهم بدليل
قال المجلسى: في الديوان هكذا:
- ألا ايّها الموت الذي ليس تاركىأرحنى فقد أفنيت كلّ خليل
- أراك بصيرا بالذين أحبّهم كأنك تنحو نحوهم بدليل
قال نصر بن مزاحم: لما حدّث عمرو بن العاص في عمار ما قاله النبيّ صلّى اللّه عليه و اله خرج عبد اللّه عمر العبسى و كان من عباد أهل زمانه ليلا فأصبح في عسكر عليّ عليه السّلام فحدث النّاس بقول عمرو في عمار فلما سمع معاوية هذا القول بعث إلى عمرو و قال: أفسدت على أهل الشام، أكلّ ما سمعته من رسول اللّه تقوله فقال عمرو: قلتها و لست و اللّه أعلم الغيب و لا أدرى أنّ صفين يكون عمار خصمنا، و قد رويت أنت فيه مثل الذي رويت فاسأل أهل الشّام فغضب معاوية و تنمّر لعمرو و منعه و خيره، و قال عمرو لا خير لى في جوار معاوية إن تجلّت هذه الحرب عنّا و كان عمرو حمى الانف فقال في ذلك:
- تعاتبنى ان قلت شيئا سمعتهو قد قلت لو أنصفتني مثله قبلى
- و ما كان لى علم بصفين انّهاتكون و عمار يحثّ على قتلى
- فلو كان لى بالغيب علم كتمتهاو كايدت أقواما مراجلهم تغلى
إلى آخر الأبيات ثمّ أجابه معاوية بأبيات تشتمل على الاعتذار، فأتاه عمرو و أعتبه و صار أمرهما واحدا ثمّ إنّ عليّا دعا هاشم بن عتبه و معه لواؤه، و كان أعور، و قال: حتّى متى تأكل الخبز و تشرب الماء، فقال هاشم: لا يجهزن ان لا أرجع إليك أبدا.
قال نصر عن عمر بن سعد عن رجل عن أبي سلمة أنّ هاشم دعا في الناس عند المساء ألا من كان يريد اللّه و الدّار الآخر فليقبل فأقبل إليه ناس فشدّ في عصابة من أصحابه على أهل الشّام مرارا، فليس من وجه يحمل عليه إلّا صبروا له و قوتل فيه قتالا شديدا، فقال لأصحابه.
لا يهو لنّكم ما ترون من صبرهم فو اللّه ما ترون منهم إلّا حميّة العرب و صبرها عند راياتها و عند مراكزها، و إنهم لعلى الضّلال و إنّكم لعلى الحقّ، يا قوم اصبروا و صابروا و اجتمعوا و امشوا بنا إلى عدوّنا على توئدة رويدا و اذكروا اللّه و لا يسلمنّ رجل أخاه و لا تكثروا الالتفات و اصمد و اصمدهم و جالدوهم محتسبين حتّى يحكم اللّه بيننا و هو خير الحاكمين.
فقال أبو سلمة فمضى في عصابة من القرّاء فقاتل قتالا شديدا هو و أصحابه حتى رأى بعض ما يسرّون به إذ خرج عليهم فتى شابّ و شدّ يضرب بسيفه و يلعن و يشتم و يكثر الكلام فقال له هاشم: إنّ هذا الكلام بعده الخصام و إنّ هذا القتال بعده الحساب فاتق اللّه فانك راجع إلى ربّك فسائلك عن هذا الموقف و ما أردت به.
قال: فانّى اقاتلكم لأنّ صاحبكم لا يصلّي كما ذكر لي و إنكم لا تصلّون، و اقاتلكم لأنّ صاحبكم قتل خليفتنا و أنتم و ازرتموه على قتله.
فقال له هاشم و ما أنت و ابن عفان إنّما قتله أصحاب محمّد حين أحدث أحداثا و خالف حكم الكتاب و أصحاب محمّد هم أصحاب الدين و أولى بالنظر في امور المسلمين و ما أظن أنّ أمر هذه و لا أمر هذا الدين عناك طرفة عين قط.
فقال الفتى: أجل و اللّه لا الكذب فانّ الكذب يضرّ و لا ينفع و يشين و لا يزين.
فقال له هاشم إنّ هذا الأمر لا علم لك به فخلّه و أهل العلم به قال: أظنك و اللّه قد نصحتنى فقال هاشم: و أما قولك إنّ صاحبنا لا يصلّي فهو أوّل من صلّى للّه مع رسول اللّه، وافقه في دين و أولى برسول اللّه، و أما من ترى معه فكلّهم قاري الكتاب لا ينام الليل تهجدا فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون.
قال الفتى: يا عبد اللّه إنى لا ظنك امرء صالحا أخبرنى هل تجد لى من توبة قال: نعم تب إلى الله يتب عليك قال فذهب الفتى راجعا، فقال رجل من أهل الشام خدعك العراقي، قال: و لكن نصحني.
و قاتل هاشم هو و أصحابه قتالا شديدا حتّى قتل تسعة نفرا و عشرة، و حمل عليه الحرث بن المنذر فطعنه فسقط، و بعث إليه عليّ أن قدّم لوائك، فقال للرسول انظر إلى بطنى فاذا هو قد انشقّ فأخذ الرّاية رجل من بكر بن وائل، و رفع هاشم رأسه فاذا هو بعبيد اللّه بن عمر بن الخطاب قتيلا إلى جانبه فجثا حتّى دنى منه فعضّ على ثديه حتى تبينت فيه أنيابه ثمّ مات هاشم و هو على صدر عبيد اللّه.
و ضرب البكري فوقع فابصر عبيد اللّه فعضّ على ثديه الآخر و مات أيضا، فوجدا جميعا ماتا على صدر عبيد اللّه، و لمّا قتل هاشم جزع النّاس عليه جزعا شديدا و اصيب معه عصابة من أسلم من القرّاء، فمرّ عليهم عليّ عليه السّلام و هم قتلى حوله فقال عليه السّلام:
- جزى اللّه خيرا عصبة أسلميةصباح الوجوه صرّعوا حول هاشم
- يزيد و عبد اللّه بشر و معبدو سفيان و ابنا هاشم ذى المكارم
- و عروة لا يبعد ثناه و ذكره إذا اخترط البيض الخفاف الصوارم
ثمّ أخذ الرّاية عبد اللّه بن هاشم، قال نصر: حدّثنا عمرو بن شمر قال: لمّا انقضى أمر صفين و سلم الأمر الحسن إلى معاوية و فدت إليه الوفود و أشخص عبد اللّه بن هاشم أسيرا فاتى به معاوية، فلما دخل عليه و عنده عمرو بن العاص قال: يا أمير المؤمنين هذا المحتال بن المرقال فدونك الضب اللاحظ فانّ العصيا من العصية و انّما تلد الحيّة حيّة و جزاء السّيئة سيئة مثلها فقال له ابن هاشم: ما أنا بأوّل رجل خذله قومه و أدركه يومه، قال معاوية تلك ضغاين صفين و ما جنا عليك أبوك، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين أمكنّي منه فأشخب أو داجه على أثباجه. فقال له ابن هاشم: أفلا كان هذه الشّجاعة منك يا بن العاص أيّام صفين حين ندعوك إلى النزال و قد ابتلّت أقدام الرّجال من نقع الجربال و قد تضايقت بك المسالك و أشرفت فيها على المهالك، و ايم اللّه لو لا مكانك منه لنشبت لك مني خافية ارميك من خلالها أحد من وقع الاثافي فانّك لا تزال تكثر في دهشك و تخبط في مرسك تخبط العشواء في الليلة الحندس الظلماء فأعجب معاوية ما سمع من كلام ابن هاشم فأمر به إلى السّجن و كفّ عن قتله هذا، و يأتي طرف آخر من بقيّة الوقعة في شرح بعض الكلمات الآتية إن ساعدنا التوفيق و المجال إنشاء اللّه.
|