الفصل الثاني
أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذي ضرب لكم الأمثال، و وقّت لكم الآجال، و ألبسكم الرّياش، و أرفغ لكم المعاش، و أحاط بكم الإحصاء، و أرصد لكم الجزاء، و آثركم بالنّعم السّوابغ، و الرّفد الرّوافع، و أنذركم بالحجج البوالغ، فأحصاكم عددا، و وظّف لكم مددا، في قرار خبرة، و دار عبرة، أنتم مختبرون فيها، و محاسبون عليها
اللغة
(الرّياش) و الريش واحد قال تعالى: و ريشا و لباس التقوى، و هو ما ظهر من اللّباس الفاخر، و في المصباح الرّيش الخير و الرّياش بالكسر المال و الحالة الجميلة. أقول: و منه قولهم ارتاش فلان أى حسنت حاله و (ارفغ) بالغين المعجمة من الرّفغ و هو السّعة و الخصب يقال رفغ عيشه بالضمّ رفاغة اتّسع و (الرّفد) جمع رفدة و هي العطية و الصّلة و (و التّوظيف) التّعيين و (القرار) و القرارة ما قرّ فيه و المطمئنّ من الأرض
الاعراب
قوله عليه السّلام و أحاط بكم الاحصاء قال الشّارح المعتزلي يمكن أن ينصب الاحصاء على أنّه مصدر فيه اللام و العامل فيه غير لفظه، و يجوز أن ينصب بأنّه مفعول به و يكون ذلك على وجهين: أحدهما أن يكون من حاط ثلاثيا تقول حاط فلان كرمه أي جعل عليه حائطا فكأنّه جعل الاحصاء و العدّ كالحائط المدار عليهم لأنّهم لا يعدونه و لا يخرجون عنه الثّاني أن يكون من حاط يحوط بالواو بمعنى جمع فادخل الهمزة كأنّه جعل الاحصاء يحوطهم و يجمعهم تقول ضربت زيدا و اضربته أى جعلته ذا ضرب كأنّه جعل الاحصاء ذا تحويط عليهم بالاعتبار الاولى أو جعله ذا جمع لهم بالاعتبار الثّاني و يمكن فيه وجه آخر و هو أن يكون الاحصاء مفعولا له و يكون في الكلام محذوف تقديره و أحاط بكم حفظته و ملائكته للاحصاء و دخول اللّام في المفعول له كثير انتهى.
و الأظهر هو الانتصاب بالمصدر، و مثله قوله عليه السّلام و أحصاكم عددا فانّه أيضا مصدر بغير لفظة الفعل على ما ذهب إليه الزّجاج من تجويز كون العدد مصدرا مستدلا بقوله تعالى سنين عددا و على هذا فيكون أصل كلامه أحصاكم و عدّكم عددا على حدّ قوله تعالى: لقد أحصيهم و عدّهم عدّا.
و أمّا على مذهب المشهور و هو الحقّ من كون العدد كالعديد اسم مصدر فهو تمييز منقول من المفعول به كقوله تعالى: و فجّرنا الأرض عيونا، و الأصل أحصا عددكم، و يمكن أن يكون حالّا أى أحصاكم معدودا محصورا.
و جوّز هذا الوجه مع الوجه الأوّل صاحب الكشّاف في قوله و أحاط بما لديهم و أحصى كلّ شي ء عددا حيث قال: عددا حال أى و ضبط كلّ شي ء معدودا محصورا أو مصدر في معنى الاحصاء.
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة مسوق للوصيّة بالتّقوى و الخشية من اللّه و متضمّن للتنفّر عن الدّنيا بذكر معايبها و مثالبها فأمر أوّلا بالتّقوى بقوله (أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الذى ضرب لكم الأمثال) أى ضربها لكم في القرآن للتذكرة و الموعظة كما قال تعالى: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ اي ليتذكّروا بتلك الأمثال و يتدبّروا فيها فيعتبروا، و الأمثال التي ضربها لهم فيه كثيرة منها قوله تعالى بعد الآية السّابقة.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَ رَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
فانّه مثل ضربه سبحانه لعبدة الأصنام و للمخلصين بتوحيده، و يعني بقوله رجلا فيه شركاء أنّه يعبد آلهة مختلفة و أصناما، و هم متشاجرون متعاسرون هذا يأمره و هذا ينهاه و يريد كلّ واحد منهم أن يفرّده بالخدمة ثمّ يكل كلّ منهم أمره إلى الآخر ويكل الآخر إلى آخر فيبقى هو خاليا من المنافع و هذا حال من يخدم جماعة مختلفة الآراء و الأهواء و هو مثل الكافر.
و أمّا مثل المؤمن الموحّد فرجل سلم أي خالص يخدم مالكا واحدا لا يشوب بخدمته خدمة غيره و لا يأمل سواه و من كان بهذه الصفة نال ثمرة خدمته لا سيّما إذا كان المخدوم قادرا كريما حكيما.
و منها قوله تعالى في سورة يونس: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فانّ هذا مثل ضربه اللّه للتّزهيد في الدّنيا و التّرغيب في الآخرة فقد قيل إنّ المقصود بهذه الآية تشبيه الحياة الدّنيا بالماء فيما يكون به من الانتفاع ثمّ الانقطاع و قيل إنّ المشبّه به النّبات على ما وصفه من الاغترار به ثمّ المصير إلى الزّوال و قيل إنّ المقصود تشبيه الحياة الدنيا بحياة مقدّرة على هذه الأوصاف.
و على أىّ تقدير فمعنى الآية أنّ مثل الحياة الدّنيا مثل الماء النّازل من السّماء المختلط بسببه نبات الأرض بعضه ببعض حتّى إذا أخذت الأرض حسنها و بهجتها و تزيّنت في نظر أهلها و ظنّ مالكها أنّهم قادرون على الانتفاع بها باقتطاعها و حصادها أتاها أمر اللّه سبحانه أى عذابه و بلاؤه من برد أو برد فصارت محصودة مقلوعة يابسة كأن لم تقم على تلك الصّفة بالأمس.
و نحوه في سورة الكهف: وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً.
و نحوهما قوله سبحانه في سورة الحديد: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ.
و منها قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ.
فانّه تعالى شبّه الكلمة الطيبة أعنى شهادة أن لا إله الّا اللّه أو كلّ كلام أمر به اللّه بالشّجرة الطيبة التي أصلها ثابت راسخ في الأرض و أغصانها في السّماء، و أراد به المبالغة في الارتفاع تخرج هذه الشّجرة ما يؤكل منها في كلّ ستّة أشهر أو في كلّ سنة أو كلّ غدوة و عشيّة.
و شبّه الكلمة الخبيثة و هي كلمة الكفر و الشّرك أو كلّ كلام في معصية اللّه بالشّجرة الخبيثة اقتلعت جثّتها من الأرض مالها من ثبات يعنى أنّ الكلمة الطيبة مثل الشّجرة الطيبة ينتفع بها صاحبها عاجلا و آجلا، و الكلمة الخبيثة كالشّجرة الخبيثة لا ينتفع بها صاحبها و لا يثبت له منها نفع و لا ثمر.
و في تفسير أهل البيت عليهم السّلام أنّ الشّجرة الطيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فرعها عليّ عليه السّلام و عنصر الشّجرة فاطمة و ثمرتها أولادها و أغصانها و أوراقها شيعتنا ثمّ قال: إنّ الرّجل من شيعتنا ليموت فيسقط من الشّجرة ورقة و إنّ المولود من شيعتنا ليولد فيورق مكان تلك الورقة، و على هذا فالمراد بقوله سبحانه: تؤتى أكلها كلّ حين ما يفتى به الأئمة من آل محمّد شيعتهم في الحلال و الحرام.
و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله: كلمة خبيثة كشجرة خبيثة، إنّ هذا مثل بني اميّة، و كيف كان فانّ المقصود من هذه الأمثال المضروبة في القرآن و نحوها ممّا هي فوق حدّ الاحصاء هو تنبيه الخلق و تذكيرهم و ايقاظهم من نوم الغفلة و الجهالة و حثّهم و ترغيبهم على ملازمة المعرفة و التقوى و الطاعة.
و لذلك قال عليه السّلام اوصيكم بتقوى اللّه الذى ضرب لكم الأمثال، فانّ في التّعبير بهذه اللفظة إشارة إلى أنّ ضربها للتّقوى مما يجرى أن يتّقيه الخلق، و كذلك المقصود بالأوصاف التي يذكرها بعد ذلك هو الجذب إليه و الحثّ عليه أعنى قوله (و وقّت لكم الآجال) أى عيّنها لكم و كتبها بقلم القضاء في أمّ الكتاب كما قال تعالى: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ.
فمن علم أنّ له أجلا إذا جاء لا يؤخّر و أنّ له إيابا إلى ربّه الذي يؤاخذ بما قدّم و أخّر فأجدر أن يخاف منه و يحذر (و ألبسكم الرّياش و أرفغ لكم المعاش) أى أنزل عليكم لباسا يوارى سوآتكم و ريشا و لباس التقوى و أوسع عيشكم و رزقكم من الطيبات لتطيعوه في السر و الاعلان و لا تجاهروه بالكفر و العدوان كمال قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ.
(و أحاط بكم الاحصاء و أرصد لكم الجزاء) يعنى أنّه سبحانه محيط بكم عالم بعدد نفوسكم لا يشذّه منكم أحد، و هو تعالى أعدّ لكم جزاء أعمالكم مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (و آثركم بالنّعم السّوابغ و الرفد الروافع) أى أنّه تعالى اختاركم بنعمه التامة الكاملة وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً و أعطاكم الصّلات الجليلة الرّفيعة العالية (و أنذركم بالحجج البوالغ) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ و لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (فأحصاكم عددا و وظّف لكم مددا) يعنى انّه أحصا عددكم و عيّن مدّة عمركم.
و إنّما أعاد عليه السّلام ذكر هذين الوصفين مع اغناء قوله: و وقّت لكم الآجال و أحاط بكم الاحصاء عنه، للتّاكيد و المبالغة، لأنّ ذكر توقيت المدد و توظيف الآجال من أشدّ الجواذب إلى التّقوى، و كذلك المعرفة باحاطة علمه بجزئيات النّفوس و عدم شذوذ شي ء منها عنه رادعة لها عن المهالك و المعاطب.
فان قيل: أىّ نكتة في الاتيان بالتّمييز أعنى عددا بعد لفظ الاحصاء مع أنّه لا ابهام فيه و لا خفاء بل هو مغن عنه قلت: السّر في ذلك كما في قوله تعالى: و أحصى كلّ شي ء عددا، و هو بيان أنّ علمه تعالى بالأشياء ليس على وجه اجماليّ بل على وجه تفصيلى، فانّ الاحصاء قد يراد به الاحاطة الاجماليّة كما قال تعالى: و إن تعدّوا نعمة اللّه لا تحصوها، أى لا تقدر و اعلى حصرها إجمالا فضلا عن التّفصيل.
و ذلك لأنّ أصل الاحصاء أنّ الحاسب إذ بلغ عقدا معيّنا من عقود الأعداد كالعشرة و المأة و الألف وضع حصاة ليحفظ بها كميّة ذلك العقد فيبنى على ذلك حسابه و قوله (في قرار خبرة و دار عبرة) أراد به أنّه سبحانه عيّن لكم المدد في مقرّ البلاء و الاختيار و دار الاتّعاظ و الاعتبار.
و هى الدّار التي (أنتم مختبرون فيها) بما أعطاكم اللّه فيها لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ و المفسد من المصلح حتّى يزيد في إحسان المحسن و يؤاخذ بعصيان المسي ء (و محاسبون عليها) أى على نعيمها كلّا أو بعضا على ما مضى تحقيقا و تفصيلا في شرح كلامه الثمانين و مضى هناك أيضا توضيح الاتعاظ بالدّنيا و الاعتبار فيها فليراجع ثمّة.
|