الفصل الرابع
عباد مخلوقون اقتدارا، و مربوبون اقتسارا، و مقبوضون احتضارا، و مضمّنون أجداثا، و كائنون رفاتا، و مبعوثون أفرادا، و مدينون جزاء، و مميّزون حسابا، قد أمهلوا في طلب المخرج، و هدوا سبيل المنهج، و عمّروا مهل المستعتب، و كشفت عنهم سدّف الرّيب، و خلّوا لمضمار الجياد، و رويّة الارتياد، و أناة المقتبس المرتاد، في مدّة الأجل، و مضطرب المهل
اللغة
(قسره) على الأمر قسرا من باب ضرب قهره و اقتسره كذلك و (حضره) الموت و احتضره اشرف عليه فهو في النّزع و هو محضور و محتضر بالفتح.
قال الطريحي: و في الحديث ذكر الاحتضار و هو السوق سمّي به قيل لحضور الموت و الملائكة الموكلين به و إخوانه و أهله عنده، و فلان محتضر أى قريب من الموت و منه إذا احتضر الانسان وجه يعنى جهة القبلة و (الاجداث) جمع الجدث كأسباب و سبب و هو القبر و هذه لغة أهل تهامة و أمّا أهل نجد فيقولون جدف بالفاء و (الرفات) كالفتات بالضّم لفظا و معنا و هو ما تناشر من كلّ شي ء و (المنهج) كالنهج و المنهاج الطريق الواضح و (العتبى) بالضّم الرّضا و استعتبه أعطاه العتبى كأعتبه و طلب إليه العتبى من الأضداد.
قال الفيومي عتب عليه عتبا من بابي ضرب و قتل لامه في تسخط و أعتبني الهمزة للسبب أى أزال الشكوى و العتاب و استعتب طلب الاعتاب و العتبى اسم من الاعتاب و (السّدف) جمع سدفة، كغرفة و غرف و هي الظلمة و (ضمر) الفرس ضمورا من باب قعد و ضمر ضمرا من باب قرب قلّ لحمه و هزل، و ضمرته و أضمرته أعددته للسباق و هو أن تعلفه قوتا بعد السّمن أى يعلف حتّى يسمن ثمّ يرد إلى قوته الأوّل ليخفّ لحمه و ذلك في أربعين يوما، و المضمار الموضع الذي تضمر فيه الخيل.
و (الرّوية) الفكر و التّدبر و هي كلمة جرت على ألسنتهم بغير همز تخفيفا و هي من روأت في الأمر بالهمز أى نظرت فيه و (الارتياد) الطلب و (تأنّى) في الأمر تمكث و لم يعجل و الاناة و زان حصاة اسم منه و (المقتبس) كالقابس هو طالب العلم و النار
الاعراب
عباد خبر مبتداء محذوف، و اقتدارا و اقتسارا منصوبان على التّميز، و احتضارا منصوب على الحال المؤكدة من قبيل قوله ولّى مدبرا فيئول بالمشتقّ أى مقبوضون محتضرين، مثل قولهم اجتهد وحدك أى منفردا، و أجداثا مفعول فيه و هو و إن لم يكن من ظروف المكان المبهمة أعنى الجهات السّت و ما أشبهها من عند ولدي و نحوهما إلا أنّه قد انتصب بفي مقدّرة لما في الكلام من معنى الاستقرار كما قال الرّضىّ.
و أما انتصاب نحو قعدت مقعده و جلست مكانه و نمت مبيته فلكونه متضمّنا لمصدر معناه الاستقرار في ظرف فمضمونه مشعر بكونه ظرفا لحدث بمعنى الاستقرار كما أنّ نفسه ظرف لمضمونه بخلاف نحو المضرب و المقتل فلا جرم لم ينصبه على الظرفية إلّا ما فيه معنى الاستقرار اه، و إفرادا منصوب على الحال كانتصاب فردا في قوله تعالى: وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً.
و جزاء مصدر على غير لفظ فعله و حسابا منصوب بنزع الخافض و ما قاله البحرانى من انه مصدر منصوب بغير فعله ليس بشي ء و في طلب المخرج في للظرفيّة المجازية كما في قولهم في نفس المؤمنة مأئة من الابل أى في قتلها، فالسّبب الذى هو القتل متضمّن للدّية تضمّن الظرف للمظروف، و هذه هي التي يقال إنّها للسّببية.
و مهل المستعتب بحذف الموصوف مفعول مطلق مجازي من غير المصادر أى امهلوا و عمروا مثل مهل المستعتب، و ما توهّمه الشّارح البحراني من أنّه مصدر فاسد، و قوله في مدّة الأجل متعلق بقوله خلوا، و قوله فيا لها أمثالا صائبة منادي تفخيم و تعجّب
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل مسوق لشرح حال النّاس و الكشف عن أوصافهم و التّنبيه على ما خلقوا لأجله و ما يصير أمرهم إليه و استدرج ذلك بمواعظ شافية و نصايح وافية، و المقصود بذلك كلّه تنبّههم عن نوم الغفلة و الجهالة و افاقتهم من سكر الحيرة و الضّلالة.
فقوله (عباد مخلوقون اقتدارا) يعني أنّ النّاس الذين شرحنا حالهم و ذكرنا كيفيّة حشرهم و معادهم هم عباد خلقهم اللّه سبحانه من قدرته التّامّة الكاملة و حكمته الجامعة البالغة و ليس خلقهم لذواتهم و من اتّصف بذلك لا يجوز له العصيان لخالقه و بارئه.
(و مربوبون اقتسارا) أى مملوكون من قهر و غلبة و ربّاهم اللّه سبحانه من صغرهم إلى كبرهم لا عن اختيار منهم حتّى يكون لهم الخيرة في معصية ربّهم و مالكهم (و مقبوضون احتضارا) أى مقبوضون بالموت محتضرين إلى حضرة ذي العزّة فيجازيهم بالحسنة و السّيئة (و مضمّنون أجداثا) أى في قبور هي دار الوحدة و الوحشة (و كائنون رفاتا) و عظاما فتاتا أى أجزاء شتاتا (و مبعوثون افرادا) أى وحدانا لا مال لهم و لا ولد كما فسّر بذلك قوله تعالى: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.
قال في مجمع البيان: أى جئتمونا وحدانا لا مال لكم و لا خول و لا ولد و لا حشم و قيل واحدا واحدا عليحده و قيل كلّ واحد منكم منفردا من شريكه في الغيّ و شفيقه كما خلقناكم أوّل مرّة أى خلقناكم في بطون امّهاتكم لا ناصر لكم و لا معين و قيل معناه ما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: تحشرون حفاتا عراتا عزلا، و العزل هم الغلف.
و روى إنّ عايشة قالت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين سمعت ذلك: و اسوأتاه ينظر بعضهم إلى سوءة بعض من الرّجال و النّساء قال: صلّى اللّه عليه و آله: لكلّ امرء منهم يومئذ شأن يغنيه و يشغل بعضهم عن بعض.
و تركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم، معناه تركتم ما ملّكناكم في الدّنيا ممّا كنتم تتباهون به من الأموال خلف ظهوركم، و المراد تركتم الأموال في الدّنيا و حملتم من الذّنوب الأحمال و استمتع غيركم بما خلفتم و حوسبتم عليه فيا لها حسرة (و مدينون جزاء) أى مجزيّون بأعمالهم جزاء إن خيرا فخيرا و إن شرّا فشرّا.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.
(و مميزون حسابا) أى في حساب يعني بتميّز المؤمن من المجرم و التقيّ من الشّقيّ و الجيّد من الرّديّ في يوم الحساب و مقام المحاسبة كما قال سبحانه: وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ.
أي اعتزلوا من أهل الجنّة و كونوا فرقة على حدة.
نقل أنّه إذا جمع اللّه الخلق يوم القيامة بقوا قياما على أقدامهم حتّى يلجمهم العرق فينادون يا ربّنا حاسبنا و لو إلى النار فيبعث اللّه رياحا فتضرب بينهم و ينادى مناد: و امتازوا اليوم أيّها المجرمون، فتميّز بينهم فصار المجرمون إلى النار و من كان فى قلبه ايمان صار إلى الجنّة.
(قد امهلوا في طلب المخرج) يعنى أنّ اللّه سبحانه أمهلهم في دار الدّنيا لطلب نجاتهم و خلاصهم من الظلمات إلى النور و خروجهم من الضلالة إلى السداد و من الغواية إلى الرشاد (و هدوا سبيل المنهج) أى هداهم اللّه تعالى بما جعل لهم من العقول و بعث إليهم من الأنبياء و الرّسل إلى المنهج القويم و الصّراط المستقيم الموصل لسالكه إلى حظيرة القدس و جنّة الفردوس.
(و عمرو امهل المستعتب) يعني أعطاهم اللّه العمرو أمهلهم في الدّنيا مثل مهل من يطلب رضائه و اعتابه أى إزالة اللّوم و الشكوى عنه و لما كان من يطلب إزالة اللّوم عنه و يقصد رجوعه عن غيّه بمهل طويلا و يداري شبّه عليه السّلام مهلة اللّه لخلقه مدّة أعمارهم ليرجعوا إلى طاعته و يعملوا صالحا بذلك فافهم جيّدا.
(و كشفت عنهم سدف الرّيب) أى ازيلت عنهم ظلمات الشّكوكات و الشّبهات بما منحهم اللّه من العقول مؤيدا بالرّسل (و خلّو المضمار الجياد) أى خلاهم اللّه و تركهم في الدّنيا ليضمروا أنفسهم و يستعدّوا السّباق في الآخرة كما يترك الجياد من الخيل في المضمار و تضمر ليحصل لها الاستعداد للمسابقة و يحاز بها قصب السّبق و يؤخذ بها السّبق.
و في الاتيان بلفظة الجياد تنبيه على أن يكونوا من جياد مضمارهم و قد مرّ توضيح تشبيه الدّنيا بالمضمار في شرح الخطبة السابعة و العشرين فليراجع (و) كذلك خلّوا ل (روية الارتياد و أناة المقتبس المرتاد) أى للتّفكر في طلب الحق و ليتأنوا أناة المتعلّم للعلوم الحقّة المحتاج في تعلّمه إلى التأنّي و المهلة الطالب للأنوار الالهيّة ليهتدى بها في ظلمات الجهل و الغفلة (في مدّة الأجل) الذي عيّنه سبحانه لهم (و مضطرب المهل) الذي قدّر في حقّهم.
|