و من خطبة له عليه السّلام و هى الرابعة و الثمانون من المختار في باب الخطب
و أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، الأوّل لا شي ء قبله و الآخر لا غاية له، لا تقع الأوهام له على صفة، و لا تعقد القلوب منه على كيفيّة، و لا تناله التّجزية و التّبعيض، و لا تحيط به الأبصار و القلوب.
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة كما يظهر من الكتاب مأخوذة و ملتقطة من خطبة طويلة و لم نعثر بعد على أصلها و ما أورده السيد «ره» هنا يدور على فصول ثلاثة.
الفصل الاول
في الشّهادة بالتّوحيد و ذكر بعض صفات الجمال و الجلال و هو قوله: (و أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده) في ذاته و صفاته (لا شريك له) في أفعاله و مخلوقاته، و قد مضى تحقيق الكلام في ذلك في شرح الفصل الثّاني من فصول الخطبة الثانية فلا حاجة إلى الاعادة (الأوّل) بالأزليّة ف (لا شي ء قبله و الآخر) بالأبديّة ف (لا غاية له) قد مضى تحقيق الأول و الآخر في شرح الخطبة الرّابعة و الستّين، و قدّمنا هناك أنّ أوليّته سبحانه لا تنافي آخريته، و آخريّته لا تنافي أوّليّته كما تتنافيان في غيره سبحانه.
و نقول هنا مضافا إلى ما سبق: أنّه سبحانه أوّل الأشياء و قبل كلّ شي ء فلا يكون شي ء قبله، و ذلك لاستناد جميع الموجودات على تفاوت مراتبها و كمالاتها إليه، و هو مبدء كلّ موجود فلم يكن قبله أوّل بل هو الأوّل الّذي لم يكن قبله شي ء.
قال النّيسابورى في محكيّ كلامه: و هو سبحانه متقدّم على ما سواه بجميع أقسام التقدّمات الخمسة التي هي تقدّم التّأثير و الطبع و الشرف و المكان و الزمان، أمّا بالتّأثير فظاهر، و أمّا بالطّبع فلأنّ ذات الواجب من حيث هو لا يفتقر إلى الممكن من حيث هو و حال الممكن بالخلاف، و أمّا بالشّرف فظاهر، و أمّا بالمكان فلأنّه وراء كلّ الأماكن و معها كقوله تعالى: وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ».
و قد جاء في الحديث لو دليتم بحبل إلى الأرض السّفلى لهبط إلى اللَّه ثمّ قرأ: هو الأوّل و الآخر، و أمّا بالزّمان فأظهر.
و أمّا آخريّته فلأنه هو الباقي بعد فناء وجود الممكنات و إليه ينتهى كلّ الموجودات فهو غاية الغايات فلا يكون له غاية. قال بعض العارفين: هو الآخر بمعنى أنه غاية القصوى تطلبها الأشياء و الخير الأعظم الّذي يتشوّقه الكلّ و يقصده طبعا و إرادة، و العرفاء المتألّهون حكموا بسريان نور المحبّة له و الشوق إليه سبحانه في جميع المخلوقات على تفاوت طبقاتهم و أنّ الكاينات السّفلية كالمبدعات العلويّة على اغتراف شوق من هذا البحر العظيم و اعتراف شاهد مقرّ بوحدانيّة الحقّ القديم.
فهو الأوّل الذي ابتدء أمر العالم حتّى انتهى إلى أرض الأجسام و الأشباح و هو الآخر الذي ينساق إليه وجود الأشياء حتى يرتقى إلى سماع العقول و الأرواح و هو آخر أيضا بالاضافة إلى سير المسافرين، فانهم لا يزالون مترقّين من رتبة إلى رتبة حتى يقع الرجوع إلى تلك الحضرة بفنائهم عن ذواتهم و اندكاك جبال هويّاتهم، فهو تعالى أوّل من حيث الوجود، و آخر من حيث الوصول و الشهود، و قيل أوليّته أخبار عن قدمه و آخريّته اخبار عن استحالة عدمه.
و في الكافي بإسناده عن ميمون البان قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام و قد سئل عن الأوّل و الآخر فقال عليه السّلام: الأوّل لاعن أوّل قبله و لا عن بدى ء سبقه، و الآخر لا عن نهاية كما يعقل عن صفات المخلوقين و لكن قديم أوّل آخر لم يزل و لا يزول بلا بدى ء و لا نهاية لا يقع عليه الحدوث و لا يحول من حال إلى حال، خالق كلّ شي ء و يأتي إنشاء اللَّه شرح هذا الحديث في شرح الخطبة المأة.
(لا تقع الأوهام له على صفة) أراد عليه السّلام أنه لا تناله الأوهام و لا تلحقه فتقع منه على صفة إذ الوهم لا يدرك إلّا ما كان ذا وضع و مادّة، فأمّا الأمور المجرّدة عن الوضع و المادّة فالوهم ينكر وجودها فضلا أن يصدق في اثبات صفة لها، و الباري سبحانه مع بساطه ذاته و تجرّده ليس له صفة زايدة حتّى يدركه الأوهام أو تصفه بصفة، و قد مرّ بعض القول في ذلك في شرح الفصل الثّاني من الخطبة الاولى.
(و لا تعقد القلوب منه على كيفيّة) إذ ليس لذاته تعالى كيفيّة حتّى تعقد عليها القلوب فلا يعرف بالكيفوفية، و تحقيق ذلك يتوقّف على معرفة معنى الكيف فنقول: إنّ الكيف كما قيل هي هيئة قارّة في المحلّ لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة إلى أمر خارج عنه و لا قسمة في ذاته و لا نسبة واقعة في اجزائه، و بهذه القيود تفارق الأعراض الثمانية الباقية.
و أقسام الكيفيّات و أوايلها أربعة، لأنّها إمّا أن تختصّ بالكميّات من جهة ما هى كمّ كالمثلّثيّة و المربّعيّة للأشكال، و الاستقامة و الانحناء للخطوط، و الزوجية و الفردية للأعداد و إمّا أن لا تختصّ بها و هي إمّا أن تكون مدركة بالحسّ راسخة كانت كصفرة الذهب و حلاوة العسل، أو غير راسخة كحمرة الخجل و صفرة الوجل و إمّا أن لا تكون مدركة بالحسّ و هي إمّا استعدادات للكمالات كالاستعداد للمقاومة و الدّفع و للانفعال و تسمّى قوّة طبيعية كالصّلابة و المصحاحية، أو للنّقايص كالاستعداد بسرعة للانفعال و تسمّى ضعفا و لا قوّة طبيعيّة كاللين و الممراضية و إمّا أن لا تكون استعدادا للكمالات و النقائص بل تكون في أنفسها كمالات أو نقايص فما كان منها ثابتا يسمى ملكة كالعلم و القدرة و الشّجاعة، و ما كان سريع الزوال يسمّى حالا كغضب الحليم و حلم الغضبان فهذه أقسام الكيف و اجناسها و يتدرج تحتها أنواع كثيرة.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ من المحال أن يتّصف سبحانه بها لكونها حادثة بالذّات ممكنة الوجود مفتقرة إلى جاعل يوجدها برى ء الذّات عن الاتّصاف بها، أمّا حدوثها و إمكانها فلكونها ذات ماهيّة غير الوجود فكونها عرضا قائما بمحلّه فهي مفتقرة إلى جاعل و ينتهى افتقارها بالأخرة إلى اللَّه سبحانه، و أمّا برائة ذاته سبحانه من الاتّصاف بها فلأنّ موجد الشي ء متقدّم عليه بالوجود فيستحيل أن يكون المكيّف بالكسر أى جاعل الكيف مكيّفا بالفتح أى منفعلا و إلّا لزم تقدّم الشي ء على نفسه و كون الشي ء الواحد فاعلا و قابلا لشي ء واحد.
(و لا تناله التجزية و التبعيض) عطف التبعيض على التجزية إمّا من باب التأكيد أو المراد بالأول نفى الأجزاء العقليّة كالجنس و الفصل و بالثاني نفى الأجزاء الخارجية كما في الأجسام، و على كلّ تقدير فالمقصود به نفى التركيب عنه إذ كلّ مركّب ممكن.
و أمّا ما قاله الشّارح البحراني: من أنّه اشارة إلى نفى الكميّة عنه إذ كانت التجزية و التبعيض من لواحقها و قد علمت أنّ الكمّ من لواحق الجسم و البارى تعالى ليس بجسم و ليس بكمّ.
ففيه أنّه خلاف الظاهر إذ التّجزية أعمّ من التجزية العقليّة و الخارجيّة و لا دليل على التّخصيص بالثانيّة لو لم تكن ظاهرة في الأولى حسب ما أشرنا إليه فيكون مفادها على ذلك مفاد قوله عليه السّلام في الخطبة الأولى: فمن وصف اللَّه سبحانه فقد قرنه و من قرنه فقد ثنّاه و من ثنّاه فقد جزّاه.
(و لا تحيط به الأبصار و القلوب) و قد مرّ تحقيق ذلك في شرح الخطبة الثالثة و الأربعين بما لا مزيد عليه و في شرح الفصل الثاني من الخطبة الاولى.
|