فاعتبروا عباد اللَّه و اذكروا تيك الّتي آباؤكم و إخوانكم بها مرتهنون، و عليها محاسبون، و لعمري ما تقادمت بكم و لا بهم العهود، و لا خلت فيما بينكم و بينهم الأحقاب و القرون، و ما أنتم اليوم من يوم كنتم في أصلابهم ببعيد، و اللَّه ما أسمعهم الرّسول شيئا إلّا وها أنا ذا اليوم مسمعكموه، و ما أسماعكم اليوم بدون أسماعهم بالأمس، و لا شقّت لهم الأبصار، و لا جعلت لهم الأفئدة في ذلك الأوان إلّا و قد أعطيتم مثلها في هذا الزّمان، و و اللَّه ما بصرّتم بعدهم شيئا جهلوه، و لا أصفيتم به و حرموه، و لقد نزلت بكم البليّة جائلا خطامها، رخوا بطانها، فلا يغرّنّكم ما أصبح فيه أهل الغرور، فإنّما هو ظلّ ممدود إلى أجل معدود.
اللغه
و (الأحقاب) جمع حقب بضمّ الحاء و القاف و بسكون القاف أيضا ثمانون سنة أو أكثر و قيل الدّهر و قيل السّنة و قيل السنون و (القرون) جمع القرن قال الفيروز آبادي أربعون سنة أو عشرة أو عشرون أو ثلاثون أو خمسون أو ستّون أو سبعون أو ثمانون أو مأئة أو مأئة و عشرون (و لا أصفيتم) على البناء للمفعول من باب الافعال، قال سبحانه: أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ.
أى آثركم و (جائلا خطامها) أى مضطربا غير مستقرّ من الجولان و الخطام من الدّابة بالخاء المعجمة و الطاء المهملة مقدم أنفها و فمها، و يطلق على الزمام، و هو المراد هنا باعتبار أنه يقع على الفم أو الأنف و ما يليه، و منه الحديث كان خطام جمله عليه السّلام ليف و (البطان) حزام القتب يقال أبطن البعير أى سدّ بطانه.
الاعراب
و لعمرى جملة قسميّة، و قوله و ما أنتم اليوم ما حجازيّة عاملة عمل ليس، و أنتم اسمها و ببعيد خبرها زيد فيه الباء كما تزاد في خبر ليس مطّردا، و اليوم متعلّق به، و كذلك من يوم و جملة جهلوه صفة لشيئا.
و جملة و حرموه حال من ضمير به و فيه دليل على عدم لزوم قد في الجملة الحالية الماضوية المثبتة كما عليه جمهور علماء الأدبية، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الجملة في معنى النفي إذ مقصوده عليه السّلام نفى الاصفاء عن المخاطبين و المحرومية عن الغائبين معا و لذلك جي ء بالواو و الضمير، و الفاء في قوله فلا يغرّنّكم فصيحة
المعنى
ثمّ إنّه بعد ما مهّد المقدّمة الشريفة و فرغ من بيان حالة العرب في أيّام الفترة شرع في الموعظة و النّصيحة بقوله: (فاعتبروا عباد اللَّه) بما كانت عليه الاخوان و الآباء و الأقران و الأقرباء (و اذكروا تيك) الأعمال القبيحة و الأحوال الذميمة (التي آبائكم و اخوانكم بها مرتهنون) و محبوسون و عليها محاسبون و مأخوذون.
ثمّ اشار عليه السّلام إلى تقارب الأزمان و تشابه الأحوال بين الماضين و الغابرين بقوله: (و لعمري ما تقادمت بكم و لا بهم العهود) حتّى تغفلوا (و لا خلت فيما بينكم و بينهم الأحقاب و القرون) حتّى تذهلوا (و ما أنتم اليوم من يوم كنتم في أصلابهم ببعيد) حتّى تنسوا و لا تعتبروا فلكم اليوم بالقوم اعتبار و فيما جرت عليهم تبصرة و تذكار.
(و اللَّه ما أسمعهم الرّسول شيئا إلّا و ها أناذا مسمعكموه) فليس لكم علىّ حجّة بعدم الابلاغ و الاسماع (و ما إسماعكم اليوم بدون إسماعهم بالأمس) فليس لكم معذرة بالوقر في الآذان و الأسماع (و لاشقت لهم الأبصار) المبصرة (و لا جعلت لهم الأفئدة) المتدبّرة (في ذلك الأوان إلّا و قد أعطيتم مثلها في هذا الزّمان) فلا يمكن لكم أن تقولوا إنّا كنّا في عمى من هذا و كنّا به جاهلين، و لا أن تعتذروا بأنّه لم يجعل لنا أفئدة و كنّا منه غافلين.
(و واللَّه ما بصّرتم بعدهم شيئاً جهلوه) بل علّموا ما علّمتم (و لا اصفيتم) و اوثرتم (به و حرموه) بل منحوا ما بذلتم فلم يبق بينكم و بينهم فرق في شي ء من الحالات و كنتم مثلهم في جميع الجهات فإذا انتفى الفارق فما بالكم لا تسمعون و لا تبصرون و لا تفهمون و لا تذكّرون، و قد اسمع اسلافكم فسمعوا، و بصّروا فتبصّروا و ذكّروا فتذكّروا و عمّروا فنعموا، و علّموا ففهموا.
ثمّ حذرهم و أنذرهم بإشراف الابتلاء و المحنة و نزول البلية بقوله (و لقد نزلت بكم البليّة) لعلّه أراد بها فتنة معاوية و دولة بني أميّه (جائلا خطامها رخواً بطانها) استعارة بالكناية عن خطرها و صعوبة حال من يعتمد عليها و يركن إليها كما أنّ من ركن إلى النّاقة التي جال خطامها و لم تستقرّ في وجهها و انفها و ارتخى حزامها فركبها كان في معرض السّقوط و الهلاك.
ثمّ أردف ذلك بالنّهى عن الاغترار بالدّنيا فقال (و لا يغرنّكم ما أصبح فيه أهل الغرور) من الاغترار بزخارفها و لذّاتها و الانهماك في شهواتها و طيّباتها بظنّ دوامها و ثباتها (فانّما هو ظلّ ممدود إلى أجل) محدود (معدود) بينا ترونه سابغا حتّى قلص و زيداً حتّى نقص.
تكملة
قد اشرنا سابقا إلى أنّ أوّل فقرات هذه الخطبة مرويّة في الكافي باختلاف لما هنا فأحببت أن اوردها على ما هود يدننا في الشّرح فأقول: روى الكلينيّ عن محمّد بن يحيى عن بعض أصحابه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام أيّها النّاس إنّ اللَّه تبارك و تعالى أرسل إليكم الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلمّ، و أنزل عليه الكتاب و أنتم اميّون عن الكتاب و من أنزله و عن الرّسول و من أرسله على حين فترة من الرّسل، و طول هجعة من الأمم، و انبساط من الجهل، و اعتراض من الفتنة، و انتقاض عن المبرم، و عمى عن الحقّ، و اعتساف من الجور، و امتحاق من الدّين، و تلظّ من الحروب، على حين اصفرار من رياض جنّات الدّنيا، و يبس من اغصانها، و انتشار من ورقها، و اياس من ثمرها، و اغورار من مائها.
قد درست أعلام الهدى، و ظهرت أعلام الردى، فالدّنيا متهجّمة «متجهّمة ح» في وجوه أهلها مكفهرّة مدبرة غير مقبلة، ثمرتها الفتنة، و طعماها الجيفة، و ثمارها الخوف، و دثارها السّيف، و مزّقتم كلّ ممزّق، و قد أعمت عيون أهلها، و أظلمت عليها أيّامها، قد قطعوا أرحامهم، و سفكوا دمائهم، و دفنوا في التّراب الموؤدة بينهم من أولادهم، يجتاز دونهم طبيب العيش و رفاهية خفوض الدّنيا، لا يرجون من اللَّه ثوابا، و لا يخافون و اللَّه منه عقابا.
حيّهم أعمى نجس، و ميّتهم في النّار مبلس، فجاءهم صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بنسخة ما في الصحف الأولى و تصديق الذي بين يديه و تفصيل الحلال من ريب الحرام، ذلك القرآن فاستنطقوه و لن ينطق لكم اخبركم عنه أنّ فيه علم ما مضى و علم ما يأتي إلى يوم القيامة و حكم ما بينكم و بيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلّمتكم.
و رواه عليّ بن إبراهيم القمي أيضا في ديباجة تفسيره نحوه و لقلّة موارد الاختلاف لم نطل بروايتها.
بيان
قال في النهاية: إنّا امّة اميّة لا نكتب و لا نحسب أراد أنّهم على أصل ولادة امّهم لم يتعلّموا الكتاب و الحساب فهم على جبلّتهم الأولى، و قيل: الأمّي الذي لا يكتب و منه الحديث بعثت إلى أمّة أميّة قيل للعرب: أميّون لأنّ الكتابة كانت فيهم عزيزة أو عديمة انتهى.
قال بعض شراح الحديث و لعلّ المراد هنا من لا يعرف الكتابة و الخط و العلم و المعارف و ضمن معنى ما يعدي كالنّوم و الغفلة، و قوله: و اعتراض من الفتنة يحتمل أن يكون عروضها و انتشارها في الآفاق، قوله: و انتقاض عن المبرم المبرم المحكم و قد أشار به إلى ما كان الخلق على من استحكام أمورهم بمتابعة الأنبياء و أراد بانتقاضه فساده.
و المكفهرّ من الوجوه من اكفهرّ على وزن اقشعرّ القليل اللّحم العليظ الذي لا يستحيي و المتعبّس، قوله: مزّقتم كلّ ممزّق التفات من الغيبة إلى الخطاب و الممزّق مصدر بمعنى التمزيق و هو التفريق و التّقطيع، و المراد به تفرّقهم في البلدان للخوف أو تفرّقهم في الأديان و الآراء، و الموءودة البنت المدفونة حيّة و كانوا يفعلون ذلك في الجاهليّة ببناتهم لخوف الاملاق أو العار كما قال سبحانه: وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ.
يجتاز دونهم طيب العيش و رفاهيّة خوفض الدّنيا، يجتاز بالجيم و الزاء المعجمة من الاجتياز و هو المرور و التجاوز، و الرفاهية السعة في المعاش، و الخفوض جمع الخفض و هي الدعة و الرّاحة أى يمرّ طيب العيش و الرّفاهية التي هي خفض الدّنيا أو في خفوضها متجاوزا عنهم من غير تلبّث عندهم، قوله: أعمى نجس بالنّون و الجيم و في بعض النسخ بالحاء المهملة من النّحوسة و المبلس من الابلاس و هو الاياس من رحمة اللَّه و منه سمّي ابليس، قوله: بما في الصّحف الاولى أى التوراة و الانجيل و الزبور و غيرها من الكتب المنزّلة و هو المراد بالذي بين يديه كما قال تعالى: وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ.
و قوله: فاستنطقوه الأمر للتعجير، و ساير الفقرات واضحة ممّا قدّمنا.
|