و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الثالثة من المختار فى باب الخطب
خطب بها عند خروجه إلى البصرة و قد تقدّم مختارها بخلاف هذه الرّواية و هي الخطبة الثالثة و الثلاثون.
أمّا بعد فإنّ اللّه سبحانه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ليس أحد من العرب يقرأ كتابا، و لا يدّعي نبوّة و لا وحيا، فقاتل بمن أطاعه من عصاه، يسوقهم إلى منجاتهم، و يبادر بهم السّاعة أن تنزل بهم، يحسر الحسير، و يقف الكسير، فيقيم عليه حتّى يلحقه غايته إلّا هالكا لا خير فيه، حتّى أراهم منجاتهم، و بوّئهم محلّتهم، فاستدارت رحاهم، و استقامت قناتهم، و أيّم اللّه لقد كنت في ساقتها حتّى تولّت بحذافيرها، و استوسقت في قيادها، ما ضعفت و لا جبنت، و لا خنت و لا و هنت، و أيم اللّه لأبقرنّ الباطل حتّى أخرج الحقّ من خاصرته.
اللغة
(المنجاة) محلّ النّجاة و يحتمل المصدر و (حسر) البصر يحسر حسورا من باب قعد كلّ و انقطع من طول مدى و نحوه و هو حسير، و حسر البعير ساقه حتّى أعياه كأحسره، و حسر البعير أيضا من باب ضرب و فرح أعيا كاستحسر فهو حسير يتعدّى و لا يتعدّي و ناقة (كسير) مكسورة و (استوسقت) الابل اجتمعت و (قياد) و زان كتاب حبل يقاد و مضى تفسير ساير الألفاظ في شرح الخطبة المشار إليها المتقدّمة.
الاعراب
جملة ليس أحد حال من فاعل بعث و الرابط الواو، و جملة يسوقهم حال من فاعل قاتل و الرابط الضمير، و قوله ان تنزل بهم إما بدل من السّاعة أو مفعول له ليبادر أى مخافة أن تنزل بهم على حدّ قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا.
أى كراهة أن تضلّوا، و إلّا هالكا إما استثناء من مفعول يلحقه أو من الضّمير في عليه و الثاني أظهر لأنّه كان مقيما على الهالك و غيره إلّا أنّ الالحاق إلى الغاية كان مختصّا بغير الهالك فحسن الاستثناء.
فان قلت: إذا كان اقامته عليهما على السواء فما معنى الاستثناء من الضمير قلت: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن كان مبعوثا إلى الناس كافة مقيما عليهم مريدا لالحاقهم إلى الغاية طامعا في إيمانهم جميعا، إلّا أنّ اللّحوق المترتب على الالحاق الذى كان غاية للاقامة لما لم يكن ممكنا في حقّ الهالك فجاز الاستثناء من كلّ من الاقامة و الالحاق باعتبار اللّحوق المترتّب عليهما، و وجه أظهرية الاستثناء في الثاني هو أن ترتب اللّحوق عليه بلا واسطة و على الأوّل مع الواسطة فافهم، و يوضح ما ذكرته من كونه مقيما على الكلّ حريصا على ايمانهم و إن لم يؤمنوا قوله تعالى: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى و قوله إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
المعنى
اعلم أنّه قد تقدّم في شرح الخطبة الثالثة و الثّلاثين أنه عليه السّلام خطب بهذه الخطبة عند الخروج لحرب أهل الجمل و أنّ غرضه عليه السّلام منه التّنبيه على أنّ حربه عليه السّلام معهم إنّما هي لاقامة الحقّ و إزالة الباطل، و تقدّم أيضا تحقيق الكلام فيها و في توضيح أكثر فقراتها و لا حاجة إلى إعادة ما تقدّم و نذكر هنا ما لم يسبق ذكره ثمة فنقول: قوله عليه السّلام: (أمّا بعد فان اللّه سبحانه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ليس أحد من العرب) حين بعثه (يقرأ كتابا و لا يدّعى نبوّة) و هو محمول على بعض العرب أى الغالب منهم أو المراد بالكتاب الكتاب الحق إن اريد بهم العموم فلا ينافي وجود الصحف المحرّفة من التوراة و الانجيل و الزبور بينهم حسبما مرّت إليه الاشارة.
(فقاتل بمن أطاعه من عصاه) أى جاهد باستعانة المؤمن الموحّد العاصى المتمرّد (يسوقهم إلى منجاتهم و يبادر بهم الساعة أن تنزل بهم) أى يسارع بهم إلى الارشاد و الهداية و يعجل في انقاذهم من الجهالة مخافة أن تنزل بهم السّاعة على ما هم عليه من العمى و الضلالة فيستحقّوا بذلك السّخط و العقاب و يستوجبوا به أليهم العذاب.
(يحسر الحسير و يقف الكسير فيقيم عليه حتى يلحقه غايته) يقول عليه السّلام إنّه كان ينقطع الغىّ العاجز و يقف المكسور فكان الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يزال مقيما عليه حتى يلحقه الغاية و يوصله الغرض و هو من باب الاستعارة شبّه النّاس في سلوكهم طريق الآخرة بإبل يسار بها في الأسفار و أثبت لهم وصف الحسير و الكسير الذي هو من أوصاف الابل.
و المراد أنّ من عجز و وقف قدم عقله في سلوك طريق الحقّ لضعف في اعتقاده أو قصور في آلة إدراكه لا يزال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مقيما عليه آخذا بعضده جاذبا له بأنواع التدبير و الجواذب إلى ما يمكن من العقيدة المرضيّة و الأعمال الزّكيّة التي هي الغاية القصوى من خلقة الانسان.
و قريب من ذلك ما في شرح المعتزلي قال: هذا الكلام من باب الاستعارة و المجاز يقول عليه السّلام: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لحرصه على الاسلام و إشفاقه على المسلمين و رأفته بهم يلاحظ حال من تزلزل اعتقاده أو عرضت له شبهة أو حدث عنده ريب لا يزال يوضح له و يرشده حتّى يزيل ما خامر سرّه من وساوس الشّيطان و يلحقه بالمخلصين من المؤمنين و لم يكن ليقصّر في مراعاة أحد من المكلّفين في هذا المعنى (إلّا هالكا لا خير فيه) أصلا لعناده و إصراره على الباطل و مكابرته للحقّ كأبي جهل و أبي لهب و نظرائهما (حتّى أريهم منجاتهم و بوّئهم محلتهم) أراد بهما دين الاسلام إذ به ينجي في العقبى و ينزل في أشرف المنازل و يؤتى.
(فاستدارت) به صلّى اللّه عليه و آله (رحاهم و استقامت قناتهم) كنّى باستدارة رحاهم عن انتظام امورهم لأنّ الرّحى لا تستدير إلّا بعد تكامل الآلة و انتظام أدواته، و أراد باستقامة قناتهم ظهور قهرهم و غلبتهم و حصول القوّة لهم، لأنّ القناة سبب للقوّة و لا تستقيم إلّا في حال الظفر و الغلبة.
(و أيم اللّه لقد كنت في ساقتها حتى تولّت بحذافيرها) قال الشّارح المعتزلي هذا الضّمير المؤنّث يرجع إلى غير مذكور لفظا، و المراد الجاهليّة كأنها جعلها مثل كتيبة مصادمة لكتيبة الاسلام، و جعل نفسه من الحاملين عليها بسيفه حتى فرّت و أدبرت و أتبعها يسوقها سوقا و هى مولية بين يديه حتى أدبرت بحذافيرها أى كلّها عن آخرها (و استوسقت في قيادها) أى اجتمعت في ذلّ الانقياد كالابل التي تستوثق في قيادها.
ثمّ أشار عليه السّلام إلى شجاعته و أمانته بقوله: (ما ضعفت) في القتال (و لا جبنت) من لقاء الأبطال (و لا خنت) في تبليغ أمر اللّه (و لا وهنت) في إقامة دين اللّه (و أيم اللّه) سبحانه (لأبقرنّ الباطل حتى اخرج الحقّ من خاصرته) تقدّم معناه فيما سبق فليراجع ثمة. تكملة
هذه الخطبة رويها المحدّث العلامة المجلسيّ (ره) في البحار من ارشاد الشيخ بنحو آخر أوجبت الحال ايرادها قال: لما توجّه أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه إلى البصرة نزل الرّبذه فلقاه بها آخر الحاجّ فاجتمعوا ليسمعوا من كلامه و هو في خبائه قال ابن عباس رضى اللّه عنه فأتيته فوجدته يخصف نعلا فقلت له عليه السّلام: نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج منا إلى ما تصنع فلم يكلّمني حتى فرغ من نعله ثمّ ضمّها إلى صاحبتها و قال عليه السّلام لي: قوّمهما، فقلت: ليس لهما قيمة، قال: على ذلك«» قلت: كسر درهم، قال عليه السّلام: و اللّه لهما أحبّ إلىّ من أمركم هذا إلّا أن اقيم حقا أو أدفع باطلا، قلت: إنّ الحاجّ اجتمعوا ليستمعوا من كلامك فتأذن لى أن أتكلّم فان كان حسنا كان منك و إن كان غير ذلك كان منّى، قال عليه السّلام: لا، أنا أتكلّم، ثمّ وضع عليه السّلام يده على صدرى و كان شثن الكفّين فالمنى ثمّ قام فأخذت بثوبه و قلت: نشدتك«» اللّه و الرّحم قال عليه السّلام: لا تنشدني ثمّ خرج فاجتمعوا عليه فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: أمّا بعد فانّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ليس في العرب أحد يقرأ كتابا و لا يدّعى نبوّة فساق الناس إلى منجاتهم، أم و اللّه ما زلت في ساقتها ما غيّرت و لا بدّلت و لا خنت حتى تولّت بحذا فيرها، مالى و لقريش، أم و اللّه لقد قاتلتهم كافرين و لاقاتلنّهم مفتونين، و إنّ مسيرى هذا عن عهد إلىّ فيه، أم و اللّه لأبقرنّ الباطل حتى يخرج الحقّ من خاصرته، ما تنقم منّا قريش إلّا أنّ اللّه اختارنا عليهم فادخلناهم في حيّزنا و أنشد:
- أدمت لعمرى شربك المحض خالصاو أكلك بالزّبد المقشرة التمرا
- و نحن و هبناك العلاء و لم تكن عليا و حطنا حولك الجرد و السمرا
«» و لمّا نزل عليه السّلام بذى قار أخذ البيعة على من حضره، ثمّ تكلّم فأكثر من الحمد للّه و الثناء عليه و الصلاة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ قال: قد جرت امور صبرنا عليها و في أعيننا القذى تسليما لأمر اللّه فيما امتحننا به رجاء الثّواب على ذلك و كان الصّبر عليها أمثل من أن يتفرّق المسلمون و يسفك دمائهم نحن أهل البيت و عترة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أحقّ الخلق بسلطان الرّسالة و معدن الكرامة الّتي ابتدأ اللّه بها هذه الأمّة، و هذه طلحة و الزّبير ليسا من أهل النّبوة و لا من ذرّية الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين رأيا أنّ اللّه قد ردّ علينا حقّنا بعد أعصر لم يصبرا حولا واحدا و لا شهرا كاملا حتّى وثبا علىّ دأب الماضين قبلهما ليذهبا بحقى و يفرّقا جماعة المسلمين عنّى ثمّ دعا عليه السّلام عليهما.
|