و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الحادية عشر من المختار في باب الخطب يذكر فيها ملك الموت و توفّيه الأنفس
هل يحسّ إذا دخل منزلا، أم هل تراه إذا توفّى أحدا، بل كيف يتوفّى الجنين في بطن أمّه، أ يلج عليه من بعض جوارحها، أم أجابته بإذن ربّها، أم هو ساكن معه في أحشائها، كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله
اللغة
(توفّيه الأنفس) في بعض النسخ على وزن التفعّل مصدر توفّاه اللَّه أى قبض روحه و أماته، و في بعض الاخرى توفية الأنفس وزان التّفعلة مصدر باب التفعيل و (يحسّ) بالبناء على المفعول و في بعض النسخ بدله تحسّ به بصيغة الخطاب و (الجنين) الولد في البطن و الجمع أجنّة (الأحشاء) جمع الحشاء و هو ما في البطن من المعاء و غيره.
الاعراب
توفية الأنفس من اضافة المصدر إلى فاعله، و على ما في بعض النسخ من توفيه الأنفس من اضافته إلى مفعوله، و قوله هل يحسّ استفهام على سبيل الانكار.
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل على ما في شرح البحراني من خطبة طويلة ذكره عليه السّلام في معرض التّوحيد و التنزيه للَّه تعالى عن اطلاع العقول البشريّة على كنه وصفه و ما ظفرت بعد على هاهنا «عليها ظ» و قد ذكر فيها ملك الموت و توفية الانفس أى قبضه للأرواح على سبيل الاستطراد، و هو نوع من فنون البيان و هو أن تخرج بعد أن تمهّد ما تريد أن تمهده إلى الأمر الذى تروم ذكره فتذكره و كأنّك غير قاصد لذكره بالذّات بل قد حصل و وقع ذكره عن غير قصد فتمرّبه مرورا كالبرق الخاطف ثمّ تتركه و تنساه و تعود إلى ما مهّدته أوّلا كالمقبل عليه و كالملغى عمّا استطردت بذكره إذا عرفت ذلك فأقول: قوله: (هل يحسّ إذا دخل منزلا أم هل تراه إذا توفّى أحدا) تنبيه على عدم امكان الاحساس به في دخول منازل المتوفّين و على عدم امكان رؤيته عند اماتة الناس، و ذلك لكونه جسما لطيفا هوائيا غير قابل للادراك بالحواس، و قال الشّارح البحراني: و نبّه باستنكار الاحساس به على أنّه ليس بجسم، اذ كان كلّ جسم من شأنه أن يحسّ باحدى الحواس الخمس «انتهى»، و هو مبنيّ على كون الملائكة جواهر مجرّدة غير متحيّزة كما هو مذهب الفلاسفة، و تحقيق ذلك موكول الى محلّه.
ثمّ قال (بل كيف يتوفّى الجنين في بطن امّه) و هو استعظام لأمره في قبض روح الجنين، و الأقسام المتصوّرة في كيفيّة ذلك القبض ثلاثة أشار إليها بقوله: (أ يلج عليه من بعض جوارحها أم الرّوح أجابته باذن ربّها أم هو ساكن معه في احشائها) و هذا التّقسيم حاصر لا يمكن الزيادة عليه. لأنّه اذا فرضناه جسما يقبض الأرواح الّتي في الأجسام إمّا أن يكون مع الجنين في جوف امه فيقبض روحه عند حضور أجله، أو خارجا عنها، و الثاني ينقسم قسمين: أحدهما أن يلج جوف امه لقبض روحه، و ثانيهما أن يقبضها من غير حاجة إلى الولوج إلى جوفها، و ذلك بأن يطيعه الرّوح و تكون مسخّرة له و منقادة لأمره إذا أراد قبضها امتدّت إليه.
و الاظهر الاقوى أن يكون توفية الجنين من قبيل القسم الأخير، و يدلّ عليه الرّواية الآتية للصّدوق في الفقيه عن الصّادق عليه السّلام و غيرها أيضا، و على مذاق المعتزلة فهو من قبيل الوسط، لأنّهم قالوا: إنّ كيفيّة القبض و لوج الملك من الفم إلى القلب، لأنّه جسم لطيف هوائى لا يتعذّر عليه النفوذ في المخارق الضيقة فيخالط الرّوح التي هى كالشبيهة بها، لأنّها بخارى، ثمّ يخرج من حيث دخل و هى معه، و يلزم عليهم أن يغوص الملك في الماء لقبض روح الغريق تحت الماء و التزموا ذلك، و أجابوا بأنّه لا يستحيل أن يتخلّل الملك مسام الماء فانّ في الماء مسام و منافذ كما في غيره من الأجسام، و لو فرضنا أنه لامسام فيه لم يبعد أن يلجه الملك فيوسع لنفسه مكانا كالحجر و السمك و نحوهما، و كالرّيح الشّديدة التي تقرع ظاهر البحر فتقعره و تحفره، و قوّة الملك أشدّ من قوّة الرّيح.
و كيف كان فلما بيّن أنّ ملك الموت لا يمكن للانسان وصف حاله و عرفان صفته أردفه بالتنبيه على عظمة اللَّه سبحانه بالنسبة إليه فقال (كيف يصف الهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله) يعني أنه إذا عجز الانسان عن وصف مخلوق هو مثله فبالأولى أن يعجز عن وصف خالقه و إدراك ذات مبدعه الذى هو أبعد الأشياء عنه مناسبة.
تنبيه
في بيان معنى الموت و ايراد بعض الأخبار الواردة في وصف حال ملك الموت فأقول: قال الشّارح البحراني أخذا من أبي حامد الغزالي في كتاب احياء العلوم: إنّ الموت ليس إلّا عبارة عن تغيّر حال، و هو مفارقة الرّوح لهذا البدن الجارى مجرى الآلة لذي الصّنعة، و إنّ الرّوح باقية بعده كما شهدت به البراهين العقلية بين مظانها، و الآثار النبويّة المتواترة، و معنى مفارقتها له هو انقطاع تصرّفها فيه لخروجه عن حدّ الانتفاع به. فما كان من الامور المدركة لها تحتاج في إدراكه إلى اللَّه فهى منقطعة عنه بعد مفارقة البدن إلى أن تعاد إليه في القبر أو يوم القيامة و ما كان مدركا لها لنفسها من غير اللَّه فهو باق معها يتنعّم به و يفرح أو يحزن من غير حاجة الى هذه الآلة في بقاء تلك العلوم و الادراكات الكلية لها هناك.
قال الغزالي تعطل الجسد بالموت يضاهى تعطل أعضاء الزمن بفساد مزاج يقع فيه و بشدّة تقع في الاعصاب تمنع نفوذ الرّوح فيها، فتكون الرّوح العالمة العاقلة المدركة باقية مستعملة لبعض الأعضاء و قد استعصى عليها بعضها، و الموت عبارة عن استعصاء الاعضاء كلّها و كلّ الأعضاء آلات، و الرّوح هى المستعملة لها، فالموت زمانة مطلقة في الأعضاء كلّها، و حقيقة الانسان نفسه و روحه و هى باقية، نعم تغيّر حاله من جهتين إحداهما أنه سلب منه عينه و اذنه و لسانه و يده و رجله و جميع أعضائه، و سلب منه أهله و ولده و أقاربه و ساير معارفه، و سلب منه خيله و دوابه و غلمانه و دوره و عقاره و ساير أملاكه، و لا فرق بين أن يسلب هذه الأشياء من الانسان أو يسلب الانسان من هذه الأشياء، فانّ المؤلم هو الفراق، و الفراق يحصل تارة بأن ينهب مال الرّجل و تارة بأن يسلب الرّجل عن الملك و المال، و الألم واحد في الحالتين و إنما معنى الموت سلب الانسان عن أمواله بازعاجه إلى عالم آخر لا يناسب هذا العالم، فان كان له في الدّنيا شي ء يأنس به و يستريح إليه و يعتدّ بوجوده فيعظم تحسّره عليه بعد الموت، و يصعب شقاؤه في مفارقته و يلتفت إلى واحد واحد من ماله و جاهه و عقاره حتى إلى قميص كان يلبسه مثلا، و يفرح به، و إن لم يكن يفرح إلّا بذكر اللَّه و لم يأنس إلّا به عظم نعيمه و تمّت سعادته، إذ خلى بينه و بين محبوبه و قطعت عنه العوائق و الشواغل المانعة له عن ذكر اللَّه.
و الجهة الثانية أنه ينكشف له بالموت ما لم يكن له مكشوفا في الحياة كما ينكشف للمتيقّظ ما لم يكن مكشوفا في النوم، و النّاس نيام فاذا ماتوا انتبهوا، هذا و قد مضى الكلام في شرح حالة الاحتضار و كيفيّة زهوق الروح و شرح حال الميت حينئذ في التذييل الثالث من تذييلات الفصل السّابع من فصول الخطبة الثانية و الثمانين، و في شرح الفصل الثاني من الخطبة المأة و الثمانية و مضى ثمة أيضا وصف حال ملك الموت و نورد هنا ما لم يسبق ذكره هناك فأقول: روى في الكافي باسناده عن اسباط بن سالم مولى أبان قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السّلام: جعلت فداك يعلم ملك الموت بقبض من يقبض قال عليه السّلام: لا إنما هي صكاك«» تنزل من السّماء اقبض نفس فلان بن فلان.
و عن زيد الشّحام قال: سئل أبو عبد اللَّه عليه السّلام عن ملك الموت فقال: يقال: الأرض بين يديه كالقصعة يمدّ يده منها حيث يشاء فقال عليه السّلام نعم.
و عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: ما من أهل بيت شعر و لا وبر إلّا و ملك الموت يتصفّحهم في كلّ يوم خمس مرّات.
و عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال سألته عن لحظة ملك الموت قال عليه السّلام أما رأيت الناس يكونون جلوسا فتعتريهم السّكينة فما يتكلّم أحد منهم فتلك لحظة ملك الموت حيث يلحظهم.
و في الفقيه قال الصّادق عليه السّلام: قيل لملك الموت عليه السّلام: كيف تقبض الأرواح و بعضها في المغرب و بعضها في المشرق في ساعة واحدة فقال: ادعوها فتجيبني، قال: و قال ملك الموت عليه السّلام: إنّ الدّنيا بين يدىّ كالقصعة بين يدي أحدكم فيتناول منها ما شاء، و الدّنيا عندى كالدّرهم في كفّ احدكم يقلّبه كيف يشاء.
بقى الكلام في أنّ قابض الأرواح هل هو اللَّه سبحانه، أم ملك الموت فقط، أم هو مع ساير الملائكة.
فأقول: الآيات في ذلك كالرّوايات مختلفة، و وجه الجمع بينها امور اشير إليها في أخبار أهل البيت عليهم السّلام.
ففي الفقيه و سئل الصادق عليه السّلام عن قول اللَّه عز و جلّ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها و عن قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ و عن قوله تعالى الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ وَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ و عن قوله عزّ و جلّ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا و عن قوله عزّ و جلّ: وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ.
و قد يموت في الساعة الواحدة في جميع الآفاق ما لا يحصيه إلّا اللَّه عزّ و جلّ فكيف هذا فقال عليه السّلام: إنّ اللَّه تبارك و تعالى جعل لملك الموت أعوانا من الملائكة يقبضون الأرواح بمنزلة صاحب الشّرطة له أعوان من الانس، فيبعثهم في حوائجه فتتوفّاهم الملائكة و يتوفّاهم«» ملك الموت من الملائكة مع ما يقبض هو و يتوفّاهم اللَّه من ملك الموت.
و في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن قول اللَّه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها و قوله: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ و قوله عزّ و جلّ: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا و قوله تعالى تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ فمرّة يجعل الفعل لنفسه، و مرّة لملك الموت، و مرّة للرّسل، و مرّة للملائكة فقال عليه السّلام: إنّ اللَّه تبارك و تعالى أجلّ و أعظم من أن يتولّى ذلك بنفسه، و فعل رسله و ملائكته فعله، لأنّهم بأمره يعملون، فاصطفى من الملائكة رسلا و سفرة بينه و بين خلقه، و هم الذين قال اللَّه فيهم: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ فمن كان من أهل الطاعة تولّت قبض روحه ملائكة الرّحمة، و من كان من أهل المعصية تولّت قبض روحه ملائكة النقمة، و لملك الموت أعوان من الملائكة الرّحمة و النقمة يصدرون عن أمره و فعلهم فعله، و كلّ ما يأتونه منسوب إليه، و إذا كان فعلهم فعل ملك الموت ففعل ملك الموت فعل اللَّه لأنّه يتوفّى الأنفس على يد من يشاء، و يعطى و يمنع و يثيب و يعاقب على يد من يشاء، و انّ فعل امنائه فعله كما قال: وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ و في التوحيد بسند ذكره عن أبي معمر السّعداني، أنّ رجلا أتى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فقال: يا أمير المؤمنين إنّي قد شككت في كتاب اللَّه المنزل قال له عليّ عليه السّلام: ثكلتك امّك و كيف شككت في كتاب اللَّه المنزل قال: لأني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضا فكيف لا أشكّ فيه، فقال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام إنّ كتاب اللَّه ليصدق بعضه بعضا و لا يكذب بعضه بعضا، و أظنّك لم ترزق عقلا تنتفع به فهات ما شككت فيه من كتاب اللَّه- فذكر الرجل آيات مختلفة الظواهر و من جملتها الآيات التي قدّمناها- فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ اللَّه تبارك و تعالى يدبّر الامور كيف يشاء، و يوكّل من خلقه من يشاء بما يشاء، أمّا ملك الموت فانّ اللَّه يوكّله بخاصّة من يشاء، و يوكّل رسله من الملائكة خاصّة بمن يشاء من خلقه و الملائكة الذين سماهم اللَّه عزّ ذكره، وكلهم بخاصة من يشاء من خلقه تعالى يدبّر الامور كيف يشاء و ليس كلّ العلم يستطيع صاحب العلم أن يفسّره لكلّ النّاس، لأنّ منهم القوىّ و الضعيف، و لأنّ منه ما يطاق حمله و منه ما لا يطيق حمله إلّا من يسهل اللَّه حمله و أعانه عليه من خاصّة أوليائه، و إنّما يكفيك أن تعلم أنّ اللَّه المحيى و المميت، و أنّه يتوفّى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه من ملائكته و غيرهم، قال: فرّجت عنّى يا أمير المؤمنين امتع اللَّه المسلمين بك.
|