و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الثانية عشر من المختار في باب الخطب.
و أحذّركم الدّنيا فإنّها منزل قلعة و ليست بدار نجعة، قد تزيّنت بغرورها، و غرّت بزينتها، دار هانت على ربّها، فخلط حلالها بحرامها، و خيرها بشرّها، و حياتها بموتها، و حلوها بمرّها، لم يصفّها اللَّه تعالى لأوليائه، و لم يضنّ بها على (عن خ) أعدائه، خيرها زهيد، و شرّها عتيد، و جمعها ينفد، و ملكها يسلب، و عامرها يخرب، فما خير دار تنقض نقض البناء، و عمر يفنى فناء الزّاد، و مدّة تنقطع انقطاع السّير
اللغة
(القلعة) بالضمّ العزل و المال العارية أو مالا يروم و منزلنا منزل قلعة و قلعة و قلعة و زان همزة أى ليس بمستوطن أو لا تدرى متى تتحول عنه او لا تملكه و (النجعة) بالضمّ طلب الكلاء في موضعه و (يخرب) بالبناء على الفاعل مضارع باب فعل كفرح و في بعض النسخ بالبناء على المجهول مضارع اخرب و في بعضها يتخرّب مضارع باب التفعل مبنيا على الفاعل أيضا
الاعراب
جملة قد تزيّنت في محل النّصب على الحال من الدّنيا، و في بعض النسخ و قد تزيّنت بالواو، و الفاء في قوله فخلط حلالها بحرامها فصيحة أى إذا كانت مهانة على اللَّه فخلط و في بعض النسخ عن أعدائه بدل على أعدائه فلا بدّ من تضمين معنى القبض أى لم يضر بها قابضا لها عن أعدائه، و قوله فما خير دار تنقض اه ما استفهاميّة و اضافة خير إلى دار بمعنى في، أى منفعة في دار وصفها كذا
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة مسوقة للتنفير عن الدّنيا و الترغيب في الآخرة، و نبّه على جهات النفرة بقوله (و احذّركم) من (الدّنيا) و الرّكون إليها و الاعتماد عليها و الاغترار بها و بزخارفها (فانها منزل قلعة) أى لا تصح للسّكنى و الاستيطان أو لا تدرى متى يكون لك منها التحوّل و الارتحال و المضىّ و الانتقال (و ليست بدار نجعة) يطلب فيها الكلاء و يروى من الظماء، و هو كناية عن انّها لا ينال فيها المراد و لا يوفّق فيها للسّداد (قد تزيّنت) للناس (بغرورها) و أباطيلها (و غرّت) المفتونين بها أى خدعتهم (بزينتها) و زخارفها.
و هى (دار هانت على ربّها) و اتصفت بالذّل و الهوان لعدم تعلّق العناية الالهية عليها بالذات و إنما خلقت لكونها وسيلة إلى غيرها.
قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: مرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بجدى أسك ملقى على مزبلة، فقال لأصحابه: كم يساوى هذا فقالوا: لعله لو كان حيّا يساو درهما، فقال النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: و الذي نفسي بيده الدّنيا أهون على اللَّه من هذا الجدى على أهله.
و قوله (فخلط حلالها بحرامها و خيرها بشرّها و حياتها بموتها و حلوها بمرّها) يعني أنها من أجل حقارتها لم تكن خيرا محضا، بل كان كلّ ما يعدّ فيها خيرا مشوبا بشرّ يقابله، بخلاف الدّار الآخرة، فانها خير كلّها وصفو كلّها و لذلك (لم يصفّها اللَّه لأوليائه) بل جعلهم فيها مبتلى بأنواع الغمص و المحن، و أصناف المصائب و الحزن فمشربهم فيها رنق و مترعهم فيها روغ (و لم يضنّ بها على أعدائه) بل أعطاهم فيها غاية المأمول، و منتهى المسئول، فحازوا نفايس الأموال و فازوا نهاية الآمال، و ليس عدم التّصفية للأولياء و عدم الضنّة بها في حقّ الأعداء إلّا اكراما للأوّلين و إضلالا للآخرين.
قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: إنّ المؤمن ليكرم على اللَّه حتى لو سأله الجنّة بما فيها أعطاه ذلك من غير أن ينتقص من ملكه شيئا، و إنّ الكافر ليهون على اللَّه حتى لو سأله الدّنيا بما فيها أعطاه ذلك من غير أن ينتقص من ملكه شيئا، و إنّ اللَّه ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الغايب أهله بالطرف، و إنّه ليحميه الدّنيا كما يحمى الطّبيب المريض.
و في رواية اخرى عنه عليه السّلام قال: ما كان من ولد آدم مؤمن إلّا فقيرا و لا كافر إلّا غنيّا، حتّى جاء إبراهيم فقال: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا.
فصيّر اللَّه في هؤلاء أموالا و حاجة، و في هؤلاء أموالا و حاجة.
و بالجملة فعدم تصفيتها للأولياء و جعلهم فيها مبتلى بأوصاف البلاء ليس إلّا ليصبروا أيّاما قليلة و يصيروا إلى راحة طويلة، و عدم قبضها من الأعداء لهوانها عليه سبحانه كهوانهم عنده و لو تساوى«» عنده تعالى جناح بعوضة لما اعطى أعدائه منها حبّة و لا سقاهم منها شربة.
(خيرها زهيد) قليل (و شرّها عتيد) حاضر (و جمعها ينفد) و يفنى (و ملكها يسلب) و يؤخذ (و عامرها يخرب) و يهدم (فما خير دار) اى أىّ خير و منفعة في دار (تنقض نقض البناء و عمر يفنى فناء الزاد و مدّة تنقطع انقطاع السير) لا يخفى حسن التشبيه في القراين الثلاث و تمام المناسبة و الايتلاف بين طرفى التشبيه في كلّ منها هذا.
|