و من كلام له ع فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة
يَا أَحْنَفُ كَأَنِّي بِهِ وَ قَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَ لَا لَجَبٌ وَ لَا قَعْقَعَةُ لُجُمٍ وَ لَا حَمْحَمَةُ خَيْلٍ يُثِيرُونَ الْأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ قال الشريف الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى يومئ بذلك إلى صاحب الزنج ثُمَّ قَالَ ع وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ الْعَامِرَةِ وَ الدُّورِ الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ النُّسُورِ وَ خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيَلَةِ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ وَ لَا يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا وَ قَادِرُهَا بِقَدْرِهَا وَ نَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا
اللجب الصوت و الدور المزخرفة المزينة المموهة بالزخرف و هو الذهب و أجنحة الدور التي شبهها بأجنحة النسور رواشينها و الخراطيم ميازيبها و قوله لا يندب قتيلهم ليس يريد به من يقتلونه بل القتيل منهم و ذلك لأن أكثر الزنج الذين أشار إليهم كانوا عبيدا لدهاقين البصرة و بناتها و لم يكونوا ذوي زوجات و أولاد بل كانوا على هيئة الشطار عزابا فلا نادبة لهم و قوله و لا يفقد غائبهم يريد به كثرتهم و أنهم كلما قتل منهم قتيل سد مسده غيره فلا يظهر أثر فقده و قوله أنا كأب الدنيا لوجهها مثل الكلمات المحكية عن عيسى ع أنا الذي كببت الدنيا على وجهها ليس لي زوجة تموت و لا بيت يخرب وسادي الحجر و فراشي المدر و سراجي القمر
أخبار صاحب الزنج و فتنته و ما انتحله من عقائد
فأما صاحب الزنج هذا فإنه ظهر في فرات البصرة في سنة خمس و خمسين و مائتين رجل زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع فتبعه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ في البصرة و أكثر الناس يقدحون في نسبه و خصوصا الطالبيين و جمهور النسابين اتفقوا على أنه من عبد القيس و أنه علي بن محمد بن عبد الرحيم و أمه أسدية من أسد بن خزيمة جدها محمد بن حكيم الأسدي من أهل الكوفة أحد الخارجين مع زيد بن علي بن الحسين ع على هشام بن عبد الملك فلما قتل زيد هرب فلحق بالري و جاء إلى القرية التي يقال لها ورزنين فأقام بها مدة و بهذه القرية ولد علي بن محمد صاحب الزنج و بها منشؤه و كان أبو أبيه المسمى عبد الرحيم رجلا من عبد القيس كان مولده بالطالقان فقدم العراق و اشترى جارية سندية فأولدها محمدا أباه و كان علي هذا متصلا بجماعة من حاشية السلطان و خول بني العباس منهم غانم الشطرنجي و سعيد الصغير و بشير خادم المنتصر و كان منهم معاشه و من قوم من كتاب الدولة يمدحهم و يستمنحهم بشعره و يعلم الصبيان الخط و النحو و النجوم و كان حسن الشعر مطبوعا عليه فصيح اللهجة بعيد الهمة تسمو نفسه إلى معالي الأمور و لا يجد إليها سبيلا و من شعره القصيدة المشهورة التي أولها
رأيت المقام على الاقتصاد قنوعا به ذلة في العباد
و من جملتها
- إذا النار ضاق بها زندها ففسحتها في فراق الزناد
- إذا صارم قر في غمده حوى غيره السبق يوم الجلاد
و من الشعر المنسوب إليه
- و أنا لتصبح أسيافنا إذا ما انتضين ليوم سفوك
- منابرهن بطون الأكف و أغمادهن رءوس الملوك
و من شعره في الغزل
- و لما تبينت المنازل بالحمى و لم أقض منها حاجة المتورد
- زفرت إليها زفرة لو حشوتها سرابيل أبدان الحديد المسرد
- لرقت حواشيها و ظلت متونها تلين كما لانت لداود في اليد
و من شعره أيضا
- و إذا تنازعني أقول لها قري موت يريحك أو صعود المنبر
- ما قد قضى سيكون فاصطبري له و لك الأمان من الذي لم يقدر
و قد ذكر المسعودي في كتابه المسمى مروج الذهب أن أفعال علي بن محمد صاحب الزنج تدل على أنه لم يكن طالبيا و تصدق ما رمي به من دعوته في النسب لأن ظاهر حاله كان ذهابه إلى مذهب الأزارقة في قتل النساء و الأطفال و الشيخ الفاني و المريض و قد روي أنه خطب مرة فقال في أول خطبته لا إله إلا الله و الله أكبر الله أكبر لا حكم إلا لله و كان يرى الذنوب كلها شركا و من الناس من يطعن في دينه و يرميه بالزندقة و الإلحاد و هذا هو الظاهر من أمره لأنه كان متشاغلا في بدايته بالتنجيم و السحر و الأصطرلابات و ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري أن علي بن محمد شخص من سامراء و كان يعلم الصبيان بها و يمدح الكتاب و يستميح الناس في سنة تسع و أربعين و مائتين إلى البحرين فادعى بها أنه علي بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب ع و دعا الناس بهجر إلى طاعته فاتبعه جماعة كثيرة من أهلها و اتبعه جماعة أخرى فكانت بسببه بين الذين اتبعوه و الذين أبوه عصبية قتل فيها بينهم جماعة فانتقل عنهم لما حدث ذلك إلى الأحساء و ضوى إلى حي من بني تميم ثم من بني سعد يقال لهم بنو الشماس فكان بينهم مقامه و قد كان أهل البحرين أحلوه من أنفسهم محل النبي ص فيما ذكر حتى جبي له الخراج هنالك و نفذ حكمه فيهم و قاتلوا أسباب السلطان لأجله و وتر منهم جماعة كثيرة فتنكروا له فتحول عنهم إلى البادية و لما انتقل إلى البادية صحبه جماعة من أهل البحرين منهم رجل كيال من أهل الأحساء يقال له يحيى بن محمد الأزرق مولى بني دارم و يحيى بن أبي ثعلب و كان تاجرا من أهل هجر و بعض موالي بني حنظلة أسود يقال له سليمان بن جامع و كان قائد جيشه حيث كان بالبحرين ثم تنقل في البادية من حي إلى حي فذكر عنه أنه كان يقول أوتيت في تلك الأيام آيات من آيات إمامتي منها أني لقيت سورا من القرآن لم أكن أحفظها فجرى بها لساني في ساعة واحدة منها سبحان و الكهف و صاد و منها أني ألقيت نفسي على فراشي و جعلت أفكر في الموضع الذي أقصد له و أجعل مقامي به إذا نبت البادية بي و ضقت ذرعا بسوء طاعة أهلها فأظلتني سحابه فبرقت و رعدت و اتصل صوت الرعد منها بسمعي فخوطبت فقيل لي اقصد البصرة فقلت لأصحابي و هم يكتنفونني إني أمرت بصوت من هذا الرعد بالمصير إلى البصرة و ذكر عنه أنه عند مصيره إلى البادية أوهم أهلها أنه يحيى بن عمر أبو الحسين المقتول بناحية الكوفة في أيام المستعين فاختدع بذلك قوما منهم حتى اجتمع عليه منهم جماعة فزحف بهم إلى موضع من البحرين يقال له الردم فكانت بينه و بين أهله وقعة عظيمة كانت الدبرة فيها عليه و على أصحابه قتلوا فيها قتلا ذريعا فتفرقت عنه العرب و كرهته و تجنبت صحبته فلما تفرقت العرب عنه و نبت به البادية شخص عنها إلى البصرة فنزل بها في بني ضبيعة فاتبعه بها جماعة منهم علي بن أبان المعروف بالمهلبي من ولد المهلب بن أبي صفرة و أخواه محمد و الخليل و غيرهم و كان قدومه البصرة في سنة أربع و خمسين و مائتين و عامل السلطان بها يومئذ محمد بن رجاء و وافق ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية و السعدية فطمع في أحد الفريقين أن يميل إليه فأرسل أربعة من أصحابه يدعون إليه و هم محمد بن سلم القصاب الهجري و بريش القريعي و علي الضراب و الحسين الصيدناني و هم الذين كانوا صحبوه بالبحرين فلم يستجب لهم أحد من أهل البلد و ثار عليهم الجند فتفرقوا و خرج علي بن محمد من البصرة هاربا و طلبه ابن رجاء فلم يقدر عليه و أخبر ابن رجاء بميل جماعة من أهل البصرة إليه فأخذهم فحبسهم و حبس معهم زوجة علي بن محمد و ابنه الأكبر و جارية له كانت حاملا و مضى علي بن محمد لوجهه يريد بغداد و معه قوم من خاصته منهم محمد بن سلم و يحيى بن محمد و سليمان بن جامع و بريش القريعي فلما صاروا بالبطيحة نذر بهم بعض موالي الباهليين كان يلي أمر البطيحة فأخذهم و حملهم إلى محمد بن أبي عون و هو عامل السلطان بواسط فاحتال لابن أبي عون حتى تخلص هو و أصحابه من يده ثم صار إلى بغداد فأقام بها سنة و انتسب في هذه السنة إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد و كان يزعم أنه ظهر له أيام مقامه ببغداد في هذه السنة آيات و عرف ما في ضمائر أصحابه و ما يفعله كل واحد منهم و أنه سأل ربه أن يعلمه حقيقة أمور كانت في نفسه فرأى كتابا يكتب له على حائط و لا يرى شخص كاتبه
قال أبو جعفر و استمال ببغداد جماعة منهم جعفر بن محمد الصوحاني من ولد زيد بن صوحان العبدي و محمد بن القاسم و غلامان لبني خاقان و هما مشرق و رفيق فسمى مشرقا حمزة و كناه أبا أحمد و سمى رفيقا جعفرا و كناه أبا الفضل فلما انقضى عامه ذلك ببغداد عزل محمد بن رجاء عن البصرة فوثبت رؤساء الفتنة بها من البلالية و السعدية ففتحوا المحابس و أطلقوا من كان فيها فتخلص أهله و ولده فيمن تخلص فلما بلغه ذلك شخص عن بغداد فكان رجوعه إلى البصرة في شهر رمضان من سنة خمس و خمسين و مائتين و معه علي بن أبان المهلبي و قد كان لحق به و هو بمدينة السلام مشرق و رفيق و أربعة أخر من خواصه و هم يحيى بن محمد و محمد بن سلم و سليمان بن جامع و أبو يعقوب المعروف بجربان فساروا جميعا حتى نزلوا بالموضع المعروف ببرنخل من أرض البصرة في قصر هناك يعرف بقصر القرشي على نهر يعرف بعمود بن المنجم كان بنو موسى بن المنجم احتفروه و أظهر أنه وكيل لولد الواثق في بيع ما يملكونه هناك من السباخ قال أبو جعفر فذكر عن ريحان بن صالح أحد غلمان الشورجيين الزنوج و هو أول من صحبه منهم قال كنت موكلا بغلمان مولاي أنقل الدقيق إليهم فمررت به و هو مقيم بقصر القرشي يظهر الوكالة لأولاد الواثق فأخذني أصحابه و صاروا بي إليه و أمروني بالتسليم عليه بالإمرة ففعلت ذلك فسألني عن الموضع الذي جئت منه فأخبرته أني أقبلت من البصرة فقال هل سمعت لنا بالبصرة خبرا قلت لا قال فخبر البلالية و السعدية قلت لم أسمع لهم خبرا فسألني عن غلمان الشورجيين و ما يجري لكل جماعة منهم من الدقيق و السويق و التمر و عمن يعمل في الشورج من الأحرار و العبيد فأعلمته ذلك فدعاني إلى ما هو عليه فأجبته فقال لي احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان فأقبل بهم إلي و وعدني أن يقودني على من آتيه به منهم و أن يحسن إلي و استحلفني ألا أعلم أحدا بموضعه و أن أرجع إليه فخلى سبيلي فأتيت بالدقيق الذي معي إلى غلمان مولاي و أخبرتهم خبره و أخذت له البيعة عليهم و وعدتهم عنه بالإحسان و الغنى و رجعت إليه من غد ذلك اليوم و قد وافاه رفيق غلام الخاقانية و قد كان وجهه إلى البصرة يدعو إليه غلمان الشورج و وافى إليه صاحب له آخر يعرف بشبل بن سالم قد كان دعا إليه قوما منهم أيضا و أحضر معه حريرة كان أمره بابتياعها ليتخذها لواء فكتب فيها بالحمرة إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية و كتب اسمه و اسم أبيه عليها و علقها في رأس مردي و خرج وقت السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان فلما صار إلى مؤخر القصر الذي كان فيه لقيه غلمان رجل من الشورجيين يعرف بالعطار متوجهين إلى أعمالهم فأمر بأخذ وكيلهم فأخذ و كتف و استضم غلمانه إلى غلمانه و كانوا خمسين غلاما ثم صار إلى الموضع المعروف بالسنائي فاتبعه الغلمان الذين كانوا فيه و هم خمسمائة غلام فيهم الغلام المعروف بأبي حديد و أمر بأخذ وكيلهم و كتفه ثم مضى إلى الموضع المعروف بالسيرافي فاتبعه من كان فيه من غلمان و هم مائة و خمسون غلاما منهم زريق و أبو الخنجر ثم صار إلى الموضع المعروف بسبخة ابن عطاء فأخذ طريفا و صبيحا الأعسر و راشد المغربي و راشد القرمطي و كل هؤلاء من وجوه الزنج و أعيانهم الذين صاروا قوادا و أمراء في جيوشهم و أخذ معهم ثمانين غلاما ثم أتى إلى الموضع المعروف بغلام سهل الطحان فاستضاف من كان به من الغلمان ثم لم يزل يفعل مثل ذلك في يومه حتى اجتمع إليه بشر كثير من الزنج ثم قام فيهم آخر الليل خطيبا فمناهم و وعدهم أن يقودهم و يرئسهم و يملكهم الأموال و الضياع و حلف لهم بالأيمان الغليظة ألا يغدر بهم و لا يخذلهم و لا يدع شيئا من الإحسان إلا أتى إليهم
ثم دعا وكلاءهم فقال قد أردت ضرب أعناقكم لما كنتم تأتون إلى هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم و قهرتموهم و فعلتم بهم ما حرم الله عليكم أن تفعلوه بهم و كلفتموهم ما لا يطيقونه فكلمني أصحابي فيكم فرأيت إطلاقكم فقالوا له أصلحك الله إن هؤلاء الغلمان أباق و إنهم سيهربون منك فلا يبقون عليك و لا علينا فخذ من مواليهم مالا و أطلقهم فأمر الغلمان فأحضروا شطوبا ثم بطح كل قوم وكيلهم فضرب كل رجل منهم خمسمائة شطبة و أحلفهم بطلاق نسائهم ألا يعلموا أحدا بموضعه ثم أطلقهم فمضوا نحو البصرة و مضى رجل منهم حتى عبر دجيل الأهواز فأنذر الشورجيين ليحفظوا غلمانهم و كان هناك خمسة عشر ألف غلام زنجي ثم سار و عبر دجيلا و سار إلى نهر ميمون بأصحابه و اجتمع إليه السودان من كل جهة فلما كان يوم الفطر جمعهم و خطب خطبة ذكر فيها ما كانوا عليه من سوء الحال و أن الله تعالى قد استنقذهم من ذلك و أنه يريد أن يرفع أقدارهم و يملكهم العبيد و الأموال و المنازل و يبلغ بهم أعلى الأمور ثم حلف لهم على ذلك فلما فرغ من خطبته أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهموه من لا فهم له من عجمهم لتطيب بذلك أنفسهم ففعلوا ذلك قال أبو جعفر فلما كان في اليوم الثالث من شوال وافاه الحميري أحد عمال السلطان بتلك النواحي في عدد كثير فخرج إليه صاحب الزنج في أصحابه فطرده و هزم أصحابه حتى صاروا في بطن دجلة و استأمن إلى صاحب الزنج رجل من رؤساء السودان يعرف بأبي صالح القصير في ثلاثمائة من الزنج فلما كثر من اجتمع إليه من الزنج قود قواده و قال لهم من أتى منكم برجل من السودان فهو مضموم إليه
قال أبو جعفر و انتهى إليه أن قوما من أعوان السلطان هناك منهم خليفة بن أبي عون علي الأبلة و منهم الحميري قد أقبلوا نحوه فأمر أصحابه بالاستعداد لهم فاجتمعوا للحرب و ليس في عسكره يومئذ إلا ثلاثة أسياف سيفه و سيف علي بن أبان و سيف محمد بن سلم و لحقه القوم و نادى الزنج فبدر مفرج النوبي و المكنى بأبي صالح و ريحان بن صالح و فتح الحجام و قد كان فتح حينئذ يأكل و بين يديه طبق فلما نهض تناول ذلك الطبق و تقدم أمام أصحابه فلقيه رجل من عسكر أصحاب السلطان فلما رآه فتح حمل عليه و حذفه بالطبق الذي كان في يده فرمى الرجل سلاحه و ولى هاربا و انهزم القوم كلهم و كانوا أربعة آلاف فذهبوا على وجوههم و قتل من قتل منهم و مات بعضهم عطشا و أسر كثير منهم فأتى بهم صاحب الزنج فأمر بضرب أعناقهم فضربت و حملت الرءوس على بغال كان أخذها من الشورجيين كانت تنقل الشورج قال أبو جعفر و مر في طريقه بالقرية المعروفة بالمحمدية فخرج منها رجل من موالي الهاشميين فحمل على بعض السودان فقتله و دخل القرية فقال له أصحابه ائذن لنا في انتهاب القرية و طلب قاتل صاحبنا فقال لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند أهلها و هل فعل القاتل ما فعل عن رأيهم و نسائلهم أن يدفعوه إلينا فإن فعلوا و إلا حل لنا قتالهم و عجل المسير من القرية فتركها و سار قال أبو جعفر ثم مر على القرية المعروفة بالكرخ فأتاه كبراؤها و أقاموا له الأنزال و بات ليلته تلك عندهم فلما أصبح أهدى له رجل من أهل القرية المسماة جبى فرسا كميتا فلم يجد سرجا و لا لجاما فركبه بحبل و سنفه بحبل ليف
قلت هذا تصديق قول أمير المؤمنين ع كأنه به قد سار في الجيش الذي ليس له غبار و لا لجب و لا قعقعة لجم و لا حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام قال أبو جعفر و أول مال صار إليه مائتا دينار و ألف درهم لما نزل القرية المعروفة بالجعفرية أحضر بعض رؤسائها و سأله عن المال فجحد فأمر بضرب عنقه فلما خاف أحضر له هذا القدر و أحضر له ثلاثة برازين كميتا و أشقر و أشهب فدفع أحدها إلى محمد بن سلم و الآخر إلى يحيى بن محمد و الآخر إلى مشرق غلام الخاقانية و وجدوا في دار لبعض الهاشميين سلاحا فانتهبوه فصار ذلك اليوم بأيدي بعض الزنج سيوف و آلات و أتراس قال أبو جعفر ثم كانت بينه و بين من يليه من أعوان السلطان كالحميري و رميس و عقيل و غيرهم وقعات كان الظفر فيها كلها له و كان يأمر بقتل الأسرى و يجمع الرءوس معه و ينقلها من منزل إلى منزل و ينصبها أمامه إذا نزل و أوقع الهيبة و الرهبة في صدور الناس بكثرة القتلى و قلة العفو و على الخصوص المأسورين فإنه كان يضرب أعناقهم و لا يستبقي منهم أحدا قال أبو جعفر ثم كان له مع أهل البصرة وقعة بعد ذلك سار يريدها في ستة آلاف زنجي فاتبعه أهل الناحية المعروفة بالجعفرية ليحاربوه فعسكر عليهم فقتل منهم مقتلة عظيمة أكثر من خمسمائة رجل فلما فرغ منهم صمد نحو البصرة و اجتمع أهلها و من بها من الجند و حاربوه حربا شديدا فكانت الدائرة عليه و انهزم أصحابه و وقع كثير منهم في النهرين المعروفين بنهر كثير و نهر شيطان و جعل يهتف بهم و يردهم و لا يرجعون و غرق من أعيان جنده و قواده جماعة منهم أبو الجون و مبارك البحراني و عطاء البربري و سلام الشامي فلحقه قوم من جند البصرة و هو على قنطرة نهر كثير فرجع إليهم بنفسه و سيفه في يده فرجعوا عنه حتى صاروا إلى الأرض و هو يومئذ في دراعة و عمامة و نعل و سيف و في يده اليسرى ترس و نزل عن القنطرة فصعدها البصريون يطلبونه فرجع إليهم فقتل منهم رجلا بيده على خمس مراق من القنطرة و جعل يهتف بأصحابه و يعرفهم مكانه و لم يكن بقي معه في ذلك الموضع من أصحابه إلا أبو الشوك و مصلح و رفيق و مشرق غلاما الخاقانية و ضل أصحابه عنه و انحلت عمامته فبقي على رأسه كور منها أو كوران فجعل يسحبها من ورائه و يعجله المشي عن رفعها و أسرع غلاما الخاقانية في الانصراف و قصر عنهما فغابا عنه فاتبعه رجلان من أهل البصرة بسيفيهما فرجع إليهما فانصرفا عنه و خرج إلى الموضع الذي فيه مجمع أصحابه و قد كانوا تحيروا فلما رأوه سكنوا قال أبو جعفر ثم سأل عن رجاله و إذا قد هرب كثير منهم و نظر فإذا هو من جميع أصحابه في مقدار خمسمائة رجل فأمر بالنفخ في البوق الذي كانوا يجتمعون لصوته فنفخ فيه فلم يرجع إليه أحد قال و انتهب أهل البصرة سفنا كانت معه و ظفروا بمتاع من متاعه و كتب من كتبه و أصطرلابات كان معه ثم تلاحق به جماعة ممن كان هرب فأصبح و إذا معه ألف رجل فأرسل محمد بن سلم و سليمان بن جامع و يحيى بن محمد إلى أهل البصرة يعظهم و يعلمهم أنه لم يخرج إلا غضبا لله و للدين و نهيا عن المنكر فعبر محمد بن سلم حتى توسط أهل البصرة و جعل يكلمهم و يخاطبهم فرأوا منه غرة فوثبوا عليه فقتلوه و رجع سليمان و يحيى إلى صاحب الزنج فأخبراه فأمرهما بطي ذلك عن أصحابه حتى يكون هو الذي يخبرهم فلما صلى بهم العصر نعى إليهم محمد بن سلم و قال لهم إنكم تقتلون به في غد عشرة آلاف من أهل البصرة قال أبو جعفر و كان الوقعة التي كانت الدبرة عليه فيها يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلون من ذي القعدة سنة خمس و خمسين و مائتين فلما كان يوم الإثنين جمع له أهل البصرة و حشدوا لما رأوا من ظهورهم عليه يوم الأحد و انتدب لذلك رجل من أهل البصرة يعرف بحماد الساجي و كان من غزاة البحر في الشذا و له علم بركوبها و الحرب فيها فجمع المطوعة و رماه الأهداف و أهل المسجد الجامع و من خف معه من حزبي البلالية و السعدية و من غير هذه الأصناف من الهاشميين و القرشيين و من يحب النظر و مشاهدة الحرب من سائر أصناف الناس و شحن ثلاثة مراكب من الشذا بالرماة و جعل الناس يزدحمون في الشذا حرصا على حضور ذلك المشهد و مضى جمهور الناس رجالة منهم من معه سلاح و منهم من لا سلاح معه بل نظارة فدخلت السفن النهر المعروف بأم حبيب بعد زوال الشمس من ذلك اليوم في المد و مرت الرجالة و النظارة على شاطئ النهر قد سدوا ما ينفذ فيه البصر كثرة و تكاثفا فوجه صاحب الزنج صاحبه زريقا و أبا الليث الأصبهاني فجعلهم كمينا من الجانب الشرقي من نهر شيطان و كان مقيما بموضع منه و وجه صاحبيه شبلا و حسينا الحمامي فجعلهما كمينا في غربيه و مع كل من الكمينين جماعة و أمر علي بن أبان المهلبي أن يتلقى القوم فيمن بقي معه من جمعه و أمره أن يستتر هو و أصحابه بتراسهم و لا يثور إليهم منه ثائر حتى يوافيهم القوم و يخالطوهم بأسيافهم فإذا فعلوا ذلك ثاروا إليهم و تقدم إلى الكمينين إذا جاوزهما الجمع و أحسا بثورة أصحابهم إليهم أن يخرجا من جنبي النهر و يصيحا بالناس و كان يقول لأصحابه بعد ذلك لما أقبل إلى جمع البصرة و عاينته رأيت أمرا هائلا راعني و ملأ صدري رهبة و جزعا ففزعت إلى الدعاء و ليس معي من أصحابي إلا نفر يسير منهم مصلح و ليس منا أحد إلا و قد خيل إليه مصرعه فجعل مصلح يعجبني من كثرة ذلك الجمع و جعلت أومئ إليه أن اسكت فلما قرب القوم مني قلت اللهم إن هذه ساعة العسرة فأعني فرأيت طيورا بيضا أقبلت فتلقت ذلك الجمع فلم أستتم دعائي حتى بصرت بسميرية من سفنهم قد انقلبت بمن فيها فغرقوا ثم تلتها الشذا فغرقت واحدة بعد واحدة و ثار أصحابي إلى القوم و خرج الكمينان من جنبي النهر و صاحوا و خبطوا الناس فغرقت طائفة و قتلت طائفة و هربت طائفة نحو الشط طمعا فأدركها السيف فمن ثبت قتل و من رجع إلى الماء غرق حتى أبيد أكثر ذلك الجمع و لم ينج منهم إلا الشريد و كثر المفقودون بالبصرة و علا العويل من نسائهم قال أبو جعفر و هذا يوم الشذا الذي ذكره الناس في أشعارهم و عظموا ما فيه من القتل فكان ممن قتل من بني هاشم جماعة من ولد جعفر بن سليمان و انصرف صاحب الزنج و جمع الرءوس و ملأ بها سفنا و أخرجها من النهر المعروف بأم حبيب في الجزر و أطلقها فوافت البصرة فوقفت في مشرعة تعرف بمشرعة القيار فجعل الناس يأتون تلك الرءوس فيأخذ رأس كل رجل أولياؤه و قوي صاحب الزنج بعد هذا اليوم و سكن الرعب قلوب أهل البصرة منه و أمسكوا عن حربه و كتب إلى السلطان بخبره فوجه جعلان التركي مددا لأهل البصرة في جيش ذوي عدة و أسلحة قال أبو جعفر و قال أصحاب علي بن محمد له أنا قد قتلنا مقاتلة أهل البصرة و لم يبق فيها إلا ضعفاؤهم و من لا حراك به فأذن لنا في تقحمها فنهاهم و هجن آراءهم و قال بل نبعد عنها فقد رعبناهم و أخفناهم و لنقتحمها وقتا آخر و انصرف بأصحابه إلى سبخة في آخر أنهار البصرة تعرف بسبخة أبي قرة قريبة من النهر المعروف بالحاجر فأقام هناك و أمر أصحابه باتخاذ الأكواخ و هذه السبخة متوسطة النخل و القرى و العمارات و بث أصحابه يمينا و شمالا يعيثون و يغيرون على القرى و يقتلون الأكرة و ينهبون أموالهم و يسرقون مواشيهم و جاءه شخص من أهل الكتاب من اليهود يعرف بمارويه فقبل يده و سجد له و سأله عن مسائل كثيرة فأجابه عنها فزعم اليهودي أنه يجد صفته في التوراة و أنه يرى القتال معه و سأله عن علامات في يده و جسده ذكر أنها مذكورة في الكتب فأقام معه قال أبو جعفر و لما صار جعلان التركي إلى البصرة بعسكره أقام ستة أشهر يحارب صاحب الزنج فإذا التقوا لم يكن بينهم إلا الرمي بالحجارة و النشاب و لم يجد جعلان إلى لقائه سبيلا لضيق الموضع بما فيه من النخل و الدغل عن مجال الخيل و لأن صاحب الزنج قد كان خندق على نفسه و أصحابه ثم إن صاحب الزنج بيت جعلان فقتل جماعة من أصحابه و روع الباقون روعا شديدا فانصرف جعلان إلى البصرة و وجه إليه مقاتلة السعدية و البلالية في جمع كثيف فواقعهم صاحب الزنج فقهرهم و قتل منهم مقتلة عظيمة و انصرفوا مفلولين و رجع جعلان بأصحابه إلى البصرة فأقام بها معتصما بجدرانها و ظهر عجزه للسلطان فصرفه عن حرب الزنج و أمر سعيد الحاجب بالشخوص إلى البصرة لحربهم قال أبو جعفر و اتفق لصاحب الزنج من السعادة أن أربعا و عشرين مركبا من مراكب البحر كانت اجتمعت تريد البصرة و انتهى إلى أصحابها خبر الزنج و قطعهم السبل و فيها أموال عظيمة للتجار فاجتمعت آراؤهم على أن شدوا المراكب بعضها إلى بعض حتى صارت كالجزيرة يتصل أولها بآخرها و سارت في دجلة فكان صاحب الزنج يقول نهضت ليلة إلى الصلاة و أخذت في الدعاء و التضرع فخوطبت بأن قيل لي قد أظلك فتح عظيم فالتفت فلم ألبث أن طلعت المراكب فنهض أصحابي إليها في شذاتها فلم يلبثوا أن حووها و قتلوا مقاتلتها و سبوا ما فيها من الرقيق و غنموا منها أموالا لا تحصى و لا يعرف قدرها فأنهبت ذلك أصحابي ثلاثة أيام و أمرت بما بقي منها فحيز لي قال أبو جعفر ثم دخل الزنج الأبلة في شهر رجب من سنة ست و خمسين و مائتين و ذلك أن جعلان لما تنحى إلى البصرة ألح صاحب الزنج بالسرايا على أهل الأبلة فجعل يحاربهم من ناحية شط عثمان بالرجالة و بما خف له من السفن من ناحية دجلة و جعلت سراياه تضرب إلى ناحية نهر معقل فذكر عن صاحب الزنج أنه قال ميلت بين عبادان و الأبلة فملت إلى التوجه إلى عبادان فندبت الرجال إلى ذلك فخوطبت و قيل لي إن أقرب عدو دارا و أولاه ألا يتشاغل عنه بغيره أهل الأبلة فرددت بالجيش الذي كنت سيرته نحو عبادان إلى الأبلة و لم يزالوا يحاربون أهلها إلى أن اقتحموها و أضرموها نارا و كانت مبنية بالساج بناء متكاثفا فأسرعت فيها النار و نشأت ريح عاصف فأطارت شرر ذلك الحريق إلى أن انتهى إلى شط عثمان و قتل بالأبلة خلق كثير و حويت الأسلاب و الأموال على أن الذي أحرق منها كان أكثر مما انتهب و استسلم أهل عبادان بعدها لصاحب الزنج فإن قلوبهم ضعفت و خافوه على أنفسهم و حرمهم فأعطوا بأيديهم و سلموا إليه بلدهم فدخلها أصحابه فأخذوا من كان فيها من العبيد و حملوا ما كان فيها من السلاح ففرقه على أصحابه و صانعه أهلها بمال كف به عنهم قال أبو جعفر ثم دخل الزنج بعد عبادان إلى الأهواز و لم يثبت لهم أهلها فأحرقوا ما فيها و قتلوا و نهبوا و أخربوا فكان بالأهواز إبراهيم بن محمد المدبر الكاتب و إليه خراجها و ضياعها فأسروه بعد أن ضربوه ضربة على وجهه و حووا كل ما كان يملكه من مال و أثاث و رقيق و كراع و اشتد خوف أهل البصرة و انتقل كثير من أهلها عنها و تفرقوا في بلاد شتى و كثرت الأراجيف من عوامها قال أبو جعفر فلما دخلت سنة سبع و خمسين أنفذ السلطان بغراج التركي على حرب البصرة و سعيد بن صالح الحاجب للقاء صاحب الزنج و أمر بغراج بإمداده بالرجال فلما صار سعيد إلى نهر معقل وجد هناك جيشا لصاحب الزنج في النهر المعروف بالمرغاب فأوقع بهم سعيد فهزمهم و استنقذ ما في أيديهم من النساء و النهب و أصابت سعيدا في تلك الوقعة جراحات منها جراحة في فيه ثم بلغه أن جيشا لصاحب الزنج في الموضع المعروف بالفرات فتوجه إليه فهزمه و استأمن إليه بعض قواد صاحب الزنج حتى لقد كان المرأة من سكان ذلك الموضع تجد الزنجي مستترا بتلك الأدغال فتقبض عليه حتى تأتي به عسكر سعيد ما به عنها امتناع ثم قصد سعيد حرب صاحب الزنج فعبر إليه إلى غربي دجلة فأوقع به وقعات متتالية كلها يكون الظفر فيها لسعيد إلى أن تهيأ لصاحب الزنج عليه أن وجه إلى يحيى بن محمد البحراني صاحبه و هو إذ ذاك مقيم بنهر معقل في جيش من الزنج فأمره بتوجيه ألف رجل من أصحابه عليهم سليمان بن جامع و أبو الليث القائدان و يأمرهما بقصد عسكر سعيد ليلا حتى يوقعا به وقت طلوع الفجر من ليلة عينها لهم ففعلا ذلك و صارا إلى عسكر سعيد في ذلك الوقت فصادفا منه غرة و غفلة فأوقعا به و بأصحابه وقت طلوع الفجر فقتل منهم مقتلة عظيمة و أصبح سعيد و قد ضعف أمره و اتصل بالسلطان خبره فأمره بالانصراف إلى باب السلطان و تسليم الجيش الذي معه إلى منصور بن جعفر الخياط و كان إليه يومئذ حرب الأهواز و كوتب بحرب صاحب الزنج و أن يصمد له فكانت بينهم وقعة كان الظفر فيها للزنج فقتل من أصحاب منصور خلق كثير عظيم و حمل من الرءوس خمسمائة رأس إلى عسكر يحيى بن محمد البحراني القائد فنصبت على نهر معقل قال أبو جعفر ثم كانت بين الزنج و بين أصحاب السلطان بالأهواز وقعات كثيرة تولاها علي بن أبان المهلبي فقتل شاهين بن بسطام و كان من أكابر أصحاب السلطان و هزم إبراهيم بن سيما و كان أيضا من الأمراء المشهورين و استولى الزنج على عسكره قال أبو جعفر ثم كانت الواقعة العظمى بالبصرة في هذه السنة و ذلك أن صاحب الزنج قطع الميرة عنهم فأضر ذلك بهم و ألح بجيوشه و زنوجه عليهم بالحرب صباحا و مساء فلما كان في شوال من هذه السنة أزمع على جمع أصحابه للهجوم على البصرة و الجد في خراجها و ذلك لعلمه بضعف أهلها و تفرقهم و إضرار الحصار بهم و خراب ما حولها من القرى و كان قد نظر في حساب النجوم و وقف على انكساف القمر الليلة الرابعة عشرة من هذا الشهر فذكر محمد بن الحسن بن سهل أنه قال سمعته يقول اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة و ابتهلت إلى الله تعالى في تعجيل خرابها فخوطبت و قيل لي إنما البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة فأولت انكسار نصف الرغيف بانكساف نصف القمر المتوقع في هذه الليالي و ما أخلق أمر أهل البصرة أن يكون بعده قال فكان يحدث بهذا حتى أفاض فيه أصحابه و كثر تردده في أسماعهم و إجالتهم إياه بينهم ثم ندب محمد بن يزيد الدارمي و هو أحد من كان صحبه بالبحرين للخروج إلى الأعراب و استنفار من قدر عليه منهم فأتاه منهم بخلق كثير و وجه إلى البصرة سليمان بن موسى الشعراني فأمره بتطرق البصرة و الإيقاع بأهلها و تقدم إلى سليمان بن موسى بتمرين الأعراب على ذلك فلما وقع الكسوف أنهض إليها علي بن أبان و ضم إليه جيشا من الزنج و طائفة من الأعراب و أمره بإتيان البصرة مما يلي بني سعد و كتب إلى يحيى بن محمد البحراني في إتيانها مما يلي نهر عدي و ضم باقي الأعراب إليه فكان أول من واقع أهل البصرة علي بن أبان و بغراج التركي يومئذ بالبصرة في جماعة من الجند فأقام يقاتلهم يومين و أقبل يحيى بن محمد مما يلي قصر أنس قاصدا نحو الجسر فدخل علي بن أبان البلد وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة بقين من شوال فأقبل يقتل الناس و يحرق المنازل و الأسواق بالنار فتلقاه بغراج و إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان الهاشمي المعروف ببريه و كان وجيها مقدما مطاعا في جمع عظيم فرداه فرجع فأقام ليلته تلك ثم غاداهم و قد تفرق جند البصرة فلم يكن في وجهه أحد يدافعه و انحاز بغراج بمن معه و هرب إبراهيم بن محمد الهاشمي المعروف ببريه فوضع علي بن أبان السيف في الناس و جاء إليه إبراهيم بن محمد المهلبي و هو ابن عمه فاستأمنه لأهل البصرة فحضر أهل البصرة قاطبة فأمنهم و نادى مناديه من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم بن محمد المهلبي فحضر أهل البصرة قاطبة حتى ملئوا الأزقة فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة فأمر بأخذ السكك و الطرق عليهم و غدر بهم و أمر الزنوج بوضع السيف فيهم فقتل كل من شهد ذلك المشهد ثم انصرف آخر نهار يومه ذلك فأقام بقصر عيسى بن جعفر بالخربية و روى أبو جعفر قال حدثني محمد بن الحسن بن سهل قال حدثني محمد بن سمعان قال كنت يومئذ بالبصرة فمضيت مبادرا إلى منزلي لأتحصن به و هو في سكة المربد فلقيت أهل البصرة هاربين يدعون بالويل و الثبور و في آخرهم القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشمي على بغل متقلدا سيفا يصيح بالناس ويحكم تسلمون بلدكم و حرمكم هذا عدوكم قد دخل البلد فلم يلووا عليه و لم يسمعوا منه فمضى هاربا و دخلت أنا منزلي و أغلقت بابي و أشرفت فمر بي الأعراب و رجالة الزنج يقدمهم رجل على حصان كميت بيده رمح و عليه عذبة صفراء فسألت بعد ذلك عنه فقيل لي إنه علي بن أبان قال و نادى منادي علي بن أبان من كان من آل المهلب فليدخل دار إبراهيم بن يحيى المهلبي فدخلت جماعة قليلة و أغلق الباب دونهم ثم قيل للزنج دونكم الناس فاقتلوهم و لا تبقوا منهم أحدا و خرج إليهم أبو الليث الأصفهاني أحد قود الزنج فقال للزنج كيلوا و هي العلامة التي كانوا يعرفونها فيمن يؤمرون بقتله فأخذ الناس السيف قال فو الله إني لأسمع تشهدهم و ضجيجهم و هم يقتلون و قد ارتفعت أصواتهم بالتشهد حتى سمعت بالطفاوة و هو على بعد من الموضع الذي كانوا فيه قال ثم انتشر الزنج في سكك البصرة و شوارعها يقتلون من وجدوا و دخل علي بن أبان يومئذ المسجد فأحرقه و بلغ إلى الكلاء فأحرقه إلى الجسر و أخذت النار كل ما مرت به من إنسان و بهيمة و أثاث و متاع ثم ألحوا بالغدو و الرواح على من وجدوه و يسوقونهم إلى يحيى بن محمد البحراني و هو نازل ببعض سكك البصرة فمن كان ذا مال قرره حتى يستخرج ماله ثم يقتله و من كان مختلا قتله معجلا قال أبو جعفر و قد كان علي بن أبان كف بعض الكف عن العيث بناحية بني سعد و راقب قوما من المهلبيين و أتباعهم فانتهى ذلك إلى علي بن محمد صاحب الزنج فصرفه عن البصرة و أقر يحيى بن محمد البحراني بها لموافقته على رأيه في الإثخان في القتل و وقوع ذلك بمحبته و كتب إلى يحيى بن محمد يأمره بإظهار الكف ليسكن الناس و يظهر المستخفي و من قد عرف باليسار و الثروة فإذا ظهر فليؤخذوا بالدلالة على ما دفعوه و أخفوه من أموالهم ففعل يحيى بن محمد ذلك و كان لا يخلو في اليوم من الأيام من جماعة يؤتى بهم فمن عرف منهم باليسار استنزف ما عنده ثم قتله و من ظهرت له خلته عاجله بالقتل حتى لم يدع أحدا ظهر له إلا قتله قال أبو جعفر و حدثني محمد بن الحسن قال لما انتهى إلى علي بن محمد عظيم ما فعل أصحابه بالبصرة سمعته يقول دعوت على أهل البصرة في غداة اليوم الذي دخل فيه أصحابي إليها و اجتهدت في الدعاء و سجدت و جعلت أدعو في سجودي فرفعت إلى البصرة فرأيتها و رأيت أصحابي يقاتلون فيها و رأيت بين السماء و الأرض رجلا واقفا في صورة جعفر المعلوف المتولي كان للاستخراج في ديوان الخراج بسامراء و هو قائم قد خفض يده اليسرى و رفع يده اليمنى يريد قلب البصرة فعلمت أن الملائكة تولت إخرابها دون أصحابي و لو كان أصحابي تولوا ذلك ما بلغوا هذا الأمر العظيم الذي يحكى عنها و لكن الله تعالى نصرني بالملائكة و أيدني في حروبي و ثبت بهم من ضعف قلبه من أصحابي قال أبو جعفر و انتسب صاحب الزنج في هذه الأيام إلى محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بعد انتسابه الذي كان إلى أحمد بن عيسى بن زيد و ذلك لأنه بعد إخرابه البصرة جاء إليه جماعة من العلوية الذين كانوا بالبصرة و أتاه فيمن أتاه منهم قوم من ولد أحمد بن عيسى بن زيد في جماعة من نسائهم و حرمهم فلما خافهم ترك الانتساب إلى أحمد بن عيسى و انتسب إلى محمد بن محمد بن زيد قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل قال كنت حاضرا عنده و قد حضر جماعة من النوفليين فقال له القاسم بن إسحاق النوفلي أنه انتهى إلينا أن الأمير من ولد أحمد بن عيسى بن زيد فقال لست من ولد عيسى أنا من ولد يحيى بن زيد قال محمد بن الحسن فانتقل من أحمد بن عيسى بن زيد إلى محمد بن محمد بن زيد ثم انتقل من محمد إلى يحيى بن زيد و هو كاذب لأن الإجماع واقع على أن يحيى بن زيد مات و لم يعقب و لم يولد له إلا بنت واحدة ماتت و هي ترضع فهذا ما ذكره أبو جعفر الطبري في التاريخ الكبير و ذكر علي بن الحسن المسعودي في مروج الذهب أن هذه الواقعة بالبصرة هلك فيها من أهلها ثلاثمائة ألف إنسان و أن علي بن أبان المهلبي بعد فراغه من الواقعة نصب منبرا في الموضع المعروف ببني يشكر صلى فيه يوم الجمعة و خطب لعلي بن محمد صاحب الزنج و ترحم بعد ذلك على أبي بكر و عمر و لم يذكر عثمان و لا عليا ع في خطبته و لعن أبا موسى الأشعري و عمرو بن العاص و معاوية بن أبي سفيان قال و هذا يؤكد ما ذكرناه و حكيناه من رأيه و أنه كان يذهب إلى قول الأزارقة قال و استخفى من سلم من أهل البصرة في آبار الدور فكانوا يظهرون ليلا فيطلبون الكلاب فيذبحونها و يأكلونها و الفأر و السنانير فأفنوها حتى لم يقدروا على شي ء منها فصاروا إذا مات الواحد منهم أكلوه فكان يراعي بعضهم موت بعض و من قدر على صاحبه قتله و أكله و عدموا مع ذلك الماء و ذكر عن امرأة منهم أنها حضرت امرأة قد احتضرت و عندها أختها و قد احتوشوها ينتظرون أن تموت فيأكلوا لحمها قالت المرأة فما ماتت حسناء حتى ابتدرناها فقطعنا لحمها فأكلناه و لقد حضرت أختها و نحن على شريعة عيسى بن حرب و هي تبكي و معها رأس الميت فقال لها قائل ويحك ما لك تبكين فقالت اجتمع هؤلاء على أختي فما تركوها تموت حسناء حتى قطعوها و ظلموني فلم يعطوني من لحمها شيئا إلا الرأس و إذا هي تبكي شاكية من ظلمهم لها في أختها قال و كان مثل هذا و أكثر منه و أضعافه و بلغ من أمر عسكره أنه ينادى فيه على المرأة من ولد الحسن و الحسين و العباس و غيرهم من أشراف قريش فكانت الجارية تباع منهم بدرهمين و بثلاثة دراهم و ينادى عليها بنسبها هذه ابنة فلان بن فلان و أخذ كل زنجي منهم العشرين و الثلاثين يطؤهن الزنج و يخدمن النساء الزنجيات كما تخدم الوصائف و لقد استغاثت إلى صاحب الزنج امرأة من ولد الحسن بن علي ع و كانت عند بعض الزنج و سألته أن يعتقها مما هي فيه أو ينقلها من عنده إلى غيره فقال لها هو مولاك و هو أولى بك قال أبو جعفر و أشخص السلطان لحرب صاحب الزنج محمدا المعروف بالمولد في جيش كثيف فجاء حتى نزل الأبلة و كتب صاحب الزنج إلى يحيى بن محمد البحراني يأمره بالمصير إليه فصار إليه بزنوجه و أقام على محاربته عشرة أيام ثم فتر المولد عن الحرب و كتب علي بن محمد إلى يحيى يأمره أن يبيته فبيته فهزمه و دخل الزنج عسكره فغنموا ما فيه و كتب يحيى إلى صاحب الزنج يخبره فأمره باتباعه فاتبعه إلى الحوانيت ثم انصرف عنه فمر بالجامدة و أوقع بأهلها و انتهب كل ما كان في تلك القرى و سفك ما قدر على سفكه من الدماء ثم عاد إلى نهر معقل قال أبو جعفر و اتصلت الأخبار بسامراء و بغداد و بالقواد و الموالي و أهل الحضرة بما جرى على أهل البصرة فقامت عليهم القيامة و علم المعتمد أنه لا يرتق هذا الفتق إلا بأخيه أبي أحمد طلحة بن المتوكل و كان منصورا مؤيدا عارفا بالحرب و قيادة الجيوش و هو الذي أخذ بغداد للمعتز و كسر جيوش المستعين و خلعه من الخلافة و لم يكن لبني العباس في هذا الباب مثله و مثل ابنه أبي العباس فعقد له المعتمد على ديار مضر و قنسرين و العواصم و جلس له مستهل شهر ربيع الآخر من سنة سبع و خمسين فخلع عليه و على مفلح و شخصا نحو البصرة لحرب علي بن محمد و إصلاح ما أفسده من الأعمال و ركب المعتمد ركوبا ظاهرا يشيع أخاه أبا أحمد إلى القرية المعروفة ببركوارا و عاد قال أبو جعفر و أما صاحب الزنج فإنه بعد هزيمة محمد المولد أنفذ علي بن أبان المهلبي إلى حرب منصور بن جعفر و إلى الأهواز فكانت بينهما حروب كثيرة في أيام متفرقة حتى كان آخرها اليوم الذي انهزم فيه أصحاب منصور و تفرقوا عنه و أدركت منصورا طائفة من الزنج فلم يزل يكر عليهم حتى انقصف رمحه و نفدت سهامه و لم يبق معه سلاح و انتهى إلى نهر يعرف بنهر ابن مروان فصاح بحصان كان تحته ليعبر فوثب فقصر فانغمس في الماء و قيل إن الحصان لم يقصر في الوثبة و لكن رجلا من الزنج سبقه إلى النهر فألقى نفسه فيه لعلمه أنه لا محيص لمنصور عن النهر فلما وثب الفرس تلقاه الأسود فنكس فغاص الفرس و منصور ثم أطلع منصور رأسه فنزل إليه غلام من السودان من عرفاء مصلح يقال له أبرون فاحتز رأسه و أخذ سلبه فولى يارجوخ التركي صاحب حرب خوزستان ما كان مع منصور من العمل أصغجون التركي و قال أبو جعفر و أما أبو أحمد فإنه شخص عن سامراء في جيش لم يسمع السامعون بمثله كثرة و عدة قال و قد عاينت أنا ذلك الجيش و أنا يومئذ ببغداد بباب الطاق فسمعت جماعة من مشايخ أهل بغداد يقولون قد رأينا جيوشا كثيرة للخلفاء فما رأينا مثل هذا الجيش أحسن عدة و أكمل عتادا و سلاحا و أكثر عددا و جمعا و اتبع ذلك الجيش من متسوقة أهل بغداد خلق كثير قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل أن يحيى بن محمد البحراني كان مقيما بنهر معقل قبل موافاة أبي أحمد فاستأذن صاحب الزنج في المصير إلى نهر العباس فكره ذلك و خاف أن يوافيه جيش من قبل السلطان و أصحابه متفرقون فألح عليه يحيى حتى أذن له فخرج و اتبعه أكثر أهل عسكر صاحب الزنج و كان علي بن أبان مقيما بجبى في جمع كثير من الزنج و البصرة قد صارت مغنما لأهل عسكر صاحب الزنج يغادونها و يراوحونها لنقل ما نالته أيديهم منها إلى منازلهم فليس بمعسكر علي بن محمد يومئذ من أصحابه إلا القليل فهو على ذلك من حاله حتى وافى أبو أحمد في الجيش و معه مفلح فورد جيش عظيم لم يرد على الزنج مثله فلما وصل إلى نهر معقل انصرف من كان هناك من الزنج فالتحقوا بصاحبهم مرعوبين فراعه ذلك و دعا برئيسين منهما فسألهما عن السبب الذي له تركا موضعهما فأخبراه بما عاينا من عظم أمر الجيش الوارد و كثرة عدد أهله و أحكام عدتهم و إن الذي عايناه من ذلك لم يكن في قوتهما الوقوف له في العدة التي كانا فيها فسألهما هل علما من يقود هذا الجيش فقالا قد اجتهدنا في علم ذلك فلم نجد من يصدقنا عنه فوجه صاحب الزنج طلائعه في سميريات ليعرف الخبر فرجعت طلائعه إليه بتعظيم أمر الجيش و تفخيمه و لم يقف أحد منهم على من يقوده فزاد ذلك في جزعه و ارتياعه فأمر بالإرسال إلى علي بن أبان يعلمه خبر الجيش الوارد و يأمره بالمصير إليه فيمن معه و وافى جيش أبي أحمد فأناخ بإزاء صاحب الزنج فلما كان اليوم الذي كانت فيه الواقعة خرج علي بن محمد يطوف في عسكره ماشيا و يتأمل الحال فيمن هو من حزبه و من هو مقيم بإزائه على حزبه و قد كانت السماء مطرت ذلك اليوم مطرا خفيفا و الأرض ثرية تزل عنها الأقدام فطوف ساعة من أول النهار و رجع فدعا بدواة و قرطاس ليكتب كتابا إلى علي بن أبان ليعلمه ما قد أظله من الجيش و يأمره بتقديم من قدر على تقديمه من الرجال فإنه لفي ذلك إذ أتاه أبو دلف القائد أحد قواد الزنج فقال له إن القوم قد غشوك و رهقوك و انهزم الزنج من بين أيديهم و ليس في وجوههم من يردهم فانظر لنفسك فإنهم قد انتهوا إليك فصاح به و انتهره و قال اغرب عني فإنك كاذب فيما حكيت إنما ذلك جزع داخل قلبك لكثرة من رأيت من الجمع فانخلع قلبك فلست تدري ما تقول فخرج أبو دلف من بين يديه و أقبل يكتب و قال لجعفر بن إبراهيم السجان ناد في الزنج و حركهم للخروج إلى موضع الحرب فقال له إنهم قد خرجوا و قد ظفروا بسميريتين من سفن أصحاب السلطان فأمره بالرجوع لتحريك الرجالة و كان من القضاء و القدر أن أصيب مفلح و هو القائد الجليل المرشح لقيادة الجيش بعد أبي أحمد بسهم غرب لا يدرى من رماه فمات لوقته و وقعت الهزيمة على أصحاب أبي أحمد و قوي الزنج على حربهم فقتلوا منهم جمعا كثيرا و وافى علي بن محمد زنجه بالرءوس قابضين عليها بأسنانهم حتى ألقوها بين يديه فكثرت الرءوس يومئذ حتى ملأت الفضاء و جعل الزنج يقتسمون لحوم القتلى و يتهادونها بينهم و أتي بأسير من الجيش فسأله عن رأس العسكر فذكر أبا أحمد و مفلحا فارتاع لذكر أبي أحمد و كان إذا راعه أمر كذب به و قال ليس في الجيش إلا مفلح لأني لست أسمع الذكر إلا له و لو كان في الجيش من ذكر هذا الأسير لكان صوته أبعد و لما كان مفلح إلا تابعا له و مضافا إليه قال أبو جعفر و قد كان قبل أن يصيب السهم مفلحا انهزم الزنج لما خرج عليهم جيش أبي أحمد و جزعوا جزعا شديدا و لجئوا إلى النهر المعروف بنهر أبي الخصيب و لا جسر يومئذ عليه فغرق منهم خلق كثير و لم يلبث صاحب الزنج إلا يسيرا حتى وافاه علي بن أبان في أصحابه فوافاه و قد استغنى عنه بهزيمة الجيش السلطاني و تحيز أبو أحمد بالجيش إلى الأبلة ليجمع ما فرقت الهزيمة منه و يجدد الاستعداد للحرب ثم صار إلى نهر أبي الأسد فأقام به قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن قال فكان صاحب الزنج لا يدري كيف قتل مفلح فلما لم ير أحدا ينتحل رميه ادعى أنه كان الرامي له قال فسمعته يقول سقط بين يدي سهم من السماء فأتاني به واح خادمي فدفعه إلي فرميت به فأصاب مفلحا فقتله قال محمد و كذب في ذلك لأني كنت حاضرا معه ذلك المشهد ما زال عن فرسه حتى أتاه خبر الهزيمة قال أبو جعفر ثم إن الله تعالى أصاب صاحب الزنج بمصيبة تعادل فرحه و سروره بقتل مفلح عقيب قتل مفلح و ذلك أن قائده الجليل يحيى بن محمد البحراني أسر و قتل و صورة ذلك أن صاحب الزنج كان قد كتب إلى يحيى بن محمد يعلمه ورود هذا الجيش عليه و يأمره بالقدوم و التحرر في منصرفه من أن يلقاه أحد منهم و قد كان يحيى غنم سفنا فيها متاع و أموال لتجار الأهواز جليلة و حامى عنها أصحاب أصغجون التركي فلم يغن و هزمهم يحيى و مضى الزنج بالسفن المذكورة يمدونها متوجهين نحو معسكر صاحب الزنج على سمت البطيحة المعروفة ببطيحة الصحناة و هي طريقة متعسقة وعرة فيها مشاق متعبة و إنما سلكها يحيى و أصحابه و تركوا الطريق الواضح للتحاسد الذي كان بين يحيى بن محمد و علي بن أبان فإن أصحاب يحيى أشاروا عليه ألا يسلك الطريق التي يمر فيها على أصحاب علي بن أبان فأصغى إلى مشورتهم فشرعوا له الطريق المؤدي إلى البطيحة المذكورة فسلكها و هذه البطيحة ينتهي السائر فيها إلى نهر أبي الأسد و قد كان أبو أحمد انحاز إليه لأن أهل القرى و السواد كاتبوه يعرفونه خبر يحيى بن محمد البحراني و شدة بأسه و كثرة جمعه و أنه ربما خرج من البطيحة إلى نهر أبي الأسد فعسكر به و منع أبا أحمد الميرة و حال بينه و بين من يأتيه من الأعراب و غيرهم فسبقه أبو أحمد إلى نهر أبي الأسد و سار يحيى حتى إذا قرب من نهر أبي الأسد وافته طلائعه فأخبرته بالجيش و عظمت أمره و خوفته منه فرجع من الطريق الذي كان سلكه بمشقة شديدة نالته و نالت أصحابه و أصابهم مرض لترددهم في تلك البطيحة و جعل يحيى على مقدمته سليمان بن جامع و سار حتى وقف على قنطرة فورج نهر العباس في موضع ضيق تشتد فيه جرية الماء و هو مشرف ينظر أصحابه الزنج كيف يجرون تلك السفن التي فيها الغنائم فمنها ما يغرق و ما يسلم قال أبو جعفر فحدثني محمد بن سمعان قال كنت في تلك الحال واقفا مع يحيى على القنطرة و قد أقبل علي متعجبا من شدة جرية الماء و شدة ما يلقى أصحابه من تلقيه بالسفن فقال أ رأيت لو هجم علينا عدو في هذه الحال من كان يكون أسوأ حالا منا فو الله ما انقضى كلامه حتى وافى كاشهم التركي في جيش قد أنفذه معه أبو أحمد عند رجوعه من الأبلة إلى نهر أبي الأسد يتلقى به يحيى فوقعت الصيحة و اضطربت الزنج فنهضت متشوفا للنظر فإذا الأعلام الحمر قد أقبلت في الجانب الغربي من نهر العباس و يحيى به فلما رآها الزنج ألقوا أنفسهم جملة في الماء فعبروا إلى الجانب الشرقي و خلا الموضع الذي فيه يحيى فلم يبق معه إلا بضعة عشر رجلا منهم فنهض عند ذلك فأخذ درقته و سيفه و احتزم بمنديل ثم تلقى القوم في النفر الذين تخلفوا معه فرشقهم أصحاب كاشهم التركي بالسهام حتى كثر فيهم الجراح و جرح يحيى بأسهم ثلاثة في عضده اليمنى و ساقه اليسرى فلما رآه أصحابه جريحا تفرقوا عنه و لم يعرف فيقصد له فرجع حتى دخل بعض تلك السفن و عبر به إلى الجانب الشرقي من النهر و ذلك وقت الضحى و أثقلته الجراحات التي أصابته فلما رأت الزنج شدة ما نزل به اشتد جزعهم و ضعفت قلوبهم فتركوا القتال و كانت همتهم النجاة بأنفسهم و حاز أصحاب السلطان تلك الغنائم التي كانت في السفن في الجانب الغربي من النهر و انفض الزنج بالجانب الشرقي عن يحيى فجعلوا يتسللون بقية نهارهم بعد قتل ذريع فيهم و أسر كثير فلما أمسوا و أسدف الليل طاروا على وجوههم فلما رأى يحيى تفرق أصحابه ركب سميرية كانت هناك و أقعد معه فيها متطببا يقال له عباد و طمع في الخلاص إلى عسكر صاحب الزنج فسار حتى قرب من فوهة النهر فأبصر سميريات و شذايات لأصحاب السلطان في فوهة النهر فخاف أن تعترض سميريته و جزع من المرور بها فعبر به الملاح إلى الجانب الغربي من النهر فألقاه و طبيبه على الأرض في زرع هناك فخرج يمشي و هو مثقل حتى ألقى نفسه في بعض تلك المواضع فأقام هناك ليلته تلك فلما أصبح نزفه الدم و نهض عباد الطبيب فجعل يمشي متشوفا أن يرى إنسانا فرأى بعض أصحاب السلطان فأشار لهم إلى موضع يحيى فجاءوا حتى وقفوا عليه فأخذوه و انتهى خبره إلى الخبيث صاحب الزنج فجزع عليه جزعا شديدا و عظم عليه توجعه ثم حمل يحيى إلى أبي أحمد فحمله أبو أحمد إلى المعتمد فأدخل إلى سامراء راكب جمل و الناس مجتمعون ينظرونه ثم أمر المعتمد ببناء دكة عالية بحضرة مجرى الحلية فبنيت و رفع للناس عليها حتى أبصره الخلائق كافة ثم ضرب بين يدي المعتمد و قد جلس له مائتي سوط بثمارها ثم قطعت يداه و رجلاه من خلاف ثم خبط بالسيوف ثم ذبح و أحرق قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن قال لما قتل يحيى البحراني فانتهى خبره إلى صاحب الزنج قال لأصحابه لما عظم علي قتله و اشتد اهتمامي به خوطبت فقيل لي قتله خير لك إنه كان شرها ثم أقبل على جماعة أنا فيهم فقال من شرهه أنا غنمنا غنيمة من بعض ما كنا نغنمه و كان فيها عقدان فوقعا في يد يحيى فأخفى عني أعظمهما خطرا و عرض علي أخسهما ثم استوهبه فوهبته له فرفع إلي العقد الذي أخفاه حتى رأيته فدعوته فقلت أحضر لي العقد الذي أخفيته فأتاني بالعقد الذي وهبته له و جحد أن يكون أخذ غيره فرفع إلي العقد ثانية فجعلت أصفه له و أنا أراه و هو لا يراه فبهت و ذهب فأتاني ثم استوهبنيه فوهبته له و أمرته بالاستغفار قال أبو جعفر و ذكر محمد بن الحسن أن محمد بن سمعان حدثه أن صاحب الزنج قال في بعض أيامه لقد عرضت علي النبوة فأبيتها فقيل له و لم ذاك قال إن لها أعباء خفت ألا أطيق حملها قال أبو جعفر فأما الأمير أبو أحمد فإنه لما صار إلى نهر أبي الأسد و أقام به كثرت العلل في من معه من جنده و غيرهم و فشا فيهم الموت فلم يزل مقيما هنالك حتى أبل من نجا منهم من علته ثم انصرف راجعا إلى باذاورد فعسكر به و أمر بتجديد الآلات و إصلاح الشذوات و السميريات و إعطاء الجند أرزاقهم و شحن السفن بقواده و مواليه و غلمانه و نهض نحو عسكر الناجم و أمر جماعة من قواده بقصد مواضع سماها لهم من نهر أبي الخصيب و غيره و أمر الباقين بملازمته و المحاربة معه في الموضع الذي يكون فيه و هم الأقلون و عرف الزنج تفرق أصحاب أبي أحمد عنه فكثروا في جهته و استعرت الحرب بينه و بينهم و كثرت القتلى و الجراح بين الفريقين و أحرق أصحاب أبي أحمد قصورا و منازل كان الزنج ابتنوها و استنقذوا من نساء أهل البصرة جمعا كثيرا ثم صرف الزنج سورتهم و شدة حملتهم إلى الموضع الذي به أبو أحمد فجاءه منهم جمع لا يقاوم بمثل العدة اليسيرة التي كان فيها فرأى أن الحزم في محاجزتهم فأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم على تؤدة و تمهل ففعلوا و بقيت طائفة من جنده و لجوا تلك الأدغال و المضايق فخرج عليهم كمين للزنج فأوقعوا بهم فحاموا عن أنفسهم و قتلوا عددا كثيرا من الزنج إلى أن قتلوا بأجمعهم و حملت رءوسهم إلى الناجم فزاد ذلك في قوته و عتوه و عجبه بنفسه و انصرف أبو أحمد بالجيش إلى باذاورد و أقام يعبئ أصحابه للرجوع إلى الزنج فوقعت نار في طرف من أطراف عسكره و ذلك في أيام عصوف الرياح فاحترق العسكر و رحل أبو أحمد منصرفا و ذلك في شعبان من هذه السنة إلى واسط فأقام بها إلى ربيع الأول ثم انصرف عنها إلى سامراء و ذلك أن المعتمد كاتبه و استقدمه لحرب يعقوب بن الليث الصفار أمير خراسان فاستخلف على حرب الناجم محمد المولد و أما الناجم فإنه لم يعلم خبر الحريق الذي وقع في عسكر أبي أحمد حتى ورد عليه رجلان من أهل عبادان فأخبراه فأظهر أن ذلك من صنع الله تعالى له و نصره على أعدائه و أنه دعا الله على أبي أحمد و جيشه فنزلت نار من السماء فأحرقتهم و عاد إلى العبث و اشتد طغيانه و عتوه و أنهض علي بن أبان المهلبي و ضم إليه أكثر الجيش و جعل على مقدمته سليمان بن جامع و أضاف إليه الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد البحراني و سليمان بن موسى الشعراني و أمرهم بأن يقصدوا الأهواز و بها حينئذ أصغجون التركي و معه نيزك القائد فالتقى العسكران بصحراء تعرف بدشت ميسان و اقتتلوا فظهرت الزنج و قتل نيزك في كثير من أصحابه و غرق أصغجون التركي و أسر كثير من قواد السلطان منهم الحسن بن هرثمة المعروف بالشاري و الحسن بن جعفر و كتب علي بن أبان بالخبر إلى الناجم و حمل إليه أعلاما و رءوسا كثيرة و أسرى و دخل علي بن أبان الأهواز و أقام بها بزنوجه يعيث و ينهب القرى و السواد إلى أن ندب المعتمد على الله موسى بن بغا لحربه فشخص عن سامراء في ذي القعدة من هذه السنة و شيعه المعتمد بنفسه إلى خلف الحائطين و خلع عليه هنالك فقدم أمامه عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز و إسحاق بن كنداخ إلى البصرة و إبراهيم بن سيما إلى الباذاورد قال أبو جعفر فلما ورد عبد الرحمن بن مفلح على الأهواز أناخ بقنطرة أريق عشرة أيام ثم مضى إلى علي بن أبان المهلبي فواقعه فهزمه علي بن أبان فانصرف فاستعد ثم عاد لمحاربته فأوقع به وقعة عظيمة و قتل من الزنج قتلا ذريعا و أسر أسرى كثيرة و انهزم علي بن أبان و من معه من الزنج حتى أتوا الموضع المعروف ببيان فأراد الناجم ردهم فلم يرجعوا للذعر الذي خالط قلوبهم فلما رأى ذلك أذن لهم في دخول عسكره فدخلوا جميعا فأقاموا معه بالمدينة التي كان بناها و وافى عبد الرحمن بن مفلح حصن مهدي ليعسكر به فوجه إليه الناجم علي بن أبان فواقعه فلم يقدر عليه و مضى علي بن أبان إلى قريب من الباذاورد و هناك إبراهيم بن سيما فواقعه إبراهيم فهزم علي بن أبان فعاوده فهزمه إبراهيم فمضى في الليل و سلك الأدغال و الآجام حتى وافى نهر يحيى فانتهى خبره إلى عبد الرحمن بن مفلح فوجه إليه طاشتمر التركي في جمع من الموالي فلم يصل إلى علي بن أبان و من معه لوعورة الموضع الذي كانوا فيه و امتناعه بالقصب و الحلافي فأضرمه عليهم نارا فخرجوا منه هاربين و أسر منهم أسرى و انصرف إلى عبد الرحمن بن مفلح بالأسرى و الظفر و مضى علي بن أبان فأقام بأصحابه في الموضع المسمى بنسوخا و انتهى الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن مفلح فصار إلى العمود فأقام به و صار علي بن أبان إلى نهر السدرة و كتب إلى الناجم يستمده و يسأله التوجيه إليه بالشذا فوجه إليه ثلاث عشرة شذاة فيها جمع كثير من أصحابه فسار علي بن أبان و من معه في الشذا و وافى عبد الرحمن بمن معه فلم يكن بينهما قتال و تواقف الجيشان يومهما ذلك فلما كان الليل انتخب علي بن أبان من أصحابه جماعة يثق بجلدهم و صبرهم و مضى و معه سليمان بن موسى المعروف بالشعراني و ترك سائر عسكره مكانه ليخفى أمره فصار من وراء عبد الرحمن ثم بيته و عسكره فنال منه و من أصحابه نيلا ما و انحاز عبد الرحمن عنه و ترك أربع شذوات من شذواته فغنمها علي بن أبان و انصرف و مضى عبد الرحمن لوجهه حتى وافى دولاب فأقام بها و أعد رجالا من رجاله و ولى عليهم طاشتمر التركي و أنفذهم إلى علي بن أبان فوافوه و هو في الموضع المعروف بباب آزر فأوقعوا به وقعة انهزم منها إلى نهر السدرة و كتب طاشتمر إلى عبد الرحمن بانهزامه عنه فأقبل عبد الرحمن بجيشه حتى وافى العمود فأقام به و استعد أصحابه للحرب و هيأ شذواته و ولى عليها طاشتمر و سار إلى فوهة نهر السدرة فواقع علي بن أبان وقعة عظيمة انهزم منها علي بن أبان و أخذ منه عشر شذوات و رجع علي بن أبان إلى الناجم مفلولا مهزوما و سار عبد الرحمن من فوره فعسكر ببيان فكان عبد الرحمن بن مفلح و إبراهيم بن سيما يتناوبان المصير إلى عسكر الناجم فيوقعان به و يخيفان من فيه و إسحاق بن كنداجيق يومئذ بالبصرة و قد قطع الميرة عن عسكر الناجم فكان الناجم يجمع أصحابه في اليوم الذي يخاف فيه موافاة عبد الرحمن بن مفلح و إبراهيم بن سيما حتى ينقضي الحرب ثم يصرف فريقا منهم إلى ناحية البصرة فيواقع بهم إسحاق بن كنداجيق فأقاموا على هذه الحال بضعة عشر شهرا إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الزنج قال أبو جعفر و سبب ذلك أن المعتمد رد أمر فارس و الأهواز و البصرة و غيرها من النواحي و الأقطار إلى أخيه أبي أحمد بعد فراغه من حرب يعقوب بن الليث الصفار و هزيمته له فاستخلف أبو أحمد على حرب صاحب الزنج مسرورا البلخي و صرف موسى بن بغا عن ذلك و اتفق أن ابن واصل حارب عبد الرحمن بن مفلح فأسره و قتله و قتل طاشتمر التركي أيضا و ذلك بناحية رامهرمز فاستخلف مسرور البلخي على الحرب أبا الساج و ولي الأهواز فكانت بينه و بين علي بن أبان المهلبي وقعة بناحية دولاب قتل فيها عبد الرحمن صهر أبي الساج و انحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم و دخل الزنج الأهواز فقتلوا أهلها و سبوا و أحرقوا دورها قال أبو جعفر ثم وجه صاحب الزنج جيوشه بعد هزيمة أبي الساج إلى ناحية البطيحة و الحوانيت و دستميسان قال و ذلك لأن واسطا خلت من أكثر الجند في وقعة أبي أحمد و يعقوب بن الليث التي كانت عند دير العاقول فطمع الزنج فيها فتوجه إليها سليمان بن جامع في عسكر من الزنج و أردفه الناجم بجيش آخر مع أحمد بن مهدي في سميريات فيها رماة من أصحابه أنفذه إلى نهر المرأة و أنفذ عسكرا آخر فيه سليمان بن موسى فأمره أن يعسكر بالنهر المعروف باليهودي فكانت بين هؤلاء و بين من تخلف بهذه الأعمال من عساكر السلطان حروب شديدة و كانت سجالا لهم و عليهم حتى ملكوا البطيحة و الحوانيت و شارفوا واسطا و بها يومئذ محمد المولد من قبل السلطان فكانت بينه و بين سليمان بن جامع حروب كثيرة يطول شرحها و تعداده و أمده الناجم بالخليل بن أبان أخي علي بن أبان المهلبي في ألف و خمسمائة فارس و معه أبو عبد الله الزنجي المعروف بالمذوب أحد قوادهم المشهورين فقوى سليمان بهم و أوقع بمحمد المولد فهزمه و دخل واسطا في ذي الحجة سنة أربع و ستين و مائتين بزنوجه و قواده فقتل منها خلقا كثيرا و نهبها و أحرق دورها و أسواقها و أخرب كثيرا من منازل أهلها و ثبت للمحاماة عنها قائد كان بها من جانب محمد بن المولد يقال له كنجور البخاري فحامى يومه ذلك إلى العصر ثم قتل و كان الذي يقود الخيل يومئذ في عسكر سليمان بن جامع الخليل بن أبان و عبد الله المعروف بالمذوب و كان أحمد بن مهدي الجبائي في السميريات و كان مهربان الزنجي في الشذوات و كان سليمان بن موسى الشعراني و أخوه في ميمنته و ميسرته و كان سليمان بن جامع و هو الأمير على الجماعة في قواده السودان و رجالته منهم و كان الجميع يدا واحدة فلما قضوا وطرهم من نهب واسط و قتل أهلها خرجوا بأجمعهم عنها فمضوا إلى جنبلاء و أقاموا هناك يعيثون و يخربون و في أوائل سنة خمس و ستين دخلوا إلى النعمانية و جرجرايا و جبل فنهبوا و أخربوا و قتلوا و أحرقوا و هرب منهم أهل السواد فدخلوا إلى بغداد قال أبو جعفر فأما علي بن أبان المهلبي فإنه استولى على معظم أعمال الأهواز و عاث هناك و أخرب و أحرق و كانت بينه و بين عمال السلطان و قواده مثل أحمد بن ليثويه و محمد بن عبد الله الكردي و تكين البخاري و مطر بن جامع و أغرتمش التركي و غيرهم و بينه و بين عمال يعقوب بن الليث الصفار مثل خضر بن العنبر و غيره حروب عظيمة و وقعات كثيرة و كانت سجالا تارة له و تارة عليه و هو في أكثرها المستظهر عليهم و كثرت أموال الزنج و الغنائم التي حووها من البلاد و النواحي و عظم أمرهم و أهم الناس شأنهم و عظم على المعتمد و أخيه أبي أحمد خطبهم و اقتسموا الدنيا فكان علي بن محمد الناجم صاحب الزنج و إمامهم مقيما بنهر أبي الخصيب قد بنى مدينة عظيمة سماها المختارة و حصنها بالخنادق و اجتمع إليه فيها من الناس ما لا ينتهي العد و الحصر إليه رغبة و رهبة و صارت مدينة تضاهي سامراء و بغداد و تزيد عليهما و أمراؤه و قواده بالبصرة و أعمالها يجبون الخراج على عادة السلطان لما كانت البصرة في يده و كان علي بن أبان المهلبي و هو أكبر أمرائه و قواده قد استولى على الأهواز و أعمالها و دوخ بلادها كرامهرمز و تستر و غيرهما و دان له الناس و جبا الخراج و ملك أموالا لا تحصى و كان سليمان بن جامع و سليمان بن موسى الشعراني و معهما أحمد بن مهدي الجبائي في الأعمال الواسطية قد ملكوها و بنوا بها المدن الحصينة و فازوا بأموالها و ارتفاعها و جبوا خراجها و رتبوا عمالهم و قوادهم فيها إلى أن دخلت سنة سبع و ستين و مائتين و قد عظم الخطب و جل و خيف على ملك بني العباس أن يذهب و ينقرض فلم يجد أبو أحمد الموفق و هو طلحة بن المتوكل على الله بدا من التوجه بنفسه و مباشرته هذا الأمر الجليل برأيه و تدبيره و حضوره معارك الحرب فندب أمامه ابنه أبا العباس و ركب أبو أحمد إلى بستان الهادي ببغداد و عرض أصحاب أبي العباس و ذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة فكانوا عشرة آلاف فرسانا و رجالة في أحسن زي و أجمل هيئة و أكمل عدة و معهم الشذوات و السميريات و المعابر برسم الرجالة كل ذلك قد أحكمت صنعته فركب أبو العباس من بستان الهادي و ركب أبو أحمد مشيعا له حتى نزل القرية المعروفة بالفرك ثم عاد و أقام أبو العباس بالفرك أياما حتى تكامل عدده و تلاحق به أصحابه ثم رحل إلى المدائن فأقام بها أياما ثم رحل إلى دير العاقول فورد عليه كتاب نصير المعروف بأبي حمزة و هو من جلة أصحابه و كان صاحب الشذا و السميريات و قد كان قدمه على مقدمته بدجلة يعلمه فيه أن سليمان بن جامع قد وافى لما علم بشخوص أبي العباس و الجبائي يقدمه في خيلهما و رجالهما و سفنهما حتى نزلا الجزيرة التي بحضرة بردودا فوق واسط بأربعة فراسخ و أن سليمان بن موسى الشعراني قد وافى نهر أبان بعسكره عسكر البر و عسكر الماء فرحل أبو العباس لما قرأ هذا الكتاب حتى وافى جرجرايا ثم منها إلى فم الصلح ثم ركب الظهر و سار حتى وافى الصلح و وجه طلائعه ليتعرف الخبر فأتاه منهم من أخبره بموافاة القوم و أن أولهم قريب من الصلح و آخرهم ببستان موسى بن بغا أسفل واسط فلما عرف ذلك عدل عن سنن الطريق و لقي أصحابه أوائل القوم فتطاردوا لهم عن وصية أوصاهم أبو العباس بها حتى طمع الزنج فيهم و اغتروا و أمعنوا في اتباعهم و جعلوا يصيحون بهم اطلبوا أميرا للحرب فإن أميركم مشغول بالصيد فلما قربوا من أبي العباس بالصلح خرج إليهم فيمن معه من الخيل و الرجل و أمر فصيح بأبي حمزة يا نصير إلى أين تتأخر عن هؤلاء الكلاب ارجع إليهم فرجع نصير بشذواته و سميرياته و فيها الرجال و ركب أبو العباس في سميرية و معه محمد بن شعيب و حف أصحابه بالزنج من جميع جهاتهم فانهزموا و منح الله أبا العباس و أصحابه أكتافهم يقتلونهم و يطردونهم إلى أن وافوا قرية عبد الله و هي على ستة فراسخ من الموضع الذي لقوهم فيه و أخذوا منهم خمس شذوات و عشر سميريات و استأمن منهم قوم و أسر منهم أسرى و غرق من سفنهم كثير فكان هذا اليوم أول الفتح على أبي العباس قال أبو جعفر فلما انقضى هذا اليوم أشار على أبي العباس قواده و أولياؤه أن يجعل معسكره بالموضع الذي كان انتهى إليه إشفاقا عليه من مقاربة القوم فأبى إلا نزول واسط بنفسه و لما انهزم سليمان بن جامع و من معه و ضرب الله وجوههم انهزم سليمان بن موسى الشعراني عن نهر أبان حتى وافى سوق الخميس و لحق سليمان بن جامع بنهر الأمير و قد كان القوم حين لقوا أبا العباس أجالوا الرأي بينهم فقالوا هذا فتى حدث لم تطل ممارسته الحرب و تدربه بها و الرأي أن نرميه بحدنا كله و نجتهد في أول لقية نلقاه في إزالته فلعل ذلك أن يروعه فيكون سببا لانصرافه عنا ففعلوا ذلك و حشدوا و اجتهدوا فأوقع الله تعالى بهم بأسه و نقمته و لم يتم لهم ما قدروه و ركب أبو العباس من غد يوم الوقعة حتى دخل واسطا في أحسن زي و كان ذلك يوم جمعة فأقام حتى صلى بها صلاة الجمعة و استأمن إليه خلق كثير من أتباع الزنج و أصحابهم ثم انحدر إلى العمر و هو على فرسخ واحد من واسط فاتخذه معسكرا و قد كان أبو حمزة نصير و غيره أشاروا عليه أن يجعل معسكره فوق واسط حذرا عليه من الزنج فامتنع و قال لست نازلا إلا العمر و أمر أبا حمزة أن ينزل فوهة بردودا فوق واسط و أعرض أبو العباس عن مشاورة أصحابه و استماع شي ء من آرائهم و استبد برأي نفسه فنزل العمر و أخذ في بناء الشذوات و السميريات و جعل يراوح الزنج القتال و يغاديهم و قد رتب خاصة غلمانه و مواليه في سميريات فجعل في كل سميرية أميرا منهم ثم إن سليمان استعد و حشد و فرق أصحابه فجعلهم في ثلاثة أوجه فرقة أتت من نهر أبان و فرقة من بر تمرتا و فرقة من بردودا فلقيهم أبو العباس فلم يلبثوا أن انهزموا فلحقت طائفة منهم بسوق الخميس و طائفة بمازروان و طائفة ببر تمرتا و سلك آخرون نهر الماذيان و اعتصم قوم منهم ببردودا و تبعهم أصحاب أبي العباس و جعل أبو العباس قصده القوم الذين سلكوا نهر الماذيان فلم يرجع عنهم حتى وافى بهم برمساور ثم انصرف فجعل يقف على القرى و المسالك و يسأل عنها و يتعرفها و معه الأدلاء و أرباب الخبرة حتى عرف جميع تلك الأرض و منافذها و ما ينتهي إليه من البطائح و الآجام و غيرها و عاد إلى معسكره بالعمر فأقام به أياما مريحا نفسه و أصحابه ثم أتاه مخبر فأخبره أن الزنج قد اجتمعوا و استعدوا لكبس عسكره و أنهم على إتيانه من ثلاثة أوجه و أنهم قالوا إن أبا العباس غلام يغرر بنفسه و أجمع رأيهم على تكمين الكمناء و المصير إليه من الجهات الثلاث فحذر أبو العباس من ذلك و استعد له و أقبلوا إليه و قد كمنوا زهاء عشرة آلاف في بر تمرتا و نحوا من العدة في قس هثا و تقدم منها عشرون سميرية إلى عسكر أبي العباس على أن يخرج إليهم فيهربوا بعد مناوشة يسيرة فيجيزوا أبا العباس و أصحابه إلى أن يجاوزوا الكمناء ثم يخرج الكمين عليهم من ورائهم فمنع أبو العباس أصحابه من اتباعهم لما واقعوهم و أظهروا الكسرة و العود فعلموا أن كيدهم لم ينفذ فيه و خرج حينئذ سليمان و الجبائي في الشذا و السميريات العظيمة و قد كان أبو العباس أحسن تعبئة أصحابه فأمر أبا حمزة نصيرا أن يخرج إليهم في الشذا و السميريات المرتبة فخرج إليهم و نزل أبو العباس في شذاة من شذوات قد كان سماها الغزال و اختار لها جدافين و أخذ معه محمد بن شعيب الاشتيام و اختار من خاصة أصحابه و غلمانه جماعة دفع إليهم الرماح و أمر الخيالة بالمسير بإزائه على شاطئ النهر و قال لهم لا تدعوا المسير ما أمكنكم إلى أن تقطعكم الأنهار و نشبت الحرب بين الفريقين فكانت معركة القتال من حد قرية الرمل إلى الرصافة حتى أذن الله في هزيمة الزنج فانهزموا و حاز أصحاب أبي العباس منهم أربع عشرة شذاة و أفلت سليمان و الجبائي في ذلك اليوم بعد أن أشفيا على الهلاك راجلين و أخذت دوابهما و مضى جيش الزنج بأجمعه لا ينثني أحد منهم حتى وافوا طهيثا و أسلموا ما كان معهم من أثاث و آلة و رجع أبو العباس فأقام بمعسكره بالعمر و أصلح ما كان أخذ منهم من الشذا و السفن و رتب الرجال فيها و أقام الزنج بعد ذلك عشرين يوما لا يظهر منهم أحد قال أبو جعفر ثم إن الجبائي صار بعد ذلك يجي ء في الطلائع كل ثلاثة أيام و ينصرف و حفر في طريق عسكر أبي العباس آبارا و صير فيها سفافيد حديد و غشاها بالبواري و أخفى مواضعها و جعلها على سنن مسير الخيل ليتهور فيها المجتازون بها و جعل بواقي طرف العسكر متعرضا به لتخرج الخيل طالبة له فجاء يوما و طلبته الخيل كما كانت تطلبه فقطر فرس رجل من قواد الفراعنة في بعض تلك الآبار فوقف أصحاب أبي العباس بما ناله من ذلك على ما كان دبره الجبائي فحذروا ذلك و تنكبوا سلوك تلك الطريق قال أبو جعفر و ألح الزنج في مغاداة العسكر في كل يوم بالحرب و عسكروا بنهر الأمير في جمع كثير و كتب سليمان إلى الناجم يسأله إمداده بسميريات لكل واحدة منهن أربعون مجدافا فوافاه من ذلك في مقدار عشرين يوما أربعون سميرية فيها الرجال و السيوف و التراس و الرماح فكانت لأبي العباس معهم وقعات عظيمة و في أكثرها الظفر لأصحابه و الخذلان على الزنج و لج أبو العباس في دخول الأنهار و المضايق حتى انتهى إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني بنهر الخميس التي بناها و سماها المنيعة و خاطر أبو العباس بنفسه مرارا و سلم بعد أن شارف العطب و استأمن إليه جماعة من قواد الزنج فأمنهم و خلع عليهم و ضمهم إلى عسكره و قتل من قواد الزنج جماعة و تمادت الأيام بينه و بينهم و اتصل بأبي أحمد الموفق أن سليمان بن موسى الشعراني و الجبائي و من بالأعمال الواسطية من قواد صاحب الزنج كاتبوا صاحبهم و سألوه إمدادهم بعلي بن أبان المهلبي و هو المقيم حينئذ بأعمال الأهواز و المستولي عليها و كان علي بن أبان قائد القواد و أمير الأمراء فيهم فكتب الناجم إلى علي بن أبان يأمره بالمصير بجميع من معه إلى ناحية سليمان بن جامع ليجتمعا على حرب أبي العباس فصح عزم أبي أحمد على الشخوص إلى واسط و حضور الحرب بنفسه فخرج عن بغداد في صفر من هذه السنة و عسكر بالفرك و أقام بها أياما حتى تلاحق به عسكره و من أراد المسير معه و قد أعد آلة الماء و رحل من الفرك إلى المدائن ثم إلى دير العاقول ثم إلى جرجرايا ثم قنى ثم جبل ثم نزل الصلح ثم نزل على فرسخ من واسط و تلقاه ابنه أبو العباس في جريدة خيل فيها وجوه قواده فسأله أبوه عن خبرهم فوصف له بلاءهم و نصحهم فخلع أبو أحمد على أبي العباس ثم على القواد الذين كانوا معه و انصرف أبو العباس إلى معسكره بالعمر فبات به فلما كان صبيحة الغد رجل أبو أحمد منحدرا في الماء و تلقاه ابنه أبو العباس في آلات الماء بجميع العسكر في هيئة الحرب على الوضع الذي كانوا يحاربون الزنج عليه فاستحسن أبو أحمد هيئتهم و سر بذلك و سار أبو أحمد حتى نزل بإزاء القرية المعروفة بقرية عبد الله و وضع العطاء فأعطى الجيش كله أرزاقهم و قدم ابنه أبا العباس أمامه في السفن و سار وراءه فتلقاه أبو العباس برءوس و أسرى من أصحاب الشعراني و كان لقيهم فأمر أبو أحمد بالأسرى فضربت أعناقهم و رحل يريد المدينة التي بناها الشعراني بسوق الخميس و سماها المنيعة و إنما بدأ أبو أحمد بحرب الشعراني قبل حرب سليمان بن جامع لأن الشعراني كان وراءه فخاف إن بدأ بابن جامع أن يأتيه الشعراني من ورائه فيشغله عمن هو أمامه فلما قرب من المدينة خرج إليه الزنج فحاربوه حربا ضعيفة و انهزموا فعلا أصحاب أبي العباس السور و وضعوا السيف فيمن لقيهم و تفرق الزنج و دخل أبو العباس المدينة فقتلوا و أسروا و حووا ما كان فيها و أفلت الشعراني هاربا و معه خواصه فأتبعهم أصحاب أبي العباس حتى وافوا بهم البطائح فغرق منهم خلق كثير و لجأ الباقون إلى الآجام و انصرف الناس و قد استنقذ من المسلمات اللواتي كن بأيدي الزنج في هذه المدينة خاصة خمسة آلاف امرأة سوى من ظفر به من الزنجيات فأمر أبو أحمد بحمل النساء اللواتي سباهن الزنج إلى واسط و أن يدفعن إلى أوليائهن و بات أبو أحمد بحيال المدينة ثم باكرها و أذن للناس في نهب ما فيها من أمتعة الزنج فدخلت و نهب كل ما كان بها و أمر بهدم سورها و طم خندقها و إحراق ما كان بقي منها و ظفر في تلك القرى التي كانت في يد الشعراني بما لا يحصى من الأرز و الحنطة و الشعير و قد كان الشعراني استولى على ذلك كله و قتل أصحابه فأمر أبو أحمد ببيعه و صرف ثمنه في أعطيات مواليه و غلمانه و جنده و أما الشعراني فإنه التحق هو و أخوه بالمذار و كتب إلى الناجم يعرفه ذلك و أنه معتصم بالمذار قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل قال حدثني محمد بن هشام الكرنبائي المعروف بأبي واثلة قال كنت بين يدي الناجم ذلك اليوم و هو يتحدث إذ ورد عليه كتاب سليمان بخبر الواقعة و ما نزل به و انهزامه إلى المذار فما كان إلا أن فض الكتاب و وقعت عينه على ذكر الهزيمة حتى انحل وكاء بطنه فنهض لحاجته ثم عاد فلما استوى به مجلسه أخذ الكتاب و تأمله فوقعت عينه على الموضع الذي أنهضه أولا فنهض لحاجته حتى فعل ذلك مرارا فلم أشك في عظم المصيبة و كرهت أن أسأله فلما طال الأمر تجاسرت فقلت أ ليس هذا كتاب سليمان بن موسى قال بلى ورد بقاصمة الظهر ذكر أن الذين أناخوا عليه أوقعوا به وقعة لم تبق منه و لم تذر فكتب كتابه هذا و هو بالمذار و لم يسلم بشي ء غير نفسه قال فأكبرت ذلك و الله يعلم ما أخفي من السرور الذي وصل إلى قلبي قال و صبر علي بن محمد على مكروه ما وصل إليه و جعل يظهر الجلد و كتب إلى سليمان بن جامع يحذره مثل الذي نزل بالشعراني و يأمره بالتيقظ في أمره و حفظ ما قبله قال أبو جعفر ثم لم يكن لأبي أحمد بعد ذلك هم إلا في طلب سليمان بن جامع فأتته طلائعه فأخبرته أنه بالحوانيت فقدم أمامه ابنه أبا العباس في عشرة آلاف فانتهى إلى الحوانيت فلم يجد سليمان بن جامع بها و ألفى هناك من قواد السودان المشتهرين بالبأس و النجدة القائدين المعروف أحدهما بشبل و الآخر بأبي الندى و هما من قدماء أصحاب الناجم الذين كان قودهم في بدء مخرجه و كان سليمان قد خلف هذين القائدين بالحوانيت لحفظ غلات كثيرة كانوا قد أخذوها فحاربهما أبو العباس فقتل من رجالهما و جرح بالسهام خلقا كثيرا و كانوا أجلد رجال سليمان بن جامع و نخبتهم الذين يعتمد عليهم و دامت الحرب بين أبي العباس و بينهم ذلك اليوم إلى أن حجز الليل بين الفريقين و رمى أبو العباس في ذلك اليوم كركيا طائرا فوقع بين الزنج و السهم فيه فقالوا هذا سهم أبي العباس و أصابهم منه ذعر و استأمن في هذا اليوم بعضهم إلى أبي العباس فسأله عن الموضع الذي فيه سليمان بن جامع فأخبره أنه مقيم بمدينته التي بناها بطهيثا فانصرف أبو العباس حينئذ إلى أبيه بحقيقة مقام سليمان و أن معه هنالك جميع أصحابه إلا شبلا و أبا الندى فإنهما بالحوانيت لحفظ الغلات التي حووها فأمر حينئذ أبو أحمد أصحابه بالتوجه إلى طهيثا و وضع العطاء فأعطى عسكره و شخص مصاعدا إلى بردودا ليخرج منها إلى طهيثا إذ كان لا سبيل له إليها إلا بذلك فظن عسكره أنه هارب و كادوا ينفضون لو لا أنهم عرفوا حقيقة الحال فانتهى إلى القرية بالحوذية و عقد جسرا على النهر المعروف بمهروذ و عبر عليه الخيل و سار إلى أن صار بينه و بين مدينة سليمان التي سماها المنصورة بطهيثا ميلان فأقام هناك بعسكره و مطرت السماء مطرا جودا و اشتد البرد أيام مقامه هنالك فشغل بالمطر و البرد عن الحرب فلم يحارب فلما فتر ركب في نفر من قواده و مواليه لارتياد موضع لمجال الخيل فانتهى إلى قريب من سور تلك المدينة فتلقاه منهم خلق كثير و خرج عليه كمناء من مواضع شتى و نشبت الحرب و اشتدت فترجل جماعة من الفرسان و دافعوا حتى خرجوا عن المضايق التي كانوا أوغلوها و أسر من غلمان أبي أحمد غلام يقال له وصيف العلمدار و عدة من قواد زيرك و قتل في هذا اليوم أحمد بن مهدي الجبائي أحد القواد العظماء من الزنج رماه أبو العباس بسهم فأصاب أحد منخريه حتى خالط دماغه فخر صريعا و حمل من المعركة و هو حي فسأل أن يحمل إلى الناجم فحمل من هناك إلى نهر أبي الخصيب إلى مدينة الناجم التي سماها المختارة فوضع بين يديه و هو على ما به فعظمت المصيبة عليه به إذ كان من أعظم أصحابه غناء و أشدهم تصبرا لإطاعته فمكث الجبائي يعالج هنالك أياما ثم هلك فاشتد جزع الناجم عليه و صار إليه فولي غسله و تكفينه و الصلاة عليه و الوقوف على قبره إلى أن دفن ثم أقبل على أصحابه فوعظهم و ذكر موت الجبائي و كانت وفاته في ليلة ذات رعود و بروق فقال فيما ذكر عنه لقد سمعت وقت قبض روحه زجل الملائكة بالدعاء له و الترحم عليه و انصرف من دفنه منكسرا عليه الكآبة قال أبو جعفر فلما انصرف أبو أحمد ذلك اليوم من الوقعة غاداهم بكرة الغد و عبأ أصحابه كتائب فرسانا و رجالة و أمر بالشذا و السميريات أن يسار بها معه في النهر الذي يشق مدينة طهيثا و هو النهر المعروف بنهر المنذر و سار نحو الزنج حتى انتهى إلى سور المدينة قريب قواد غلمانه في المواضع التي يخاف خروج الزنج عليه منها و قدم الرجالة أمام الفرسان و نزل فصلى أربع ركعات و ابتهل إلى الله تعالى في النصر و الدعاء للمسلمين ثم دعا بسلاحه فلبسه و أمر ابنه أبا العباس أن يتقدم إلى السور و يحض الغلمان على الحرب ففعل و قد كان سليمان بن جامع أعد أمام سور المدينة التي سماها المنصورة خندقا فلما انتهى الغلمان إليه تهيبوا عبوره و أحجموا عنه فحرضهم قوادهم و ترجلوا معهم فاقتحموه متجاسرين عليه فعبروه و انتهوا إلى الزنج و هم مشرفون من سور مدينتهم فوضعوا السلاح فيهم و عبرت شرذمة من الفرسان الخندق خوضا فلما رأى الزنج خبر هؤلاء الذين لقوهم و جرأتهم عليهم ولوا منهزمين و اتبعهم أصحاب أبي أحمد و دخلوا المدينة من جوانبها و كان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق و جعلوا أمام كل خندق منها سورا يمتنعون به فجعلوا يقفون عند كل سور و خندق انتهوا إليه و أصحاب أبي أحمد يكشفونهم في كل موقف وقفوه و دخلت الشذا و السميريات مدينتهم مشحونة بالغلمان المقاتلة من النهر الذي يشقها بعد انهزامهم فأغرقت كل ما مرت به لهم من شذاة أو سميرية و اتبعوا من تجافى النهر منهم يقتلون و يأشرون حتى أجلوهم عن المدينة و عما يتصل بها و كان ذلك زهاء فرسخ فحوى أبو أحمد ذلك كله و أفلت سليمان بن جامع في نفر من أصحابه و استحر القتل فيهم و الأسر و استنقذ من نساء أهل واسط و صبيانهم و ما اتصل بذلك من القرى و نواحي الكوفة زهاء عشرة آلاف فأمر أبو أحمد بحياطتهم و الإنفاق عليهم و حملوا إلى واسط فدفعوا إلى أهليهم و احتوى أبو أحمد على كل ما كان في تلك المدينة من الذخائر و الأموال و الأطعمة و المواشي فكان شيئا جليل القدر فأمر ببيع الغلات و غيرها من العروض و صرفه في أعطيات عسكره و مواليه و أسر من نساء سليمان و أولاده عدة و استنقذ يومئذ وصيف العلمدار و من كان أسره الزنج معه فأخرجوا من الحبس قد كان الزنج أعجلهم الأمر عن قتله و قتلهم و أقام أبو أحمد بطهيثا سبعة عشر يوما و أمر بهدم سور المدينة و طم خنادقها ففعل ذلك و أمر بتتبع من لجأ منهم إلى الآجام و جعل لكل من أتاه برجل منهم جعلا فسارع الناس إلى طلبهم فكان إذا أتي بالواحد منهم خلع عليه و أحسن إليه و ضمه إلى قواد غلمانه لما دبر من استمالتهم و صرفهم عن طاعة صاحبهم و ندب نصيرا صاحب الماء في شذا و سميريات لطلب سليمان بن جامع و الهاربين معه من الزنج و غيرهم و أمره بالجد في اتباعهم حتى يجاوز البطائح و حتى يلح دجلة المعروفة بالعوراء و تقدم إليه في فتح السكور التي كان سليمان أحدثها ليقطع بها الشذا عن دجلة فيما بينه و بين النهر المعروف بأبي الخصيب و تقدم إلى زيرك في المقام بطهيثا في جمع كثير من العسكر ليتراجع إليها الذين كان سليمان أجلاهم عنها من أهلها فلما أحكم ما أراد إحكامه تراجع بعسكره مزمعا على التوجه إلى الأهواز ليصلحها و قد كان قدم أمامه ابنه أبا العباس و قد تقدم ذكر علي بن أبان المهلبي و كونه استولى على معظم كور الأهواز و دوخ جيوش السلطان هناك و أوقع بهم و غلب على معظم تلك النواحي و الأعمال فلما تراجع أبو أحمد وافى بردودا فأقام بها أياما و أمر بإعداد ما يحتاج إليه للمسير على الظهر إلى الأهواز و قدم أمامه من يصلح الطرق و المنازل و يعد فيها الميرة للجيوش التي معه و وافاه قبل أن يرحل عن واسط زيرك منصرفا عن طهيثا بعد أن تراجع إلى النواحي التي كان بها الزنج أهلها و خلفهم آمنين فأمره أبو أحمد بالاستعداد و الانحدار في الشذا و السميريات في نخبة عسكره و أنجادهم فيصير بهم إلى دجلة العوراء فتجتمع يده و يد نصير صاحب الماء على نقض دجلة و اتباع المنهزمين من الزنج و الإيقاع بكل من لقوا من أصحاب سليمان إلى أن ينتهي بهم المسير إلى مدينة الناجم بنهر أبي الخصيب فإن رأوا موضع حرب حاربوه في مدينة و كتبوا بما يكون منهم إلى أبي أحمد ليرد عليهم من أمره ما يعملون بحسبه و استخلف أبو أحمد على من خلفه من عسكره بواسط ابنه هارون و أزمع على الشخوص في خف من رجاله و أصحابه ففعل ذلك بعد أن تقدم إلى ابنه هارون في أن يحذر الجيش الذي خلفه معه في السفن إلى مستقره بدجلة إذا وافاه كتابه بذلك و ارتحل شاخصا من واسط الأهواز و كورها فنزل باذبين إلى الطيب إلى قرقوب إلى وادي السوس و قد كان عقد له عليه جسر فأقام به من أول النهار إلى وقت الظهر حتى عبر عسكره أجمع ثم سار حتى وافى السوس فنزلها و قد كان أمر مسرورا البلخي و هو عامله على الأهواز بالقدوم عليه فوافاهم في جيشه و قواده من غد اليوم الذي نزل فيه السوس فخلع عليه و عليهم و أقام بالسوس ثلاثا و كان ممن أسر من الزنج بطهيثا أحمد بن موسى بن سعيد البصري المعروف بالقلوص و كان قائدا جليلا عندهم و أحد عدد الناجم و من قدماء أصحابه أسر بعد أن أثخن جراحات كانت فيها منيته فأمر أبو أحمد باحتزاز رأسه و نصبه على جسر واسط قال أبو جعفر و اتصل بالناجم خبر هذه الوقعة بطهيثا و علم ما نيل من أصحابه فانتقض عليه تدبيره و ضلت حيلته فحمله الهلع إلى أن كتب إلى علي بن أبان المهلبي و هو يومئذ مقيم بالأهواز في زهاء ثلاثين ألفا يأمره بترك كل ما كان قبله من الميرة و الأثاث و الإقبال إليه بجميع جيوشه فوصل الكتاب إلى المهلبي و قد أتاه الخبر بإقدام أبي أحمد إلى الأهواز و كورها فهو لذلك طائر العقل فقرأ الكتاب و هو يحفزه فيه حفزا بالمصير إليه فترك جميع ما كان قبله و استخلف عليه محمد بن يحيى بن سعيد الكرنبائي فلما شخص المهلبي عنه لم يثبت و لم يقم لما عنده من الوجل و ترادف الأخبار بوصول أبي أحمد إليه فأخلى ما استخلف عليه و تبع المهلبي و بالأهواز يومئذ و نواحيها من أصناف الحبوب و التمر و المواشي شي ء عظيم فخرجوا عن ذلك كله و كتب الناجم أيضا إلى بهبوذ بن عبد الوهاب القائد و إليه يومئذ الأعمال التي بين الأهواز و فارس يأمره بالقدوم عليه بعسكره فترك بهبوذ ما كان قبله من الطعام و التمر و المواشي فكان ذلك شيئا عظيما فحوى جمع ذلك أبو أحمد فكان قوة له على الناجم و ضعفا للناجم و لما رحل المهلبي عن الأهواز بث أصحابه في القرى التي بينه و بين مدينة الناجم فانتهبوها و أجلوا عنها أهلها و كانوا في سلمهم و تخلف خلق كثير ممن كان مع المهلبي من الفرسان و الرجالة عن اللحاق به و أقاموا بنواحي الأهواز و كتبوا يسألون أبا أحمد الأمان لما انتهى عنه إليهم من عفوه عمن ظفر به من أصحاب الناجم و كان الذي دعا الناجم إلى أمر المهلبي و بهبوذ بسرعة المصير إليه خوفه موافاة أبي أحمد بجيوشه إليه على الحالة التي كان الزنج عليها من الوجل و شدة الرعب مع انقطاع المهلبي و بهبوذ فيمن كان معهما عنه و لم يكن الأمر كما قدر فإن أبا أحمد إنما كان قاصدا إلى الأهواز فلو أقام المهلبي بالأهواز و بهبوذ بمكانه في جيوشهما لكان أقرب إلى دفاع جيش أبي أحمد عن الأهواز و أحفظ للأموال و الغلات التي تركت بعد أن كانت اليد قابضة عليها قال أبو جعفر و أقام أبو أحمد حتى أحرز الأموال التي كان المهلبي و بهبوذ و خلفاؤهما تركوها و فتحت السكور التي كان الناجم أحدثها في دجلة و أصلحت له طرقه و مسالكه و رحل أبو أحمد عن السوس إلى جنديسابور فأقام بها ثلاثا و قد كانت الأعلاف ضاقت على أهل العسكر فوجه في طلبها و حملها و رحل عن جنديسابور إلى تستر فأقام بها لجباية الأموال من كور الأهواز و أنفذ إلى كل كورة قائدا ليروج بذلك حمل المال و وجه أحمد بن أبي الأصبغ إلى محمد بن عبد الله الكردي صاحب رامهرمز و ما يليها من القلاع و الأعمال و قد كان مالأ المهلبي و حمل إلى الناجم أموالا كثيرة و أمره بإيناسه و إعلامه ما عليه رأيه في العفو عنه و التغمد لزلته و أن يتقدم إليه في حمل الأموال و المسير إلى سوق الأهواز بجميع من معه من الموالي و الغلمان و الجند ليعرضهم و يأمر بإعطائهم الأرزاق و ينهضهم معه لحرب الناجم ففعل و أحضرهم و عرضوا رجلا رجلا و أعطوا ثم رحل إلى عسكر مكرم فجعله منزله أياما ثم رحل منه فوافى الأهواز و هو يرى أنه قد تقدمه إليها من الميرة ما يحمل عساكره فلم يكن كذلك و غلظ الأمر في ذلك اليوم و اضطرب الناس اضطرابا شديدا فأقام ثلاثة أيام ينتظر ورود الميرة فلم ترد فساءت أحوال الناس و كاد ذلك يفرق جماعتهم فبحث عن السبب المؤخر لورودها فوجد الزنج قد كانوا قطعوا قنطرة قديمة أعجمية كانت بين سوق الأهواز و رامهرمز يقال لها قنطرة أربق فامتنع التجار و من كان يحمل الميرة من الورود لقطع تلك القنطرة فركب أبو أحمد إليها و هي على فرسخين من سوق الأهواز فجمع من كان في العسكر من السودان و أخذهم بنقل الصخر و الحجارة لإصلاح هذه القنطرة و بذل لهم من أموال الرعية فلم يرم حتى أصلحت في يومه ذلك و ردت إلى ما كانت عليه فسلكها الناس و وافت القوافل بالميرة فحيي أهل العسكر و حسنت أحوالهم و أمر بجمع السفن لعقد الجسر على دجيل الأهواز فجمعت من جميع الكور و أقام بالأهواز أياما حتى أصلح أصحابه أمورهم و ما احتاجوا إليه من آلاتهم و حسنت أحوال دوابهم و ذهب عنها ما كان بها من الضر بتأخر الأعلاف و وافت كتب القوم الذين تخلفوا عن المهلبي و أقاموا بعده بسوق الأهواز يسألون أبا أحمد الأمان فأمنهم فأتاه منهم نحو ألف رجل فأحسن إليهم و ضمهم إلى قواد غلمانه و أجرى لهم الأرزاق و عقد الجسر على دجيل الأهواز و رحل بعد أن قدم جيوشه أمامه و عبر دجيلا فأقام بالموضع المعروف بقصر المأمون ثلاثا و قد كان قدم ابنه أبا العباس إلى نهر المبارك من فرات البصرة و كتب إلى ابنه هارون بالانحدار إليه ليجتمع العساكر هناك و رحل أبو أحمد عن قصر المأمون إلى قورج العباس و وافاه أحمد بن أبي الأصبغ هنالك بهدايا محمد بن عبد الله الكردي صاحب رامهرمز من دواب و مال ثم رحل عن القورج فنزل الجعفرية و لم يكن بها ماء و قد كان أنفذ إليها و هو بعد في القورج من حفر آبارها فأقام بها يوما و ليلة و ألفى بها ميرا مجموعة فاتسع الجند بها و تزودوا منها ثم رحل إلى المنزل المعروف بالبشير فألفى فيه غديرا من ماء المطر فأقام به يوما و ليلة و رحل إلى المبارك و كان منزلا بعيد المسافة فتلقاه ابناه أبو العباس و هارون في طريقه و سلما عليه و سارا بسيره حتى ورد بهم المبارك و ذلك يوم السبت للنصف من رجب سنة سبع و ستين قال أبو جعفر فأما نصير و لزيرك فقد كانا اجتمعا بدجلة العوراء و انحدرا حتى وافيا الأبلة بسفنهما و شذاهما فاستأمن إليهما رجل من أصحاب الناجم فأعلمهما أنه قد أنفذ عددا كثيرا من السميريات و الزواريق مشحونة بالزنج يرأسهم قائد من قواده يقال له محمد بن إبراهيم و يكنى أبا عيسى قال أبو جعفر و محمد بن إبراهيم هذا رجل من أهل البصرة جاء به إلى الناجم صاحب شرطته المعروف بيسار و استصلحه لكتابته فكان يكتب له حتى مات و قد كانت ارتفعت حال أحمد بن مهدي الجبائي عند الناجم و ولاة أكثر أعماله فضم محمد بن إبراهيم هذا إليه فكان كاتبه فلما قتل الجبائي في وقعة سليمان الشعرائي طمع محمد بن إبراهيم هذا في مرتبته و أن يحله الناجم محله فنبذ القلم و الدواة و لبس آلة الحرب و تجرد للقتال فأنهضه الناجم في هذا الجيش و أمره بالاعتراض في دجلة لمدافعة من يردها من الجيوش فكان يدخله أحيانا و أحيانا يأتي بالجمع الذي معه إلى النهر المعروف بنهر يزيد و كان معه في ذلك الجيش من قواد الزنج شبل بن سالم و عمرو المعروف بغلام بوذي و أخلاط من السودان و غيرهم فاستأمن رجل منهم كان في ذلك الجيش إلى لزيرك و نصير و أخبرهما خبره و أعلمهما أنه على القصد لسواد عسكر نصير و كان نصير يومئذ معسكرا بنهر المرأة و إنهم على أن يسلكوا الأنهار المعترضة على نهر معقل و بثق شيرين حتى يوافوا الشرطة و يخرجوا من وراء العسكر فيكبوا على من فيه فرجع نصير عند وصول هذا الخبر إليه من الأبلة مبارزا إلى عسكره و سار لزيرك قاصدا بثق شيرين معارضا لمحمد بن إبراهيم فلقيه في الطريق فوهب الله له العلو عليه بعد صبر من الزنج له و مجاهدة شديدة فانهزموا و لجئوا إلى النهر الذي فيه كمينهم و هو نهر يزيد فدل لزيرك عليهم فتوغلت إليهم سميرياته فقتل منهم طائفة و أسر طائفة فكان محمد بن إبراهيم فيمن أسر و عمرو غلام بوذي و أخذ ما كان معهم من السميريات و هي نحو ثلاثين سميرية و أفلت شبل بن سالم في الذين نجوا معه فلحق بعسكر الناجم و خرج لزيرك في بثق شيرين سالما ظافرا و معه الأسارى و رءوس القتلى مع ما حوى من السميريات و السفن و انصرف من دجلة العوراء إلى واسط و كتب إلى أبي أحمد بالفتح و عظم الجزع على كل من كان بدجلة و كورها من اتباع الناجم فاستأمن إلى نصير صاحب الماء و هو مقيم حينئذ بنهر المرأة زهاء ألفي رجل من الزنج و أتباعهم فكتب إلى أبي أحمد بخبرهم فأمره بقبولهم و إقرارهم على الأمان و إجراء الأرزاق عليهم و خلطهم بأصحابه و مناهضة العدو بهم ثم كتب إلى نصير يأمره بالإقبال إليه إلى نهر المبارك فوافاه هنالك و قد كان أبو العباس عند منصرفه إلى نهر المبارك انحدر إلى عسكر الناجم في الشذا فأوقع بهم في مدينته بنهر أبي الخصيب فكانت الحرب بينهما من أول النهار إلى آخر وقت الظهر و استأمن إليه قائد جليل من قواد الناجم من المضمومين كانوا إلى سليمان بن جامع يقال له منتاب و معه جماعة من أصحابه فكان ذلك مما كسر من الناجم و انصرف أبو العباس بالظفر و خلع على منتاب الزنجي و وصله و حمله فلما لقي أباه أخبره خبره و ذكر إليه خروجه إليه في الأمان فأمر أبو أحمد له بخلع و صلة و حملان و كان منتاب أول من استأمن من جملة قواد الناجم قال أبو جعفر و لما نزل أبو أحمد نهر المبارك كان أول ما عمل به في أمر الناجم أن كتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى التوبة و الإنابة إلى الله تعالى مما ارتكب من سفك الدماء و انتهاك المحارم و إخراب البلدان و الأمصار و استحلال الفروج و الأموال و انتحال ما لم يجعله الله له أهلا من النبوة و الإمامة و يعلمه أن التوبة له مبسوطة و الأمان له موجود فإن نزع عما هو عليه من الأمور التي يسخطها الله تعالى و دخل في جماعة المسلمين محا ذلك ما سلف من عظيم جرائمه و كان له به الحظ الجزيل في دنياه و آخرته و أنفذ ذلك إليه مع رسول فالتمس الرسول إيصاله إليه فامتنع الزنج من قبول الكتاب و من إيصاله إلى صاحبهم فألقى الرسول الكتاب إليهم إلقاء فأخذوه و أتوا به صاحبهم فقرأه و لم يجب عنه بشي ء و رجع الرسول إلى أبي أحمد فأخبره فأقام خمسة أيام متشاغلا بعرض السفن و ترتيب القواد و الموالي و الغلمان فيها و تخير الرماة و انتخابهم للمسير بها ثم سار في اليوم السادس في أصحابه و معه ابنه أبو العباس إلى مدينة الناجم التي سماها المختارة من نهر أبي الخصيب فأشرف عليها و تأملها فرأى منعتها و حصانتها بالسور و الخنادق المحيطة بها و غور الطريق المؤدي إليها و ما قد أعد من المجانيق و العرادات و القسي الناوكية و سائر الآلات على سورها فرأى ما لم ير مثله ممن تقدم من منازعي السلطان و رأى من كثرة عدد مقاتلتهم و اجتماعهم ما استغلظ أمره و لما عاين الزنج أبا أحمد و أصحابه ارتفعت أصواتهم بما ارتجت له الأرض فأمر أبو أحمد عند ذلك ابنه أبا العباس بالتقدم إلى سور المدينة و رشق من عليه بالسهام ففعل و دنا حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الناجم و انحاز الزنج بأسرهم إلى المواضع الذي دنت منه الشذا و تحاشدوا و تتابعت سهامهم و حجارة منجنيقاتهم و عراداتهم و مقاليعهم و رمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم حتى ما يقع طرف ناظر على موضع إلا رأى فيه سهما أو حجرا و ثبت أبو العباس فرأى الناجم و أشياعه من جهدهم و اجتهادهم و صبرهم ما لا عهد لهم بمثله من أحد ممن حاربهم و حينئذ أمر أبو أحمد ابنه أبا العباس بالرجوع بمن معه إلى مواقفهم ليروحوا عن أنفسهم و يداووا جروحهم ففعلوا ذلك و استأمن في هذه الحال إلى أبي أحمد مقاتلان من مقاتلة السميريات من الزنج فأتياه بسميرياتهما و ما فيها من الملاحين و الآلات فأمر لها بخلع ديباج و مناطق محلاة بالذهب و وصلهما بمال و أمر للملاحين بخلع من الحرير الأحمر و الأخضر الذي حسن موقعه منهم و عمهم جميعا بصلاته و أمر بإدنائهم من الموضع الذي يراهم فيه نظراؤهم فكان ذلك من أنجع المكايد التي كيد بها صاحب الزنج فلما رأى الباقون ما صار إليه أصحابهم من العفو عنهم و الإحسان إليهم رغبوا في الأمان و تنافسوا فيه فابتدر منهم جمع كثير مسرعين نحوه راغبين فيما شرع لهم منه فأمر أبو أحمد لهم بمثل ما أمر به لأصحابه فلما رأى الناجم ركون أصحاب السميريات إلى الأمان و رغبتهم فيه أمر برد من كان منهم في دجلة إلى نهر أبي الخصيب و وكل بفوهة النهر من يمنعهم الخروج و أمر بإظهار شذاوته الخاصة و ندب لهم بهبوذ بن عبد الوهاب و هو من أشد كماته بأسا و أكثرهم عددا و عدة فانتدب بهبود لذلك و خرج في جمع كثيف من الزنج فكانت بينه و بين أبي حمزة نصير صاحب الماء و بين أبي العباس بن أبي أحمد وقعات شديدة في كلها يظهر عليه أصحاب السلطان ثم يعود فيرتاش و يحتشد فيخرج فيواقعهم حتى صدقوه الحرب و هزموه و ألجئوه إلى فناء قصر الناجم و أصابته طعنتان و جرح بالسهام و أوهنت أعضاءه الحجارة و أولجوه نهر أبي الخصيب و قد أشفى على الموت و قتل قائد جليل معه من قواد الزنج ذو بأس و نجدة و تقدم في الحرب يقال له عميرة و استأمن إلى أبي أحمد جماعة أخرى فوصلهم و حباهم و خلع عليهم و ركب أبو أحمد في جميع جيشه و هو يومئذ في خمسين ألف رجل و الناجم في ثلاثمائة ألف رجل كلهم يقاتل و يدافع فمن ضارب بسيف و طاعن برمح و رام بقوس و قاذف بمقلاع و رام بعرادة و منجنيق و أضعفهم أمر الرماة بالحجارة عن أيديهم و هم النظارة المكثرون للسواد و المعينون بالنعير و الصياح و النساء يشركنهم في ذلك أيضا فأقام أبو أحمد بإزاء عسكر الناجم إلى أن أضحى و أمر فنودي الأمان مبسوط للناس أسودهم و أحمرهم إلا لعدو الله الداعي علي بن محمد و أمر بسهام فعلقت فيها رقاع مكتوب فيها من الأمان مثل الذي نودي به و وعد الناس فيها الإحسان و رمى بها إلى عسكر الناجم فمالت إليه قلوب خلق كثير من أولئك ممن لم يكن له بصيرة في اتباع الناجم فأتاه في ذلك اليوم جمع كثير يحملهم الشذا و السميريات فوصلهم و حباهم و قدم عليه قائدان من قواده و كلاهما من مواليه ببغداد أحدهما بكتمر و الآخر بغرا في جمع من أصحابهما فكان ورودهما زيادة في قوته ثم رحل في غد هذا اليوم بجميع جيشه فنزل متاخما لمدينة الناجم في موضع كان تخيره للنزول فأوطن هذا الموضع و جعله معسكرا له و أقام به و رتب قواده و رؤساء أصحابه مراتبهم فجعل نصيرا صاحب الماء في أول العسكر و جعل زيرك التركي في موضع آخر و علي بن جهشار حاجبه في موضع آخر و راشدا مولاه في مواليه و غلمانه الأتراك و الخزر و الروم و الديالمة و الطبرية و المغاربة و الزنج و الفراعنة و العجم و الأكراد محيطا هو و أصحابه بمضارب أبي أحمد و فساطيطه و سرادقاته و جعل صاعد بن مخلد وزيره و كاتبه في جيش آخر من الموالي و الغلمان فوق عسكر راشد و أنزل مسرورا البلخي القائد صاحب الأهواز في جيش آخر على جانب من جوانب عسكره و أنزل الفضل و محمدا ابني موسى بن بغا في جانب آخر بجيش آخر و تلاهما القائد المعروف بموسى و لجوا في جيشه و أصحابه و جعل بغراج التركي على ساقته في جيش كثيف بعدة عظيمة و عدد جم و رأى أبو أحمد من حال الناجم و حصانة موضعه و كثرة جمعه ما علم معه أنه لا بد له من الصبر عليه و طول الأيام في محاصرته و تفريق جموعه و بذل الأمان لهم و الإحسان إلى من أناب منهم و الغلظة على من أقام على غيه منهم و احتاج إلى الاستكثار من الشذا و ما يحارب به في الماء و شرع في بناء مدينة مماثلة لمدينة الناجم و أمر بإنفاذ الرسل في حمل الآلات و الصناع من البر و البحر و إنفاذ المير و الأزواد و الأقوات و إيرادها إلى عسكره بالمدينة التي شرع فيها و سماها الموفقية و كتب إلى عماله بالنواحي في حمل الأموال إلى بيت ماله في هذه المدينة و ألا يحمل إلى بيت المال بالحضرة درهم واحد و أنفذ رسلا إلى سيراف و جنابة في بناء الشذا و الاستكثار منها لحاجته إلى أن يبثها و يفرقها في المواضع التي يقطع بها الميرة عن الناجم و أصحابه و أمر بالكتاب إلى عماله في إنفاذ كل من يصلح للإثبات و العرض في الدواوين من الجند و المقاتلة و أقام ينتظر ذلك شهرا أو نحوه فوردت المير متتابعة يتلو بعضها بعضا و وردت الآلات و الصناع و بنيت المدينة و جهز التجار صنوف التجارات في الأمتعة و حملوها إليها و اتخذت بها الأسواق و كثر بها التجار و المجهزون من كل بلد و وردت إليها مراكب من البحر و قد كانت انقطعت لقطع الناجم و أصحابه سبلها قبل ذلك بأكثر من عشر سنين و بنى أبو أحمد في هذه المدينة المسجد الجامع و صلى بالناس فيه و اتخذ دور الضرب فضرب بها الدنانير و الدراهم فجمعت هذه المدينة جميع المرافق و سيق إليها صنوف المنافع حتى كان ساكنوها لا يفقدون فيها شيئا مما يوجد في الأمصار العظيمة القديمة و حملت الأموال و أدر العطاء على الناس في أوقاته فاتسعوا و حسنت أحوالهم و رغب الناس جميعا في المصير إلى هذه و المقام بها قال أبو جعفر و أمر الناجم بهبوذ بن عبد الوهاب فعبر و الناس غارون في سميريات إلى طرف عسكر أبي حمزة صاحب الماء فأوقع به و قتل جماعة من أصحابه و أسر جماعة و أحرق أكواخا كانت لهم و أرسل إبراهيم بن جعفر الهمداني و هو من جملة قواد الناجم في أربعة آلاف زنجي و محمد بن أبان المكنى أبا الحسين أخا علي بن أبان المهلبي في ثلاثة آلاف و القائد المعروف بالدور في ألف و خمسمائة ليغيروا على أطراف عسكر أبي أحمد و يوقعوا بهم فنذر بهم أبو العباس فنهد إليهم في جمع كثيف من أصحابه و كانت بينه و بينهم حروب كان الاستظهار فيها كلها له و استأمن إليه جماعة منهم فخلع عليهم و أمر أن يوقفوا بإزاء مدينة الناجم ليعاينهم أصحابه و أقام أبو أحمد يكايد الناجم و يبذل الأموال لأصحابه تارة و يواقعهم و يحاربهم تارة و يقطع الميرة عنهم فسرى بهبوذ الزنجي في الأجلاد المنتخبين من رجاله ليلة من الليالي و قد تأدى إليه خبر قيروان ورد للتجار فيه صنوف التجارات و الأمتعة و المير فكمن في النخل فلما ورد القيروان خرج إلى أهله و هم غارون فقتل منهم و أسر و أخذ ما شاء أن يأخذ من الأموال و قد كان أبو أحمد علم بورود ذلك القيروان و أنفذ قائدا من قواده لبذرقته في جمع خفيف فلم يكن لذلك القائد ببهبوذ طاقة فانصرف عنه منهزما فلما انتهى إلى أبي أحمد ذلك غلظ عليه ما نال الناس في أموالهم و تجاراتهم فأمر بتعويضهم و أخلف عليهم مثل الذي ذهب منهم و رتب على فوهة النهر المعروف بنهر بيان و هو الذي دخل القيروان فيه جيشا قويا لحراسته قال أبو جعفر ثم أنفذ الناجم جيشا عليه القائد المعروف بصندل الزنجي و كان صندل هذا فيما ذكر يكشف وجوه الحرائر المسلمات و رءوسهن و يقلبهن تقليب الإماء فإن امتنعت منهن امرأة لطم وجهها و دفعها إلى بعض علوج الزنج يواقعها ثم يخرجها بعد ذلك إلى سوق الرقيق فيبيعها بأوكس الثمن فيسر الله تعالى قتله في وقعة جرت بينه و بين أبي العباس أسر و أحضر بين يدي أبي أحمد فشده كتافا و رماه بالسهام حتى هلك قال أبو جعفر ثم ندب الناجم جيشا آخر و أمره أن يغير على طرف من أطراف عسكر أبي أحمد و هم غارون فاستأمن من ذلك الجيش زنجي مذكور يقال له مهذب كان من فرسان الزنج و شجعانهم فأتي به إلى أبي أحمد وقت إفطاره فأعلمه أنه جاء راغبا في الطاعة و الأمان و أن الزنج على العبور في ساعتهم تلك إلى عسكره للبيات و أن المندوبين لذلك أنجادهم و أبطالهم فأمر أبو أحمد أبا العباس ابنه أن ينهض إليهم في قواد عينهم له فنهضوا فلما أحس ذلك الجيش بأنهم قد نذروا بهم و عرفوا استئمان صاحبهم رجعوا إلى مدينتهم قال أبو جعفر ثم إن الناجم ندب أجل قواده و أكبرهم قدرا عنده و هو علي بن أبان المهلبي و انتخب له أهل البأس و الجلد و أمره أن يبيت عسكر أبي أحمد فعبر في زهاء خمسة آلاف رجل أكثرهم الزنج و فيهم نحو مائتي قائد من مذكوريهم و عظمائهم فعبر ليلا إلى شرقي دجلة و عزموا على أن يفترقوا قسمين أحدهما خلف عسكر أبي أحمد و الثاني أمامه و يغير الذين أمامه على أصحاب أبي أحمد فإذا ثاروا إليهم و استعرت الحرب أكب أولئك الذين من وراء العسكر على من يليهم و هم مشاغيل بحرب من بإزائهم و قدر الناجم و علي بن أبان أن يتهيأ لهما من ذلك ما أحبا فاستأمن منهم إلى أبي أحمد غلام كان معهم من الملاحين ليلا فأخبره خبرهم و ما اجتمعت عليه آراؤهم فأمر ابنه أبا العباس و الغلمان و القواد بالحذر و الاحتياط و الجد و فرقهم في الجهتين المذكورتين فلما رأى الزنج أن تدبيرهم قد انتقض و أنه قد فطن لهم و نذر بهم كروا راجعين في الطريق الذي أقبلوا فيه طالبين التخلص فسبقهم أبو العباس و لزيرك إلى فوهة النهر ليمنعوهم من عبوره و أرسل أبو أحمد غلامه الأسود الزنجي الذي يقال له ثابت و كان له قيادة على السودان الذين بعسكر الموفق فأمره أن يعترضهم و يقف لهم في طريقهم بأصحابه فأدركهم و هو في خمسمائة رجل فواقعهم و شد عضده أبو العباس و لزيرك بمن معهما فقتل من الزنج أصحاب الناجم خلق كثير و أسر منهم كثير و أفلت الباقون فلحقوا بمدينتهم و انصرف أبو العباس بالفتح و قد علق رءوس الزنج في الشذا و صلب الأسارى أحياء فيها فاعترضوا بهم مدينتهم ليرهبوا أصحابهم فلما رأوهم رعبوا و انكسروا و اتصل بأبي أحمد أن الناجم موه على أصحابه و أوهم أن الرءوس المرفوعة مثل مثلها لهم أبو أحمد ليراعوا و أن الأسارى من المستأمنة فأمر أبو أحمد عند ذلك بجميع الرءوس و المسير بها إلى إزاء قصر الناجم و القذف بها في منجنيق منصوب في سفينة إلى عسكره ففعل ذلك فلما سقطت الرءوس في مدينتهم عرف أولياء القتلى رءوس أصحابهم فظهر بكاؤهم و صراخهم قال أبو جعفر و كانت لهم وقعات كثيرة بعد هذه في أكثرها ينهزم الزنج و يظفر بهم و طلب وجوههم الأمان فكان ممن استأمن محمد بن الحارث القائد و إليه كان حفظ النهر المعروف بمنكى و السور الذي يلي عسكر أبي أحمد كان خروجه ليلا مع عدة من أصحابه فوصله أبو أحمد بصلات كثيرة و خلع عليه و حمله على عدة دواب بحليتها و آلاتها و أسنى له الرزق و كان محمد هذا حاول إخراج زوجته معه و هي إحدى بنات عمه فعجزت المرأة عن اللحاق به فأخذها الزنج فردوها إلى الناجم فحبسها مدة ثم أمر بإخراجها و النداء عليها في السوق فبيعت و ممن استأمن القائد المعروف بأحمد البرذعي كان من أشجع رجالهم و كان يكون أبدا مع المهلبي و كان ممن استأمن مربدا القائد و برنكوبة و بيلويه فخلعت عليهم الخلع و وصلوا بالصلات الكثيرة و حملوا على الخيول المحلاة و أحسن إلى كل من جاء معهم من أصحابهم قال أبو جعفر فضاقت المير على الناجم و أصحابه فندب شبلا القائد و أبا الندى و هما من رؤساء قواده و قدماء أصحابه الذين يعتمد عليهم و يثق بمناصحتهم و أمرهما بالخروج في عشرة آلاف من الزنج و غيرهم و القصد إلى نهر الدير و نهر المرأة و نهر أبي الأسد و الخروج من هذه الأنهار إلى البطيحة و الغارة على المسلمين و أهل القرى و قطع الطرقات و أخذ جميع ما يقدرون عليه من الطعام و الميرة و حمله إلى مدينته و قطعه عن الوصول إلى عسكر أبي أحمد فندب أبو أحمد لقصدهم مولاه لزيرك في جيش كثيف بعضه في الماء و بعضه على الظهر فواقعهم في الموضع المعروف بنهر عمر فكانت بينه و بينهم حرب شديدة أسفرت عن انكسارهم و خذلان الله لهم فأخذ منهم أربعمائة سفينة و أسرى كثيرين و أقبل بها و بهم و بالرءوس إلى عسكر أبي أحمد قال أبو جعفر و ندب أبو أحمد ابنه أبا العباس لقصد مدينة الناجم و العلو عليها فقصدها من النهر المعروف بالغربي و قد أعد الناجم به علي بن أبان المهلبي فاستعرت الحرب بين الفريقين فأمد الناجم عليا بسليمان بن جامع في جمع كثير من قواد الزنج و اتصلت الحرب و استأمن كثير من قواد الزنج إلى أبي العباس و امتدت الحرب إلى بعد العصر ثم انصرف أبو العباس فاجتاز في منصرفه بمدينة الناجم و قد انتهى إلى الموضع المعروف بنهر الأتراك فرأى في ذلك النهر قلة من الزنج الذين يحرسونه فطمع فيهم فقصد نحوهم و صعد جماعة من أصحابه سور المدينة و عليه فريق من الزنج فقتلوا من أصابوا هناك و نذر الناجم بهم فأنجدهم بقواد من قواده فأرسل أبو العباس إلى أبيه يستمده فوافى من عسكر أبي أحمد من خف من الغلمان فقوى بهم عسكر أبي العباس و قد كان سليمان بن جامع لما رأى أن أبا العباس قد أوغل في نهر الأتراك صعد في جمع كثير من الزنج ثم استدبر أصحاب أبي العباس و هم متشاغلون بحرب من بإزائهم على سور المدينة فخرج عليهم من ورائهم و خفقت طبولهم فانكشف أصحاب أبي العباس و حملت الزنج عليهم من أمامهم فأصيب في هذه الوقعة جماعة من غلمان أبي أحمد و قواده و صار في أيدي الزنج عدة أعلام و مطارد و حامى أبو العباس عن نفسه حتى انصرف سالما فأطمعت هذه الوقعة الزنج و أتباعهم و شدت قلوبهم فأجمع أبو أحمد على العبور بجيشه أجمع و أمر بالاستعداد و التأهب فلما تهيأ له ذلك عبر في آخر ذي الحجة من سنة سبع و ستين في أكثف جمع و أكمل عدة و فرق قواده على أقطار مدينة الناجم و قصد هو بنفسه ركنا من أركانها و قد كان الناجم حصنه بابنه الذي يقال له أنكلاني و كنفه بعلي بن أبان و سليمان بن جامع و إبراهيم بن جعفر الهمداني و حفه بالمجانيق و العرادات و القسي الناوكية و أعد فيه الناشبة جمع فيه أكثر جيشه فلما التقى الجمعان أمر أبو أحمد غلمانه الناشبة و الرامحة و السودان بالدنو من هذا الركن و بينه و بينهم النهر المعروف بنهر الأتراك و هو نهر عريض غزير الماء فلما انتهوا إليه أحجموا عنه فصيح بهم و حرضوا على العبور فعبروه سباحة و الزنج ترميهم بالمجانيق و العرادات و المقاليع و الحجارة عن الأيدي و السهام عن قسي اليد و قسي الرجل و صنوف الآلات التي يرمى عنها فصبروا على جميع ذلك حتى جاوزوا النهر و انتهوا إلى السور و لم يكن لحقهم من الفعلة من كان أعده لهدمه فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح و يسر الله تعالى ذلك و سهلوا لأنفسهم السبيل إلى علوه و حضرهم بعض السلاليم التي كانت اتخذت لذلك فعلوا الركن و نصبوا عليه علما عليه مكتوب الموفق بالله و أكبت عليهم الزنج فحاربوا أشد حرب و قتل من قواد أبي أحمد القائد المعروف بثابت الأسود رمي بسهم في بطنه فمات و كان من جلة القواد و أحرق أصحاب الموفق ما على ذلك الركن من المنجنيقات و العرادات و قصد أبو العباس بأصحابه جهة أخرى من جهات المدينة ليدخلها من النهر المعروف بمنكى فعارضه علي بن أبان في جمع من الزنج فظهر أبو العباس عليه و هزمه و قتل قوما من أصحابه و أفلت علي بن أبان المهلبي راجعا و انتهى أبو العباس إلى نهر منكى و هو يرى أن المدخل من ذلك الموضع سهل فوصل إلى الخندق فوجده عريضا منيعا فحمل أصحابه أن يعبروه فعبروه و عبرته الرجالة سباحة و وافوا السور فثلموا منه ثلمة و اتسع لهم دخولها فدخلوا فلقي أولهم سليمان بن جامع و قد أقبل للمدافعة عن تلك الناحية فحاربوه و كشفوه و انتهوا إلى النهر المعروف بابن سمعان و هو نهر سيق بالمدينة و صارت الدار المعروفة بدار ابن سمعان في أيديهم فأحرقوا ما كان فيها و هدموها فوقفت الزنج على نهر ابن سمعان وقوفا طويلا و دافعوا مدافعة شديدة و شد بعض موالي الموفق على علي بن أبان فأدبر عنه هاربا فقبض على مئزره فحل على المئزر و نبذه إلى الغلام و نجا بعد أن أشرف على الهلكة و حمل أصحاب أبي أحمد على الزنج فكشفوهم عن نهر ابن سمعان حتى وافوا بهم طرف المدينة و ركب الناجم بنفسه في جمع من خواصه فتلقاه أصحاب الموفق فعرفوه و حملوا عليه و كشفوا من كان معه حتى أفرد و قرب منه بعض الرجالة حتى ضرب وجه فرسه بترسه و كان ذلك وقت غروب الشمس و حجز الليل بينهم و بينه و أظلم و هبت ريح شمال عاصف و قوي الجزر فلصق أكثر سفن الموفق بالطين و حرض الناجم أصحابه فثاب منهم جمع كثير فشدوا على سفن الموفق فنالوا منها نيلا و قتلوا نفرا و صمد بهبوذ الزنجي لمسرور البلخي بنهر الغربي فأوقع به و قتل جماعة من أصحابه و أسر أسرى و صار في يده دواب من دوابهم فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفق و قد كان هرب في هذا اليوم كثير من قواد صاحب الزنج و تفرقوا على وجوههم نحو نهر الأمير و عبادان و غيرهما و كان ممن هرب ذلك اليوم منهم أخو سليمان بن موسى الشعراني و محمد و عيسى فمضيا يؤمان البادية حتى انتهى إليهما رجوع أصحاب الموفق و ما نيل منهم فرجعا و هرب جماعة من العرب الذين كانوا في عسكر الناجم و صاروا إلى البصرة و بعثوا يطلبون الأمان من أبي أحمد فأمنهم و وجه إليهم السفن و حملهم إلى الموفقية و خلع عليهم و أجرى لهم الأرزاق و الأنزال
و كان ممن رغب في الأمان من قواد الناجم القائد المعروف بريحان بن صالح المغربي و كانت له رئاسة و قيادة و كان يتولى حجبة أنكلاني بن الناجم فكتب ريحان يطلب الأمان لنفسه و لجماعة من أصحابه فأجيب إلى ذلك و أنفذ إليه عدد كثير من الشذا و السميريات و المعابر مع لزيرك القائد صاحب مقدمة أبي العباس فسلك نهر اليهودي إلى آخره فألفى به ريحان القائد و من كان معه من أصحابه و قد كان الموعد تقدم منه في موافاة ذلك الموضع فسار لزيرك به و بهم إلى دار الموفق فأمر لريحان بخلع جليلة و حمل على عدة أفراس بآلتها و حليتها و أجيز بجائزة سنية و خلع على أصحابه و أجيزوا على أقدارهم و مراتبهم و ضم ريحان إلى أبي العباس و أمر بحمله و حمل أصحابه و المصير بهم إلى إزاء دار الناجم فوقفوا هنالك في الشذا عليهم الخلع الملونة بصنوف الألوان و الذهب حتى عاينوهم مشاهدة فاستأمن في هذا اليوم من أصحاب ريحان الذين كانوا تخلفوا عنه و من غيرهم جماعة فألحقوا في البر و الإحسان بأصحابهم ثم استأمن جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان في أول يوم من سنة ثمان و ستين و مائتين و كان أحد ثقات الناجم ففعل به من الخلع و الإحسان ما فعل بريحان و حمل في سميرية حتى وقف بإزاء قصر الناجم حتى يراه أصحابه و كلمهم و أخبرهم أنهم في غرور من صاحبهم و أعلمهم ما وقف عليه من كذبه و فجوره فاستأمن في هذا اليوم خلق كثير من قواد الزنج و غيرهم و تتابع الناس في طلب الأمان و أقام أبو أحمد يجم أصحابه و يداوي جراحهم و لا يحارب و لا يعبر إلى الزنج إلى شهر ربيع الآخر ثم عبر جيشه في هذا الشهر المذكور مرتبا على ما استصلحه من تفريقه في جهات مختلفة و أمرهم بهدم سور المدينة و تقدم إليهم أن يقتصروا على الهدم و لا يدخلوا المدينة و وكل بكل ناحية من النواحي التي وجه إليها قواده سفنا فيها الرماة و أمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من الفعلة فثلمت في هذا اليوم من السور ثلم كثيرة و اقتحم أصحاب أبي أحمد المدينة من جميع تلك الثلم و هزموا من كان عليها من الزنج و أوغلوا في طلبهم و اختلف بهم طرق المدينة و تفرقت بهم السكك و الفجاج و انتهوا إلى أبعد من المواضع التي كانوا وصلوا إليها في المرة التي قبلها فتراجعت إليهم الزنج و خرج عليهم كمناؤهم من نواح يهتدون إليها و لا يعرفها جيش أبي أحمد فتحير جيش أبي أحمد فقتل منهم خلق كثير و أصاب الزنج منهم أسلحة و أسلابا و أقام ثلاثون ديلميا من أصحاب أبي أحمد يدافعون عن الناس و يحمونهم حتى خلص إلى السفن من خلص و قتلت الديالمة عن آخرها و عظم على الناس ما أصابهم في هذا اليوم و انصرف أبو أحمد إلى مدينته الموفقية فجمع قواده و عذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره و الإفساد عليه في رأيه و تدبيره و توعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لمثل ذلك و أمر بإحصاء المقتولين من أصحابه فأتي بأسمائهم فأقر ما كان جاريا لهم على أولادهم و أهاليهم فحسن موقع ذلك و زاد في صحة نيات أصحابه لما رأوا من خياطته خلف من أصيب في طاعته قال أبو جعفر و شرع أبو أحمد في قطع الميرة عن مدينة الناجم من جميع الجهات و قد كان يجلب إليهم من السمك الشي ء العظيم من مواضع كثيرة فمنع ذلك عنهم و قتل القوم الذين كانوا يجلبونه و أخذت عليهم الطرق و انسد عليهم كل مسلك كان لهم و أضر بهم الحصار و أضعف أبدانهم و طالت المدة فكان الأسير منهم يؤسر و المستأمن يستأمن فيسأل عن عهده بالخبز فيقول مذ سنة أو سنتين و احتاج من كان منهم مقيما في مدينة الناجم إلى الحيلة لقوته فتفرقوا في الأنهار النائية عن عسكرهم طلبا للقوت و كثرت الأسارى منهم في عسكر أبي أحمد لأنه كان يلتقطهم بأصحابه يوما فيوما فأمر باعتراضهم لما رأى كثرتهم فمن كان منهم ذا قوة و جلد و نهوض بالسلاح من عليه و أحسن إليه و خلطه بغلمانه السودان و عرفهم ما لهم عنده من البر و الإحسان و من كان منهم ضعيفا لا حراك به أو شيخا فانيا لا يطيق حمل السلاح أو مجروحا جراحة قد أزمنته أمر بأن يكسى ثوبين و يوصل بدارهم و يزود و يحمل إلى عسكر الناجم فيلقى هناك بعد أن يوصى بوصف ما عاين من إحسان أبي أحمد إلى كل من يصير إليه و أن ذلك رأيه في جميع من يأتيه مستأمنا أو يأسره فتهيأ له بذلك ما أراد من استمالة الزنج حتى استشعروا الميل إلى ناحيته و الدخول في سلمه و طاعته قال أبو جعفر ثم كانت الوقعة التي قتل فيها بهبوذ الزنجي القائد و جرح أبو العباس و ذلك أن بهبوذ كان أكثر أصحاب الناجم غارات و أشدهم تعرضا لقطع السبل و أخذ الأموال و كان قد جمع من ذلك لنفسه مالا جليلا و كان كثير الخروج في السميريات الخفاف فيخترق بها الأنهار المؤدية إلى دجلة فإذا صادف سفينة لأصحاب أبي أحمد أخذها و استولى على أهلها و أدخلها النهر الذي خرج منه فإن تبعه تابع حتى توغل في طلبه خرج عليه من ذلك النهر قوم من أصحابه قد أعدهم لذلك فأقطعوه و أوقعوا به فوقع التحرز حينئذ منه و الاستعداد لغاراته فركب شذاة و شبهها بشذوات أبي أحمد و نصب عليها علما مثل أعلامه و سار بها و معه كثير من الزنج فأوقع بكثير من أصحاب أبي أحمد و قتل و أسر فندب له أبو أحمد ابنه أبا العباس في جمع كثيف فكانت بينهما وقعة شديدة و رمي فيها أبو العباس بسهم فأصابه و أصابت بهبوذ طعنة في بطنه من يد غلام من بعض سميريات أبي العباس فهوى إلى الماء فابتدره أصحابه فحملوه و رجعوا به إلى عسكر الناجم فلم يصلوا به إلا و هو ميت فعظمت الفجيعة به على الناجم و أوليائه و اشتد عليه جزعهم و خفي موته على أبي أحمد حتى استأمن إليه رجل من الملاحين فأخبره بذلك فسر و أمر بإحضار الغلام الذي طعنه فوصله و كساه و طوقه و زاد في رزقه و أمر لجميع من كان في تلك السميرية بصلات و خلع و عولج أبو العباس من جرحه مدة حتى برأ و أقام أبو أحمد في مدينته الموفقية ممسكا عن حرب الزنج محاصرا لهم بسد الأنهار و سكرها و اعترض من يخرج منهم لجلب الميرة و منتظرا برء ولده حتى كمل بعد شهور كثيرة و انقضت سنة ثمان و ستين و نقل إسحاق بن كنداجيق عن البصرة و أعمالها فولي الموصل و الجزيرة و ديار ربيعة و ديار مضر و دخلت سنة تسع و ستين و أبو أحمد مقيم على الحصار فلما أمن على أبي العباس و ركب على عادته عاود النهوض إلى حرب الناجم قال أبو جعفر و قد كان بهبوذ لما هلك طمع الناجم في أمواله لكثرتها و وفورها و صح عنده أنه ترك مائتي ألف دينار عينا و من الجواهر و غيرها بمثل ذلك فطلب المال المذكور بكل حيلة و حبس أولياء بهبوذ و قرابته و أصحابه و ضربهم بالسياط و أثار دورا من دوره و هدم أبنية من أبنيته طمعا في أن يجد في شي ء منها دفينا فلم يجد من ذلك شيئا فكان فعله هذا أحد ما أفسد قلوب أصحابه عليه و دعاهم إلى الهرب منه و الزهد في صحبته فاستأمن منهم إلى أبي أحمد خلق كثير فوصلهم و خلع عليهم و رأى أن يعبر دجلة من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي فيجعل لنفسه هناك معسكرا و يبني به مدينة أخرى و يضيق خناق الناجم و يتمكن من مغاداته و مراوحته بالحرب فقد كانت الريح العاصف تحول بينه و بين عبور دجلة في كثير من الأيام بالجيش فأمر بقطع النخل المقارب لمدينة الناجم لذلك و إصلاح موضع يتخذه معسكرا و أن يحف بالخنادق و يحصر بالسور ليأمن بيات الزنج و جعل على قواده نوانب لذلك و معهم الفعلة و الرجال فقابل الناجم ذلك بأن جعل علي بن أبان المهلبي و سليمان بن جامع و إبراهيم بن جعفر الهمداني نوبا للحرب و المدافعة عن ذلك و كان أنكلاني بن الناجم ربما حضر في نوبة أيضا و ضم إليه سليمان بن موسى بن الشعراني و قد كان صار إليه من المذار بعد الوقعة التي انهزم فيها و علم الناجم أن أبا أحمد إذا جاوره صعب أمره و قرب على من يريد اللحاق به من الزنج المسافة مع ما يدخل قلوب أصحابه بمجاورته من الرعب و الرهبة و في ذلك انتقاض تدبيره و فساد جميع أموره فكانت الحرب بين قواد أبي أحمد و قواد الناجم متصلة على إصلاح هذا الموضع و مدافعة الزنج عنه و اتفق أن عصفت الرياح يوما و جماعة من قواد أبي أحمد بالجانب الغربي للعمل الذي يريدونه فانتهز الناجم الفرصة في امتناع العبور بدجلة لعصف الريح فرماهم بجميع جيشه و كاثرهم برجله فلم تجد الشذوات التي مع قواد أبي أحمد سبيلا إلى الوقوف بحيث كانت واقفة به لحمل الرياح إياها على الحجارة و خوف أصحابها عليها من التكسر و لم يجدوا سبيلا إلى العبور في دجلة لشدة الريح و اضطراب الأمواج فأوقعت الزنج بهم فقتلوهم عن آخرهم و أفلت منهم نفر فعبروا إلى الموفقية فاشتد جزع أبي أحمد و أصحابه لما نالهم و لما تهيأ للزنج عليهم و عظم بذلك اهتمامهم و تعقب أبو أحمد الرأي فرأى أن نزوله و مقامه بالجانب الغربي مجاور مدينة الناجم خطأ و أنه لا يؤمن منه حيلة و انتهاز فرصة فيوقع بالعسكر بياتا أو يجد مساغا إلى ما يكون له قوة لكثرة الأدغال في ذلك الموضع و صعوبة المسالك و أن الزنج على التوغل في تلك المواضع الوعرة الموحشة أقدر و هو عليهم أسهل من أصحابه فانصرف عن رأيه في نزول الجانب الغربي و صرف همه و قصده إلى هدم سور مدينة الناجم و توسعة الطريق و المسالك لأصحابه في دخولها فندب القواد لذلك و ندب الناجم قواده للمدافعة عنها و طال الأمد و تمادت الأيام فلما رأى أبو أحمد تحاشد الزنج و تعاونهم على المنع من هدم السور أزمع على مباشرة ذلك بنفسه و حضوره إياه ليستدعي بذلك جد أصحابه و اجتهادهم و يزيد في عنايتهم و هممهم فحضر بنفسه و اتصلت الحرب و غلظت على الفريقين و كثر القتل و الجراح في الحزبين و أقام أبو أحمد أياما كثيرة يغاديهم الحرب و يراوحهم فكانوا لا يفترون يوما من الأيام و صعب على أصحاب أبي أحمد ما كانوا يرومونه و اشتدت حماية الزنج عن مدينتهم و باشر الناجم الحرب بنفسه و معه نخبة أصحابه و أبطالهم و المؤمنون أنفسهم على الصبر معه فحاموا جهدهم حتى لقد كانوا يقفون الموقف فيصيب أحدا منهم السهم أو الطعنة أو الضربة فيسقط فيجذبه الذي إلى جانبه فينحيه و يقف موقفه إشفاقا من أن يخلو موقف رجل منهم فيدخل الخلل عليهم و اتفق في بعض الأيام شدة ضباب ستر بعض الناس عن بعض فما يكاد الرجل يبصر صاحبه و ظهر أصحاب أبي أحمد و لاحت تباشير الفتح و دخل الجند إلى المدينة و ولجوها و ملكوا مواضع منها و إنهم لعلى ذلك حتى وصل سهم من سهام الزنج إلى أبي أحمد رماه به رومي كان مع الناجم يقال له قرطاس فأصابه في صدره و ذلك لخمس بقين من جمادى الأولى سنة تسع و ستين و مائتين فستر أبو أحمد و خواصه ما ناله من ذلك عن الناس و انصرف إلى الموفقية آخر نهار يومه هذا فعولج في ليلته تلك و شدت الجراحة و غدا على الحرب على ما ناله من ألمها ليشد بذلك قلوب أصحابه من أن يدخلها وهن أو ضعف فزاد في قوة علته بما حمل على نفسه من الحركة فغلظت و عظم أمرها حتى خيف عليه العطب و احتاج إلى علاج نفسه بأعظم ما يعالج به الجراح و اضطرب لذلك العسكر و الجند و الرعية و خافوا قوة الزنج عليهم حتى خرج عن الموفقية جماعة من التجار كانوا مقيمين بها لما وصل إلى قلوبهم من الرهبة قال أبو جعفر و حدثت على أبي أحمد في حال صعوبة علته حادثة في سلطانه و أمور متعلقة بما بينه و بين أخيه المعتمد فأشار عليه مشيرون من أصحابه و ثقاته بالرحلة عن معسكره إلى بغداد و أن يخلف من يقوم مقامه فأتى ذلك و حاذر أن يكون فيه تلافى ما قد فرق من شمل صاحب الزنج فأقام على صعوبة علته و غلظ الأمر الحادث في سلطانه و صبر إلى أن عوفي فظهر لقواده و خاصته و قد كان أطال الاحتجاب عنهم فقويت برؤيته منتهم و أقام متماثلا مودعا نفسه إلى شعبان من هذه السنة فلما أبل و قوي على الركوب و النهوض نهض و عاود ما كان مواظبا عليه من الحرب و جعل الناجم لما صح عنده الخبر بما أصاب أبا أحمد يعد أصحابه العدات و يمنيهم الأماني و اشتدت شوكتهم و قويت آمالهم فلما اتصل به ظهور أبي أحمد جعل يحلف للزنج على منبره أن ذلك باطل لا أصل له و أن الذي رأوه في الشذا مثال موه و شبه عليهم قلت الحادث الذي حدث على أبي أحمد من جهة سلطانه أن أخاه المعتمد و هو الخليفة يومئذ فارق دار ملكه و مستقر خلافته مغاضبا له متجنيا عليه زاعما أنه مستبد بأموال المملكة و جبايتها مضطهدا له مستأثرا عليه فكاتب ابن طولون صاحب مصر و سأله أن يأذن له في اللحاق به فأجابه ابن طولون إلى ذلك فخرج من سامراء في جماعة من قواده و مواليه قاصدا مصر و كان أبو أحمد هو الخليفة في المعنى و إنما المعتمد صورة خالية من معاني الخلافة لا أمر له و لا نهي و لا حل و لا عقد و أبو أحمد هو الذي يرتب الوزراء و الكتاب و يقود القواد و يقطع الأقطاع و لا يراجع المعتمد في شي ء من الأمور أصلا فاتصل به خبر المعتمد في شخوصه عن سامراء و قصده ابن طولون فكاتب إسحاق بن كنداحيق و هو يومئذ على الموصل و الجزيرة فأمره أن يعترض المعتمد و يقبض عليه و على القواد و الموالي الذين معه و يعيدهم إلى سامراء و كتب لإسحاق بإقطاعه ضياع أولئك القواد و الموالي بأجمعهم فاعترضهم إسحاق و قد قربوا من الرقة فأخذهم و قبض عليهم و قيدهم بالقيود الثقيلة و دخل على المعتمد فعنفه و هجنه و عذله في شخوصه عن دار ملكه و ملك آبائه و مفارقة أخيه على الحال التي هو بها و حرب من يحاول قتله و قتل أهل بيته و زوال ملكهم ثم حملهم في قيودهم حتى وافى بهم سامراء فأقر المعتمد على خلافته و منعه عن الخروج و أرسل أبو أحمد ابنه هارون و كاتبه صاعد بن مخلد من الموفقية إلى سامراء فخلعا على ابن كنداحيق خلعا جليلة و قلد بسيفين من ذهب و لقب ذا السيفين و هو أول من قلد بسيفين ثم خلع عليه بعد ذلك بيوم قباء ديباج أسود و وشاحين مرصعين بالجوهر الثمين و توج بتاج من ذهب مرصع بنفيس الجوهر و قلد سيفا من ذهب مرصع بالجواهر العظيمة و شيعه إلى منزله هارون و صاعد و قعدا على طعامه كل ذلك مكافأة له عن صنيعه في أمر المعتمد فليعجب المتعجب من همة الموفق أبي أحمد و قوة نفسه و شدة شكيمته أن يكون بإزاء ذلك العدو و يقتل من أصحابه كل وقت من يقتل ثم يصاب ولده بسهم و يصاب هو بسهم آخر في صدره يشارف منه على الموت و يحدث من أخيه و هو الخليفة ما يحدث و لا تنكسر نفسه و لا يهي عزمه و لا تضعف قوته و بحق ما سمي المنصور الثاني و لو لا قيامه في حرب الزنج لانقرض ملك أهل بيته و لكن الله تعالى ثبته لما يريده من بقاء هذه الدولة قال أبو جعفر ثم جد الموفق في تخريب السور و إحراق المدينة و جد الناجم في إعداد المقاتلة و المحاطة عن سوره و مدينته فكانت بين الفريقين حروب عظيمة تجل عن الوصف و رمى الناجم سفن الموفق المقاربة لسور مدينته بالرصاص المذاب و المجانيق و العرادات و أمر أبو أحمد بإعداد ظلة من خشب للشذا و إلباسها جلود الجواميس و تغطية ذلك بالخيوش المطلية بصنوف العقاقير و الأدوية التي تمنع النار من الإحراق ففعل ذلك و حورب صاحب الزنج من تحتها فلم تعمل ناره و رصاصه المذاب فيها شيئا و استأمن إلى أبي أحمد محمد بن سمعان كاتب الناجم و وزيره في شعبان من هذه السنة فهد باستئمانه أركان الناجم و أضعف قوته و انتدب أبو العباس لقصد دار محمد بن يحيى الكرنبائي و كانت بإزاء دار الناجم و شرع في الحيلة في إحراقها و أحرق الموفق كثيرا من الرواشين المظلة على سور المدينة و شعثها و علا غلمان أبي أحمد على دار الناجم و ولجوها و انتهبوها و أضرموا النار فيها و فعل أبو العباس بدار الكرنبائي مثل ذلك و جرح أنكلاني بن الناجم في بطنه جراحة شديدة أشفى منها على التلف و اتفق مع هذا الظفر العظيم أن غرق أبو حمزة نصير صاحب جيش الماء عند ازدحام الشذوات و إكباب الزنج على الحرب فصعب ذلك على أبي أحمد و قوي بغرقه أمر الزنج و انصرف أبو أحمد آخر نهار هذا اليوم و عرضت له علة أقام فيها بقية شعبان و شهر رمضان و أياما من شوال ممسكا عن حرب الزنج إلى أن استبل من علته
قال أبو جعفر فلما أحرقت دار الناجم و دور أصحابه و شارف أن يؤخذ و عرضت لأبي أحمد هذه العلة فأمسك فيها عن الحرب انتقل الناجم من مدينته التي بناها بغربي نهر أبي الخصيب إلى شرقيه إلى منزل وعر لا يخلص إليه أحد لاشتباك القصب و الأدغال و الأحطاب فيه و عليه خنادق من أنهار قاطعة معترضة فقطن هناك في خواصه و من تخلف معه من جلة أصحابه و ثقاته و من بقي في نصرته من الزنج و هم حدود عشرين ألف مقاتل و انقطعت الميرة عنهم و بان للناس ضعف أمرهم فتأخر الجلب الذي كان يصل إليهم فبلغ الرطل من خبز البر عندهم عشرة دراهم فأكلوا الشعير ثم أكلوا أصناف الحبوب ثم لم يزل الأمر كذلك إلى أن كانوا يتبعون الناس فإذا خلا أحد منهم بصبي أو امرأة أو رجل ذبحوه و أكلوه ثم صار قوي الزنج يعدو على ضعيفهم فإذا خلا به ذبحه و أكل لحمه ثم ذبحوا أولادهم فأكلوا لحومهم و كان الناجم لا يعاقب أحدا ممن فعل شيئا من ذلك إلا بالحبس و إذا تطاول حبسه أطلقه و لما أبل الموفق من علته و علم انتقال الناجم إلى شرقي نهر أبي الخصيب و اعتصامه به أعمل فكره في تخريب الجانب الشرقي عليه كما فعل بالجانب الغربي ليتمكن من قتله أو أسره فكانت له آثار عظيمة من قطع الأدغال و الدحال و سد الأنهار و طم الخنادق و توسيع المسالك و إحراق الأسوار المبنية و إدخال الشذا و فيها المقاتلة إلى حريم الناجم و في كل ذلك يدافع الزنج عن أنفسهم بحرب شديدة و قتال عظيم تذهب فيها النفوس و تراق فيها الدماء و كان الظفر في ذلك كله لأبي أحمد و أمر الزنج يزداد ضعفا و طالت الأيام على ذلك إلى أن استأمن سليمان بن موسى الشعراني و هو من عظمائهم و قد تقدم ذكره فوجه يطلب الأمان من أبي أحمد فمنعه ذلك لما كان سلف منه من العيث و سفك الدماء بنواحي واسط ثم اتصل بأبي أحمد أن جماعة من رؤساء الزنج قد استوحشوا لمنعه الشعراني من الأمان فأجاب إلى إعطائه الأمان استصلاحا بذلك غيره من رؤساء الزنج و أمر بتوجيه الشذا إلى موضع وقع الميعاد عليه فخرج سليمان الشعراني و أخوه و جماعة من قواده فنزلوا الشذا فصاروا إلى أبي العباس فحملهم إلى أبي أحمد فخلع على سليمان و من معه و حمله على عدة أفراس بسروجها و آلتها و أنزل له و لأصحابه إنزالا سنية و وصله بمال جليل و وصل أصحابه و ضمه و ضمهم إلى أبي العباس و أمر بإظهاره و إظهارهم في الشذا لأصحاب الناجم ليزدادوا ثقة بأمانته فلم تبرح الشذا ذلك اليوم من موضعها حتى استأمن جمع كثير من قواد الزنج فوصلوا و ألحقوا بإخوانهم في الحباء و البر و الخلع و الجوائز فلما استأمن الشعراني اختل ما كان الناجم قد ضبطه به من مؤخر عسكره و قد كان جعله على مؤخر نهر أبي الخصيب فوهى أمره و ضعف و قلد ما كان سليمان يتولاه القائد المعروف بشبل بن سالم و هو من قوادهم المشهورين فلم يمس أبو أحمد حتى وافاه رسول شبل بن سالم يطلب الأمان و يسأل أن يوقف له شذوات عند دار ابن سمعان ليكون قصده في الليل إليها و معه من يثق به من أصحابه فأجيب إلى سؤاله و وافى آخر الليل و معه عياله و ولده و جماعة من قواده فصاروا إلى أبي أحمد فوصله بصلة جليلة و خلع عليه خلعا كثيرة و حمله على عدة أفراس بسروجها و آلتها و وصل أصحابه و خلع عليهم و أحسن إليهم و أرسله في الشذوات فوقفوا بحيث يراهم الناجم و أصحابه نهارا فعظم ذلك عليه و على أوليائه و أخلص شبل في مناصحة أبي أحمد فسأل أن يضم إليه عسكر يبيت به عسكر الناجم و يسلك إليه من مسالك يعرفها هو و لا يعرفها أصحاب أبي أحمد ففعل و كبس عسكر الناجم سحرا فأوقع بهم و هم غارون فقتل منهم مقتلة عظيمة و أسر جمعا من قواد الزنج و انصرف بهم إلى الموفق و ذعر الزنج من شبل و ما فعله فامتنعوا من النوم و خافوا خوفا شديدا فكانوا يتحارسون بعد ذلك في كل ليلة و لا تزال النفرة تقع في عسكرهم لما استشعروا من الخوف و وصل إلى قلوبهم من الوحشة حتى لقد كان ضجيجهم و تحارسهم يسمع بالموفقية و صح عزم الموفق على العبور لمحاربة الناجم في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب فجلس مجلسا عاما و أمر بإحضار قواد المستأمنة و وجوه فرسانهم و رجالتهم من الزنج و البيضان فأدخلوا إليه فخطبهم و عرفهم ما كانوا عليه من الضلالة و الجهل و انتهاك المحارم و ما كان صاحبهم زينه لهم من معاصي الله سبحانه و أن ذلك قد كان أحل له دماءهم و أنه قد غفر الزلة و عفا عن العقوبة و بذل الأمان و عاد على من لجأ إليه بالفضل و الإحسان فأجزل الصلات و أسنى الأرزاق و ألحقهم بالأولياء و أهل الطاعة و أن ما كان منه من ذلك يوجب عليهم حقه و طاعته و أنهم لن يأتوا بشي ء يتعرضون به لطاعة ربهم و الاستدعاء لرضا سلطانهم أولى بهم من الجد في مجاهدة الناجم و أصحابه و أنهم من الخبرة بمسالك عسكر الناجم و مضايق طرق مدينته و المعاقل التي أعدها للحرب على ما ليس عليه من غيرهم فهم أحرى أن يمحضوه نصحهم و يجهدوا على الولوج إلى الناجم و التوغل إليه في حصونه حتى يمكنهم الله منه و من أشياعه فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان و المزيد و من قصر منهم استدعى من سلطانه إسقاط حاله و تصغير منزلته و وضع مرتبته
فارتفعت أصواتهم جميعا بالدعاء للموفق و الإقرار بإحسانه و بما هم عليه من صحة الضمائر من السمع و الطاعة و الجد في مجاهدة عدوه و بذل دمائهم و مهجهم في كل ما يقربهم منه و أن ما دعاهم إليه قد قوى مننهم و دلهم على ثقته بهم و إحلاله إياهم محل أوليائه و سألوه أن يفردهم ناحية و لا يخلطهم بعسكره ليظهر من حسن جهادهم بين يديه و خلوص نياتهم في الحرب و نكايتهم في العدو و ما يعرف به طاعتهم و إقلاعهم عما كانوا عليه من جهلهم فأجابهم إلى ذلك و عرفهم حسن ما ظهر له من طاعتهم فخرجوا من عنده مبتهجين بما أجيبوا به من حسن القول و جميل الوعد قال أبو جعفر ثم استعد أبو أحمد و رتب جيشه و دخل إلى عسكر الناجم بشرقي نهر أبي الخصيب في خمسين ألف مقاتل من البر و البحر فرسانا و رجالة يكبرون و يهللون و يقرءون القرآن و لهم ضجيج و أصوات هائلة فرأى الناجم منهم ما هاله و تلقاهم بنفسه و جيشه و ذلك في ذي القعدة سنة تسع و ستين و مائتين و اشتبكت الحرب و كثر القتل و الجراح و حامى الزنج عن صاحبهم و أنفسهم أشد محاماة و استماتوا و صبر أصحاب أبي أحمد و صدقوا القتال فمن الله عليهم بالنصر و انهزم الزنج و قتل منهم خلق عظيم و أسر منهم أسرى كثيرة فضرب أبو أحمد أعناق الأسارى في المعركة و قصد بنفسه دار الناجم فوافاها و قد لجأ الناجم إليها و معه أنجاد أصحابه للمدافعة عنه فلما لم يغنوا شيئا أسلموها و تفرقوا عنها و دخلها غلمان الموفق و بها بقايا ما كان سلم له من مال و أثاث فأخذوه و انتهبوه و أخذوا حرمه و ولده الذكور و الإناث و تخلص الناجم بنفسه و مضى هاربا نحو دار علي بن أبان المهلبي لا يلوي على أهل و لا ولد و لا مال و أحرقت داره و حمل أولاده و نساؤه إلى الموفقية في التوكيل و قصد أصاب أبي أحمد دار المهلبي و قد لجأ إليها الناجم و أكثر الزنج و تشاغل أصحاب أبي أحمد بنهب الأموال من دور الزنج فاغتنم الناجم تشاغلهم بالنهب فأمر قواده بانتهاز الفرصة و الإكباب عليهم فخرجوا عليهم من عدة مواضع و خرج عليهم كمناء أيضا قد كانوا كمنوهم لهم فكشفوهم و اتبعوهم حتى وافوا بهم نهر أبي الخصيب فقتلوا من فرسانهم و رجالتهم جماعة و ارتجعوا بعض ما كانوا أخذوه من المال و المتاع ثم تراجع الناس و دامت الحرب إلى وقت العصر فرأى أبو أحمد عند ذلك أن يصرف أصحابه فأمرهم بالرجوع فرجعوا على هدوء و سكون كي لا تكون هزيمة حتى دخلوا سفنهم و أحجم الزنج عن أتباعهم و عاد أبو أحمد بالجيش إلى مراكزهم قال أبو جعفر و وافى إلى أبي أحمد في هذا الشهر كاتبه صاعد بن مخلد من سامراء في عشرة آلاف و وافى إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون و كان إليه أمر الرقة و ديار مضر في عشرة آلاف من نخبة الفرسان و أنجادهم فأمر أبو أحمد لؤلؤا أن يخرج في عسكره فيحارب الزنج فخرج بهم و معه من أصحاب أبي أحمد من يدله على الطرق و المضايق فكانت بين لؤلؤ و بين الزنج حرب شديدة في ذي الحجة من هذه السنة استظهر فيها لؤلؤ عليهم و بان من نجدته و شجاعته و إقدام أصحابه و صبرهم على ألم الجراح و ثبات قلوبهم ما سر أبا أحمد و ملأ قلبه قال أبو جعفر فلما دخلت سنة سبعين و مائتين تتابعت الأمداد إلى أبي أحمد من سائر الجهات فوصل إليه أحمد بن دينار في جمع عظيم من المطوعة من كور الأهواز و نواحيها و قدم بعده من أهل البحرين جمع كثير من المطوعة زهاء ألفي رجل يقودهم رجل من عبد القيس و ورد بعد ذلك زهاء ألف رجل من فارس و رئيسهم شيخ من المطوعة يكنى أبا سلمة و كان أبو أحمد يجلس لكل من يرد و يخلع عليه و يقيم لأصحابه الأنزال الكثيرة و يصلهم بالصلات فعظم جيشه جدا و امتلأت بهم الأرض و صح عزمه على لقاء الناجم بجميع عسكره فرتب جيوشه و قسمهم على القواد و أمر كل واحد من القواد أن يقصد جهة من جهات معسكر الناجم عينها له و ركب بنفسه و ركب جيشه و توغلوا في مسالك شرقي نهر أبي الخصيب و لقيهم الزنج و قد حشدوا و استقبلوا فكانت بينهم وقعة شديدة منحهم الله تعالى فيها أكتاف الزنج فولوا منهزمين فاتبعهم أصحاب أبي أحمد يقتلون و يأسرون فقتل منهم كثير و غرق كثير و حوى أصحاب أبي أحمد معسكر الناجم و مدينته و ظفروا بعيال علي بن أبان المهلبي و داره و أمواله فاحتووا عليها و عبر أهله و أولاده إلى الموفقية مع كلابهم و مضى الناجم و معه المهلبي و ابنه أنكلاني و سليمان بن جامع و الهمداني و جماعة من أكابر القواد عامدين إلى موضع كان الناجم قد أعده لنفسه ملجأ إذا غلب على مدينته و داره في النهر المعروف بالسفياني فتقدم أبو أحمد و معه لؤلؤ قاصدين هذا النهر لأن أبا أحمد دل عليه فأوغل في الدخول و فقده أصحابه فظنوا أنه رجع فرجعوا كلهم و عبروا دجلة في الشذا ظانين أنه عبر راجعا و انتهى أبو أحمد و معه لؤلؤ قاصدين هذا النهر فاقتحمه لؤلؤ بفرسه و عبر أصحاب لؤلؤ خلفه و وقف أبو أحمد في جماعة من أصحابه عند النهر و مضى الناجم هاربا و لؤلؤ يتبعه في أصحابه حتى انتهى إلى النهر المعروف بالقربري فوصل إليه لؤلؤ و أصحابه فأوقعوا به و بمن معه فكشفوهم فولوا هاربين حتى عبروا النهر المذكور و لؤلؤ و أصحابه يطردونهم من ورائهم حتى ألجئوهم إلى نهر آخر فعبروه و اعتصموا بدحال وراءه فولجوها و أشرف لؤلؤ و أصحابه عليها فأرسل إليه الموفق ينهاه عن اقتحامها و يشكر سعيه و يأمره بالانصراف فانفرد لؤلؤ هذا اليوم و أصحابه بهذا الفعل دون أصحاب الموفق فانصرف لؤلؤ محمود الفعل فحمله الموفق معه في شذاته و جدد له من البر و الكرامة و رفع المنزلة لما كان منه في أمر الناجم حسبما كان مستحقا له و لهذا نادى أهل بغداد لما أدخل إليهم رأس الناجم بين يدي أبي العباس ما شئتم قولوا كان الفتح للؤلؤ قال أبو جعفر فجمع الموفق في غد هذا اليوم قواده و هو حنق عليهم لانصرافهم عنه و إفرادهم إياه و كان لؤلؤ و أصحابه تولوا طلب الناجم دونهم فعنقهم و عذلهم و وبخهم على ما كان منهم و عجزهم و أغلظ لهم فاعتذروا إليه بما توهموه من انصرافه و أنهم لم يعلموا أنه قد لجج و أوغل في طلب الناجم و أنهم لو علموا ذلك لأسرعوا نحوه ثم تحالفوا بين يديه و تعاقدوا ألا يبرحوا في غد موضعهم إذا توجهوا نحو الزنج حتى يظفرهم الله تعالى به فإن أعياهم ذلك أقاموا حيث انتهى بهم النهار في أي موضع كان حتى يحكم الله بينهم و بينه و سألوا الموفق أن يرد السفن إلى الموفقية بحيث لا يطمع طامع من العسكر في الالتجاء إليها و العبور فيها فقبل أبو أحمد عذرهم و جزاهم الخير عن تنصلهم و وعدهم بالإحسان و أمرهم بالتأهب للعبور ثم عبر بهم على ترتيب و نظام قد أحكمه و قرره و ذلك في يوم السبت لليلتين خلتا من صفر من سنة سبعين و مائتين و قد كان الناجم عاد من تلك الأنهار إلى معسكره بعد انصراف الجيش عنه فأقام به و أمل أن تتطاول به و بهم الأيام و تندفع عنه المناجزة فلقيه في هذا اليوم سرعان العسكر و هم مغيظون محنقون من التقريع و التوبيخ اللاحقين بهم بالأمس فأوقعوا به و بأصحابه وقعة شديدة أزالوهم عن مواقفهم فتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض و اتبعهم الجيش يقتلون و يأسرون من لحقوا منهم و انقطع الناجم في جماعة من كماته من قواد الزنج منهم المهلبي و فارقه ابنه أنكلاني و سليمان بن جامع فكانا في أول الأمر مجتمعين ثم افترقا في الهزيمة فصادف سليمان بن جامع قوم من قواد الموفق فحاربوه و هو في جمع كثيف من الزنج فقتل جماعة من كماته و ظفر به فأسر و حمل إلى الموفق بغير عهد و لا عقد فاستبشر الناس بأسر سليمان و كثر التكبير و الضجيج و أيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحابه غناء و أسر بعده إبراهيم بن جعفر الهمداني و كان من عظماء قواده و أكابر أمراء جيوشه و أسر نادر الأسود المعروف بالحفار و هو من قدماء قواد الناجم فأمر الموفق بتقييدهم بالحديد و تصييرهم في شذاة لأبي العباس و معهم الرجال بالسلاح و جد الموفق في طلب الناجم و أمعن في نهر أبي الخصيب حتى انتهى إلى آخره فبينا هو كذلك أتاه البشير بقتل الناجم فلم يصدق فوافاه بشير آخر و معه كف زعم أنها كفه فقوي الخبر عنده بعض القوة فلم يلبث أن أتاه غلام من غلمان لؤلؤ يركض و معه رأس الناجم فوضعه بين يديه فعرضه الموفق على من كان حاضرا تلك الحال معه من قواد المستأمنة فعرفوه و شهدوا أنه رأس صاحبه فخر ساجدا و سجد ابنه أبو العباس و سجد القواد كلهم شكرا لله تعالى و رفعوا أصواتهم بالتهليل و التكبير و أمر برفع الرأس على قناة و نصبه بين يديه فرآه الناس و ارتفعت الأصوات و الضجيج قال أبو جعفر و قد قيل إنه لما أحيط بالناجم لم يبق معه من رؤساء أصحابه إلا المهلبي فلما علما أنهما مقتولان افترقا فوقف الناجم حتى وصل إليه هذا الغلام و معه جماعة من غلمان لؤلؤ فمانع عن نفسه بسيفه حتى عجز عن الممانعة فأحاطوا به و ضربوه بسيوفهم حتى سقط و نزل هذا الغلام فاحتز رأسه و أما المهلبي فإنه قصد النهر المعروف بنهر الأمير فقذف بنفسه يروم النجاة و قبل ذلك كان ابن الناجم و هو المعروف بأنكلاني فارق أباه و مضى يؤم النهر المعروف بالديناري متحصنا فيه بالأدغال و الآجام فلم يظفر بهما ذلك اليوم و دل الموفق عليهما بعد ذلك و قيل له إن معهما جمعا من الزنج و جماعة من جلة قوادهم فأرسل غلمانه في طلبهما و أمرهم بالتضييق عليهما فلما أحاطت الغلمان بهم أيقنوا أن لا ملجأ لهم و أعطوا بأيديهم فظفر بهم الغلمان و حملوهم إلى الموفق فقتل منهم جماعة و أمر بالاستيثاق من المهلبي و أنكلاني بالحديد و الرجال الموكلين بهما قال أبو جعفر و انصرف في هذا اليوم و هو يوم السبت لليلتين خلتا من صفر أبو أحمد من نهر أبي الخصيب و رأس الناجم منصوب بين يديه على قناة في شذاة يخترق به في النهر و الناس من جانبي النهر ينظرون إليه حتى وافى دجلة فخرج إليها و الرأس بين يديه و سليمان بن جامع و الهمداني مصلوبان أحياء في شذاتين عن جانبيه حتى وافى قصره بالموفقية هذه رواية أبي جعفر و أكثر الناس عليهما و ذكر المسعودي في كتاب مروج الذهب أن الناجم ارتث و حمل إلى أبي أحمد و هو حي فسلمه إلى ابنه أبي العباس و أمر بتعذيبه فجعله كردناجا على النار و جلده ينتفخ و يتفرقع حتى هلك و الرواية الأولى هي الصحيحة و الذي جعل كردناجا هو قرطاس الذي رمى أبا أحمد بالسهم ذكر ذلك التنوخي في نشوار المحاضرة قال كان الزنج يصيحون لما رمى أبو أحمد بالسهم و تأخر لعلاج جراحته عن الحرب ملحوه ملحوه أي قد مات و أنتم تكتمون موته فاجعلوه كاللحم المكسود
قال و كان قرطاس الرامي لأبي أحمد يصيح بأبي العباس في الحرب إذا أخذتني فاجعلني كردناجا يهزأ به قال فلما ظفر به أدخل في دبره سيخا من حديد فأخرجه من فيه و جعله على النار كردناجا قال أبو جعفر ثم تتابع مجي ء الزنج إلى أبي أحمد في الأمان فحضر منهم في ثلاثة أيام نحو سبعة آلاف زنجي لما عرفوا قتل صاحبهم و رأى أبو أحمد بذل الأمان لهم كي لا يبقى منهم بقية يخاف معرتها في الإسلام و أهله و انقطعت منهم قطعة نحو ألف زنجي مالت نحو البر فمات أكثرها عطشا و ظفر الأعراب بمن سلم منهم فاسترقوهم و أقام الموفق بالموفقية بعد قتل الناجم مدة ليزداد الناس بمقامه أنسا و أمانا و يتراجع أهل البلاد إليها فقد كان الناجم أجلاهم عنها و قدم ابنه أبو العباس إلى بغداد و معه رأس الناجم فدخلها يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقين من جمادى الأولى من هذه السنة و رأس الناجم بين يديه على قناة و الناس مجتمعون يشاهدونه و قد روى غير أبي جعفر و ذكره الآبي في مجموعة المسمى نثر الدرر عن العلاء بن صاعد بن مخلد قال لما حمل رأس صاحب الزنج و دخل به المعتضد إلى بغداد دخل في جيش لم ير مثله و اشتق أسواق بغداد و الرأس بين يديه فلما صرنا بباب الطاق صاح قوم من درب من تلك الدروب رحم الله معاوية و زاد حتى علت أصوات العامة بذلك فتغير وجه المعتضد و قال أ لا تسمع يا أبا عيسى ما أعجب هذا و ما الذي اقتضى ذكر معاوية في هذا الوقت و الله لقد بلغ أبي إلى الموت و ما أفلت أنا إلا بعد مشارفته و لقينا كل جهد و بلاء حتى أنجينا هؤلاء الكلاب من عدوهم و حصنا حرمهم و أولادهم فتركوا أن يترحموا على العباس و عبد الله ابنه و من ولد من الخلفاء و تركوا الترحم على علي بن أبي طالب و حمزة و جعفر و الحسن و الحسين و الله لا برحت أو أؤثر في تأديب هؤلاء أثرا لا يعاودون بعد هذا الفعل مثله ثم أمر بجمع النفاطين ليحرق الناحية فقلت له أيها الأمير أطال الله بقاءك إن هذا اليوم من أشرف أيام الإسلام فلا تفسده بجهل عامة لا أخلاق لهم و لم أزل أداريه و أرفق به حتى سار
فأما الذي يرويه الناس من أن صاحب الزنج ملك سواد بغداد و نزل بالمدائن و أن الموفق أرسل إليه من بغداد عسكرا و أصحبهم دنان النبيذ و أمرهم أن ينهزموا من بين يدي الزنج عند اللقاء و يتركوا خيامهم و أثقالهم لينتهبها الزنج و أنهم فعلوا ذلك فظفر الزنج فيما ظفروا به من أمتعتهم بتلك الدنان و كانت كثيرة جدا فشربوا تلك الليلة و سكروا و باتوا على غرة فكبسهم الموفق و بيتهم ليلا و هم سكارى فأصاب منهم ما أراد فباطل موضوع خطبه 128 نهج البلاغه بخش 1 لا أصل له و الذي بيتهم و هم سكارى فنال منهم نيلا تكين البخاري و كان على الأهواز بيت أصحاب علي بن أبان في سنة خمس و ستين و مائتين و قد أتاه الخبر بأنهم تلك الليلة قد عمل النبيذ فيهم و الصحيح أنه لم يتجاوز نهبهم و دخولهم البلاد النعمانية هكذا رواه الناس كلهم قال أبو جعفر فأما علي بن أبان و أنكلاني بن الناجم و من أسر معهما فإنهم حملوا إلى بغداد في الحديد و القد فجعلوا بيد محمد بن عبد الله بن طاهر و معهم غلام للموفق يقال له فتح السعيدي فكانوا كذلك إلى شوال من سنة اثنتين و سبعين و مائتين فكانت للزنج حركة بواسط و صاحوا أنكلاني يا منصور و كان الموفق يومئذ بواسط فكتب إلى محمد بن عبد الله و إلى فتح السعيدي يأمرهما بتوجيه رءوس الزنج الذين في الأسر إليه فدخل فتح السعيدي إليهم فجعل يخرج الأول فالأول فيذبحه على البالوعة كما تذبح الشاة و كانوا خمسة أنكلاني بن الناجم و علي بن أبان المهلبي و سليمان بن جامع و إبراهيم بن جعفر الهمداني و نادر الأسود و قلع رأس البالوعة و طرحت فيها أبدانهم و سد رأسها و وجه برءوسهم إلى الموفق فنصبها بواسط و انقطعت حركه الزنج و يئس منهم ثم كتب الموفق إلى محمد بن عبد الله بن طاهر في جثث هؤلاء الخمسة فأمر بصلبهم بحضرة الجسر فأخرجوا من البالوعة و قد انتفخوا و تغيرت روائحهم و تقشرت جلودهم فصلب اثنان منهم على جانب الجسر الشرقي و ثلاثة على الجانب الغربي و ذاك لسبع بقين من شوال من هذه السنة و ركب محمد بن عبد الله بن طاهر و هو أمير بغداد يومئذ بنفسه حتى صلبوا بحضرته و قد قال الشعراء في وقائع الزنج فأكثروا كالبحتري و ابن الرومي و غيرهما فمن أراد ذلك فليأخذه من مظانه
|