و من لطايف صنعته و عجائب خلقته ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش الّتي يقبضها الضّيآء الباسط لكلّ شي ء، و يبسطها الظّلام القابض لكلّ حىّ، و كيف عشيت أعينها عن أن تستمدّ من الشّمس المضيئة نورا تهتدى به في مذاهبها، و تتّصل بعلانية برهان الشّمس إلى معارفها، و ردعها بتلالؤ ضيائها عن المضىّ في سبحات إشراقها، و أكنّها في مكامنها عن الذّهاب في بلج ايتلاقها، فهى مسدلة الجفون بالنّهار على حذاقها، و جاعلة اللّيل سراجا تستدلّ به في التماس أرزاقها، فلا يردّ أبصارها إسداف ظلمته، و لا تمتنع من المضيّ فيه لغسق دجنّته، فإذا ألقت الشّمس قناعها، و بدت أوضاح نهارها، و دخل من إشراق نورها على الضّباب في و جارها، أطبقت الأجفان على مآقيها، و تبلّغت بما اكتسبته من المعاش في ظلم لياليها، فسبحان من جعل اللّيل لها نهارا و معاشا، و النّهار سكنا و قرارا، و جعل لها أجنحة من لحمها تغرج بها عند الحاجة إلى الطّيران كأنّها شظايا الآذان، غير ذوات ريش و لا قصب إلّا أنّك ترى مواضع العروق بيّنة أعلاما، و لها جناحان لمّا يرّقا فينشقّا، و لم يغلظا فيثقلا، تطير و ولدها لاصق بها، لاجى ء إليها، يقع إذا وقعت، و يرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتّى تشتدّ أركانه، و تحمله للنّهوض جناحه، و يعرف مذاهب عيشه، و مصالح نفسه، فسبحان البارى لكلّ شي ء على غير مثال خلا من غيره.
اللغة
(اللّطايف) جمع لطيفة و هى ما صغر و دقّ و (الغامض) خلاف الواضح و كلّ شي ء خفى مأخذه و (العشا) بالفتح و القصر سوء البصر بالنّهار أو باللّيل و النّهار أو العمى و (الاتّصال) إلى الشي ء الوصول إليه، و في بعض النّسخ متّصل بدل تتّصل و (السّبحات) بضمّتين جمع سبحة و هي النّور و قيل: سبحات الوجه محاسنه لأنّك إذا رأيت الوجه الحسن قلت: سبحان اللَّه.
و (البلج) مصدر بلج كتعب تعبا أى ظهر و وضح، و صبح أبلج بيّن البلج أى مشرق و مضي ء، و قيل: البلج جمع بلجة بالضمّ و هى أوّل ضوء الصّبح و (الايتلاق) اللّمعان يقال: ائتلق و تألّق إذا التمع و (سدل) الثّوب أسد له أرخاه و أرسله و (الجفن) بالفتح غطاء العين من أعلاها و أسفلها، و الجمع جفان و جفون و أجفن و (الحدقة) محرّكة سواد العين و يجمع على حداق كما في بعض النّسخ و على أحداق كما في البعض الآخر و (أسدف) اللّيل اسدافا أى أظلمت، و في بعض النسخ أسداف بفتح الهمزة جمع سدف كأسباب و سبب و هو الظّلمة و (الدّجنة) بضمّ الدّال و تشديد النّون و الدّجن و زان عتلّ الظّلمة و (الضّباب) بالكسر جمع الضبّ الدّابّة المعروفة و (و جارها) بالكسر جحرها الّذي تأوى إليه. و (ماقيها) بفتح الميم و سكون الهمزة و كسر القاف و سكون الياء كما في أكثر النّسخ لغة في المؤق بضمّ الميم و سكون الهمزة أى طرف عينها ممّا يلي الأنف و هو مجرى الدّمع من العين و قيل: مؤخّرهما و عن الأزهرى أجمع أهل اللّغة على أنّ المؤق و الماق بالضمّ و الفتح طرف العين الّذي يلي الأنف، و أنّ الّذي يلي الصّدغ يقال له: اللّحاظ و الماقي لغة فيه، و قال ابن القطاع ما في العين فعلى و قد غلط فيه جماعة من العلماء فقالوا: هو مفعل و ليس كذلك بل الياء في آخره للالحاق، و قال الجوهرى و ليس هو مفعل لأنّ الميم أصليّة و إنّما زيدت في آخره الياء للالحاق و لمّا كان فعلى بكسر اللام نادرا لا أخت لها الحق بمفعل، و لهذا جمع على ماقى على التّوهّم و في بعض النّسخ ماقيها على صيغة الجمع. و (المعاش) ما يعاش به و ما يعاش فيه و بمعنى العيش و هو الحياة، و في بعض النّسخ ليلها بدل لياليها و (الشّظايا) جمع الشّظية و هى القطعة من الشي ء و (الأعلام) جمع علم بالتحريك و هو طراز الثوب و رسم الشّي ء.
الاعراب
قوله: و من لطايف صنعته تقديمه على المسند إليه أعنى قوله: ما أرانا، للتّشويق إلى ذكر المسند إليه و هو من فنون البلاغة كما في قوله:
- ثلاثة تشرق الدّنيا ببهجتهاشمس الضّحى و أبو إسحاق و القمر
و تتّصل في بعض النّسخ بالنصب عطفا على تستمدّ و في بعضها بالرّفع عطفا على تهتدى، و في بعضها و تصل بدله، و ردعها عطف على جملة أرانا، و من في قوله من اشراق نورها زايدة في الفاعل كما زيدت في المفعول في قوله: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» و قوله: غير ذوات ريش، بالنّصب صفة لأجنحة، و قوله: أعلاما بدل من بيّنة أو عطف بيان، و كلمة لها غير موجودة في بعض النّسخ فيكون قوله: جناحان، خبر مبتدأ محذوف أى جناحاه جناحان، و لمّا في قوله: لمّا يرقا بمعنى لم الجازمة.
المعنى
و لمّا فرغ من التّحميد و التّمجيد شرع في المقصود فقال عليه السّلام (و من لطايف صنعته و عجايب خلقته) أى من جملة صنايعه الّتي هى ألطف و أدقّ و أحقّ أن يتعجّب منها (ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش) حيث خالف بينها و بين جميع الحيوانات.
و أشار إلى جهة المخالفة بقوله (الّتي يقبضها الضّياء الباسط لكلّ شي ء، و يبسطها الظّلام القابض لكلّ حىّ) لا يخفى ما في هاتين القرينتين من بديع النظم و حسن التّطبيق، و التّقابل بين القبض و البسط في القرينة الاولى و البسط و القبض في الثانيّة ثمّ المقابلة بين مجموع القرينتين بالاعتبار الذي ذكرنا مضافا إلى تقابل الضياء للظّلام، ثمّ ردّ العجز إلى الصّدر، فقد تضمّن هذه الجملة على و جازتها وجوها من محاسن البديع مع عظم خطر معناها.
و الضمير في يقبضها و يبسطها إمّا عايد إلى الخفافيش بتقدير مضاف، أو على سبيل الاستخدام، و المراد انقباض أعينها في الضّوء، و ذلك لافراط التحلّل في الرّوح النّوري لحرّ النّهار، ثمّ يستدرك ذلك برد اللّيل فيعود الابصار، و قيل: الأظهر إنّه ليس لمجرّد الحرّ و إلّا لزم أن لا يعرضها الانقباض في الشّتاء إلّا إذا ظهرت الحرارة في الهواء، و في الصيّف أيضا في أوائل النّهار، بل ذلك لضعف في قوّتها الباصرة و نوع من التّضاد و التّنافر بينها و بين النّور كالعجز العارض لساير القوى المبصرة عن النظر إلى جرم الشّمس، و أمّا أنّ علة التنافر ما ذا ففيه خفاء و هو منشاء لتعجّب الّذي يشير إليه الكلام.
و إمّا عائد إليها نفسها فيكون المراد بانقباضها ما هو منشأ اختفائها نهارا و إن كان ذلك ناشيا من جهة الابصار.
(و كيف عشيت أعينها) أى عجزت و عميت (عن أن تستمدّ) و تستعين (من الشّمس المضيئة نورا تهتدى به في مذاهبها) أى طرق معاشها و مسالكها في سيرها و انتفاعها (و) عن أن (تتّصل بعلانية برهان الشّمس) أى دليلها الواضح (إلى معارفها) يعني ما تعرفه من طرق انتفاعها و وجوه تصرّفاتها (و ردعها) أى ردّها و منعها (بتلاءلؤ ضيائها عن المضىّ في سبحات إشراقها) أى جلاله و بهائه (و أكنّها) أى سترها و أخفاها (في مكامنها) و محال خفائها عن الذّهاب (في بلج ائتلاقها) و وضوح لمعانها.
(فهى مسدلة الجفون بالنّهار على حداقتها) لانقباضها و تأثّر حاسّتها، و قال البحراني: لأنّ تحلّل الرّوح الحامل للقوّة الباصرة سبب للنّوم أيضا فيكون ذلك الاسدال ضربا من النّوم (و جاعلة اللّيل سراجا تستدلّ به في التماس أرزاقها) أى في طلب الرّزق لها، و اسناد الجاعلة إليها من المجاز العقليّ (فلا يردّ ابصارها إسداف ظلمته) الاضافة للمبالغة و الضّمير عايد إلى اللّيل (و لا تمتنع من المضيّ) و الذّهاب (فيه لغسق دجنّته) الاضافة فيه أيضا للمبالغة (فاذا ألقت الشّمس قناعها) استعارة بالكناية تشبيها للشّمس بالمرأة ذات القناع، و اثبات القناع تخييل و ذكر الالقاء ترشيح، و المراد طلوع الشّمس و بروزها من حجاب الأرض و الآفاق (و بدت أوضاح نهارها) أى ظهر بياضه (و دخل من إشراق نورها على الضّباب في وجارها) و إنّما خصّها بالذّكر إذ من عادتها الخروج من و جارها عند طلوع الشّمس لمواجهة النّور على عكس الخفافيش (أطبقت الأجفان) جواب إذا (على مآقيها و تبلّغت) أى اكتفت و قنعت (بما اكتسبته من المعاش في ظلم لياليها) فتعيش به و تقنع عليه (فسبحان من جعل اللّيل لها نهارا و معاشا) تعيش فيها (و النّهار سكنا و قرارا) لتسكن و تقرّ فيه ثمّ أشار عليه السّلام إلى جهة ثانية لاختلافها لساير الحيوانات بقوله (و جعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران كأنّها شظايا الآذان) لا يخفى ما في هذا التّشبيه من اللّطف و الغرابة (غير ذوات ريش و لا قصب) كما لأجنحة ساير الطيّور (إلّا أنّك ترى مواضع العروق بيّنة أعلاما) أى واضحة ظاهرة مثل طراز الثّوب (و لها جناحان لمّا يرقّا فينشقّا و لم يغلظا فيثقلا) يعني أنّ جناحيه لم يجعلا دقيقين بالغين في الرّقة و لا غليظين بالغين في الغلظ حذرا من الانشقاق و الثّقل المانع من الطيران.
ثمّ أشار عليه السّلام إلى جهة ثالثة للاختلاف بقوله: (تطير و ولدها لاصق بها لا جي ء إليها) أى لائذ و معتصم بها (يقع إذا وقعت و يرتفع إذا ارتفعت لا يفارقها) في حالتي الوقوع و الطيران (حتّى تشتدّ أركانه) و جوانبه الّتي يستند إليها و يقوم بها (و يحمله للنهوض جناحه) و يمكنه الطيران و التصرّف بنفسه (و يعرف مذاهب عيشه و مصالح نفسه) و لما افتتح كلامه بالتحميد ختمه بالتسبيح ليكمل حسن الافتتاح بحسن الاختتام و يتمّ براعة الفاتحة ببراعة الخاتمة فقال (فسبحان البارى ء) الخالق (لكلّ شي ء على غير مثال خلا) أى مضى و سبق (من غيره) يعني أنه لم يخلق الأشياء على حدّ و خالق سبقه بل ابتدعها على وفق الحكمة و مقتضى المصلحة
ظريفة في نوادر الخفاش
قال تعالى: «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ» قال في التفسير: إنّه وضع من الطّين كهيئة الخفّاش و نفخ فيه فصار طائرا.
قال الشّارح في الأحاديث العاميّة قيل للخفّاش: لما ذا الاجناح لك قال: لأنّي تصوير مخلوق، قيل: فلما ذا لا تخرج نهارا قال: حياء من الطّيور، يعنون أنّ المسيح صوّره.
و في البحار في تفسير قوله: «وَ رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ» قال: المشهور بين الخاصّة و العامّة من المفسّرين أنّ الطّير كان هو الخفّاش قال أبو اللّيث في تفسيره: إنّ النّاس سألوا عيسى عليه السّلام على وجه التعنّت فقالوا له: اخلق لنا خفّاشا و اجعل فيه روحا إن كنت من الصادقين، فأخذ طينا و جعل خفاشا و نفخ فيه فاذا هو يطير بين السماء و الأرض، و كان تسوية الطين و النفخ من عيسى عليه السّلام، و الخلق من اللَّه تعالى و يقال: إنّما طلبوا منه خلق خفّاش لأنّه أعجب من ساير الخلق، و من عجائبه أنه دم و لحم، يطير بغير ريش، و يلد كما يلد الحيوان و لا يبيض كما يبيض ساير الطيور، و يكون له الضرع و يخرج اللّبن، و لا يبصر في ضوء النهار و لا في ظلمة اللّيل، و انما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة و بعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدّا، و يضحك كما يضحك الانسان و تحيض كما تحيض المرأة، فلمّا رأوا ذلك منه ضحكوا و قالوا: هذا سحر مبين فذهبوا إلى جالينوس فأخبروه بذلك فقال: آمنوا به و قال الدّميرى في حيوة الحيوان: و الحقّ أنه صنفان و قال قوم: الخفّاش الصغير، و الوطواط الكبير، و هو لا يبصر في ضوء القمر و لا في ضوء النهار، و لما كان لا يبصر نهارا التمس الوقت الذي لا يكون فيه ظلمة و لا ضوء و هو قريب غروب الشمس لأنّه وقت هيجان البعوض، فانّ البعوض، يخرج ذلك الوقت يطلب قوته و هو دماء الحيوان و الخفاش يطلب الطعام فيقع طالب رزق على طالب رزق، و الخفّاش ليس هو من الطير في شي ء لأنّه ذو اذنين و أسنان و خصيتين، و يحيض، و يطهر، و يضحك كما يضحك الانسان، و يبول كما تبول ذوات الأربع، و يرضع ولده و لا ريش له.
قال بعض المفسّرين: لمّا كان الخفّاش هو الذي خلقه عيسى بن مريم باذن اللَّه كان مباينا لصنعه اللَّه و لهذا جميع الطّير تقهره و تبغضه فما كان منها يأكل اللّحم أكله و ما لا ياكل اللّحم قتله، فلذلك لا يطير إلّا ليلا.
و قيل: لم يخلق عيسى غيره، لأنّه أكمل الطّير خلقا و هو أبلغ في القدرة، لأنّ له ثديا و أسنانا و اذنا و قيل: إنّما طلبوا الخفّاش لأنّه من أعجب الطير، إذ هو لحم و دم، يطير بغير ريش، و هو شديد الطيران، سريع التّقلّب، يقتات بالبعوض و الذّباب و بعض الفواكه، و هو مع ذلك موصوف بطول العمر فيقال: إنّه أطول عمرا من النّسر و من حمار الوحش، و تلد انثاه ما بين ثلاثة أفراخ و سبعة، و كثيرا ما يفسد و هو طاير في الهواء، و ليس في الحيوان ما يحمل ولده غيره و القرد و الانسان، و يحمله تحت جناحه، و ربّما قبض عليه بفيه و هو من حنوه و اشفاقه عليه، و ربّما أرضعت الانثى ولدها و هى طائرة، و في طبعه أنّه متى أصابه ورق الدّلب حذر و لم يطر، و يوصف بالحمق، و من ذلك أنّه إذا قيل له: اطرق كرى، لصق بالأرض.
|