و من خطبة له عليه السّلام
و هى المأة و الستون من المختار فى باب الخطب بعثه بالنّور المضي ء، و البرهان الجليّ، و المنهاج البادي، و الكتاب الهادي، أسرته خير أسرة، و شجرته خير شجرة، أغصانها معتدلة و ثمارها متهدّلة، مولده بمكّة، و هجرته بطيبة، علابها ذكره، و امتدّ بها صوته، أرسله بحجّة كافية، و موعظة شافية، و دعوة متلافية، أظهر به الشّرايع المجهولة، و قمع به البدع المدخولة، و بيّن به الأحكام المفصولة، فمن يبتغ غير الإسلام دينا تتحقّق شقوته، و تنفصم عروته، و تعظم كبوته، و يكن مآبه إلى الحزن الطّويل، و العذاب الوبيل، و أتوكّل على اللّه توكّل الإنابة إليه، و أسترشده السّبيل المؤدّية إلى جنّته، القاصدة إلى محلّ رغبته.
اللغة
(بعثه) و ابتعث أرسله فانبعث و (أسرة) الرّجل بالضمّ رهطه الأدنون و (التّهدّل) الاسترخاء و التدلّى و (طيبة) بالفتح و التخفيف اسم مدينة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كطابة و الطيبة و كان اسمها يثرب فسمّاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بطيبة و (التلافي) الاستدراك و (قمعه) يقمعه قهره و ذلّله و ضربه بالمقمعة و زان مكنسة و هى العمود من الحديد أو كالمحجن يضرب به على رأس الفيل و خشبة يضرب به الانسان على رأسه و (كبا) الجواد كبوا عثر فوقع إلى الأرض و انكبّ على وجهه و الاسم الكبوة
الاعراب
الباء في قوله: بالنّور، للمصاحبة و الملابسة، و تعدية القاصدة بالى لتضمينها معنى الافضاء
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة متضمّنة لذكر ممادح النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مناقبه الجميلة ثمّ الموعظة الحسنة و التنفير عن الدّنيا بالتّنبيه على معايبها و مساويها.
قال عليه السّلام (ابتعثه) و في بعض النّسخ بعثه بدله و هما بمعنى كما مرّ (بالنّور المضي ء) أراد به نور النّبوة، و تفسير الشّارح المعتزلي له بالدّين او القرآن و هم لأنّ المراد بالمنهاج الآتي ذلك، و الكتاب أيضا يجي ء ذكره و التّأسيس أولى من التّأكيد (و البرهان الجليّ) أى بالمعجزات الباهرات و الأدلّة الواضحة على حقيّته (و المنهاج المبادى) أى الطّريق الظّاهر يعني الشّريعة و الدّين (و الكتاب الهادى) إلى سبيل الجنّة و طريق النّجاة قال تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. (اسرته خير اسرة و شجرته خير شجرة) أى رهطه خير رهط و أصله خير أصل، و قد مضى شرح هاتين القرينتين في شرح الخطبة الثّالثة و التّسعين مستوفا و لا حاجة هنا إلى الاعادة.
(أغصانها معتدلة) المراد بها الأغصان المعهودة أعني أهل بيت العصمة و الطّهارة فانّ الجمع المضاف إنّما يفيد العموم حيث لا عهد، و القرينة على ارادة الخصوص هنا قائمة و هى قوله معتدلة فانّ الظّاهر أنّ المراد به اعتدالها في الكمالات النّفسانيّة و كونها مصونة من التفريط و الافراط كما قال تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.
روى بريد العجلي في هذه الآية عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: نحن الامّة الوسط.
و في رواية حمران عنه عليه السّلام إنّما انزل اللّه: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً يعني عدلا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.
قال: و لا يكون شهداء على النّاس إلّا الأئمة و الرّسل، فقد علم بما ذكرناه أنّ ما قاله الشّارح البحراني من أنّ لفظ الاغصان مستعار لأشخاص بيته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كعليّ عليه السّلام و أولاده و زوجته و أعمامه و اخوته، و اعتدال هذه الأغصان في الفضل و الشرف سخيف، إذ اعتدال الأوّلين مسلّم، و أمّا الأعمام و الاخوة فقياسهم عليهم فاسد، و التّقارب بينهم ممنوع.
(و ثمارها متهدّلة) أى ثمار هذه الشّجرة الظّاهرة من أغصانها متدلّية و هو كناية عن سهولة الانتفاع بها، و أراد بالثّمار العلوم الحقّة المأخوذة عنهم عليهم السّلام.
(مولده بمكّة) شرّفها اللّه يوم الجمعة عند طلوع الشّمس السّابع عشر من ربيع الأوّل عام الفيل قاله أبو عليّ الطّبرسي و قد تقدّم تفصيل تاريخ ميلاده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و طالع ولادته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في شرح الفصل السّادس عشر من الخطبة الاولى.
(و هجرته بطيبة) هاجر إليها و هو ابن ثلاث و خمسين كما يدلّ عليه ما رواه في كشف الغمّة عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو ابن ثلاث و ستّين سنة في سنة عشر من الهجرة، فكان مقامه بمكّة أربعين سنة، ثمّ نزل عليه الوحى في تمام الأربعين، و كان بمكّة ثلاث عشر سنة، ثمّ هاجر إلى المدينة و هو ابن ثلاث و خمسين سنة، فأقام بالمدينة عشر سنين و قبض صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (علابها) أى في طيبة (ذكره) لأنّه قهر الأعداء و انتصر من الكفّار بعد الهجرة إليها بنصرة أهلها، و لذلك سمّى أهلها بالأنصار (و امتدّ بها صوته) أى انتشرت دعوته فيها و بلغ صيت الاسلام إلى الأصقاع و الأكناف بعد ما هاجر إليها.
(أرسله بحجّة كافية) يعني الآيات القرآنية الكافية في إثبات نبوّته مضافة إلى ساير معجزاته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (و موعظة شافية) لأسقام القلوب و أمراض النّفوس، و المراد بها ما اشتمل عليه الكتاب الكريم و السنّة الكريمة من الوعد و الوعيد و ضرب الأمثال و التّذكير بالقرون الخالية و الامم الماضية الموقظة للخلق من نوم الغفلة و المنقذة لهم من ضلال الجهالة (و دعوة متلافية) متداركة بها ما فسد من نظام أمر الدّين في أيّام الجاهليّة.
(أظهر به الشّرايع المجهولة) الظاهر أنّ المراد بها قوانين الشّريعة النّبويّة الّتي كانت مجهولة بين النّاس ثمّ ظهرت و عرفت بعد وجوده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تشريعه ايّاها، و يجوز أن يراد بها شرايع الماضين من السّنن الّتي لم تكن منسوخة و إنّما كانت مجهولة بين النّاس لبعد العهد و طول الزّمان و اتّباع الهوى فأظهرها النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمر بأخذها و لزومها.
(و قمع به البدع المدخولة) أراد بها ما كان أهل الفترة و أيّام الجاهليّة أبدعوها في الدّين و أدخلوها على الشّرع المبين من عبادة الأصنام و نحرهم لها و حجّهم لأجلها و زعمهم أنّها تقرّبهم إلى اللّه زلفى، و من النّسى ء و الطواف بالبيت عريانا و غيرها من البدع الّتي لا تحصى فأذلّ اللّه سبحانه ببعث النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله تلك البدع و أذلّ المبدعين و قطع دابر الكافرين. (و بيّن به الأحكام المفصولة) أي أحكامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المفصولة الآن ببيانه، لا أنّها كانت مفصولة قبل (فمن يبتغ) و يطلب (غير الاسلام دينا) بعد ما بلغه النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أعلمه و شرعه و أفصح عن معالمه و أقام الأدّلة القاطعة و البراهين السّاطعة على صحّته و حقيّته (تتحقّق شقوته) في الآخرة (و تنفصم عروته) أى ينقطع ما يتمسّك به من حبل النّجاة (و تعظم كبوته) و عثرته فيطيح في نار الجحيم و السّخط العظيم (و يكن) مرجعه و (مآبه إلى الحزن الطويل و العذاب الوبيل) المتضمّن للهلاك و الوبال في دار البوار، و هذا مراد من فسّره بالشّديد.
(و أتوكّل على اللّه توكّل الانابة إليه) أى توكّل الملتفت عن غيره و الرّاجع بكليّته إليه للعلم بأنّ غيره لا يضرّ و لا ينفع و لا يعطى و لا يمنع.
قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في رواية الكافي: أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى داود ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيّته ثمّ تكيده السّماوات و الأرض و من فيهنّ إلّا جعلت له المخرج من بينهنّ، و ما اعتصم عبد من عبادى بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيّته إلّا قطعت أسباب السّماوات من يده و أسخت الأرض من تحته و لم ابال بأىّ واد يهلك.
(و أسترشده السّبيل المؤدّية إلى جنّته القاصدة إلى محلّ رغبته) أى الطّريق الّتي من سلكها أدّته إلى جنّته، و من قصدها أفضته إلى محلّ رغبته.
|