و من كلام له عليه السّلام
و هو المأة و التاسع و الستّون من المختار في باب الخطب كلّم به بعض العرب و قد أرسله قوم من أهل البصرة لمّا قرب منها ليعلم لهم منه عليه السّلام حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم، فبين له من أمره معهم ما علم به انّه على الحقّ ثمّ قال عليه السّلام له: بايع فقال: إنّي رسول قوم و لا احدث حدثا حتّى أرجع إليهم فقال: أرأيت لو أنّ الّذين وراءك بعثوك رائدا تبتغي لهم مساقط الغيث فرجعت إليهم فأخبرتهم عن الكلاء و الماء فخالفوا إلى المعاطش و المجادب ما كنت صانعا فقال كنت تاركهم و مخالفهم إلى الكلاء و الماء، فقال عليه السّلام: فامدد إذا يدك، فقال الرّجل: و اللّه ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجّة عليّ فبايعته. و الرّجل يعرف بكليب الجرمي.
اللغة
(الرائد) المرسل في طلب الكلاء (و الكلاء) بالهمز العشب رطبا كان أو يابسا نقله الفيّومى عن ابن فارس و غيره و الجمع أكلاء مثل سبب و أسباب.
و قال الشارح المعتزلي الكلاء النبت إذا طال و أمكن أن يرعى و أوّل ما يظهر يسمّى الرّطب فاذا طال قليلا فهو الخلاء فاذا طال شيئا آخر فهو الكلاء فاذا يبس فهو الحشيش (و الجرمى) منسوب إلى الجرم بالفتح و هو ابن زبان بطن في قضاعة.
قال الشّارح المعتزلي: منسوب إلى بني جرم بن زبان و هو علاف بن حلوان ابن عمران ابن الحافى بن قضاعة من حمير.
الاعراب
الهمزة في قوله أرأيت للتقرير و جملة تبتغى في محلّ النصب صفة لرائدا جيئت بها للايضاح و جملة ما كنت صانعا جواب لو، و قوله فامدد إذا يدك قال ابن هشام و الصّحيح أنّ نونها أى نون إذن تبدل عند الوقف عليها الفا و قيل يوقف عليها بالنّون لأنّها كنون ان و لن روى عن المازني و المبرّد، و الجمهور يكتبونها بالألف و كذا رسّمت في المصاحف و المازني و المبرّد.
المعنى
اعلم أنّ هذا الكلام كما ذكره الرّضي (كلّم عليه السّلام به بعض العرب) و هو الكليب الجرمي الذي صرّح الرّضي به آخرها (و قد أرسله قوم من أهل البصرة) إلى حضرة أمير المؤمنين (لمّا قرب عليه السّلام منها ليعلم لهم منه عليه السّلام حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم) أى نفوس أهل البصرة (فبيّن عليه السّلام) للرجل المرسل (من أمره معهم) أي مع أهل الجمل (ما) أي برهانا وافيا و دليلا شافيا (علم به) أي علم الرجل بذلك البيان و البرهان (أنه عليه السّلام على الحقّ) و أنّ أصحاب الجمل على الباطل (ثمّ قال عليه السّلام له بايع ف) اعتذر الرّجل و (قال إنّي رسول قوم و لا) ينبغي أن (أحدث حدثا حتّى أرجع إليهم) و اخبرهم بما جرى بيني و بينك.
فلما سمع عذره أراد دفعه بحجّة لا محيص عنها و ضرب مثلا هو ألطف المثال و أوضحها و أحسنها في مقام الاحتجاج (فقال أرأيت) أى أخبرني ما ذا رأيك (لو أنّ الّذين ورائك) أي خلفك (بعثوك رائدا تبتغى لهم مساقط الغيث) و المرعى (فرجعت إليهم فأخبرتهم عن الكلاء و الماء فخالفو) ك و ظعنو (ا إلى المعاطش و المجادب) أي مواضع العطش و الجدب (ما كنت صانعا) أ تتركهم و تخالفهم و تطلب ما شاهدت و رأيت الماء و الكلاء أم تذهب معهم إلى المجادب و المعاطش (فقال) الرّجل (كنت تاركهم و مخالفهم) متوجّها (إلى الكلاء و الماء، فقال عليه السّلام فامدد إذا يدك) لأنّك إذا كنت تارك أصحابك و مفارقهم عند وجدان الكلاء و الماء اللّذين بهما غذاء الأبدان و مادّة حياة الأجسام فتركك إيّاهم و مفارقتك منهم عند وجدان نور العلم و المعرفة و الهداية الذي هو مادّة حياة الأرواح و النفوس أحرى و أولى، (فقال الرّجل: و اللّه ما استطعت أن أمتنع) من البيعة (عند قيام الحجّة عليّ فبايعته).
أقول: هكذا يؤثر الموعظة لأهلها و يهدي اللّه لنوره من يشاء، و يضرب اللّه الأمثال، و مثل اهتداء هذا الرّجل رسول أهل البصرة بنور الولاية اهتداء رسول عايشة و اهتداء رجل آخر من بني عبد قيس رسول الزّبير و طلحة و استبصارهما بعد ما قامت عليهما الحجة.
أمّا رسول عائشة فقد روى في مجلّد الفتن من البحار و في كتاب مدينة المعاجز تأليف السيّد المحدّث السيّد الهاشم البحراني جميعا عن محمّد بن الحسن الصفّار في البصائر عن أحمد بن محمّد الحسن بن عليّ بن النعمان عن أبيه عن محمّد بن سنان رفعه قال: إنّ عايشة قالت التمسوا لي رجلا شديد العداوة لهذا الرجل حتّى أبعثه إليه قال فأتيت به فمثل بين يديها فرفعت إليه رأسها فقالت له ما بلغت من عداوتك لهذا الرّجل فقال كثيرا ما أتمنّى على ربّي أنّه و أصحابه في وسطي فضربت ضربة بالسيف يسبق «يصبغ خ ل» السّيف الدّم قالت فأنت له، اذهب بكتابي هذا فادفعه إليه ظاعنا رأيته أو مقيما أما أنّك إن رأيته ظاعنا رأيته راكبا على بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متنكّبا قوسه معلّقا كنانته على قربوس سرجه، و أصحابه خلفه كأنهم طير صوافّ فتعطيه كتابي هذا و إن عرض عليك طعامه و شرابه فلا تناولنّ منه شيئا فانّ فيه السّحر.
قال: فاستقبلته راكبا فناولته الكتاب ففضّ خاتمه ثمّ قرأه فقال: تبلغ إلى منازلنا فتصيب من طعامنا و شرابنا، فنكتب جواب كتابك، فقال: هذا و اللّه ما لا يكون قال: فسارّ خلفه و أحدق به أصحابه ثمّ قال له: أسألك قال: نعم، و تجيبني قال: نعم.
قال: فنشدتك اللّه هل قالت: التمسوا لى رجلا شديد العداوة لهذا الرّجل فأتيت بك فقالت لك ما بلغ من عداوتك لهذا الرّجل فقلت كثيرا ما أتمنّى على ربّي أنّه و أصحابه في وسطى و انّي ضربت ضربة سبق «صبغ خ ل» السّيف الدّم قال: اللّهمّ نعم.
قال: فنشدتك اللّه أقالت لك: اذهب بكتابي هذا فادفعه إليه ظاعنا كان أو مقيما أما إنك إن رأيته راكبا رأيته على بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متنكّبا قوسه معلّقا كنانته بقربوس سرجه و أصحابه خلفه كأنهم طير صواف قال: اللّهمّ نعم.
قال عليه السّلام: فنشدتك اللّه هل قالت لك إن عرض عليك طعامه و شرابه فلا تناولنّ منه شيئا فانّ فيه السحر قال: اللّهمّ نعم.
قال: فتبلغ أنت عني فقال: اللّهمّ نعم فاني قد أتيتك و ما في الأرض خلق أبغض إلىّ منك و أنا الساعة ما في الأرض خلق أحبّ إلىّ منك فمر بي بما شئت.
قال عليه السّلام: ارجع اليها بكتابي هذا، و قل لها ما أطعت اللّه و لا رسوله حيث أمرك اللّه بلزوم بيتك فخرجت تردّدين في العسكر، و قل لهما«» ما أنصفتما اللّه و رسوله، حيث خلفتم حلائلكم في بيوتكم و أخرجتم حليلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
قال: فجاء بكتابه فطرحه إليها و أبلغها مقالته ثمّ رجع إليه فاصيب بصفّين، فقالت ما نبعث إليه بأحد إلّا أفسده علينا. و أمّا رسول طلحة و الزّبير ففي الكافي عن محمّد بن يعقوب الكلينيّ عن عليّ ابن ابراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن سلّام بن عبد اللّه، و محمّد بن الحسن، و عليّ بن سهل بن زياد، و أبو عليّ الأشعري، عن محمّد بن حسان جميعا، عن محمّد بن عليّ عن عليّ بن أسباط عن سلام بن عبد اللّه الهاشميّ قال محمّد بن عليّ: و قد سمعته منه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: بعث طلحة و الزّبير رجلا من عبد القيس يقال له خداش إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و قالا له: إنّا نبعثك إلى رجل طال ما نعرفه و أهل بيته بالسّحر و الكهانة و أنت أوثق من بحضرتنا من أنفسنا من أن تمتنع من ذلك و أن تحاجّه لنا حتّى تقفه على أمر معلوم.
و اعلم أنّه أعظم النّاس دعوى فلا يكسرنّك ذلك عنه، و من الأبواب التي يخدع بها النّاس الطعام و الشراب و العسل و الدّهن و أن يخالي الرجل فلا تأكل له طعاما، و لا تشرب له شرابا، و لا تمسّ له عسلا و لا دهنا، و لا تخل معه، و احذر هذا كلّه منه و انطلق على بركة اللّه.
فاذا رأيته فاقرأ آية السخرة«» و تعوّذ باللّه من كيده و كيد الشّيطان، فاذا جلست إليه فلا تمكّنه من بصرك كلّه و لا تستأنس به ثمّ قل له إنّ أخويك في الدّين و ابني عمّك في القرابة يناشدانك القطيعة، و يقولان لك أما تعلم أنا تركنا الناس لك، و خالفنا عشائرنا فيك منذ قبض اللّه عزّ و جلّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فلمّا نلت أدنى مناك ضيّعت حرمتنا، و قطعت رجائنا.
ثمّ قد رأيت أفعالنا فيك، و قدرتنا على الناس عنك، و سعة البلاد دونك، و انّ من كان يصرفك عنا و عن صلتنا كان أقلّ لك نفعا و أضعف عنك دفعا منّا، و قد وضح الصبح لذى عينين. و قد بلغنا انتهاك لنا و دعاء علينا فما الّذي يحملك على ذلك فقد كنّا نرى أنك أشجع فرسان العرب أتتّخذ اللّعن دينا و ترى أنّ ذلك يكسرنا عنك.
فلما أتى خداش إلى أمير المؤمنين عليه السّلام صنع ما أمراه فلمّا نظر إليه عليّ عليه السّلام و هو يناجي نفسه ضحك و قال عليه السّلام: ههنا يا أخا عبد قيس و أشار له إلى مجلس قريب منه، فقال: ما أوسع المكان اريد أن اؤدّى إليك رسالة قال عليه السّلام بل تطعم و تشرب و تحل «تخلى خ ل» ثيابك و تدّهن، ثمّ تؤدّى رسالتك، قم يا قنبر فأنزله.
قال ما بى إلى شي ء مما ذكرت حاجة قال فأخلو بك قال كلّ سرّ لي علانية قال فانشدك باللّه الذي هو أقرب إليك من نفسك، الحائل بينك و بين قلبك، الّذي يعلم خائنة الأعين و ما تخفى الصدور، أتقدّم عليك الزبير بما عرضت عليك قال: اللهمّ نعم.
قال: لو كتمت بعد ما سألتك ما ارتدّ إليك طرفك فأنشدك اللّه هل علّمك كلاما تقوله إذا أتيتني قال: اللهمّ نعم، قال عليه السّلام آية السخرة قال نعم.
قال: فاقرأها فقرأها و جعل عليّ عليه السّلام يكرّرها و يردّدها و يصحّح عليه إذا أخطأ حتّى إذا قرئها سبعين مرّة.
قال الرّجل ما يرى أمير المؤمنين عليه السّلام بتردّدها سبعين مرّة، قال له: أتجد قلبك اطمأنّ قال: أي و الّذي نفسي بيده قال: فما قالا لك فأخبره، فقال: قل لهما كفى بمنطقكما حجّة عليكما و لكنّ اللّه لا يهدي القوم الظالمين زعمتما أنكما أخواى في الدّين و ابنا عمّي في النسب فأمّا النسب فلا أنكره و إن كان النسب مقطوعا إلّا ما وصله اللّه بالاسلام و أمّا قولكما أنكما أخواى في الدّين، فان كنتما صادقين فقد فارقتما كتاب اللّه عزّ و جلّ، و عصيتما أمره بأفعالكما في أخيكما في الدّين، و إلّا فقد كذبتما و افتريتما بادّعائكما أنكما أخواى في الدّين.
و أمّا مفارقتكما الناس منذ قبض اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فان كنتما فارقتماهم بحقّ فقد نقضتما ذلك الحقّ بفراقكما إيّاى أخيرا و إن فارقتماهم بباطل فقد وقع إثم ذلك الباطل عليكما مع الحدث الّذي أحدثتما. مع أنّ صفتكما بمفارقتكما الناس لم يكن إلّا لطمع الدّنيا، زعمتما و ذلك قولكما فقطعت رجائنا، لا تعيبان بحمد اللّه من ديني شيئا.
و أمّا الّذي صرفني عن صلتكما فالّذي صرفكما عن الحقّ و حملكما على خلعه من رقابكما كما يخلع الحرون لجامه، و هو اللّه ربّي لا اشرك به شيئا فلا تقولا أقلّ نفعا و أضعف دفعا فتستحقّا اسم الشرك مع النفاق.
و أمّا قولكما إنّي أشجع فرسان العرب و هربكما من لعني و دعائي، فانّ لكلّ موقف عملا و اذا اختلفت الأسنّة و ماجت لبود الخيل و ملأ سحرا كما أجوافكما فثمّ يكفيني اللّه بكمال القلب.
و أمّا اذا أبيتما بأنى أدعو اللّه فلا تجزعا من أن يدعو عليكما رجل ساحر من قوم سحرة زعمتما.
اللّهم أقعص«» الزبير بشرّ قتلة، و اسفك دمه على ضلالة، و عرّف طلحة المذلّة و ادّخر لهما في الاخرة شرا من ذلك ان كانا ظلماني و افتريا عليّ و كتما شهادتهما و عصياك و عصيا رسولك فيّ، قل آمين قال خداش: آمين.
ثمّ قال خداش لنفسه ما رأيت لحية قطّ أبين خطأ منك حامل حجّة ينقض بعضها بعضا لم يجعل اللّه لها مساكا«» أنا أبرء إلى اللّه منهما.
قال عليّ عليه السّلام ارجع إليهما و أعلمهما ما قلت قال: لا و اللّه حتّى تسئل اللّه أن يردّني إليك عاجلا و ان يوفّقني لرضاه فيك، ففعل فلم يلبث أن انصرف و قتل معه يوم الجمل رحمه اللّه.
|