أيّها النّاس و اللّه ما أحثّكم على طاعة إلّا و أسبقكم إليها، و لا أنهيكم عن معصية إلّا و أتناهى قبلكم عنها.
المعنى
ثمّ قال: (أيها النّاس و اللّه ما أحثّكم على طاعة إلّا أسبقكم إليها و لا أنهاكم عن معصية إلّا و أتناهى قبلكم عنها) لأنّ الأمر بالمعروف بعد الاتيان به و النّهي عن المنكر بعد التّناهى عنه أقوى تأثّرا و أكثر ثمرا كما مرّ في شرح الفصل الثاني من الخطبة المأة و الرّابعة، و قد لعن الامرين بالمعروف التاركين له و الناهين عن المنكر العاملين به في الخطبة المأة و التاسعة و العشرين.
تبصرة
ما تضمّنه ذيل هذه الخطبة من علمه عليه السّلام بالغيب قد مرّ تحقيق الكلام فيه في شرح الفصل الثاني من الخطبة المأة و الثّامنة و العشرين و أوردنا ثمّة بعض اخباره الغيبيّة و قدّمنا فصلا مشبعا من اخباره عن الغيوب في شرح الكلام السادس و الخمسين و شرح الخطبة الثانية و التسعين، و أحببت أن أورد طرفا صالحا منها هنا مما يناسب المقام نقلا من كتاب مدينة المعاجز تأليف السّيّد السند الشارح المحدّث السيّد هاشم البحراني قدّس سرّه فأقول: منها ما رواه عن ابن شهر آشوب بسنده عن إسماعيل بن أبي زياد قال: إنّ عليّا عليه السّلام قال للبراء بن عازب: يا براء يقتل ابني الحسين عليه السّلام و أنت حيّ لا تنصره، فلما قتل الحسين عليه السّلام كان البراء يقول: صدق و اللّه أمير المؤمنين عليه السّلام و جعل يتلهّف و منها ما رواه عن ابن شهر آشوب عن سفيان بن عيينة عن طاوس اليماني أنّه قال عليّ عليه السّلام لحجر البدري: يا حجر إذا وقعت على منبر صنعاء و امرت بسبّي و البراءة منّي قال: فقلت: أعوذ باللّه من ذلك، قال عليه السّلام و اللّه إنّه لكائن، فاذا كان كذلك فسبّني و لا تتبرّء منّي فانه من تبرّء منّي في الدّنيا تبرّأت منه في الاخرة.
قال طاوس فأخذه الحجّاج على أن يسبّ عليّا عليه السّلام فصعد المنبر و قال: أيّها النّاس إنّ أميركم هذا أمرني أن ألعن عليّا فالعنوه لعنه اللّه. و منها ما رواه عن ابن شهر آشوب عن عبد اللّه بن أبي رافع قال: حضرت أمير المؤمنين عليه السّلام و قد وجّه أبا موسى الأشعري فقال له احكم بكتاب اللّه و لا تجاوزه، فلما أدبر قال عليه السّلام و كأنّي به و قد خدع، قلت: يا أمير المؤمنين فلم توجهه و أنت تعلم أنّه مخدوع فقال عليه السّلام: يا بنيّ لو عمل اللّه في خلقه بعلمه ما احتجّ عليهم بالرّسل.
و منها ما رواه عن ابن شهر آشوب أنه عليه السّلام أخبر بقتل جماعة منهم حجر بن عدىّ و رشيد الهجرى و كميل بن زياد و ميثم التّمار و محمّد بن اكثم و خالد بن مسعود و حبيب بن المظاهر و حويرثه و عمرو بن الحمق و مزرع و غيرهم، و وصف قاتلهم و كيفيّة قتلهم. عبد العزيز بن صهيب عن أبي العالية قال: حدّثنى مزرع بن عبد اللّه قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يقول أما و اللّه ليقبلنّ جيش حتى إذا كان بالبيداء خسف بهم فقلت: هذا علم غيب، قال: و اللّه ليكوننّ ما أخبرني به أمير المؤمنين عليه السّلام و ليأخذنّ رجل فليقتلنّ و ليصلبنّ بين شرفتين من شرف هذا المسجد، فقلت: هذا ثان، قال حدّثني الثقة المأمون عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال أبو العالية فما أتت علينا جمعة حتى اخذ مزرع و صلب بين الشرفتين.
و منها ما رواه عن البرسي عن محمّد بن سنان و ساق الحديث قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يقول لعمر«»: يا عمر يا مغرور إني أراك في الدّنيا قتيلا بجراحة من عبد امّ معمر تحكم عليه جورا فيقتلك توقيعا يدخل بذلك الجنّة على رغم منك.
و منها ما رواه عن ثاقب المناقب عن إبراهيم بن محمّد الأشعري عمّن رواه قال إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أراد أن يبعث بمال إلى البصرة فعلم ذلك رجل من أصحابه فقال لو أتيته فسألته أن يبعث معى بهذا المال فاذا دفعه إلىّ أخذت طريق المكرجة فذهبت به، فأتاه عليه السّلام و قال: بلغنى أنك تريد أن تبعث بمال إلى البصرة، قال: نعم قال: فادفعه إلىّ فابلغه تجعل لي ما تجعل لمن تبعثه فقد عرفت صحبتي قال: فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام: خذ طريق المكرجة.
و منها ما رواه عن الخصيبي في هدايته باسناده عن فضيل بن الزبير قال: مرّ ميثم التمار على فرس له فاستقبل حبيب بن مظاهر عند مجلس بني أسد فتحدّثا حتّى التقت أعناق فرسيهما، ثمّ قال حبيب: لكأنّى برجل أصلع ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرّزق و قد صلب في حبّ أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يبقر بطنه على الخشبة، فقال ميثم: و إنّى لأعرف رجلا أحمر له ضفيرتان يخرج لنصرة ابن بنت نبيّه فيقتل و يجال برأسه بالكوفة و اجيز الّذي جاء به ثمّ افترقا، فقال أهل المجلس: ما رأينا أعجب من أصحاب أبي تراب يقولون إنّ عليا عليه السّلام أعلمهم بالغيب، فلم يفترق أهل المجلس حتّى أقبل رشيد الهجري ليطلبهما فسأل أهل المجلس عنهما فقالوا قد افترقا و سمعناهما يقولان كذا و كذا، قال رشيد لهم: رحم اللّه ميثما و حبيبا قد نسى أنّه يزاد في عطاء الّذي يجي ء برأسه مأئة درهم، ثمّ ولّى، فقال أهل المجلس: هذا و اللّه أكذبهم، فما مرّت الأيّام حتّى رأى أصحاب المجلس ميثما مصلوبا على باب عمرو بن حريث، و جي ء برأس حبيب بن مظاهر من كربلا و قد قتل مع الحسين بن عليّ عليهما السّلام إلى عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه، و زيد في عطاء الذي حمل رأس حبيب مأئة درهم كما ذكر و رؤى كلّما قاله أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام أخبرهم به أمير المؤمنين عليه السّلام.
و منها ما رواه عن الخصيبي مسندا عن أبي حمزة الثّمالي عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سرية فقال: تصلون ساعة كذا و كذا من اللّيل أرضا لا تهتدون فيها سيرا فاذا وصلتم إليها فخذوا ذات الشمال فانكم تمرّون برجل فاضل خيّر فتسترشدونه فيأبي أن يرشدكم حتّى تأكلوا من طعامه و يذبح لكم كبشا فيطعمكم ثمّ يقوم معكم فيرشدكم على الطريق فاقرءوه منّي السّلام و أعلموه أنّي قد ظهرت في المدينة.
فمضوا فلمّا وصلوا إلى الموضع في الوقت ضلّوا، فقال قائل منهم: ألم يقل لكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خذوا ذات الشمال، ففعلوا فمرّوا بالرجل الّذي وصفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاسترشدوه الطريق فقال: إنّي لا ارشدكم حتّى تأكلوا من طعامي فذبح لهم كبشا فأكلوا من طعامه و قام معهم فأرشدهم الطريق فقال: أظهر النبيّ صلوات اللّه عليه و آله بالمدينة فقالوا: نعم، فأبلغوه سلامه فخلّف في شأنه من خلّف و مضى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو عمرو بن الحمق الخزاعى ابن الكاهن بن حبيب بن عمرو بن القين بن درّاج بن عمرو بن سعد بن كعب، فلبث معه عليه السّلام ما شاء اللّه.
ثمّ قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ارجع إلى الموضع الذي هاجرت إلىّ منه فاذا نزل أخى أمير المؤمنين عليه السّلام الكوفة و جعلها دار هجرته فاته.
فانصرف عمرو بن الحمق إلى شأنه حتّى إذا نزل أمير المؤمنين عليه السّلام أتاه فأقام معه في الكوفة.
فبينا أمير المؤمنين عليه السّلام جالس و عمرو بين يديه فقال له يا عمرو ألك دار قال: نعم، قال: بعها و اجعلها في الأزد فاني غدا لو قد غبت عنكم لطلبت فتتبعك الأزد حتّى تخرج من الكوفة متوجّها نحو الموصل.
فتمرّ برجل نصرانيّ فتقعد عنده فتستسقيه الماء فيسقيكه و يسألك عن شأنك فتخبره و ستصادفه مقعدا فادعه إلى الاسلام فانّه يسلم فاذا أسلم فامرر بيدك على ركبتيه فانّه ينهض صحيحا سليما، و يتبعك.
و تمرّ برجل محجوب جالس على الجادّة فتستسقيه الماء فيسقيك و يسألك عن قصّتك و ما الّذي أخافك و ممّن تتوقع فحدّثه بأنّ معاوية طلبك ليقتلك و يمثل بك لايمانك باللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و طاعتك لي و إخلاصك في ولايتي و نصحك للّه تعالى في دينك فادعه إلى الاسلام فانّه يسلم، فامرر يدك على عينيه فانه يرجع بصيرا باذن اللّه فيتّبعانك و يكونان معك و هما اللّذان يواريان جثّتك في الأرض.
ثمّ تصير إلى الدّير على نهر يدعى بالدّجلة فانّ فيه صديقا عنده من علم المسيح عليه السّلام ما تجده لك أعون الأعوان على سرّك و ما ذاك إلّا ليهديه اللّه لك فاذا أحسّت بك شرطة ابن امّ الحكم و هو خليفة معاوية بالجزيرة و يكون مسكنه بالموصل فاقصد إلى الصّديق الذي في الدّير في أعلى الموصل فناده فانه يمتنع عليك فاذكر اسم اللّه الذى علّمتك إيّاه فانّ الدّير يتواضع لك حتّى تصير في ذروته فاذا رآك ذلك الراهب الصديق قال لتلميذ معه ليس هذا أوان المسيح هذا شخص كريم و محمّد قد توفاه اللّه و وصيّه قد استشهد بالكوفة و هذا من حواريه ثمّ يأتيك ذليلا خاشعا فيقول لك أيّها الشخص العظيم قد أهلتني لما لم استحقّه فبم تأمرني فتقول استر تلميذي هذين عندك و تشرف على ديرك هذا فانظر ما ذا ترى، فاذا قال لك إنّى أرى خيلا غامرة نحونا.
فخلّف تلميذيك عنده و انزل و اركب فرسك و اقصد نحو غار على شاطى ء الدّجلة تستتر فيه فانّه لا بدّ من أن يسترك و فيه فسقة من الجنّ و الانس، فاذا استترت فيه عرفك فاسق من مردة الجنّ يظهر لك بصورة تنّين فينهشك نهشا يبالغ في اضعافك فينفر فرسك فتبدر بك الخيل فيقولون هذا فرس عمرو و يقفون اثره.
فاذا أحسست بهم دون الغار فابرز إليهم بين دجلة و الجادّة فقف لهم في تلك البقعة فانّ اللّه جعلها حفرتك و حرمك فالقهم بسيفك فاقتل منهم ما استطعت حتّى يأتيك أمر اللّه فاذا غلبوك حزّوا رأسك و شهروه على قناة إلى معاوية و رأسك أوّل رأس يشهر في الاسلام من بلد إلى بلد.
ثمّ بكى أمير المؤمنين عليه السّلام و قال: بنفسى ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ثمرة فؤاده و قرّة عينه ابني الحسين فانّى رأيته يسير و ذراريه بعدك يا عمرو من كربلا بغربى الفرات إلى يزيد بن معاوية عليهما لعنة اللّه.
ثمّ ينزل صاحبك المحجوب و المقعد فيواريان جسدك في موضع مصرعك و هو من الدير و الموصل على مأئة و خمسين خطوة من الدّير.
إلى غير هذه مما لا نطيل بروايتها، و قد وضح و اتّضح لك مما أوردناه من الاخبار تصديق ما ذكره عليه السّلام في هذه الخطبة من علمه عليه السّلام بالغيب و أنه يعلم أعمال الناس و أفعالهم و يطلع على ما أعلنوه و ما أسرّوه، و يعرف مهلك من يهلك و منجى من ينجو، و يخبر من ذلك ما يتحمّل على من يتحمّل من خواصّه و بطانته سلام اللّه عليه و آله و شيعته.
|