و من خطبة له عليه السّلام
و هى المأة و السابعة و السبعون من المختار في باب الخطب خطبها بعد قتل عثمان في أوّل خلافته كما في شرح المعتزلي و البحراني.
لا يشغله شأن، و لا يغيّره زمان، و لا يحويه مكان، و لا يصفه لسان، لا يعزب عنه عدد قطر الماء، و لا نجوم السّماء، و لا سوا في الرّيح في الهواء، و لا دبيب النّمل على الصّفاء، و لا مقيل الذّرّ في اللّيلة الظّلماء، يعلم مساقط الأوراق، و خفيّ طرف الأحداق. و أشهد أنّ لا إله إلّا اللّه غير معدول به، و لا مشكوك فيه، و لا مكفور دينه، و لا مجحود تكوينه، شهادة من صدقت نيّته، و صفت دخلته، و خلص يقينه، و ثقلت موازينه. و أشهد أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبده و رسوله، المجتبى من خلايقه، و المعتام لشرح حقايقه، و المختصّ بعقايل كراماته، و المصطفى لكرائم رسالاته، و الموضحة به أشراط الهدى، و المجلوّ به غريب العمى.
اللغة
(سفت) الريح التراب أى ذرته و (الدّخلة) بالكسر و الضمّ باطن الشي ء و (المعتام) بالتاء المثناة فاعل من اعتام أى اختار مأخوذ من العتمة و هو خيار المال و (الغربيب) وزان قنديل الأسود شديد السواد قال سبحانه: وَ غَرابِيبُ سُودٌ.
الاعراب
الظاهر تعلّق قوله في اللّيلة الظلماء بالدّبيب و المقيل على سبيل التنازع، و غير معدول بنصب غير حال من اللّه
المعنى
اعلم أنّ مدار هذه الخطبة على فصول أربعة
أولها تنزيه اللّه سبحانه و تمجيده
بجملة من أوصاف الجلال و صفات الجمال و هو قوله (لا يشغله شأن) عن شأن أى أمر عن أمر لأنّ الشغل عن الشي ء بشي ء آخر إمّا لنقصان القدرة أو العلم و هو تعالى على كلّ شي ء قدير و بكلّ شي ء محيط، فلا يشغله مقدور عن مقدور و لا معلوم عن معلوم (و لا يغيّره زمان) لأنّه تعالى واجب الوجود و المتغيّر في ذاته أو صفاته لا يكون واجبا فلا يلحقه التغيّر و لأنه خالق الزّمان و لا زمان يلحقه فلا تغيّر يلحقه بتغيّره (و لا يحويه مكان) اذ لو كان محويا يلزم أن يكون محدودا و كلّ محدود جسم، و قد عرفت في شرح الفصل الخامس من الخطبة الأولى و في شرح الخطبة المأة و الثانية و الخمسين تحقيق الكلام في تنزّهه عن المكان و عن الحدود بما لا مزيد عليه فليراجع المقامين.
و أقول هنا مضافا إلى ما سبق: إنّ المشبّهة قد تعلّقت بقوله سبحانه: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ، في أنّ معبودهم جالس على العرش و قد تقدّم في شرح الفصل الخامس من الخطبة الاولى تأويل هذه الاية و ظهر لك فساد قولهم و بطلان تمسّكهم بها، و قد أقام المتكلّمون المتألهون أدلّة عقليّة و نقليّة على فساد مذهبهم و على استغنائه تعالى عن المكان لا بأس بالاشارة إلى جملة منها.
أحدها أنّه تعالى كان و لا عرش و لا مكان، و لما خلق الخلق لم يحتج إلى مكان غنيّا عنه فهو بالصّفة التي كان لم يزل عليها إلّا أن يقال لم يزل مع اللّه شي ء كالعرش و هو أيضا باطل لأنه يلزم أن يخلو عن المكان عند ارتحاله عن بعضها إلى بعض فيختلف نحو وجوده بالحاجة إلى المكان و الاستغناء عنه و هو محال.
ثانيها أنّ الجالس على العرش إما أن يكون متمكنا من الانتقال و الحركة عنه أم لا، فعلى الأوّل يلزم ما ذكرنا من الاستغناء و الاختلاف في نحو الوجود أعنى التجرّد و التجسّم.
لا يقال: هذا منقوض بانتقال الانسان مثلا من مكان إلى مكان.
قلنا إنّه ينتقل على الاتّصال من مكان إلى مكان و هو فيما بينهما لم ينفكّ عن المكان و أمّا البارى جلّ ذكره فالمكان الّذي ينتقل إليه مخلوق له فلا بدّ أن يخلقه أوّلا حتى يمكن انتقاله إليه فهو فيما بين مجرّد عن المكان و على الثاني يكون كالزّمن بل أسوء حالا منه، فان الزّمن يتمكّن من الحركة على رأسه و معبودهم غير متمكّن و ثالثها أنّ الجالس على العرش لابدّ و أن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الجزء الحاصل منه في شمال العرش فيكون مركّبا مؤلفا من الأجزاء المقدارية و مركبا من صورة زيادة، و كلّ من كان كذلك يحتاج إلى مؤلّف و مركّب و الحاجة من أوصاف الممكن، هذا.
و هذه الأدلّة الثلاث كما يبطل كونه جالسا على العرش كذلك تبطل كونه محويا للمكان أىّ مكان كان كما هو غير خفىّ على الفطن العارف فتدبّر.
(و لا يصفه لسان) أى لا يقدر لسان على وصفه و مدحه لأنّ اللّسان إنّما هو ترجمان للقلب معبّر عن المعاني المخزونة فيه، و القلب إذا كان عاجزا عن البلوغ إلى وصفه و عن تعقّل صفاته فاللّسان أعجز و ألكن.
بيان ذلك أنّ وصف الشي ء و الثّناء عليه إنّما يتصوّر إذا كان مطابقا لما هو عليه في نفس الأمر، و ذلك غير ممكن إلّا بتعقّل ذاته و كنهه، لكن لا يمكن للعقول تعقّل ذاته سبحانه و تعقّل ما له من صفات الكمال و نعوت الجلال، لأنّ ذلك التعقّل إمّا بحصول صورة مساوية لذاته تعالى و صفاته الحقيقيّة الذاتيّة أو بحضور حقيقته و شهود ذاته المقدّسة و الأوّل محال إذ لا مثل لذاته كما قال عزّ من قائل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ، لأنّ كلّ ما له مثل أو صورة مساوية له فهو ذو جهة كلّية و هو تعالى لا مهيّة له، و الثاني أيضا كذلك إذ كلّ ما سواه من العقول و النفوس و الذّوات و الهويّات معلول له مقهور تحت جلاله و عظمته و كبريائه كانقهار عين الخفّاش تحت نور الشمس، فلا يمكن للعقول لقصورها عن درجة الكمال الواجبي إدراك ذاته على وجه الاكتناه و الاحاطة، بل كلّ عقل له مقام معلوم لا يقدر على التعدّي عنه إلى ما فوقه، و لهذا قال جبرئيل الأمين لما تخلّف عن خير المرسلين ليلة المعراج: لو دنوت أنملة لاحترقت، فأنّى للعقول البشريّة الاطلاع على النعوت الالهيّة و الصّفات الأحديّة على ما هى عليه من كمالها.
فالقول و الكلام و إن كان في غاية الجودة و البلاغة و اللّسان و البيان و إن كان في نهاية الحدّة و الفصاحة يقف دون أدنى مراتب مدحه، و المادحون و إن صرفوا جهدهم و بذلوا وسعهم و طاقتهم في وصفه و الثناء عليه فهم بمراحل البعد عمّا هو ثناء عليه بما هو أهله و مستحقه.
و لهذا قال سيّد النّبيّين و أكمل المادحين: لا احصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
ثمّ وصفه باحاطة علمه سبحانه بجميع الجزئيّات و خفيّات ما في الكون، و قد عرفت في شرح الفصل السابع من الخطبة الاولى عموم علمه تعالى بجميع الموجودات و عدد من ذلك هنا أشياء فقال (لا يعزب عنه) أى لا يغيب عن علمه (عدد قطر الماء) المنزل من السّماء و الراكد في متراكم البحار و الغدران و الابار و الجارى في الجداول و الأنهار (و لا) عدد (نجوم السّماء) من الثوابت و السّيار (و لا سوافي الرّيح في الهواء) أى التي تسفو التراب و تذروه.
و تخصيصها بالذكر من جهة أنها غالب أفرادها، فلا دلالة فيها على اختصاص علمه بها فقط، لأنّ الوصف الوارد مورد الغلبة ليس مفهومه حجّة كما صرّح به علماء الأصولية و مثله قوله تعالى: «وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ»، و يمكن أن يكون غرضه الاشارة إلى أنه لا يخفى عليه سبحانه السوافي مع ما تسفوه من التراب، فانّ التراب الّذي تحمله الرّيح و تبثّه في الجوّ لا يعلم مقداره و أجزائه و ذراته إلّا اللّه سبحانه العالم بكلّ شي ء.
(و لا) يعزب عنه (دبيب النمل على الصفا و لا مقيل الّذر في اللّيلة الظلماء) أى لا يخفى حركة آحاد النمل على الصّخر الأملس في اللّيلة المظلمة، و لا محلّ قيلولة صغار النّمل فيها مع فرط اختفائهما عليه سبحانه بل علمه تعالى محيط بهما و بغيرهما من خفيّات الموجودات و خبياتها.
فان قلت: لم خصّص دبيب النمل بكونه على الصفا قيل: لعدم التأثّر بالدّبيب كالتراب إذ يمكن في التراب و نحوه أن يعلم الدّبيب بالأثر.
و فيه إنّ بقاء أثر الدّبيب في التراب مسلّم إلّا أنّ حصول العلم به بذلك الأثر إمّا أن يكون في اللّيل أو في النهار، و الأوّل ممنوع لأنّ ظلمة الليل المظلم مانعة عن مشاهدة الأثر كنفس المؤثر و الصفا و التراب سيّان في اختفاء الدّبيب فيها على كلّ منهما، و الثاني مسلّم إلّا أنّه إذا كان في النّهار فهو مشاهد لكلّ أحد و معلوم بنفسه من دون حاجة إلى الاستدلال بالأثر من غير فرق أيضا في ظهوره بين كونه على الصّفا و بين كونه على التراب.
إلّا أن يقال: إنّه مع كونه في اللّيل على التراب يبقى أثره إلى النهار فيمكن حصول العلم به منه، بخلاف ما إذا كان على الصّفا فلا يكون له أثر أصلا حتّى يبقى إلى النهار و يتحصّل منه العلم.
و لكن يتوجّه عليه إنّ ظاهر القضيّة أنّه لا يخفى عليه دبيبه حين دبّه أعنى في اللّيلة المظلمة و لا مقيل الذرّ حين قيلولتها.
فان قلت: هذا مسلّم لو جعلنا قوله: في اللّيلة الظلماء قيدا لكلا الأمرين، أمّا لو جعلناه قيدا للأخير فقط لارتفع الاشكال.
قلت: لابدّ من إرجاع القيد إليهما جميعا إذ الدّبيب الحاصل في النهار مشاهد لكلّ أحد و مرئىّ معلوم و لا اختصاص لعدم اختفائه باللّه سبحانه حتّى يتمدّح به.
و الّذي يلوح للخاطر في سرّ التخصيص هو أنّ غالب أفراد الحيوان و منها النمل إذا سارت بالليل على التراب لا يظهر صوت قوائمها و حوافرها للين التراب، فيختفى سيرها غالبا على الناس، و أمّا إذا صارت على الصّفا فيطلع عليه النّاس لظهور صوت الحوافر و الأقدام، و أمّا النمل فلا يظهر دبيبه عليه أيضا لخفّة جرمه و صغر جثّته، فمدح اللّه سبحانه بأنّ النمل الّذى اختفى دبيبه على الصّفا على النّاس فضلا عن التراب لم يعزب عليه سبحانه دبيبه مع فرط خفائه فافهم جيّدا.
و كيف كان فقد ظهر من ذلك كلّه أى مما ذكره عليه السّلام هنا و ما ذكرناه و ممّا قدمه و قدّمناه أنّه لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السّماوات و لا في الأرض و لا أصغر من ذلك و لا أكبر إلّا في كتاب مبين.
فانقدح منه أنه سبحانه (يعلم مساقط الأوراق) عدل عن نفى المعزوب إلى إثبات العلم على قاعدة اليقين و تصديق علمه بمساقط الأوراق مضافة إلى غيرها قوله تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
(و) هو يدلّ أيضا لعمومه على أنّه يعلم (خفى طرف الأحداق) و أراد بالطرف انطباق أحد الجفنين على الاخر أى يعلم ما خفى من ذلك على النّاس كما قال سبحانه: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ.
الفصل الثاني في الشهادة بالتوحيد و الرسالة
و هو قوله (و أشهد أن لا إله إلّا اللّه) مضى تحقيق الكلام فيه بما لا مزيد عليه في شرح الفصل الثاني من الخطبة الثانية فليراجع ثمّة و أكّد الشهادة بالوحدانيّة بقوله (غير معدول به) أى حالكونه سبحانه لم يجعل له مثل و عديل (و لا مشكوك فيه) أى في وجوده لمنافاة الشكّ فيه بالشهادة بوحدانيّته (و لا مكفور دينه) لملازمة التصديق بالوحدانيّة بالاعتراف بالدّين المنافي للجحود و يدلّ على التلازم ما مرّ في الفصل الرابع من الخطبة الاولى من قوله: أوّل الدّين معرفته و كمال معرفته التصديق به و كمال التصديق به توحيده (و لا مجحود تكوينه) أى اتّحاده للموجودات و تكوينه لها لشهادتها جميعا بوجود مبدعها و وحدانيّة بارئها.
و وصف شهادته بكونها مثل (شهادة من صدقت نيّته) أى صادرة عن صميم القلب و عن اعتقاد جازم (وصفت دخلته) أى موصوفة بصفاء الباطن و سلامتها من كدر الرّياء و النفاق (و خلص يقينه) من رين الشكوك و الشبهات (و ثقلت موازينه) إذ الشهادة إذا كان على وجه الكمال توجب ثقل ميزان الأعمال.
و يدلّ عليه صريحا ما قدّمنا روايته في شرح الفصل الثاني من الخطبة الثانية من ثواب الأعمال عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: قال اللّه جلّ جلاله لموسى بن عمران: يا موسى لو أنّ السّماوات و عامريهنّ عندى و الأرضين السّبع في كفّة و لا إله إلّا اللّه في كفّة مالت بهنّ لا إله إلّا اللّه. (و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله المجتبى) المصطفى (من خلائقه) و قد عرفت توضيحه في شرح الخطبة الثّالثة و التسعين (و المعتام لشرح حقايقه) أى المختار لشرح حقايق توحيده أى لايضاح العلوم الالهيّة (و المختصّ بعقائل كراماته) النفيسة من الكمالات النفسانيّة و الأخلاق الكريمة الّتي اقتدر معها على هداية الأنام و تأسيس أساس الاسلام (و المصطفى لكرائم رسالاته) أى لرسالاته الكريمة الشريفة و جمعها باعتبار تعدّد أفراد الأوامر و الأحكام النازلة عليه، فانّ كلّ أمر أمر بتبليغه و أدائه رسالة مستقلّة و ان كان باعتبار المجموع رسالة واحدة (و الموضحة به أشراط الهدى) أى أعلام الهداية فقد أوضح بقوله و فعله و تقريره ما يوجب هداية الأنام إلى النهج القويم و الصراط المستقيم (و المجلوّ به غربيب العمى) أى المنكشف بنور نبوّته ظلمات الجهالة.
|