و (حقّت) بجلائلها أى ثبتت من حقّ الشي ء يحقّ أى ثبت و قال الفيومى: حقّت القيامة يحقّ من باب قتل أى أحاطت بالخلايق فهى حاقة و قال ابن الأنبارى الحاقة الواجبة حقّ أى وجب يحقّ حقا و حقوقا فهو حاق و قال أمين الاسلام الطبرسى سمّيت القيامة الحاقّة لأنها ذات الحواق من الأمور و هى الصّادقة الواجبةالصّدق لأن جميع أحكام القيامة واجبة الوقوع صادقة الوجود.
و (نسك) اللّه من باب قتل تطوّع بقربة و النّسك بضمّتين اسم منه و المنسك بفتح السّين و كسرها يكون زمانا و مصدرا و مكانا تذبح فيه النّسيكة و هى الذّبيحة و مناسك الحجّ عباداته و قيل مواضع العبادات و (العبدة) جمع عابد كمردة و مارد.
(فلم يجز فى عدله) قال الشّارح المعتزلي قد اختلفت الرّواة فى هذه اللفظة فرواها قوم فلم يجر و هو مضارع جرى تقول ما جرى اليوم فيقول من سألته قدم الأمير من السفر، و رواها قوم فلم يجز مضارع جاز يجوز، و رواها قوم فلم يجر من جار أى عدل عن الطّريق.
و (الهمس) الصّوت الخفى و قوله (فتحرّ من أمرك) أمر من تحرّيت الشي ء قصدته و تحرّيت فى الأمر طلبت أحرى الأمرين و هو أولاهما و (شام) البرق يشيمه نظر اليه اين يقصد و أين يمطر و (رحلت) مطيتى شددت على ظهرها الرّحل و (شمّر) تشمير أمرّ جادا، و شمّر الثوب دفعه و فى الأمر خف.
و الباء فى قوله بجلائلها تحتمل تعدّيه و المصاحبة و الضّمير فيه راجع إلى القيامة لتقدّمها رتبة و إن تأخرت لفظا و قوله: خرق بصر، بالرّفع فاعل يجز إن كان الفعل بصيغة المعلوم كما فى نسخة الشّارح المعتزلي و نايب عن الفاعل إن كان بصيغة المجهول كما حكى عن القطب الراوندى.
و قوله: فكم حجّة يوم ذاك داحضة كم خبريّة بمعنى كثير اضيفت إلى تميزها و هى فى محلّ الرّفع على الابتداء، و يوم ذاك خبرها و داحضة بالجرّ على ما فى النسخ الّتى عندنا صفة لحجّة و لو كانت داحضة بالرفع كفاتت «كذا» هى الخبر و يكون يوم ذاك ظرف لغو متعلّقا بها متقدّما عليها و هذا أنسب لكن النسخ لا تساعد عليه و من فى قوله: ممّا لا تبقى له، يحتمل البدل كما فى قوله تعالى أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ و يحتمل النشوية أيضا
و لمّا نبّه عليه السّلام على أنّ أهل السعادة غدا هم الهاربون منها اليوم فسّر مراده بالغد بقوله (إذ رجفت الرّاجفة) أى تحرّكت بترديد و اضطراب و الرّجفة الزّلزلة العظيمة الشديدة و هو اقتباس من الاية الشريفة يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قال بعض المفسّرين: معناها يوم تضطرب الأرض اضطرابا شديداو تحرّك تحرّكا عظيما يعنى يوم القيامة تتبعها الرّادفة اى اضطرابة اخرى كاينة بعد الأولى في موضع الرّدف من الراكب.
(و حقّت بجلائلها القيامة) أى أهاويلها الجليلة و دواهيها العظيمة الشديدة (و لحقّ بكلّ منسك أهله و بكلّ معبود عبدته و بكلّ مطاع أهل طاعته) أشار إلى لحوق كلّ نفس يوم القيامة بما و من تحبّه و تهويه من عمل الصالح و السّي ء و معبوده الحقّ و الباطل.
و اليه الاشارة في النّبوي: يحشر المرء مع من أحبّ و لو أحبّ أحدكم حجرا لحشر معه، و في قوله تعالى يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً. وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً.
فان كان عمل المرء في الدّنيا للّه و معبوده هو اللّه و هواه فى اللّه فحشره يوم القيامة مع أولياء اللّه الّذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون.
و ان كان عمله لغير اللّه و معبوده سوى اللّه و محبّته لأعداء اللّه فحشره معهم و مع الشياطين كما قال تعالى وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ.. وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ. حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ.
فان قيل: إذا كان يلتحق بكلّ معبود عبدته و بكلّ مطاع أهل طاعته فالتحاق النصارى إذا بعيسى و الغلاة بأمير المؤمنين عليه السّلام و كذلك عبدة الملائكة فما تقول في ذلك.
قيل: معنى الالتحاق أن يؤمر الاتباع في الموقف بالتميّز إلى الجهة الّتي فيها الرّؤساء، ثمّ يقال للرؤساء أهؤلاء أتباعكم و عبدتكم فحينئذ يتبرّؤن منهم فينجو الرّؤساء و تهلك الاتباع كما قال سبحانه وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ. قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ.
أقول: و أوضح دلالة من هذه الاية قوله سبحانه في سورة الفرقان وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً. فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لا نَصْراً.
قال أمين الاسلام الطبرسيّ فى تفسيرها أى يجمعهم و ما يعبدون يعنى عيسى و عزير و الملائكة «فيقول» لهؤلاء المعبودين «أ أنتم أضللتم عبادى أم هم ضلّوا السبيل» أى طريق الجنّة و النجاة «قالوا» يعنى المعبودين «سبحانك» يعنى تنزيها لك عن الشريك و عن أن يكون معبودا سواك «ما كان ينبغي لنا أن نتّخذ» بضمّ النون و فتح الخاء في رواية الصادق عليه السّلام و زيد بن علىّ و أكثر القراء بفتح النون و كسر الخاء «من دونك من أولياء» أى ليس لنا أن نوالى أعداءك بل أنت وليّنا من دونهم، و قيل: معناه ما كان يجوز لنا و للعابدين و ما كان يحقّ لنا أن نأمر أحدا بأن يعبدنا و لا يعبدك فانا لو أمرناهم بذلك لكنّا و الينا هم و نحن لا نوالى من يكفر بك، و من قرء نتّخذ فمعناه ما كان يحقّ لنا أن نعبد «و لكن متّعتهم و آبائهم حتّى نسوا الذّكر» معناه و لكن طوّلت أعمارهم و أعمار آبائهم و متّعتهم بالأموال و الأولاد بعد موت الرّسل حتّى نسوا الذّكر المنزل على الأنبياء و تركوه «و كانوا قوما بورا» أى هلكى فاسدين.
هذا تمام الحكاية عن قول المعبودين من دون اللّه سبحانه فيقول اللّه سبحانه عند تبرّء المعبودين من عبدتهم «فقد كذّبوكم» أى كذّبكم المعبودون أيّها المشركون «بما تقولون» أى بقولكم إنّهم آلهة شركاء للّه «فما تستطيعون صرفا و لا نصرا» أى فما يستطيع المعبودين صرف العذاب عنكم و لا نصرا لكم بدفع العذاب عنكم، هذا.
و قوله (فلم يجر في عدله يومئذ خرق بصر في الهواء و لا همس قدم في الأرض إلّا بحقّه) قد عرفت اختلاف الرّوايات في قوله فلم يجر.
فعلي كونه مضارع جرى فمعناه فلم يكن و لم يتحدد في ديوان حسابه ذلك اليوم صغير و لا حقير إلّا بالحقّ و الانصاف، و هذا مثل قوله تعالى لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ.
و على كونه مضارع جاز فالمعنى أنّه لم يسغ و لا يرخّص ذلك اليوم لأحد من المكلّفين في حركة من الحركات المحقّرات المستصغرات إلّا إذا كانت قد فعلها بحقّ.
و على كونه مضارع جار بالرّاء المهملة فالمعنى أنّه لم يذهب عنه سبحانه و لم يضلّ و لم يشذّ عن حسابه شي ء من محقرات الامور إلّا بحقّه أى إلّا ما لا فايدة في اثباته و المحاسبة عليه نحو الحركات المباحة هكذا في شرح المعتزلي.
و يظهر من بعض الشروح رواية رابعة و هو كونه مضارع جزى بالزّاء المعجمة بصيغة المجهول حيث قال: قوله فلم يجز في عدله آه أى لا يجزى أحد يومئذ و لا يكافئ إلّا بما يستحقّه من الثّواب و العقاب.
و على هذه الرّواية فيكون مساقه مساق قوله تعالى فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و على أىّ تقدير فالغرض الاخبار عن عموم عدله تعالى في مظالم النّاس على أنفسهم و على غيرهم، و قد مضي في شرح الخطبة المأة و الخامسة و السّبعين ما ينفعك ذكراه في هذا المقام.
(فكم حجّة يوم ذاك داحضة) أى لم يبق للنّاس على اللّه حجّة بعد الرّسل و إنّما هلك من هلك عن بيّنة و حيّ من حيّ عن بيّنة (و علائق عذر منقطعة) فلا ينفع الّذين ظلموا معذرتهم و لا هم يستعتبون.
(فتحرّ من أمرك ما يقوم به عذرك و تثبت به حجّتك) أى اطلب و اعتمد من أمورك و أفعالك في الدّنيا ما به قوام اعذارك المقبولة يوم القيامة و ما به ثبات حججك الصحيحة يومئذ و هو أمر بتحصيل الكمالات النّفسانية و مواظبة التّكاليف الشّرعيّة و ملازمة سنن الشّريعة، إذ الأعذار الشّرعية مقبولة البتة و كذلك الحجج البرهانيّة الموافقة لأساس الشّريعة.
(و خذ ما يبقى لك) و هو الاخرة و نعيمها الباقي (ممّا لا تبقى له) و هو الدّنيا
و نعيمها الفاني كما قال عليه الصّلاة و السّلام في الدّيوان:
- فلا الدّنيا بباقية لحىّو لا حىّ على الدّنيا بباق
و المراد أخذ الاخرة عوضا من الدّنيا أو تحصيلها فيها فانّ الفوز بالسّعادة الدّائمة إنّما يحصل بالقيام على التكاليف في دار الدّنيا لأنّها دار التكليف و الاخرة دار الجزاء، و هذه الفقرة نظير قوله عليه السّلام في الكلام المأتين و الثّاني: فخذوا من ممرّكم لمقرّكم.
و في الاتيان بالموصول من دون أن يقول و خذ الاخرة من الدّنيا تأكيد للغرض المسوق له الكلام و حثّ على شدّة الأخذ (و تيسّر لسفرك) و هو أمر بتهيّة الزّاد لسفر الاخرة و الاستعداد للمعاد و خير الزّاد الزّهد و التّقوى (و شم برق النّجاة) أى انظر إلى لوامع الأنوار الالهيّة و بوارق النّجاة الّتي تنجيك من الظّلمات و مهاوى الهلكات (و ارحل مطايا التشمير) و الجدّ إلى الجهة التي أنت متوجّه إليها و هو أمر بالاجتهاد في العمل لما بعد الموت، قال البحراني استعار لفظ المطايا لالات العمل و لفظ الارحال لاعمالها
|