و من كلام له عليه السلام فى صفة الدنيا
و هو الحادى و الثمانون من المختار فى باب الخطب ما أصف من دار أوّلها عناء، و آخرها فناء، في حلالها حساب، و في حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن و من افتقر فيها حزن، و من ساعاها فاتته، و من قعد عنها و اتته، و من أبصر بها بصّرته، و من أبصر إليها أعمته. قال السّيد: أقول: و إذا تأمّل المتأمل قوله عليه السّلام: من أبصر بها بصّرته، وجد تحته من المعنى العجيب و الغرض البعيد ما لا يبلغ غايته و لا يدرك غوره، و لا سيّما اذا قرن إليه قوله: و من أبصر إليها أعمته، فانّه يجد الفرق بين أبصر بها و أبصر اليها واضحا نيّرا و عجيبا باهرا.
اللغة
(العناء) بالمدّ التّعب و المشقة و (فتن) بالبناء على المجهول من الفتنة بمعنى الضلالة و (حزن) بالبناء على المعلوم من باب فرح (و اتته) من المواتاة قال الطريحى: و هو حسن المطاوعة و الموافقة و أصله الهمزة خفف و كثر حتى يقال بالواو الخالصة و منه الحديث: خير النساء المواتية لزوجها، و في المصباح اتيته على الأمر وافقته و في لغة لأهل اليمن تبدل الهمزة واوا فيقال و اتيته على الأمر مواتاة و هي المشهورة على ألسنة الناس و (الغور) بالفتح من كلّ شي ء قعره.
الاعراب
الضمير في قوله فاتته منصوب المحلّ بنزع الخافض أى فاتت منه، و الباء في قوله من أبصر بها للاستعانة أعني الداخلة على آلة الفعل، و تعدية أبصر بالحرف في قوله و من أبصر إليها مع كون الفعل في أصله متعدّيا بنفسه إمّا من أجل تضمينه معنى التّوجه و الالتفات، أو من أجل تضمين معنى النظر و الأوّل أنسب و أقرب لزيادة ظهور الفرق الذي أشار اليه السّيد بين الفعلين أعني الجملتين على ذلك، و ان كان الثّاني صحيحا أيضا، و غايته و غوره إمّا بالرفع على النيابة عن الفاعل و إمّا بالنّصب على كون الفعلين مبنيّا للمعلوم و فاعلهما الضّمير المستتر الرّاجع إلى المتأمل.
المعنى
اعلم أنّ هذا الكلام له عليه السّلام مسوق للتنفير عن الدّنيا و الذمّ لها و قد ذكر من أوصافها امورا عشرة.
الأوّل قوله (ما أصف من دار أوّلها عناء) أى مشقّة و تعب و ذلك لأنّ مبدء نشور الانسان على ما حقّق في الطب هو الماء الدافق يخرج من بين الصّلب و التّرائب، و ذلك الماء إذا وقع في الرّحم اختلط بماء المرأة و دمها و غلظ ثمّ الرّيح يمخض ذلك الماء حتّى يتركه كالرّائب الغليظ، ثمّ يقسمه في الأعضاء، فان كان ذكرا فوجهه قبل ظهر امّه، و إن كان انثى فوجهها قبل بطن امّها و ذقنه على ركبتيه و يداه على جنبيه مقبض في المشيمة كأنّه مصرور في صرّة و يتنفّس من متنفّس شاقّ و ليس منه عضو الّا كأنه مقموط فوقه حرّ البطن و تحته ما تحته، و هو منوط بمعاء من سرّته إلى سرّة امّه و منها يمتصّ و يعيش من طعام امّه و شرابها.
فهو بهذه الحالة في الغمّ و الظلمات و الضيق حتّى إذا كان وقت ولادته سلط اللّه الرّيح على بطن امّه و قوى عليه التحريك فتصوب رأسه قبل المخرج فيجد من ضيق المخرج و عصره ما يجده صاحب الرّهق، فاذا وقع على الأرض فأصابته ريح أو مسّته يد وجد من ذلك من الألم ما لا يجده من سلخ جلده.
ثمّ هو في ألوان من العذاب إن جاع فليس له استطعام و إن عطش فليس له استسقاء أو وجع فليس له استغاثة مع ما يلقاه من الرفع و الوضع و اللف و الحلّ إذا انيم على ظهره لا يستطيع تقلبا أو اقعد لا يستطيع تمدّدا.
فلا يزال في أصناف هذا العذاب ما دام رضيعا فاذا أفلت من ذلك اخذ بعذاب الأدب فاذيق منه ألوانا، و إذا أدرك فهم المال و الأولاد و الشّره و الحرص و مخاطرة الطلب و السعى.
و كلّ هذا يتقلّب فيها معه أعدائه الأربعة: المرّة و البلغم و الدّم و الرّيح، و السم المميت و الحيات اللاذعة مع خوف السّباع و الناس و خوف البرد و الحرّ ثمّ ألوان أوصاب الهرم إن بلغه.
(و) الثاني انّ (آخرها فناء) إذ كلّ نفس ذائقة الموت، مشرفة على الفوت و مفارقة للأهل و الأولاد مهاجرة عن الوطن و البلاد، و كلّ شي ء هالك إلّا وجهه و كلّ إنسان ملاق ربه.
و الثالث أنّه (في حلالها حساب) قال سبحانه: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ و قال أيضا وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ و قال وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ.
قال الطبرسى لا يشغله حساب عن حساب فيحاسب الجميع على أفعالهم في حالة واحدة و سئل أمير المؤمنين عليه السّلام كيف يحاسبهم في حالة واحدة فقال: كما يرزقهم في حالة واحدة.
و اعلم أنّ الحساب في القيامة مما يجب أن يؤمن به و أما أنّ المحاسب عليه و المسئول عنه ما ذا فقد اختلف فيه الأخبار فبعضها كالآيات واردة على نحو العموم أو الاطلاق و بعضها مخصوصة أو مقيّدة.
ففى النبوىّ المعروف بين الخاصّة و العامّة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يزال قدم عبد يوم القيامة من بين يدي اللّه عزّ و جلّ حتى يسأل عن أربع خصال: عمرك فيما أفنيته و جسدك فيما أبليته، و مالك من أين اكتسبته و أين وضعته، و عن حبّنا أهل البيت، فقال عمر بن الخطاب: و ما علامة حبّكم يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: محبّة هذا، و وضع يده على رأس أمير المؤمنين عليه السّلام.
و روى الصّدوق باسناده عن ابراهيم بن العباس الصّولي قال: كنّا بين يدي عليّ بن موسى الرّضا عليهما السلام فقال: ليس في الدّنيا نعيم حقيقىّ، فقال له بعض الفقهاء ممن بحضرته: قول اللّه عزّ و جلّ: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.
أما هذا النعيم في الدّنيا و هو الماء البارد، فقال له الرّضا عليه السّلام و علا صوته، هكذا فسّرتموه أنتم و جعلتموه على ضروب فقالت طائفة: هو البارد من الماء، و قال غيرهم هو الطعام الطيب، و قال آخرون: هو النوم الطيب.
و لقد حدّثنى أبى عن أبيه أبي عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّ أقوالكم هذه ذكرت عنده في قوله تعالى: لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.
فغضب و قال: إنّ اللّه تعالى لا يسأل عباده عمّا تفضّل عليهم به و لا يمنّ بذلك عليهم و الامتنان مستقبح من المخلوقين فكيف يضاف إلى الخالق عزّ و جلّ ما لا يرضى به للمخلوقين، و لكن النعيم حبّنا أهل البيت و موالاتنا يسأل اللّه عنه بعد التّوحيد و النبوّة لأنّ العبد إذا وافى بذلك أداه الى نعيم الجنّة الذى لا يزول.
و لقد حدّثنى بذلك أبى عن محمّد بن علىّ عن أبيه عن الحسين بن عليّ عن أبيه عليهم السلام أنّه قاله و قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي أول ما يسأل عنه العبد بعد موته شهادة أن لا إله إلا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه و أنك وليّ المؤمنين بما جعله اللّه «فجعلته خ» لك فمن أقرّ بذلك و كان معتقده صار إلى النّعيم الذي لا زوال له.
و فى جامع الأخبار و غيره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا كان يوم القيامة أمر اللّه تعالى مناديا فينادى أين الفقراء فيقوم عنق من النّاس فيؤمر بهم إلى الجنّة فيقول خزنة الجنّة قبل الحساب. فيقولون ما اعطونا شيئا فيحاسبونا عليه، فيقول اللّه تعالى: صدقوا عبادى ما أفقرتكم هو انابكم و لكن ادّخرت بهذا لكم بهذا اليوم، انظروا او تصفّحوا وجوه النّاس فمن أتى إليكم معروفا فخذوا بيده و ادخلوا الجنّة.
و عن الارشاد عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تدخل الفقراء على الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم و مقداره خمسمائة عام هذا.
و قال المحدّث المجلسي في كتاب حقّ اليقين: إنّ المعلوم من الآيات و الأخبار أنّ الحساب و السّؤال حقّ و أما الخصوصيّة في المسئول و المسئول عنه و المحاسب و المحاسب عليه فغير معلومة.
فذهب جمع إلى أنّ السّؤال من جميع النّعم و الأموال الدّنيوية، و يدلّ عليه الأخبار الخاصيّة و العاميّة الدّالة على أنّ في حلالها حسابا و في حرامها عقابا، و المستفاد من طائفة من الرّوايات أنّ المؤمن لا حساب عليه، و في بعضها أنّه لا حساب في المأكول و الملبوس و المنكوح، و يستفاد من بعض الأخبار أنّ قوما يدخلون الجنّة بغير حساب كما مرّ في رواية جامع الأخبار و من بعضها أنّ بعض الأعمال الصّالحة يوجب دخول صاحبه على الجنة بلا حساب، فهذه مخصوصة لعمومات أدلّة الحساب.
و يمكن الجمع بين الرّوايات بوجهين.
أحدهما حمل الأخبار النّافية للحساب على انتفائه في حقّ المؤمن و الأخبار المثبتة على ثبوته فى حقّ غير المؤمن.
و الثاني حمل الأخبار الاولة على عدمه في الامور الضّرورية مثل الثلاثة السّابقة و حمل الأخبار الثّانية على وجوده في غير الامور الضّرورية كالاسراف و التّبذير و الصّرف في المحرّمات و الكسب من غير الوجوه المشروعة أو زايدا على قدر الحاجة الموجب تحصيله لتضييع العمر و تفويت الزّمان فافهم.
(و) الرّابع أنّه (في حرامها عقاب) و هو واضح لا غبار عليه، و إلى هذا الوصف و سابقه نظر الشّاعر في قوله:
- الدّهر يومان فيوم مضىعنك بما فيه و يوم جديد
- حلال يوميك حساب و فيحرام يوميك عقاب شديد
- تجمع ما يأكله وارثو أنت في القبر وحيد فريد
- انّى لغير واعظ تاركنفسى و قولى من فعالى بعيد
- حلاوة الدّنيا و لذّاتهاتكلّف العاقل ما لا يريد
الخامس انّ (من استغنى فيها فتن) لأنّ الاستغناء شاغل عن ذكر اللّه مضلّ عن سبيل اللّه فهو بلاء ابتلاه اللّه به كما نطق به القرآن الكريم.
وَ> اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ.
(و) السّادس انّ (من افتقر فيها حزن) لظهور أنّ الافتقار فيها لطالبها موجب لشدّة المحنة و منتهى الحزن و الكأبة.
و في جامع الأخبار قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الفقر أشدّ من القتل، و قال أوحى اللّه إلى إبراهيم فقال يا إبراهيم خلقتك و ابتليتك بنار نمرود فلو ابتليتك بالفقر و رفعت عنك الصبر فما تصنع قال إبراهيم: يا ربّ الفقر إلىّ أشدّ من نار نمرود قال اللّه تعالى: فبعزّتى و جلالي ما خلقت في السّماء و الأرض أشدّ من الفقر الحديث.
و قال صلّى اللّه عليه و آله الفقر الموت الأكبر، و قال لو لا رحمة ربّي علي فقراء امّتي كاد الفقر أن يكون كفرا هذا.
و لشدّته دعا سيد العابدين و زين السّاجدين سلام اللّه عليه و على آبائه الطاهرين أن يصرفه اللّه عنه و لا يبتليه به حيث قال: اللهمّ لا طاقة لي بالجهد و لا صبر لي على البلاء و لا قوّة لي على الفقر فلا تخطر علىّ رزقي و لا تكلني إلى خلقك بل تفرّد بحاجتي و تولّ كفايتى و انظر الىّ و انظر لي في جميع اموري فانّك إن وكلتني إلى نفسى عجزت عنها و لم اقم ما فيه مصلحتها و إن وكلتني إلى خلقك تجهموا لى و إن ألجأتني إلى قرابتي حرموني و إن أعطونى اعطونى قليلا نكدا و منّوا علىّ طويلا و ذمّوا كثيرا فبفضلك اللهمّ فأغنني و بعظمتك فانعشنى، و بسعتك فابسط يدي و بما عندك فاكفني.
(و) السابع انّ (من ساعاها فاتته و) الثامن انّ (من قعد عنها واتته) و علّلهما الشّارح البحراني بأنّ أقوى أسباب هذا الفوات أنّ تحصيلها أكثر ما يكون بمنازعة أهلها عليها و مجاذبتهم إيّاها و قد علمت ثوران الشّهوة و الغضب و الحرص عند المجاذبة للشي ء و قوّة منع الانسان له و تجاذب الخلق للشي ء و عزّته عندهم سبب لتفويت بعضهم له على بعض، و القعود عنها و تركها و إن كان الغرض منهما المواتاة سبب لمواتاتها كما يفعله أهل الزّهد الظاهري المشوب بالرّيا الذي ترك الدّنيا للدّنيا، فانّ الزّهد الظاهري أيضا مطلوب الشّارع إذ كان وسيلة إلى الزهد الحقيقي كما قال الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الرّيا قنطرة الاخلاص.
أقول و الأظهر عندي غير هذا المعنى و هو أن يكون المراد بفواتها في حقّ السّاعين لها عدم بقائها في حقّهم لسرعة زوالها و فنائها فيصبحون مع شدّة رغبتهم إليها و طلبهم إياها و أيديهم عارية من حطامها خالية من زبرجها و زخرفها لحلول الموت و نزول الفوت.
و يحتمل إرادة فواتهما عنهم في حال الحياة فيكون كلامه عليه السّلام محمولا على الغالب فانّ أكثر النّاس و أغلبهم مع كونهم تابعين للدّنيا راغبين عن الآخرة لا يقع الدّنيا في أيديهم و إن خلعوا عن أعينهم الكرى و طال لهم السّهر، و هذا بخلاف التّاركين لها و الزّاهدين فيها زهدا حقيقيا، فانّ الدّنيا مطيعة لهم مقبلة إليهم و هم معرضون عنها غير ناظرين إليها.
ألا ترى إلى قول أمير المؤمنين عليه السّلام يا دنيا إليك عنّي أبي تعرّضت أم إلىّ تشوقت لا حان حينك هيهات غريّ غيرى لا حاجة فيك قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها.
و في النبويّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ اللّه جلّ جلاله أوحى إلى الدّنيا أن اتعبي من خدمك و اخدمي من رفضك.
و في رواية اخرى الزّاهد في الدّنيا يريح قلبه و بدنه، و الرّاغب فيها يتعب قلبه و بدنه.
التاسع و العاشر ما أشار إليه بقوله (و من أبصر بها بصّرته و من أبصر إليها أعمته) يعنى من جعلها آلة لابصاره و مرآتا للوصول إلى الغير يجعلها الدّنيا صاحب بصيرة و من كان نظره و توجّهه إليها و همّته معطوفا عليها يجعلها الدّنيا أعمى.
توضيح ذلك أنّ النظر إلى الدّنيا يتصوّر على وجهين.
أحدهما أن يكون المطلوب بالذّات من ذلك النّظر هو الدّنيا نفسها و لا شكّ أنّ الدنيا حينئذ تكون شاغلة له عن ذكر اللّه صارفة عن سلوك سبيل الحقّ، فيكون ضالّا عن الصّراط المستقيم ناكبا عن قصد الهدى، و هو المراد بكونه أعمى يعنى أنّ الدّنيا حينئذ تكون موجبة لعماء عين قلبه عن إدراك المطالب الحقّة و عن الاهتداء إلى سلوك سبيل الآخرة و لذلك خاطب اللّه سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ظاهرا و أراد امّته باطنا بقوله: وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ.
و الثاني أن يكون الغرض بالنظر إلى الدّنيا هو التبصّر بها و الاهتداء إلى المبدأ و المعاد إذ ما من شي ء فيها إلّا و هو من آثار الصنع و أدلّة القدرة و علامة العزّة و السّلطنة.
- ففى كلّ شي ء له آيةتدلّ على أنّه واحد
و سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ فبالنّظر إلى الأنفس و الآفاق يحصل البصيرة و الكمال، و يتمكن من المعرفة و الوصول إلى حضرت ذي الجلال كما يهتدى إلى الآخرة و يرغب عن الدّنيا بالنّظر إلى الامم الماضية و القرون الفانية و الملوك العاتية كيف انتسفتهم الأيّام فأفناهم الحمام فامتحت من الدّنيا آثارهم و بقيت فيها أخبارهم.
تكملة
يستفاد من كشف الغمة أنّ هذا الكلام له عليه السّلام ملتقط من كلام طويل أسقط السّيد بعض فقراته على عادته قال: قال عليّ عليه السّلام يوما و قد أحدق به النّاس: أحذّركم الدّنيا فانّها منزل قلعة و ليست بدار نجعة هانت على ربّها فخلط شرّها بخيرها و حلوها بمرّها، لم يصفها اللّه لأوليائه و لم يضنّ بها على أعدائه، و هي دار ممرّ لا دار مستقرّ، و النّاس فيها رجلان رجل باع نفسه فأوبقها و رجل ابتاع نفسه فأعتقها، إن اعذو ذب جانب منها فحلّا أمرّ منها جانب فأوبى، أوّلها عناء و آخرها فناء، من استغنى فيها فتن و من افتقر فيها حزن، و من ساعا فاتته و من قعد عنها و اتته و من أبصر بها بصّرته و من أبصر إليها أعمته، فالانسان فيها غرض المنايا مع كلّ جرعة شرق، و مع كلّ اكلة غصص، لا ينال منها نعمة إلّا بفراق أخرى.
|