الفصل الثامن
عباد اللَّه، أين الّذين عمّروا فنعموا، و علّموا ففهموا، و أنظروا فلهوا، و سلّموا فنسوا، أمهلوا طويلا، و منحوا جميلا، و حذّروا أليما، و وعدوا جسيما، أحذروا الذّنوب المورطة، و العيوب المسخطة، أولي الأبصار و الأسماع، و العافية و المتاع، هل من مناص أو خلاص، أو معاذ أو ملاذ، أو فرار أو محار، أم لا فأنّى تؤفكون، أم أين تصرفون، أم بماذا تغترّون، و إنّما حظّ أحدكم من الأرض، ذات الطّول و العرض، قيد قدّه، منعفرا على خدّه، الان عباد اللَّه و الخناق مهمل، و الرّوح مرسل، في فينة الإرشاد، و راحة الأجساد، و باحة الاحتشاد، و مهل البقيّة، و أنف المشيّة، و إنظار التّوبة، و انفساح الحوبة، قبل الضّنك و المضيق، و الرّوع و الزّهوق، و قبل قدوم الغائب المنتظر، و أخذة العزيز المقتدر.
قال السّيّد (ره) و في الخبر أنّه عليه السّلام لمّا خطب بهذه الخطبة اقشعرّت لها الجلود و بكت العيون و رجفت القلوب، و من النّاس من يسمّى هذه الخطبة الغرّاء.
اللغة
(احذروا) أمر من حذر بالكسر من باب علم و (الورطة) الهلكة و أرض مطمئنّة لا طريق فيها و أورطه ألقاه فيها و (المناص) الملجأ و (المحار) المرجع من حار يحور أي رجع قال تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ و (أفك) من باب ضرب و علم أفكا بالفتح و الكسر و التّحريك كذب و افكه عنه يأفكه صرفه و قلبه أو قلب رأيه و (القيد) كالقاد المقدار و (المعفر) محرّكة التّراب و عفره في التّراب يعفره من باب ضرب و عفّره فانعفر و تعفّر مرّغه فيه أودسّه و (الخناق) ككتاب حبل يخنق به و يقال أخذ بخناقه أى بحلقه لأنّه موضع الخناق فالطلق عليه مجازا و (فينة) السّاعة و الحين يقال لقيتة الفينة بعد الفينة و قد يحذف اللّام و يقال لقيته فينة بعد فينة.
و في بعض النّسخ الارتياد بدل (الارشاد) و هو الطّلب و (الباحة) السّاحة و الفضاء و (الاحتشاد) الاجتماع و (انف) الشي ء بضمّتين أوّله و (الانفساح) من الفسحة و هو السّعة و (الحوبة) الحالة و الحاجة و (و الضّنك) و الضّيق بمعنى واحد و (المضيق) ما ضاق من المكان و المراد هنا القبر و (الرّوع) الفزع و (زهق) نفسه من باب منع و سمع زهوقا خرجت و زهق الشي ء بطل و هلك.
و «اقشعرّ جلده» أخذته قشعريرة أي رعدة و «رجفت القلوب» اضطربت و «الخطبة الغرّاء» بالغين المعجمة أي المتّصفة بالغرّة قال في القاموس: و الغرّة من المتاع خياره و من القوم شريفهم و من الرّجل وجهه و كلّ ما بدا لك من ضوء أو صبح فقد بدت غرّته.
الاعراب
قوله عباد اللَّه منصوب على النّداء بحذف حرفه، و كذلك قوله عليه السّلام: اولى الأبصار، و قوله: هل من مناص استفهام على سبيل الانكار و الابطال، و أم في قوله أم لا منقطعة بمعنى بل فهى مثل أم في قوله: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» و الشّاهد في الثّانية فانّه سبحانه بعد إبطال استواء الأعمى و البصير و الظلمات و النّور أضرب عن ذلك و أخبر عن حالهم بأنّهم جعلوا للَّه شركاء، و كذلك الامام عليه السّلام بعد إنكار المناص و الخلاص و إبطاله أضرب عن ذلك و أخبر بأنّه ليس هناك مناص و لا خلاص.
و قوله: فأنّى تؤفكون، أنّى بمعنى كيف أو بمعنى أين و من مقدّرة قبلها أى من أين تؤفكون، صرّح به نجم الأئمة الرّضى في مبحث الظروف من شرح الكافية، و ذا في قوله أم بماذا تغترون إمّا زايدة و هو الأظهر أو بمعنى الذي كما في ما ذا لقيت، و منعفرا حال من الضّمير في قدّه.
و قوله: الآن من ظروف الزّمان مبنىّ على الفتح و اختلفوا في علّة البناء و الأظهر ما قاله أبو عليّ من أنّه متضمّن لمعنى ال الحضوري لأنّ معناه الزّمن الحاضر، و اللّام فيه زايدة لازمة و ليست للتّعريف كما توهّم السّيرافي و ابن عصفور إذ لا تعرف انّ التي للتّعريف تكون لازمة و هذه لازمة لأنّ الآن لم يسمع مجرّدا عنها، و كيف فهو مفعول فيه و العامل محذوف، و التّقدير اعملوا و اغتنموا الفرصة الآن.
و جملة و الخناق مهمل، في محلّ الانتصاب على الحال من عباد اللَّه و العامل النّداء المحذوف لكونه في معنى الفعل، و اللام في الخناق عوض عن المضاف إليه أى خناقكم على حدّ و علّم آدم الأسماء، أي أسماء المسمّيات، و كذا في الرّوح و قوله في فينة الارشاد، متعلّق بقوله مرسل و في للظرفية المجازيّة، و قيل الضنك ظرف للفعل المحذوف الذي جعلناه العامل في الآن.
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل متضمّن للتذكير بحال السّلف و للأمر بالكفّ عن المعاصي و للحثّ على التّدارك للذنوب قبل الموت بتحصيل التوبة و الانابة و هو قوله: (عباد اللَّه أين الذين عمّروا فنعموا) أى أعطاهم اللَّه العمر فصاروا ناعمين أى صاحبى سعة في العيش و الغذاء (و علّموا ففهموا) أى علّمهم الأحكام ففهموا الحلال و الحرام (و أنظروا) في مدّة الأجل (فلهوا) بطول الأمل (و سلّموا) في العاجلة (فنسوا) العاجلة (أمهلوا) زمانا (طويلا) و أمدا بعيدا (و منحوا) عطاء (جميلا) و عيشا رغيدا (و حذروا عذابا أليما) و جحيما (و وعدوا) ثوابا (جسيما) و عظيما (احذروا الذنوب المورطة) أي المعاصي الموقعة في ورطة الهلاكة و العقاب (و العيوب المسخطة) أي المساوي الموجبة لغضب ربّ الأرباب.
(أولي الأبصار و الأسماع و العافية و المتاع) و إنّما خصّ هؤلاء بالنّداء و خصّصهم بالخطاب لأنهم القابلون للاتعاظ و الاذكار و اللائقون للانتهار و الانزجار بما أعطاهم اللَّه من الأبصار و البصاير منحهم من الأسماع و الضمائر و بذل لهم من الصّحّة و السّلامة في الأجساد و منّ به عليهم من المتاع و الأموال و الأولاد الموجبة للاعراض عن العقبا و الرّغبة إلى الدّنيا و الباعثة على ترك سبيل الرّحمن و سلوك سبيل الشّيطان و الداعية إلى ترك الطّاعات و الاقتحام في الهلكات.
ثمّ استفهم على سبيل التكذيب و الانكار بقوله: (هل من مناص) من العذاب (أو خلاص) من العقاب (أو معاذ) من الوبال (أو ملاذ) من النكال (أو فرار) من الحميم (أو محار) من الجحيم (أم لا و ليس فانّى تؤفكون) و تنقلبون (أم أين تصرفون) و تلفتون (أم بماذا تغترّون) و تفتنون (و انّما حظّ أحدكم من الأرض) الغبراء (ذات الطول و العرض) و الارجاء (قيد قدّه) و قامته (منعفرا على خدّه) و وجنته.
اعملوا (الآن) و اغتنموا الفرصة فيهذا الزّمان يا (عباد اللَّه و الخناق مهمل و الرّوح مرسل) أي أعناق نفوسكم مهملة من الأخذ بخناق الموت و أرواحكم متروكة من الجذب بحبال الفناء و الفوت (في فينة الارشاد) و الهداية إلى الجنان (و راحة الاجساد) و استراحة الأبدان (و باحة الاحتشاد) أي ساحة اجتماع الأشباه و الاقران (و مهل البقية و انف المشيّة) أي مهملة بقيّة الحياة و أوّل أزمنة الارادات.
و أشار بذلك إلى أنّ اللّازم على الانسان أن يجعل أوّل زمان إرادته و ميل خاطره إلى اكتساب الفضائل و اجتناب الرّذايل و يكون همّته يومئذ مصروفة في اتيان الطاعات و اقتناء الحسنات ليكون ما يرد على لوح نفسه من الكمالات و اردا على لوح صاف من الكدورات سالم عن رين الشّبهات إذ لو انعكس الأمر و جعل أوائل ميوله و إرادته منصرفة إلى اتيان المعاصي و الخطيئات تسوّد وجه نفسه بسوء الملكات فلم يكد يقبل بعد ذلك الاستضائة بنور الحقّ و الاهتداء إلى الخيرات.
(و انظار التّوبة و انفساح الحوبة) أراد به إمهال اللَّه لهم لأجل تحصيل التوبة و إعطائه لهم اتساع الحالة و وسعة المجال لاكتساب الحسنات الأعمال (قبل الضّنك و المضيق) أي قبل ضيق الزّمان و مضيق المكان (و الرّوع و الزّهوق) أى الفزع و خروج الرّوح من الأبدان (و قبل قدوم) الموت الذي هو (الغائب المنتظر و أخذة) الذي هو (العزيز) الغالب (المقتدر) فانّه إذا قدم الموت بطل التكليف و استحال تدارك الذنوب و لا ينفع النّدامة.
و لذلك قال أبو جعفر عليه السّلام: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: الموت الموت ألا و لا بدّ من الموت، جاء الموت بما فيه جاء بالرّوح و الرّاحة و الكرّة المباركة إلى جنّة عالية لأهل دار الخلود الذين كان لها سعيهم و فيها رغبتهم، و جاء الموت بما فيه بالشّقوة و النّدامة و الكرّة الخاسرة إلى نار حامية لأهل دار الغرور الذين كان لها سعيهم و فيها رغبتهم.
ثمّ قال: و قال إذا استحقّت ولاية اللّه و السّعادة جاء الأجل بين العينين و ذهب الأمل وراء الظهر، و إذا استحقت ولاية الشّيطان جاء الأمل بين العينين و ذهب الأجل وراء الظهر.
قال عليه السّلام: و سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أيّ المؤمنين أكيس فقال: أكثرهم ذكرا للموت و أشدّهم له استعدادا.
قال السّيد (ره) و في الخبر أنّه لمّا خطب بهذه الخطبة اقشعرّت لها الجلود و ارعدت و بكت العيون و اسكبت«» و رجفت القلوب و اضطربت و من النّاس من يسمّى هذه الخطبة الغرّاء.
أقول: و هى حقيقة بهذه التسمية لكونها من خيار خطبه و شرايفها و وجوهها لما تضمّنه معناها من الحكمة و الموعظة الحسنة و هى كافية في الهداية و الارشاد للطّالب الرّاغب إلى الثّواب و وافية في مقام التحذير و الانذار للهارب الرّاهب من العقاب.
و لما اشتملت عليه الفاظها من انواع المحسّنات البيانيّة و البديعيّة من الانسجاء و الترصيع و التنجيس و السّجع و المقابلة و الموازنة و المجاز و الاستعارة و الكناية و غيرها.
و ناهيك حسنا قوله عليه السّلام في هذا الفصل: هل من مناص أو خلاص أو معاذ أو ملاذ أو فرار أو محار، و قوله فى الفصل الرّابع، فاتقوا اللّه تقيّة من سمع فخشع و اقترف فاعترف و وجل فعمل إلى آخر ما قاله.
فانّك إذا لا حظت كلّ لفظة منها وجدتها آخذة برقبة قرينتها، جاذبة لها إليها دالّة عليها بذاتها و محسّنات كلامه غنيّة عن الاظهار غير محتاجة إلى التّذكار إذ تكلّف الاستدلال على أنّ الشّمس مضيئة يتعب و صاحبه ينسب إلى السّفه و ليس جاحدا لأمور المعلومة بالضّرورة بأشدّ سفها ممّن رام الاستدلال عليها
تكملة
اعلم أنّ بعض فصول هذه الخطبة مرويّ في البحار من كتاب عيون الحكمة و المواعظ لعليّ بن محمّد الواسطي باختلاف يسير لما هنا، و هو من الفصل الخامس إلى آخرها و لا حاجة لنا إلى ايراده نعم روى كلام آخر له عليه السّلام فيه من الكتاب الذي اشرنا إليه بعض فصول هذه الخطبة مدرّج فيه و أحببت ايراده لاقتضاء المقام ذلك.
قال (ره) و من كلام له عليه السّلام إنّكم مخلوقون اقتدارا، و مربوبون ايتسارا إلى آخر ما يأتي إنشاء اللّه في تكملة الشّرح الخطبة المأتين و الرّابعة و العشرين
|